باب ما جاء في عذاب القبر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة

 

باب ما جاء في عذاب القبر و أنه حق و في اختلاف عذاب الكافرين و في قبورهم و ضيقها عليهم

قال الله تعالى : و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً قال أبو سعيد الخدري و عبد الله بن مسعود : ضنكاً . قال : عذاب القبر . و قيل في قوله عز و جل : و إن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك هو : عذاب القبر لأن الله ذكره عقب قوله فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون و هذا اليوم هو اليوم الآخر من أيام الدنيا ، فدل على أن العذاب الذي هم فيه هو عذاب القبر و كذلك قال : و لكن أكثرهم لا يعلمون لأنه غيب . و قال : و حاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً و عشياً فهذا عذاب القبر في البرزخ و سيأـي . و قال ابن عباس فس قوله تعالى : كلا سوف تعلمون ما ينزل فيكم من العذاب في القبر ثم كلا سوف تعلمون : في الآخرة إذا حل بكم العذاب فالأول في القبر ، و الثاني في الآخرة فالتكرير للحالتين .

و روى زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه قال كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون يعني في القبور . و قال أبو هريرة : يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيهأضلاعه ، و هو المعيشة الضنك .

و روى أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية؟ فإن له معيشة ضنكاً و نحشره يوم القيامة أعمى أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم . قال : عذاب الكافر في القبر ، و الذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة و تسعون تنيناً . أتدرون ما التنين ؟ تسعة و تسعون حية لكل حية تسعة أرؤس ينفخن في جسمه ، و يلسعنه و يخدشنه إلى يوم القيامة و يحشر من قبره إلى موقفه أعمى.

و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يسلط على الكافر في قبره تسعة و تسعون تنيناً تنهشه و تلدغه حتى تقوم الساعة و لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضراً و في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفاً : ثم يؤمر به يعني الكافر فيضيق عليه قبره و يرسل عليه حيات كأمثال أعناق البخت فتأكل لحمه حتى لا تذر على عظمه لحماً و ترسل عليه ملائكة صم عمي يضربونه بفطاطيس الحديث و قد تقدم .

فصل : لا تظن ـ رحمك الله ـ أن هذا معارض للحديث المرفوع : أنه يسلط على الكافر أعمى أصم فإن أحوال الكفار تختلف . فمنهم من يتولى عقوبته واحد . و منهم من يتولى عقوبته جماعة . و كذلك لا تناقض بين هذا و بين أكل الحيات لحمه ، فإنه يمكن أن يتردد بين هذين العذابين كما قال تعالى : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها و بين حميم آن فمرة يطعمون الزقوم ، و أخرى يسقون الحميم و مرة يعرضون على النار ، و أخرى على الزمهرير . أجارنا الله من عذاب القبر ، و من عذاب النار برحمته و كرامته . و آخر يفرش له لوحان من نار. و آخر يقال له : نم نومة المنهوس . كما أخرجه علي بن معبد عن أبي حازم عن أبي هريرة موقوفاً قال : إذا وضع الميت في قبره أتاه آت من ربه فيقول له : من ربك ؟ فإن كان من أهل التثبيت ثبت . و قال : الله ربي . ثم يقال له مادينك ؟ فيقول الإسلام . فيقول : من نبيك ؟ فيقول محمد صلى الله عليه و سلم فيرى بشراه و يبشر . فيقول دعوني أرجع إلى أهلي فأبشرهم فيقال له : نم قرير العين إن لك إخواناً لم يلحقوا . و إن كان من غير أهل الحق و التثبيت قيل له : من ربك ؟ فيقول : هاه ، كالوا له ، ثم يضرب بمطراق يسمع صوته الخلق إلا الجن والإنس . و يقال له : نم كنومة المنهوس .

