باب ذكر الموت و الاستعداد له التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة

 

باب ذكر الموت و الاستعداد له

النسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا ذكر هادم اللذات يعني الموت . أخرجه ابن ماجه والترمذي أيضاً . و خرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده من حديث مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا من ذكر هادم اللذات قلنا يا رسول الله : و ما هادم اللذات؟ قال : الموت .

ابن ماجه عن ابن عمر قال : كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رجل من الأنصاري فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : أي المؤمنين أفضل ؟ قال : أحسنهم خلقاً قال : فأي المسلمين أكيس ؟ قال : أكثرهم للموت ذكراً و أحسنهم لما بعدهم استعداداً أولئك الأكياس أخرجه مالك أيضاً . و سيأتي في الفتن ـ إن شاء الله تعالى .

الترمذي عن شداد بن أوس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : الكيس من دان نفسه ، و عمل لما بعد الموت . و العاجز من أتبع نفسه هواها ، و تمنى على الله .

وروي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا ذكر الموت . فإنه يمحص الذنوب ، و يزهد في الدنيا و روي عنه عليه السلام أنه قال : كفى بالموت واعظاً و كفى بالموت مفرقاً . و قيل له يا رسول الله : هل يحشر مع الشهداء أحد ؟ قال: نعم ، من يذكر الموت في اليوم و الليلة عشرين مرة . و قال السدي في قوله تعالى: الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً أي أكثركم للموت ذكراً ، و له أحسن استعداداً و منه أشد خوفاً و حذراً .

فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم . قوله عليه السلام : أكثروا ذكر هادم اللذات الموت كلام مختصر و جيز قد جمع التذكرة و أبلغ في الموعظة فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة ، و منعه من تمنيها في المستقبل و زهده فيما كان منها يؤمل ، و لكن النفوس الراكدة ، و القلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ ، و تزويق الألفاظ ، و إلا ففي قوله عليه الصلاة و السلام : أكثروا ذكر هادم اللذات مع قوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت ما يكفي السامع له ، و يشغل الناظر فيه و كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات :

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله و يودي المال و الولد

لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

و لا سليمان إذ تجري الرياح له و الإنس و الجن فيما بينها ترد

أين الملوك التي كانت لعزتها من كل أوب إليها وافد يفد ؟

حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا

فصل : إذ ثبت ما ذكرناه . فاعلم أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية ، و التوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية ، ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق و سعة ، و نعمة و محنة ، فإن كان في حال ضيق و محنة . فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه ، فإنه لا يدوم . و الموت أصعب منه ، أو في حال نعمة و سعة فذكر الموت يمنعه من الاغترار بها ، و السكون إليها ، لقطعه عنها . و لقد أحسن من قال :

اذكر الموت هادم اللذات و تجهز لمصرع سوف يأتي

و قال غيره :

و اذكر الموت تجد راحة في إذكار الموت تقصير الآمل

و أجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم ، و لا زمن معلوم ، و لا مرض معلوم . و ذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك ، مستعداً لذلك . و كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة : الرحيل . الرحيل . فلما توفي فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه . فقيل : إنه قد مات فقال :

ما زال يلهج بالرحيل و ذكره حتى أناخ ببابه الجمال

فأصابه متيقظاً متشمراً ذا أهبة لم تلهه الآمال

و كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه : و يحك يا يزيد ، من ذا يترضى عنك ربك الموت ؟ ثم يقول : أيها الناس ألا تبكون و تنوحون على أنفسكم باقي حياتكم ؟ من الموت طالبه و القبر بيته . و التراب فراشه . و الدود أنيسه . و هو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر يكون حاله ؟ ثم يبكي حتى يسقط مغشياً عليه .

و قال التيمي : شيئان قطعا عني لذة الدنيا : ذكر الموت . و ذكر الموقف بين يدي الله تعالى. و كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يجمع العلماء فيتذاكرون الموت ، و القيامة ، و الآخرة ، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة .

و قال أبو نعيم : كان الثوري إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياماً . فإن سئل عن شيء قال : لا أدري لا أدري . و قال أسباط : ذكر عند النبي صلى الله عليه و سلم رجل فأثنى عليه فقال عليه السلام : كيف ذكره للموت ؟ فلم يذكر ذلك عنه . فقال : ما هو كما تقولون .

و قال الدقاق : من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : تعجيل التوبة و قناعة القلب ، و نشاط العبادة . و من نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة ، و ترك الرضى بالكفاف ، و التكاسل في العبادة ، فتفكر يا مغرور في الموت و سكرته ، و صعوبة كأسه و مرارته ، فيما للموت من وعد ما أصدقه ، و من حاكم ما أعدله ، كفى بالموت مقرحاً للقلوب، و مبكياً للعيون ،و مفرقاً للجماعات ، و هادماً للذات ، و قاطعاً للأمنيات ، فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك ، و انتقالك من موضعك ، و إذا نقلت من سعة إلى ضيق، و خانك الصاحب و الرفيق ، و هجرك الأخ و الصديق ، و أخذت من فراشك و غطائك إلى عرر ، و غطوك من بعد لين لحافك بتراب و مدر ، فيا جامع المال ، و المجتهد في البنيان ليس لك و الله من مال إلا الأكفان ، بل هي و الله للخراب و الذهاب و جسمك للتراب و المآب . فأين الذي جمعته من المال ؟ فهل أنقذك من الأهوال ؟ كلا بل تركته إلى من لا يحمدك ، و قدمت بأوزارك على من لا يعذرك . و لقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى : و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة أي : اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا ، الدار الآخرة و هي الجنة ، فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة، لا في الطين و الماء و التجبر و البغي ، فكأنهم قالوا : لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن ، و نحو هذا قول الشاعر :

نصيبك مما تجمع الدهر كله : رداءان تلوى فيهما ، و حنوط

و قال آخر :

هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم و فيها راحة البدن

انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن و الكفن ؟

فصل : و قوله عليه الصلاة و السلام : الكيس من دان نفسه دان حاسب . و قيل : ذل . قال أبو عبيد : دان نفسه : أي أذلها واستعبدها . يقال : دنته أدينه ، إذ ذللته فيذل نفسه في عبادة الله سبحانه و تعالى ، عملاً يعده لما بعد الموت ، و لقاء الله تعالى ، وكذلك يحاسب نفسه على ما فرط من عمره ، ويستعد لعاقبة أمره ، بصالح عمله ، و التنصل من سالف زلله، و ذكر الله تعالى وطاعته في جميع أحواله . فهذا هو الزاد ليوم المعاد . و العاجز ضد الكيس . و الكيس : العاقل ، والعاجز : المقصر في الأمور، فهو مع تقصيره في طاعة ربه، و اتباع شهوات نفسه متمن على الله أن يغفر له . و هذا هو الاغترار فإن الله تعالى أمره و نهاه ، و قال الحسن البصري : [ إن قوماً آلهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا و ما لهم حسنة و يقول أحدهم : إني أحسن الظن بربي . و كذب لو أحسن الظن لأحسن العمل ] و تلا قوله تعالى : و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين . و قال سعيد بن جبير : [ الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية ، و يتمنى على الله المغفرة ] . و قال بقية بن الوليد : كتب أبو عمير الصوري إلى بعض إخوانه :

أما بعد [ فإنك قد أصبحت تؤمل الدنيا بطول عمرك ، و تتمنى على الله الأماني بسوء فعلك . و إنما تضرب حديداً بارداً والسلام. و سيأتي لهذا مزيد بيان في باب ما جاء أن القبر أول منازل الآخرة . إن شاء الله تعالى .

