باب في انقراض هذا الخلق و ذكر النفخ و الصعق و كم بين النفختين ؟ التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة

 

باب في انقراض هذا الخلق و ذكر النفخ و الصعق و كم بين النفختين ؟ و ذكر البعث و النشر و النار

مسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ـ لا أدري أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً ـ فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم عليه السلام كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين إثنين عداوة ، ثم يرسل الله عز و جل ريحاً باردة من قبل الشمال ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى إن أحدكم لو دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس في خفة الطير و أحلام السباع لا يعرفون معروفاً ، و لا ينكرون منكراً ، فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان و هم في ذلك دار رزقهم ، حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا و رفع ليتاً قال : فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق و يصعق الناس ثم قال يرسل الله ، أو قال ينزل الله مطراً كأنه الطل فينبت منه أجساد الناس ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسؤولون ثم يقال : أخرجوا بعث النار فيقال : من كم ؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعين قال : فذلك يوم يجعل الولدان شيباً و ذلك يوم يكشف عن ساق .

مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بين النفختين أربعون قالوا : يا أبا هريرة أربعين يوماً ؟ قال : أبيت قالوا : أربعين شهراً ؟ قال : أبيت . قالوا ؟ أربعين عاماً ؟ قال : أبيت ، ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل . قال : و ليس من الإنسان شيء إلا يبلى . إلا عظماً واحداً و في رواية لا تأكله الأرض أبداً و هو عجب الذنب و منه يركب الخلق يوم القيامة . و عند ابن وهب في هذا الحديث فأربعون جمعة؟ قال أبيت و إسناده منقطع .

فصل : هذان الحديثان مع صحتهما في غاية البيان فيما ذكرناه و يزيدهما أيضاً بياناً في أبواب ، و يأتي ذكر الدجال مستوعباً في الأشراط . إن شاء الله تعالى . و أصغى معناه : أمال . ليتا يعني صفحة العنق . و يلوط معناه : يطين و يصلح ، و قول أبي هريرة أبيت : فيه تأويلان .

الأول : أبيت أي امتنعت من بيان ذلك تفسيره و على هذا كان عنده علم من ذلك أي سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم .

الثاني : أبيت أي أبيت أن أسأل عن ذلك النبي صلى الله عليه و سلم و على هذا لم يكن عنده علم من ذلك . و الأول أظهر و إنما لم يبينه لأنه لم ترهق لذلك حاجة ، و لأنه ليس من البينات و الهدى الذي أمر بتبليغه ، و في البخاري عنه أنه قال : حفظت وعاءين من علم فأما أحدهما فبثثته ، و أما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم ، قال أبو عبد الله : البلعوم : مجرى الطعام ، و قد جاء أن بين النفختين أربعين عاماً ، و الله أعلم و سيأتي .

و ذكر هناد بن السدي قال : حدثنا وكيع عن سفيان ، عن السدي سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية له ما بين أيدينا و ما خلفنا وما بين ذلك فلم يجبني فسمعنا أنه ما بين النفختين ، حدثنا وكيع عن أبي جعفر الرازي عن أبي العالية و ما بين ذلك قال : ما بين النفختين . و الله أعلم .

باب في قول الله تعالى و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض إلا من شاء الله

و هم الملائكة ، أو الشهداء ، أو الأنبياء ، أو حملة العرش ، أو جبريل ، أو ميكائيل ، أو ملك الموت . صعق : مات.

روى الأئمة عن أبي هريرة قال : قال رجل من اليهود بسوق المدينة : و الذي اصطفي موسى على البشر . فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه . قال : تقول هذا و فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فذكرت ذلك لرسول الله قال الله عز و جل و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي . أو كان ممن استثنى الله . و من قال : [ أنا خبر من يونس بن متى : فقد كذب ] لفظ ابن ماجه أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر ، و أخرجه الترمذي عن أبي كريب محمد بن العلاء . قال : حدثنا عبدة بن سليمان جميعاً ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة . قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، و أخرجه البخاري و مسلم بمعناه .