قال أهل اللغة : المنهوس بالسين المهملة : الملسوع نهسته الحية تنهسه . قال الراجز :

و ذات قرنين طحون الضرس تنهس لو تمكنت من نهس

تدير عيناً كشهاب القبس

و المنهوس مرة ينتبه لشدة الألم عليه . و مرة ينام كالمغمى عليه قال النابغة :

فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع

تسهد من ليل التمام سليمها كحلى النساء في يديه قعاقع

يبادرها الراقون من سوء سمها تطلقه طوراً و طوراً تراجع

باب منه في عذاب الكافر في قبره

ذكر الوائلي الحافظ في كتاب الإبانة له ، من حديث مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر . قال : بينا أنا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض في عنقه سلسلة يمسك طرفها أسود . فقال يا عبد الله اسقني ، فقال ابن عمر : لا أدري أعرف اسمي أو كما يقول الرجل: يا عبد الله ؟ فقال لي الأسود : لا تسقه فإنه كافر . ثم اجتذبه فدخل به الأرض . قال ابن عمر : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال : أو قد رأيته ؟ ذاك عدو الله أبو جهل بن هشام . و هو عذابه إلى يوم القيامة .

باب ما يكون منه عذاب القبر و اختلاف أحوال العصاة فيه بحسب اختلاف معاصيهم

ابو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أكثر عذاب القبر من البول .

البخاري و مسلم عن ابن عباس قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم على قبرين فقال : إنهما ليعذبان و ما يعذبان في كبير . أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة . و أما الآخر فكان لا يستنزه من بوله فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحداً و على هذا واحداً، ثم قال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا و في رواية كان لا يستنزه عن البول أو من البول رواهما مسلم . و في كتاب أبي داود : و كان لا يستنثر من بوله و في حديث هناد بن السري لا يستبرئ من البول من الاستبراء . و قال البخاري : و ما يعذبان في كبير و إنه لكبير .

و أخرجه أبو داود الطيالسي عن أبي بكرة قال : بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و معي رجل و رسول الله صلى الله عليه و سلم بيننا . إذ أتى على قبرين . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن صاحبي هذين القبرين ليعذبان الآن في قبورهما فأيكما يأتيني من هذا النخل بعسيب ؟ فاستبقت أنا و صاحبي فسبقته و كسرت من النخل عسيباً . فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فشقه نصفين من أعلاه فوضع على إحداهما نصفاً و على الآخر نصفاً . و قال : إنه يهون عليهما ما دام من بلولتهما شيء إنهما يعذبان في الغيبة و البول .

قال المؤلف : هذا الحديث و الذي قبله يدل على التخفيف إنما هو بمجرد نصف العسيب ما دام رطباً و لا زيادة معه. و قد خرجه مسلم من حديث جابر الطويل ، و فيه : فلما انتهى إلي قال : يا جابر هل رأيت مقامي ؟ قلت نعم يا رسول الله . قال : فاطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصناً ، فأقبل بهما حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصناً عن يمينك و غصناً عن يسارك ، قال جابر : فقمت فأخذت حجراً فكسرته و حسرته فاندلق لي فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصناً ، ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسلت غصناً عن يميني ، و غصناً عن يساري ، ثم لحقته فقلت : قد فعلت ذلك يا رسول الله فعند ذاك قال : إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما . ما دام الغصنان رطبين .

ففي هذا الحديث زيادة على رطوبة الغصن و هي : شفاعته صلى الله عليه و سلم ، و الذي يظهر لي أنهما قضيتان مختلفتان لا قضية واحدة كما قال من تكلم على ذلك و يدل عليهما سياق الحديث ، فإن في حديث ابن عباس عسيباً واحداً شقه النبي صلى الله عليه و سلم بيده نصفين أبي هريرة غرسهما بيده و حديث جابر بخلافهما و لم يذكر فيه ما يعذب بسببه .

و قد خرج أبو داود الطيالسي حديث ابن عباس : فقال : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى على قبرين فقال : إنهما ليذبان في غير كبير ، أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس ، و أما الآخر فكان صاحب نميمة ثم دعا بجريدة فشقها نصفين فوضع نصفاً على هذا القبر ، و نصفاً على هذا القبر . و قال: عسى أن يخفف عنهما ما دامتا رطبتين ثم قيل : يجوز أن يكونا كافرين ، و قوله : إنهما ليعذبان في غير كبير يريد بالإضافة إلى الكفر و الشرك و أما إن كانا مؤمنين فقد أخبرك أنهما يعذبان بشيء كان منهما ليس بكفر لكنهما لم يتوبا منه ، و إن كانا كافرين فهما يعذبان في هذين الذنبين زيادة على عذابهما في كفرهما و تكذيبهما و جميع خطاياهما . و إن يكونا كافرين أظهر و الله أعلم . فإنهما لو كانا مؤمنين لعلما قرب العهد بتدافن المسلمين يومئذ . قاله ابن برجان في كتاب الإرشاد الهادي إلى التوفيق و السداد .