في أمور تذكر الموت و الأخرة و يزهد في الدنيا

مسلم عن أبي هريرة قال : زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى و أبكى من حوله فقال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي و استأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي . فزوروا القبور فإنها تذكر الموت و عن ابن ماجه ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور . فزورها . فإنها تزهد في الدنيا و تذكر الآخرة . فصل : زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء ، مختلف فيه للنساء . أما الشواب فحرام عليهن الخروج . و أما القواعد فمباح لهن ذلك و جائز ذلك لجميعهن إذا انفردن بالخروج عن الرجال و لا يختلف في هذا إن شاء الله تعالى . و على هذا المعنى يكون قوله عليه الصلاة و السلام : زوروا القبور عاماً . و أما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال و النساء فلا يجوز و لا يحل ، فبينا الرجل يخرج ليعتبر فيقع بصره على امرأة فيفتتن ، و بالعكس فيرجع كل واحد من الرجال و النساء مأزوراً مأجوراً و هذا واضح. و الله أعلم .

و قد رأى بعض أهل العلم : أن لعن النبي صلى الله عليه و سلم زوارات القبور كان قبل أن يرخص في زيارة القبور ، فلما رخص دخل الرجال و النساء و ما ذكرناه لك أولاً أصح و الله أعلم .

و روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خرج إلى المقبرة فلما أشرف عليها قال : ياأهل القبور أخبرونا عنكم ، أو نخبركم . أما خبر من قبلنا : فالمال قد اقتسم ، و النساء قد تزوجن ، والمسكن قد سكنها قوم غيركم ، ثم قال : أما و الله لو استطاعو لقالوا : لم نر زاداً خيراً من التقوى .

و لقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول :

ياعجباً للناس لو فكروا و حاسبوا أنفسهم أبصروا

و عبروا الدنيا إلى غيرها فإنما الدنيا لهم معبر

لا فخر إلا فخر أهل التقى غداً إذا ضمهم المحشر

ليعلمن الناس أن التقي و البر كانا خير ما يدخر

عجبت للإنسان في فخره و هو غداً في قبره يقبر

ما بال من أوله نطفة و جيفة آخره يفجر

أصبح لا يملك تقديم ما يرجو و لا تأخير ما يحذر

و أصبح الأمر إلى غيره في كل ما يقضي و ما يقدر

فصل : قال العلماء رحمة الله عليهم : ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور و خاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور :

أحدها : الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ و التذكر ، و التخويف و الترغيب ، و أخبار الصالحين. فإن ذلك مما يلين القلوب و ينجع فيها .

الثاني : ذكر الموت من ذكر هادم اللذات و مفرق الجماعات و ميتم البنين و البنات كما تقدم في الباب قبل ، يروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها . فقالت لها : أكثري من ذكر الموت يرق قلبك . ففعلت ذلك فرق قلبها . فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها . قال العلماء : تذكر الموت يردع عن المعاصي ، و يلين القلب القاسي ، و يذهب الفرح بالدنيا و يهون المصائب فيها .

الثالث : مشاهدة المحتضرين ، فإن في النظر إلى الميت و مشاهدة سكراته ، و نزعاته ، و تأمل صورته بعد مماته، ما يقطع عن النفوس لذاتها ، و يطرد عن القلوب مسراتها ، و يمنع الأجفان من النوم ، و الأبدان من الراحة ، ويبعث على العمل ، و يزيد في الاجتهاد و التعب.

يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه، و شدة ما نزل به ، فرجع إلى أهله ، بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له : الطعام يرحمك الله فقال : يا أهلاه عليكم بطعامكم و شرابكم . فو الله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه .

فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن قسا قلبه ، و لزمه ذنبه ، أن يستعين بها على دواء دائه ، و يستصرخ بها على فتن الشيطان و إغوائه ، فإن انتفع بها فذاك ، و إن عظم عليه ران القلب، و استحكمت فيه دواعي الذنب ، فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك مالا يبلغه الأول ، و الثاني ، و الثالث . و لذلك قال عليه السلام زوروا القبور فإنها تذكر الموت و الآخرة ، و تزهد في الدنيا، فالأول : سماع بالأذن ، و الثاني : إخبار للقلب بما إليه المصير ، و قائم له مقام التخويف و التحذير في مشاهدة من احتضر ، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة، فلذلك كانا أبلغ من الأول و الثاني .

قال صلى الله عليه و سلم : ليس الخبر كالمعاينة رواه ابن عباس و لم يروه أحد غيره إلا أن الاعتبار بحال المحتضرين غير ممكن في كل الأوقات . و قد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات ، و أما زيارة القبور : فوجودها أسرع ، والانتفاع بها أليق و أجدر ، فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها ، و يحضر قلبه في إتيانها ، و لا يكون حظه منها الطواف على الأجداث فقط ، فإن هذه حالة تشاركه فيها بهيمة و نعوذ بالله من ذلك . بل يقصد بزيارته : وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه ، أو نفع الميت مما يتلوه عنده من القرآن . على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . و يجتنب المشي على المقابر ، و الجلوس عليها إذا دخل المقابر ، و يخلع نعليه . كما جاء في أحاديث ، و يسلم إذا دخل المقابر ، و يخاطبهم خطاب الحاضرين . فيقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، كذلك كان عليه الصلاة و السلام يقول ، و كنى بالدار عن عمارها و سكانها . و لذلك خاطبهم بالكاف و الميم لأن العرب تعبر بالمنزل عن أهله . و إذا وصل إلى قير ميته الذي يعرف سلم عليه أيضاً فييقول : عليك السلام .

روى الترمذي في جامعه : أن رجلاً دخل عبى النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : عليك السلام ، فقال صلى الله عليه و سلم : لا تقل عليك السلام ، فإن عليك السلام تحية الميت و ليأته من تلقاء وجهه في زيارته كمخاطبته حياً ، و لو خاطبة حياً لكان الأدب استقباله بوجهه. فكذلك ههنا . ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، و انقطع عن الأهل و الأحباب ، بعد أن قاد الجيوش و العساكر ، و نافس الأصحاب و العشائر ، و جمع الأموال و الذخائر ، فجاءه الموت على وقت لم يحتسبه ، و هول لم يرتقبه . فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ، و درج من أقرانه ، الذين بلغوا الآمال و جمعوا الأموال . كيف انقطعت آمالهم ، و لم تغن عنهم أموالهم ، و محا التراب محاسن وجوههم ، و افترقت في القبور أجزاؤهم ، و ترمل بعدهم نساؤهم ، و شمل ذل اليتم أولادهم ، و اقتسم غيرهم طريقهم و بلادهم .

و ليتذكر ترددهم في المآرب ، و حرصهم على نيل المطالب ، و انخداعهم لمؤاتاة الأسباب ، و ركونهم إلى الصحة و الشباب ، و ليعلم أن ميله إلى اللهو و اللعب كميلهم ، و غفلته عما بين يديه من الموت الفظيع و الهلاك السريع كغفلتهم ، و أنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، و ليحضر بقلبه ذكر من كان متردداً في أغراضه ، و كيف تهدمت رجلاه . و كان يتلذذ بالنظر إلى ما حوله و قد سالت عيناه ، و يصول ببلاغة نطقه ، و قد أكل الدود لسانه ، و يضحك لمؤاتاة دهره و قد أبلى التراب أسنانه ، و ليتحقق أن حاله كحاله ، و مآله كمآله ، و عند هذا التذكر و الاعتبار ، يزول عنه جميع الأغيار الدنيوية ، و يقبل على الأعمار الأخروية ، فيزهد في دنياه ، و يقبل على طاعة مولاه ، و يلين قلبه ، و يخشع جوارحه . و الله أعلم .

فصل : جاء في هذا الباب : حديث يعرض حديث هذا الباب .