فصل : و اختلف العلماء في المستثنى : من هو ؟ فقيل الملائكة . و قيل الأنبياء . و قيل الشهداء و اختاره الحليمي قال : و هو مروي عن ابن عباس أن الاستتثناء لأجل الشهداء . فإن الله تعالى يقول : أحياء عند ربهم يرزقون و ضعف غيره من الأقوال على ما يأتي و قال شيخنا أبو العباس : و الصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح ، و الكل محتمل .

قلت : قد ورد حديث أبي هريرة بأنهم الشهداء و هو الصحيح على ما يأتي : و أسند النحاس في كتاب معاني القرآن له حدثنا الحسين بن عمر الكوفي قال : حدثنا هناد بن السرى قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة عمارة ابن أبي حفصة ، عن حجر الهجري ، عن سعيد بن جبير في قول الله عز و جل إلا من شاء الله قال : هم الشهداء هم ثنية الله عز و جل متقلدو السيوف حول العرش . و قال الحسن : استثنى طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين .

قال يحيى بن سلام في تفسيره : بلغني أن آخر من يبقى منهم : جبريل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت . ثم يموت جبريل و ميكائيل و إسرافيل ثم يقول الله عز و جل لملك الموت : مت . فيموت . و قد جاء هذا مرفوعاً في حديث أبي هريرة الطويل على ما يأتي . و قيل : هم حملة العرش و جبريل و ميكائيل . ملك الموت .

و قال الحليمي : من زعم أن الاستثناء لأجل حملة العرش أو جبريل و ميكائيل و ملك الموت أو زعم أنه لأجل الولدان و الحور العين في الجنة أو زعم أنه لأجل موسى فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أنا أول من تنشق عنه الأرض فأرفع رأسي فإذا موسى متعلق بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله عز و جل ؟ فإنه لم يصح شيء منها .

أم الأول : فإن حملة العرش ليسوا من سكان السموات و الأرض لأن العرش فوق السموات كلها ، فكيف يكون حملته في السموات ؟ و أما جبريل و ميكائيل و ملك الموت فمن الصافين المسبحين حول العرش . و إذا كان العرش فوق السموات لم يكن الاصطفاف حوله في السموات . و كذلك القول الثاني لأن الولدان و الحور في الجنة و الجنات. و إن كان بعضها أرفع من بعض فإن جميعها فوق السموات و دون العرش ، و هي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء فلا شك أنها بمعزل عما خلق الله تعالى للفناء ، و صرفه إلى موسى فلا وجه لأنه قد مات بالحقيقة فلا يموت عند نفخ الصور ثانية ، و لهذا لم يعتد في ذكر اختلاف المتأولين في الاستثناء بقول من قال : إلا من شاء الله ، أي الذين سبق موتهم قبل نفخ الصور . لأن الاستثناء إنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة ، فأما من لا يمكن دخوله في الجملة فيها فلا معنى لاستثنائه منها ، و الذين ماتوا قبل نفخ الصور ليسوا بغرض أن يصعقوا . فلا وجه لاستثنائهم . و هذا في موسى موجود فلا وجه لاستثنائه .

و قال النبي صلى الله عليه و سلم في ذكر موسى ما يعارض الرواية الأولى و هو أن قال : الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق . فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش . فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور ؟ فظاهر هذا الحديث : أن هذه صعقة غشى تكون يوم القيامة لا صعقة الموت الحادثة عن نفخ الصور .

و صرف ذكر يوم القيامة إلى أنه أراد أوائله قيل : المعنى : أن الصور إذا نفخ فيه أخرى كنت أول من يرفع رأسه ، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور ؟ أي فلا أدري أبعثه قبلي كان وهباً له و تفصيلاً من هذا الوجه ، كما فضل في الدنيا بالتكليم أو كان جزاء له بصعقة الطور ، أي قدم بعثه على بعث الأنبياء الأخرين بقدر صعقته عندما تجلى ربه للجبل إلى أن أفاق ليكون هذا جزاء له بها .