قلت : و الأظهر أنهما كانا مؤمنين و هو ظاهر الأحاديث و الله أعلم .

الطحاوي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أمر بعبد من عباد الله عز و جل أن يعذب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل الله تعالى و يدعوه حتى صارت واحدة فامتلأ قبره عيه ناراً ، فلما ارتفع عنه أفاق فقال : لماذاجلدتموني ؟ قال إنك صليت صلاة بغير طهور ، و مررت على مظلوم فلم تنصره .

البخاري عن سمرة بن جندب قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه . فقال : من رأى منكم الليلة رؤياً ؟ قال : فإن رأى أحد رؤيا قصها فيقول : ما شاء الله فسألنا يوماً . فقال : هل رأى أحدكم رؤيا؟ قلنا : لا . قال : لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة ، فإذا رجل جالس و رجل قائم بيده كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه ، ثم يفعل يشدقه الآخر مثل ذلك و يلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله .

قلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق ، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ، و رجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة فيشدخ بها رأسه ، فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق ليأخذه فما يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه و عاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه . قلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق و أسفله واسع يتوقد تحته ناراً ، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا ، فإذا خمدت رجعوا فيها . وفيها رجال و نساء عراة. فقلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم و على شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان . فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان . فقلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا ، حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة و في أصلها شيخ و صبيان . و إذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي الشجرة و أدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها فيها شيوخ و شباب و نساء و صبيان ، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن و أفضل . فيها شيوخ و شباب قلت : طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت . قالا : نعم . الذي رأيت يشق شدقه : فكذاب يحدث بالكذب فتحمل منه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة .

و الذي رأيته يشدخ رأسه : فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل فيه بالنهار . يفعل به إلى يوم القيامة ، و أما الذين رأيتهم في الثقب . قهم الزناة ، و الذي رأيته في النهار آكل الربا . و الشيخ في أصل الشجرة : إبراهيم . و الصبيان حوله : فأولاد الناس . و الذي يوقد النار : مالك خازن النار ، و الدار الأولى : دار عامة المؤمنين . وأما هذه الدار : فدار الشهداء ، و أنا جبريل ، وهذا ميكائيل فارفع رأسك فرفعت رأسي ، فإذا فوقي مثل السحاب قالا : ذلك منزلك ، فقلت : دعاني أدخل منزلي . قال : إنه بقي لك عمر ، لم تستكمله فلو استكملته أتيت منزلك .

فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليه : لا أبين في أحوال المعذبين في قبورهم من حديث البخاري ، و إن كان مناماً فمنامات الأنبياء عليهم السلام و حي بديل قول إبراهيم عليه السلام: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فأجابه ابنه: يا أبت افعل ما تؤمر و أما حديث الطحاوي فنص أيضاً ، و فيه رد على الخوارج و من يكفر بالذنوب . قال الطحاوي : و فيه يدل على ان تارك الصلاة ليس بكافر ، لأن من صلى صلاة بغير طهور : فلم يصل ، و قد أحببت دعوته . و لو كان كافراً ما سمعت دعوته لأن الله عز و جل يقول : و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال و أما حديث البخاري و مسلم فيدل على الاستبراء من البول و التنزه عنه : واجب ، إذ لا يعذب الإنسان إلا على ترك الواجب ، و كذلك إزالة جميع النجاسات قياساً على البول ، و هذا قول أكثر العلماء ، و به قال ابن وهب و رواه عن مالك و هو الصحيح في الباب ، و من صلى و لم يستنثر فقد صلى بغير طهور .