و هو ما خرجه أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في كتاب السابق و اللاحق ، و أبو حفص عمر بن شاهين في الناسخ و المنسوخ له في الحديث بإسناديهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : حج بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون و هو باك حزين ، مغتم فبكيت لبكائه صلى الله عليه و سلم ثم إنه طفر أي وثب فنزل فقال : يا حميراء استمسكي فاستندت إلى جنب البعير . فمكث عني طويلا ثم عاد إلي و هو فرح مبتسم فقلت له : بأبي أنت و أمي يا رسول الله . نزلت من عندي و أنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك يا رسول الله ، ثم إنك عدت إلي و أنت فرح مبتسم فعن ماذا يا رسول الله ؟ فقال : مررت بقبر أمي آمنة فسألت الله ربي أن يحييها فأحياها فآمنت بي ـ أو قال ـ فآمنت و ردها الله عز و جل لفظ الخطيب . و قد ذكر السهيلي في الروض الأنف بإسناد فيه مجهولون [ أن الله تعالى أحيا له أباه و أمه و آمنا به ] .

قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و لا تعارض و الحمد لله ، لأن إحياءهما متأخر عن النهي بالاستغفار لهما . بدليل حديث عائشة رضي الله عنها : أن ذلك كان في حجة الوداع و كذلك جعله ابن شاهين ناسخاً لما ذكر من الأخبار .

قلت : و يبينه حديث مسلم عن أنس أن رجلاً قال يا رسول الله : أين أبي ؟ قال : في النار فلما قفا دعاه قال : إن أبي و أباك في النار و حديث سلمة بن يزيد الجعفي و فيه : فلما رأى ما دخل علينا قال : و أمي مع أمكما و هذا إن صح إحياؤهما . و قد سمعت : أن الله تعالى أحيا له عمه أبا طالب و آمن به . و الله أعلم .

و قد قيل : إن الحديث في إيمان أمه و أبيه موضوع يرده القرآن العظيم و الإجماع قال الله العظيم و لا الذين يموتون و هم كفار فمن مات كافراً لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة ، بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع فكيف بعد الإعادة ؟ و في التفسير أنه عليه السلام قال : ليت شعري ما فعل أبواي فنزل و لا تسأل عن أصحاب الجحيم .

قال المؤلف : ذكره الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية و فيه نظر ، و ذلك أن فضائل النبي صلى الله عليه و سلم و خصائصه لم تزال تتوالى و تتابع إلى حين مماته ، فيكون هذا مما فضله الله تعالى و أكرمه به .

ليس إحياؤهما و إيمانهما بممتنع عقلاً و لا شرعاً . فقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل و إخباره بقاتله ، و كان عيسى عليه السلام يحيى الموتى ، و كذلك نبينا عليه الصلاة و السلام أحيا الله تعالى على يديه جماعة من الموتى ، و إذا ثبت هذا فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته و فضيلته مع ما ورد من الخبر في ذلك و يكون ذلك خصوصاً فيمن مات كافراً ، و قوله : فمن مات كافراً إلى آخر كلامه مردود بما روي في الخبر أن الله تعالى رد الشمس على نبيه عليه السلام بعد مغيبهما ، ذكر أبو جعفر الطحاوي و قال : إنه حديث ثابت فلو لم يكن رجوع الشمس نافعاً و أنه لا يتجدد الوقت لما ردها عليه ، فكذلك يكون إحياء أبوي النبي صلى الله عليه و سلم نافعاً لإيمانهما و تصديقهما بالنبي صلى الله عليه و سلم . و قد قبل الله إيمان قوم يونس و توبتهم مع تلبسهم بالعذاب فيما ذكر في بعض الأقوال و هو ظاهر القرآن . و أما الجواب عن الآية فيكون ذلك قبل إيمانهما و كونهما في العذاب . و الله بغيبه أعلم و أحكم .