و ما عدا هذا فلا يثبت . قال شيخنا أحمد بن عمر : و ظاهر حديث النبي صلى الله عليه و سلم يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية نفخة البعث ، و نص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق . و لما كان هذا قال بعض العلماء : يحتمل أن يكون موسى عليه السلام ، ممن لم يمت من الأنبياء و هذا باطل بما تقدم من ذكر موته ، و قال القاضي عياض : يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السموات و الأرض ، قال : فتستقل الأحاديث و الآيات و الله أعلم .

قال شيخنا أبو العباس : و هذا يرده ما جاء في الحديث أنه عليه السلام حين يخرج من قبره يلقى موسى و هو متعلق بالعرش ، و هذا إنما هو عند نفخة البعث . قال شيخنا أحمد بن عمر: و الذي يزيح هذا الإشكال إن شاء الله تعالى أن الموت ليس بعدم محض ، و إنما هو انتقال من حال إلى حال ، و يدل على ذلك : أن الشهداء بعد قتلهم و موتهم أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين مستبشرين ، و هذه صفة الأحياء في الدنيا و إذا كان هذا في الشهداء ، كان الأنبياء بذلك أحق و أولى ، مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء و أن النبي صلى الله عليه و سلم قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس ، و في السماء و خصوصاً بموسى و قد أخبرنا النبي صلى الله عليه و سلم بما يقتضي ان الله تبارك و تعالى يرد عليه روحه حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا تدركهم ، و إن كانوا موجودين أحياء ، و ذلك كالحال في الملائكة فإنهم موجودون أحياء و لا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامة من أوليائه . و إذا تقرر أنهم أحياء فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق كل من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله فأما صعق غير الأنبياء فموت . و أما صعق الأنبياء ، فالأظهر : أنه غشية . فإذا نفخ في الصور نفخة البعث ، فمن مات حيي و من غشي عليه أفاق . و كذلك قال صلى الله عليه و سلم في صحيح مسلم و البخاري : فأكون أول من يفيق و هي رواية صحيحة و حسنة ، فنبينا صلى الله عليه و سلم أول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم قبل الأنبياء و غيرهم إلا موسى، فإنه حصل له فيه تردد : هل بعث قبله من غشيته أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق مفيقاً لأنه حوسب بغشية الطور ؟ و هذه فضيلة عظيمة في حق موسى عليه السلام . و لا يلزم من فضيلة أحد الأمرين المشكوك فيهما فضيلة موسى عليه السلام على محمد مطلقاً لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمراً كلياً . و الله أعلم .

قال المؤلف : ما اختاره شيخنا هو ما ذكره الحليمي و اختاره في قوله فإن حمل عليه الحديث فذاك . قال الحليمي : و أما الملائكة الذين ذكرناهم صلوات الله عليهم فإنا لم ننف عنهم الموت . و لا أحلناه ، و إنما أبينا أن يكونوا هم المرادين بالاستثناء من الوجه الذين ذكرناه ، ثم قد وردت الأخبار بأن الله تعالى يميت حملة العرش و ملك الموت و ميكائيل ثم يميت آخر من يميت : جبريل و يحييه مكانه و يحي هؤلاء الملائكة الذي ذكرناهم . و أما أهل الجنة فلم يأت عنهم خبر : و الأظهر أنها دار الخلد . فالذي يدخلها لا يموت فيها أبداً مع كونه قابلاً للموت ، و الذي خلق فيها أولى ألا يموت فيها أبداً . و أيضاً فإن الموت لقهر المكلفين . و نقلهم من دار إلى دار ، و أهل الجنة لم يبلغنا أن عليهم تكليفاً ، فإن أعفوا من الموت كما أعفوا من التكليف لم يكن بعيداً . فإن قيل : فقد قال الله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه و هو يدل على أن الجنة نفسها تفنى ثم تعاد يوم الجزاء ، فلم أنكرتم أن يكونوا الولدان و الحور يموتون ثم يحيون ؟ قيل : يحتمل معنى قوله : كل شيء هالك إلا وجهه أي ما من شيء إلا و هو قابل للهلاك فيهلك إن أراد الله به ذلك إلا وجهه أي إلا هو سبحانه ، فإنه تعالى قديم و القديم لا يمكن أن يفنى و ما عداه محدث ، و المحدث إنما يبقى قدر ما يبقيه محدثه فإذا حبس البقاء عنه فني . و لم يبلغنا في خبر صحيح و لا معلول أنه يهلك العرش فلتكن الجنة مثله .