تنبيه على غلط : ذكر بعض أصحابنا ـ فيما نقل إلينا عنه ـ أن القبر الذي غرس عليه النبي صلى الله عليه و سلم العسيب ، هو قبر سعد بن معاذ ، و هذا باطل ، و إنما صح أن القبر ضغطه كما ذكرنا ثم فرج عنه ، و كان سبب ذلك ما رواه يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال : حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد : ما بلغكم في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا ؟ قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن ذلك فقال : كان يقصر في بعض الطهور من البول و ذكر هناد بن السري ، حدثنا ابن فضيل عن أبي سفيان عن الحسن قال : أصاب سعد بن معاذ جراحة فجعله النبي صلى الله عليه و سلم عند امرأة تداويه ، فقال إنه مات من الليلة فأتاه جبريل فأخبره : لقد مات الليلة فيكم رجل لقد اهتز العرش لحب لقاء الله إياه ، فإذا هو سعد بن معاذ قال قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم في قبره فجعل يكبر و يهلل و يسبح ، فلما خرج قيل له : يا رسول الله ما رأيناك صنعت هكذا قط . قال : إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة فدعوت الله تعالى أن يرفه عنه و ذلك أنه كان لا يستبرىء من البول . و قال السالمي أبو محمد عبد الغالب في كتابه ، و أما أخبار في عذاب القبر فبالغه مبلغ الاستفاضة منها قوله صلى الله عليه و سلم في سعد بن معاذ : لقد ضغطته الأرض اختلفت لها ضلوعه قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي عنهم : فلم ننقم من أمره شيئاً إلا أنه كان لا يستنزه في أسفاره من البول .

قلت : فقوله صلى الله عليه و سلم : ثم فرج عنه دليل على أنه جوزي على ذلك التقصير منه لا أنه يعذب بعد ذلك في قبره ، هذا لا يقوله أحد إلا شاك مرتاب في فضله و فضيلته و نصحه ونصيحته رضي الله عنه . أترى من اهتز له عرش الرحمن ، و تلقت روحه الملائكة الكرام فرحين بقدومها عليهم ، و مستبشرين بوصولها إليهم .

يعذب في قبره بعدما فرج عنه ؟ هيهات هيهات . . لا يظن ذلك إلا جاهل بحقه غبي بفضيلته و فضله ، رضي الله عنه و أرضاه ، و كيف يظن ذلك و فضائله شهيرة ، و مناقبه كثيرة ! خرجها البخاري و مسلم و غيرهما . و هو الذي أصاب حكم الرحمن في بني قريظة من فوق سبع سموات ، أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم في البخاري و مسلم و غيرهما .

باب منه

البيهقي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذه الآية سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الآية قال : أتي بفرس فحمل عليه . قال : كل خطوة منهى أقصى بصره ، فسار و سار معه جبريل فأتى على قوم يزرعون في كل يوم و يحصدون في كل يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبريل من هؤلاء ؟ فقال المهاجرون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه و هو خير الرازقين ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم شيء من ذلك . فقال : يا جبريل من هؤلاء ! قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة . قال : ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع ، و على أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام الضريع و الزقوم و رضف جهنم و حجارتها . قال : ما هؤلاء يا جبريل : قال : هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم و ما ظلمهم الله و ما الله بظلام للعبيد ، ثم أتى على قوم بين أياديهم لحم في قدر نضيج ، و لحم آخر خبيث فجعلوا يأكلون من الخبيث و يدعون النضيج الطيب، فقال ياجبريل : من هؤلاء؟ قال هذا الرجل يقوم و عنده امرأة حلالاً طيباً فياتي المرأة الخبيثة فيبيت معها حتى يصبح . ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر به شيء إلا قصفته . قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال يقول الله عز و جل و لا تقعدوا بكل صراط توعدون ثم مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها و هو يريد أن يزيد عليها . قال يا جبريل : ما هذا ؟ قال : هذا رجل من أمتك عليه أمانة لا يستطيع أداءها و هو يزيد عليها . ثم أتى على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت و لا يفتر عنهم شيء من ذلك . قال : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خطباء الفتنة ، ثم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم ، فجعل الثور يريد أن يدخل من حيث خرج و لا يستطيع قال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الرجل يتكلم الكلمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع . و ذكر الحديث .