فصل : قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث : و من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب . للعلماء في تأويلات: أحسنها و أجملها ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي قال : أخبرني غير واحد من أصحابنا عن إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أنه سئل : هل الباري في جهة ؟ فقال : لا هو متعال عن ذلك . قيل له : ما الدليل عليه ؟ قال الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا تفضلوني على يونس بن متى فقيل له : ما وجه الدليل من هذا الخبر ؟ فقال لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها ديناً ، فقام رجلان فقالا : هي علينا . فقال : لا يتبع بها اثنين لأنه يشق عليه . فقال واحد : هي علي . فقال : إن يونس بن متى رمى بنفسه في البحر فالتقمته الحوت ، و صار في قعر البحر في ظلمات ثلاث و نادى لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين كما أخبر الله و لم يكن محمد صلى الله عليه و سلم حين جلس على الرفرف الأخضر و ارتقى به صعداً حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام و ناجاه ربه بما ناجاه به و أوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس في ظلمة البحر .

قال المؤلف : فالله سبحانه قريب من عباده يسمع دعاءهم ، و لا يخفى عليه حالهم ، كيف ما تصرفت من غير مسافة بينه و بينهم ، فيسمع و يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، تحت الأرض السفلى ، كما يسمع و يرى تسبيح حملة عرشه من فوق السبع السموات العلى ، سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب و الشهادة ، أحاط بكل شيء علما ، و أحصى كل شيء عددا ، و لقد أحسن أبو العلاء بن سليمان المغربي حيث يقول :

يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل

و يرى مناط عروقها في لحمها و المخ في تلك العظام النحل

أجالها محتومة ، أرزاقها مقسومة بعطا ، و إن لم تسأل

فلقد سألتك بالنبي محمد الهاشمي المدثر المزمل

إمنن علي بتوبة تمحو بها ما كان مني في الزمان الأول

باب يفنى العباد و يبقى الملك الله وحده

البخاري و مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقبض الله الأرض يوم القيامة و يطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ و عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يطوي الله السماء يوم القيامة. ثم يأخذهن بيده اليمنى . ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرض بشماله . ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ انفرد به مسلم.

و عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : يأخذ الله سماواته و أرضيه بيده . فيقول : أنا الله و يقبض أصابعه و يبسطها فيقول : أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل حتى إني أقول : أساقط هو برسول الله صلى الله عليه و سلم .

فصل : هذه الأحاديث تدل على أن الله سبحانه يفني جميع خلقه أجمع كما تقدم ثم يقول الله عز و جل : لمن الملك اليوم فيجيب نفسه المقدسة بقوله : لله الواحد القهار .

و قيل : إن المنادي ينادي بعد حشر الخلق على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله عليها على ما يأتي لمن الملك اليوم فيجيبه العباد لله الواحد القهار رواه أبو وائل عن ابن مسعود و اختاره أبو جعفر النحاس قال : و القول صحيح عن ابن مسعود و ليس هو مما يؤخذ بالقياس و لا بالتأويل .