و خرج من حديث أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال له أصحابه: يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك [ الحديث ] و فيه قال : فصعدت أنا و جبريل فإذا بملك يقال له اسماعيل و هو صاحب سماء الدنيا : و بين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف ملك قال : و قال الله تعالى : و ما يعلم جنود ربك إلا هو فاستفتح جبريل . ثم قال : فإذا أنا بآدم كهيئة يوم خلقه الله على صورته تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة ، و نفس طيبة ، اجعلوها في عليين ، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الكافرين فيقول: روح خبيثة ، اجعلوها في سجين ، ثم مضت هنيهة فإذا أنا بأخونة ـ يعني بالخوان المائدة التي يؤكل عليها ـ و عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد ، و إذا أنا بأخوانة أخرى عليها لحم قد أروح و أنتن ، عندها ناس يأكلون منها. قلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك يتركون الحلال و يأتون الحرام قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر يقول : اللهم لا تقم الساعة . قال : و هم على سابلة آل فرعون قال فتجيء السابلة فتطؤهم قال : فسمعتهم يضجون إلى الله عز وجل . قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال : ثم مضيت هنيهة . فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل . قال : فيفتح على أفواههم و يلقمون ذلك الجمر ، ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله عز و جل قلت : يا جبريل نت هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم ناراً و سيصلون سعيراً قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن فسمعتهن يضججن إلى الله عز وجل قلت : ياجبريل من هؤلاء النساء ؟ قال : هؤلاء الزناة من أمتك . قال : ثم مضيت هنيهة . فإذا أنا بقوم يقطع من جنوبهم اللحم قيلقمون . فيقال له : كل ما كنت تأكل من لحم أخيك . قلت : يا حبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الهمازون اللمازون من أمتك . و ذكر الحديث .

و ذكر أبو داود عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون و جوههم و صدورهم . فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم .

باب ما جاء في بشرى المؤمن في قبره

قال كعب الأحبار : إذا وضع العبد الصالح في قبره احتوشته أعماله الصالحة فتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه : قتقول الصلاة : إليكم عنه ، قيأتون من قبل رأسه . فيقول الصيام : لا سبيل لكم عليه . فقد أطال ظمأه لله عز و جل في دار الدنيا ، فيأتون من قبل جسمه . فيقول الحج و الجهاد : إليكم عنه ، فقد أنصب نفسه و أتعب بدنه و حج و جاهد لله عز و جل. لا سبيل لكم عليه . فيأتون من قبل يديه ، فتقول الصدقة : كفوا عن صاحبي فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين ، حتى و قعت في يد الله عز و جل ابتغاء لوجهه ، فلا سبيل لكم عليه . قال : فيقال له : نم هنيئاً ، طبت حياً و طبت ميتاً .

قلت : هذا لمن أخلص في عمله و صدق الله في قوله و فعله و أحسن نيته له في سره و جهره ، فهو الذي تكون أعماله حجة له ، و دافعة عنه ، فلا تعارض بين هذا الباب ، و بين ما تقدم من الأبواب . فإن الناس مختلفو الحال في خلوص الأعمال . و الله أعلم .

باب ما جاء في التعوذ من عذاب القبر وفتنته

النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و عندي امرأة من اليهود . و هي تقول : إنكم تفتنون في القبور . فارتاع رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : إنما يفتن يهود قال عائشة : فلبثنا ليالي . ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل شعرت أنه أوحى إلي : أنكم تفتنون في القبور ؟ قال عائشة : فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يستعيذ من عذاب القبر .

و رورى الأئمة عن أسماء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : و إنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريباً ، أو مثل فتنة الدجال لا أدري أي ذلك ؟ قالت أسماء : يؤتى بأحدكم فيقال له : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات و الهدى فأجبنا و أطعنا ، ثلاث مرات . ثم يقال له : نم قد نعلم إنك لتؤمن به فنم صالحاً . و أما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري أي ذلك ؟ قالت أسماء : فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت لفظ مسلم .

و خرج البخاري عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر . و من عذاب النار و من فتنة المحيا و الممات . و من فتنة المسيح الدجال و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً أخرجها الأثبات الثقات.