قال المؤلف رضي الله عنه : و القول الأول أظهر لأن المقصود إظهاره انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعوى المدعين و انتساب المنتسبين . إذ قد ذهب كل ملك و ملكه و كل جبار و متكبر و ملكه ، و انقطعت نسبتهم و دعاويهم و هذا أظهر . و هو قول الحسن و محمد بن كعب و هو مقتضى قوله الحق : أنا المالك أين ملوك الأرض؟.

و في حديث أبي هريرة ثم يأمر الله عز و جل إسرافيل فينفخ نفخة الصعق فيصعق من في السموات و من في الأرض إلا ما شاء الله . فإذا اجتمعوا أمواتاً جاء ملك الموت إلى الجبار فيقول : قد مات أهل السماء و الأرض إلا ما شئت . فيقول الله سبحانه ـ و هو أعلم ـ من بقي ؟ فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت و بقي حملة العرش و بقي جبريل و ميكائيل و إسرافيل و بقيت أنا . فيقول الله عز و جل : ليمت جبريل و ميكائيل . فينطق الله عز و جل العرش . فيقول أي رب يموت جبريل و ميكائيل ؟ فيقول : اسكت إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي فيموتان . قال : ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار جل جلاله . فيقول يا رب قد مات جبريل و ميكائيل قيول الله سبحانه ـ و هو أعلم ـ من بقي ؟ فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت و بقي حملة عرشك و بقيت أنا . فيقول : ليمت حملة العرش . فيموتون فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل . ثم يقول : ليمت إسرافيل. فيموت . ثم يأتي ملك الموت فيقول يا رب قد مات حملة عرشك . فيقول ـ و هو أعلم ـ من بقي ؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، و بقيت أنا . فيقول الله : أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت فيموت . فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة و لا ولداً لم يلد و لم يولد * و لم يكن له كفواً أحد . فكان كما كان أولاً طوى السماء كطي السجل للكتاب . ثم قال : أنا الجبار . لمن الملك اليوم فلم يجبه أحد فيقول جل ثناؤه و تقدست أسماؤه لله الواحد القهار .

قلت : حديث أبي هريرة هذا فيه طول و هذا وسطه و يأتي آخره في الباب بعد هذا و يأتي أوله بعد ذلك إن شاء الله تعالى فيتصل جميعه إن شاء الله تعالى . ذكره الطبري و علي بن معبد و الثعلبي و غيرهم .

و في حديث لقيط بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم : ثم تلبثون ما لبثتم . ثم تبعث الصيحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات و الملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك يطوف في البلاد و قد خلت عليه البلاد و ذكر الحديث و هو حديث فيه طول . خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده و غيره الأوزاعي

قال علماؤنا : قوله : فأصبح ربك يطوف بالبلاد و قد خلت عليه البلاد إنما هو تفهم و تقريب إلى أن جميع من في الأرض يموت . و أن الأرض تبقى خالية و ليس يبقى إلا الله كما قال : كل من عليها فان * و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام و عند قوله سبحانه لمن الملك اليوم هو انقطاع زمن الدنيا و بعده يكون البعث و النشر و الحشر على ما يأتي . و في فناء الجنة و النار عند فناء جميع الخلق قولان :

أحدهما : يفنيهما و لا يبقى شيء سواه و هو معنى قوله الحق : هو الأول و الآخر و قيل : إنه مما لا يجوز عليهما الفناء و إنهما باقيان بإبقاء الله سبحانه . و الله أعلم . و قد تقدم في الباب قبل هذا الإشارة إلى ذلك . و قد قيل : إنه ينادي مناد فيقول : لمن الملك اليوم ؟ فيجيبه أهل الجنة : لله الواحد القهار .