باب ما جاء أن البهائم تسمع عذاب القبر

مسلم عن زيد بن ثابت قال : بينما النبي صلى الله عليه و سلم في حائط لبني النجار على بغلة له و نحن معه إذ جاء به فكادت تلقيه . و إذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة كذا كان الحريري يقول . فقال من يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ فقال رجل : أنا . قال : فمتى مات هؤلاء ؟ قال ماتوا في الإشراك . فقال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع .

و خرج أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنه قالت : دخلت علي عجوزان من عجائز يهود المدينة فقالتا : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم . قالت فكذبتهما و لم أنعم أن أصدقهما . فخرجتا و دخل على رسول الله . فقلت : يا رسول الله إن عجوزين من عجائز يهود المدينة قالتا : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم . قال النبي صلى الله عليه و سلم صدقتا إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم ، قالت : فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر خرجه البخاري أيضاً و قال : تسمعه البهائم كلها ، و خرج هناد بن السري في زهده ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن شفيق ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخلت علي يهودية فذكرت عذاب القبر فكذبتها . فدخل النبي صلى الله عليه و سلم علي فذكرت ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده إنهم ليعذبون في قبورهم حتى تسمع البهائم أصواتهم .

فصل : قال علماؤنا : و إنما حادت به البغلة لما سمعت من صوت المعذبين و إنما لم يسمعه من يعقل من الجن و الإنس لقوله عليه الصلاة و السلام : لولا أن لا تدافنوا الحديث . فكتمه الله سبحانه عنا حتى نتدافن بحكمته الإلهية و لطائفه الربانية لغلبة الخوف عند سماعه ، فلا نقدر على القرب من القبر للدفن أو يهلك الحي عند سماعه . إذ لا يطاق سماع شيء من عذاب الله في هذه الدار . لضعف هذه القوى ، ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف ، أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس ، و أين صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد التي يسمعها كل من يليه ؟ و قد قال صلى الله عليه و سلم في الجنازة : و لو سمعها انسان لصعق .

قلت : هذا و هو على رؤوس الرجال من غير ضرب و لا هوان . فكيف إذا حل به الخزي و النكال و اشتد عليه العذاب و الوبال ؟ فنسأل الله معافاته و مغفرته و عفوه و رحمته بمنه .

حكاية : قال أبو محمد عبد الحق : حدثني الفقيه أبو الحكم بن برجان ـ و كان من أهل العلم و العمل رحمه الله ـ أنهم دفنوا ميتاً بقريتهم من شرق إشبيلية . فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون و دابة ترعى قريباً منهم . فإذا الدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع . ثم ولت فارة كذلك ـ فعلت مرة بعد أخرى ـ قال أبو الحكم رحمه الله : فذكرت عذاب القبر . و قول النبي صلى الله عليه و سلم : إنهم ليعذبون عذاباً تسمعه البهائم، و الله عز و جل أعلم بما كان من أمر ذلك الميت . ذكر هذه الحكاية لما قرأ القارىء هذا الحديث في عذاب القبر : و نحن إذ ذاك نسمع عليه كتاب مسلم بن الحجاج رضي الله عنه .

باب ما جاء أن الميت يسمع ما يقال

مسلم عن أنس بن مالك : عمر بن الخطاب حدث عن أهل بدر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس . يقول : هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله. قال فقال عمر : فو الذي بعثه بالحق نبياً ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتهى إليهم فقال : يا فلان بن فلان . هل و جدتم ما وعدكم الله و رسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً ؟ فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها ؟ قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئاً . و عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك قتلى بدر ثلاثاً . فقام عليهم فناداهم . فقال : يا أبا جهل بن هشام . يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة . يا شيبة بن ربيعة . أليس قد و جدتم ما وعدكم ربكم حقاً فإني وجدت ماو عدني ربي حقاً ! فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله كيف يسمعون ! و أنى يجيبون ! وقد جيفوا ؟ قال جهنم و الذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ثم أمر بهم فسحبوا فالفوا في قليب بدر .

فصل : اعلم رحمك الله أن عائشة رضي الله عنها قد أنكرت هذا المعنى.

و استدلت بقوله تعالى : فإنك . لا تسمع الموتى و قوله و ما أنت بمسمع من في القبور و لا تعارض بينهما لأنه جائز أن يكونوا يسمعون في وقت ما . أو في حال ما فإن تخصيص العموم ممكن و صحيح إذا و جد المخصص . و قد و جد هنا بدليل ما ذكرناه ـ و قد تقدم ـ و بقوله عليه الصلاة و السلام : إنه ليبسمع قرع ..نعالهم و بالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره و جوابه لهما و غير ذلك مما لا ينكر ، و قد ذكر ابن عبد البر في كتاب تمهيد و الاستذكار من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ، و رد علي السلام . صححه أبو محمد عبد الحق ، و جيفوا معناه : أنتنوا .

باب قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا الآية

مسلم عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة قال : نزلت في عذاب القبر . يقال له من ربك ؟ فيقول : الله ربي . و نبي محمد . فذلك محمد . قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة .

و في رواية أنه قول البراء . و لم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم .

قلت : و هذا الطريق و إن كان موقوفاً فهو لا يقال من جهة الرأي فهو محمول على أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله كما في الرواية الأولى ، و كما خرجه النسائي و ابن ماجه في سننهما و البخاري في صحيحه ، و هذا لفظ البخاري :

حدثنا جعفر بن عمر قال : حدثنا شعبة بن علقمة بن مرثد ، عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا أقعد العبد المؤمن في قبره . أتى ثم يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله فذلك قوله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية ، و خرجه أبو داود في سننه . فقال فيه البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن المسلم إذا سئل في القبر فشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و قد مضى هذا المعنى في حديث البراء الطويل مرفوعاً و الحمد الله .

و قد روى هذا الخبر ، أبي هريرة و ابن مسعود و ابن عباس و أبو سعيد الخدري . قال أبو سعيد الخدري : كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها . فإذا الإنسان دفن و تفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال : ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقول له هذا منزلك لو كفرت بربك ، و أما الكافر و المنافق فيقول له : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري . فيقال له : لا دريت و لا تليت ، ثم يفتح له باب إلى الجنة . فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك . فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك به هذا ، ثم يفتح له باب إلى النار ، ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين .

قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء .

فصل : صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم في عذاب القبر على الجملة فلا مطعن فيها و لا معارض لها. و جاء فيما تقدم من الآثار : أن الكافر يفتن في قبره و يسأل و يهان و يعذب . قال أبو محمد عبد الحق : و اعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين و لا موقوفاً على المنافقين ، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين ، و كل على حال من عمله و ما استوجبه من خطبئته و زلله . و إن كانت تلك النصوص المتقدمة في عذاب القبر إنما جاءت في الكافر و المنافق ، قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد : الآثار الثابتة تدل على : أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق ممن كان منسوباً إلى أهل القبلة و دين الإسلام من حقن دمه بظاهر الشهادة ، و أما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه و دينه و نبيه ، و إنما يسأل عن هذا أهل الإسلام و الله أعلم ، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت و يرتاب المبطلون . قال ابن عبد البر و في حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها و منهم من يرويه تسأل . و على هذا الفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصت بذلك ، و هذا أمر لا يقطع عليه ، و الله أعلم .

و قال أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول : و إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة . لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة فإذا أبوا كفت الرسل ، و اعتزلوا و عوجلوا بالعذاب ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم بالرحمة و أماناً للخلق ، فقال : و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب و أعطى السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ، ثم يرسخ في قلبه ، فأمهلوا ، فمن هنا ظهر أمر النفاق فكانوا يسرون الكفر و يعلنون الإيمان فكانوا بين المسلمين في ستر ، فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سترهم بالسؤال ، و ليميز الله الخبيث من الطيب فيثبت الثابت في الحياة الدنيا و يضل الله الظالمين .

قال المؤلف : قول أبي محمد عبد الحق أصوب ، و الله أعلم ، فإن الأحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على : أن الكافر يسأله الملكان ، و يختبرانه بالسؤال و يضرب بمطارق من حديد على ما تقدم ، و الله أعلم .