فصل : في بيان ما أشكل من الحديث من ذكر اليد و الأصابع

إن من قائل : ما تأويل اليد عندكم و اليد حقيقتها في الجارحة المعلومة عندنا . و تلك التي يكون القبض و الطي بها ؟ قلنا : لفظ الشمال أشد في الإشكال .

و ذلك في الإطلاق على الله محال .

و الجواب : أن اليد في كلام العرب لها خمسة معان : تكون بمعنى القوة . و منه قوله تعالى : واذكر عبدنا داود ذا الأيد و تكون بمعنى الملك و القوة . و منه قوله تعالى : قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء و تكون بمعنى النعمة . تقول العرب : كم يد لي عند فلان أي كم من نعمة أسديتها إليه . و تكون بمعنى الصلة . و منه قوله تعالى مما عملت أيدينا أنعاماً أي مما عملنا نحن . و قال تعالى : أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح أي الذي له النكاح . و تكون بمعنى الجارحة .

ومنه قوله تعالى : و خذ بيدك ضغثاً فاضرب به و لا تحنث . و قو له في الحديث [بيده] عبارة عن قدرته و إحاطته بجميع مخلوقاته ، يقال : ما فلان إلا في قبضتي . بمعنى : ما فلان إلا في قدرتي . و الناس يقولون : الأشياء في قبضة الله يريدون في ملكه و قدرته ، و قد يكون معنى القبض و الطي : إفناء الشيء و إذهابه فقوله عز و جل: و الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة يحتمل أن يكون المراد به الأرض جميعاً ذاهبة فانية يوم القيامة . و قوله : و السماوات مطويات بيمينه ليس يريد به طياً بعلاج و انتصاب ، و إنما المراد بذلك الفناء و الذهاب . يقال : قد انطوى عنا ما كنا فيه و جاءنا غيره و انطوى عنا دهر بمعنى المضي و الذهاب .

فإن قيل : فقد قال في الحديث : و يقبض أصابعه و يبسطها و هذه حقيقة الجارحة ؟ قلنا : هذا مذهب المجسمة من اليهود و الحشوية . و الله تعالى متعال عن ذلك و إنما المعنى حكاية الصاحب عن النبي صلى الله عليه و سلم : يقبض أصابعه و يبسطها و ليس معنى اليد في الصفات بمعنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع ، فدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي كان يقبض أصابعه و يبسطها . قال الخطابي و ذكر الأصابع لم يوجد في شيء من الكتاب و السنة المقطوع بصحتهما .

فإن قيل : فقد ورد ذكر الأصابع في غير ما حديث فما جوابكم عنه ؟ فقد روى البخاري و مسلم قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل السموات على أصبع ، و الأرضين على أصبع ، و الشجر على أصبع ، و الثرى على أصبع ، و الخلائق على أصبع ؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه فأنزل الله عز و جل و ما قدروا الله حق قدره ، و الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ، و السماوات مطويات بيمينه . و روى عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها حيث يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك و مثله كثير . قيل له : اعلم أن الأصابع قد يكون بمعنى الجارحة و الله تعالى يتقدس عن ذلك ، و يكون بمعنى القدرة على الشيء ، و يسارة تقليبه ، كما تقول من استسهل شيئاً و استخفه مخاطباً لمن استثقله : أنا أحمله على أصبعي و ارفعه علي بأصبعي ، و أمسكه بخنصري . و كما يقال من أطاع بحمل شيء : أنا أحمله على عيني و أفعله على رأسي . يعني به الطواعية و ما أشبه ذلك . قد قال في معناه و هو كثير . و مما قال عنترة و قيل ابن زيادة التيمي :

الرمح لا أملأ كفي به و اللبد لا أتبع تزواله

يريد أنه لا يتكلف أن يجمع كفه فيشتمل على الرمح لكن يطعن به خلساً بأصابعه لخفة ذلك عليه . و قوله : لا أتبع تزواله : أي إذا مال لم أمل معه .

يقول : أنا ثابت على ظهر الخيل لا يضرني فقد بعض الآلة ، و لا تغير السرج عما يريده الراكب . يصف نفسه بالفروسية في الركوب و الطعن ، فلما كانت السموات و الأرض أعظم الموجودات قدراً و أكبرها خلقاً كان إمساكها بالنسبة إلى الله تعالى كالشيء الحقير الذي نجعله نحن بين أصابعنا و نهزه بأيدينا ، و نتصرف فيه كيف شئنا فتكون الإشارة بقوله : ثم يقبض أصابعه و يبسطها و بقوله : ثم يهزهن كما جاء في بعض طرق مسلم و غيره . أي هي في قدرته كالحبة مثلاً في كف أحدنا التي لا نبالي بإمساكها و لا بهزها و لا تحريكها ، و لا القبض و البسط عليها ، و لا نجد في ذلك صعوبة و لا مشقة ، و قد يكون الأصبع أيضاً في كلام العرب بمعنى النعمة و هو المراد بقوله عليه السلام : إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن أي بين نعمتين من نعم الرحمن يقال : لفلان علي أصبع أي أثر حسن إذا أنعم عليه نعمة حسنة ، و للراعي على ماشيته أصبع أي أثر حسن . و أنشد الأصمعي للراعي :

ضعيف العصي بادي العروق ترى له عليها إذا ما أجدب الناس أصبعاً

و قال آخر :

صلاة و تسبيح و إعطاء سائل و ذي رحم تبل منك أصبع

أي أثر حسن . و قال آخر :

من يجعل الله عليه أصبعاً في الخير و الشر يلقاه معاً

فإن قيل : كيف جاز إطلاق الشمال على الله تعالى و ذلك يقتضي النقص ؟ قيل : هو مما انفرد به عمر بن حمزة عن سالم ، و قد روى هذا الحديث نافع و عبد الله بن مقسم عن ابن عمر لم يذكرا فيه الشمال . و رواه أبو هريرة و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم و لم يذكر فيه واحد منهم الشمال .

و قال البيهقي و روى ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة إلا أنه ضعبف بمرة ، و كيف يصح ذلك و صحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سمى كلتا يديه يميناً ؟ و كان من قال ذلك أرسله من لفظه على ما وقع له أو على عادة العرب في ذكر الشمال في مقابلة اليمين .

قال الخطابي : ليس فيما يضاف إلى الله عز و جل من صفة اليد شمال ، لأن الشمال محل النقص و الضعف . و قد روى كلتا يديه يمين و ليس معنى اليد عندنا الجارحة ، و إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت و لا نكفيها .

و ننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب و السنة المأثورة الصحيحة ، و هو مذهب أهل السنة و الجماعة . و قد يكون اليمين في كلام العرب بمعنى القدرة و الملك و منه قوله تعالى : أو ما ملكت أيمانكم يريد بها الملك ، و قال لأخذنا منه باليمين أي بالقوة و القدرة أي أخذنا قدرته و قوته . قال الفراء : اليمين القوة و القدرة و أنشد :

إذا ما رايةً رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

و قال آخر :

و لما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيميني

فقلت : شنيفاً ثم فاران بعده و كان على الآيات غير أمين

قلت : و على هذا التأويل تخرج الآية و الحديث و الله أعلم . و قد تكون اليمين في كلام مالك العرب بمعنى : التبجيل و التعظيم . يقال عندنا باليمين أي بالمحل الجليل و منه قول الشاعر:

أقول لناقتي إذ بلغتني لقد أصبحت عندي باليمين

أي بالمحل الرفيع و أما قوله : كلتا يديه يمين فإنه فإنه أراد بذلك التمام و الكمال ، و كانت العرب تحب التيامن و تكره التياسر لما في التياسر من النقصان ، و في التيامن من التمام . فإن قيل : فأين يكون الناس عند طي الأرض و السماء ؟ قلنا : يكونون على الصراط على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .