باب يبعث كل عبد على ما مات عليه التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة

 

باب يبعث كل عبد على ما مات عليه

مسلم عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : يبعث كل عبد على ما مات عليه . و عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ، ثم بعثوا على نياتهم خرجه البخاري . و لفظ البخاري عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم .

مالك عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : و الذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله ـ و الله أعلم بمن يكلم في سبيله ـ إلا جاء يوم القيامة و جرحه يثعب دماً اللون لون الدم ، و العرف عرف المسك خرجه البخاري و مسلم .

أبو داود عن عبد الله بن عمرو أنه قال : يا رسول الله ، أخبرني عن الجهاد و الغزو . فقال: يا عبد الله إن قتلت صابراً محتسباً بعثت صابراً محتسباً . و إن قتلت مرائياً مكاثراً بعثت مرائياً مكاثراً على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله بتلك الحال .

و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من مات سكران فإنه يعاين ملك الموت سكران ، و يعاين منكراً و نكيراً سكران، و يبعث يوم القيامة سكران إلى حندق في سوط جهنم يسمى السكران ، فيه عين يجري ماؤها دماً ، لا يكون له طعام و لا شراب إلا منه .

مسلم عن ابن عباس أن رجلا كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم محرماً فوقصته ناقته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اغسلوه بماء و سدر ، و كفنوه في ثوبه ، و لا تمسوه بطيب ، و لا تخمروا رأسه ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً و في رواية [ ملبداً ] أخرجه البخاري .

و روى عباد بن كثير ، عن الزبير ، عن جابر قال : [ إن المؤذنين و الملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم يؤذن المؤذن . و يلبي الملبي ] ذكره الحليمي الحافظ في كتاب المنهاج له و سيأتي بكماله .

و ذكر أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له حدثنا أبو محمد عبد الله بن يونس بن بكير، حدثنا أبي ، عن عمرو بن سمير عن جابر ، عن محمد بن علي ، عن ابن عباس و علي بن حسين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أخبرني جبريل عليه السلام أن : لا إله إلا الله أنس للمسلم عند موته ، و في قبره ، و حين يخرج من قبره، يا محمد لو تراهم حين يمرقون من قبورهم بنفضون رؤوسهم هذا يقول : لا إله إلا الله ، و الحمد لله فيبيض وجهه . و هذا ينادي ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله مسودة و جوههم قال : و حدثني يحيى بن عبد الحميد بن عبد الحماني ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس على أهل لا إله إلا الله و حشة عند الموت و لا في قبورهم و لا منشرهم كأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم و هم يقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن .

و روى النسائي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء عليها جلباب من لعنة الله و درع من نار يدها على رأسها تقول : يا ويلاه أخرجه بمعناه مسلم ، و ابن ماجه عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : النياحة من أمر الجاهلية ، و إن النائحة إذا ماتت قطع الله لها ثياباً من نار و درعاً من لهب النار لفظ ابن ماجه . و قال مسلم : تقام القيامة و عليها سربال من قطران و درع من جرب .

و أسند الثعلبي في تفسيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين ، صفاً عن اليمين ، و صفاً عن الشمال ، ينبحن كما تنبح الكلاب ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، ثم يؤمر بهن إلى النار أنبأناه الشيخ الحاج الراوية أبو محمد عبد الوهاب شهر بابن رواح ، و الشيخ الإمام علي بن هبة الله الشافعي قالا: حدثنا السلفى قال : حدثنا الرئيس أبو عبد الله الثقفي قال : حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن خولة الأبهري الأديب فيما قرئ عليه و أنا أسمع منه سنة ثلاث و أربع مائة قال : أخبرنا أبو عمر و أحمد بن محمد بن حكيم المدني ، أخبرنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا سليمان بن داود اليماني ، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين في جهنم صفاً عن يمينهن و صفاً عن شمالهن ينبحن على أهل جهنم كما تنبح الكلاب غريب من حديث أبي نصر يحيى بن كثير عن أبي سلمة تفرد به عنه سليمان بن داود .

و قال أنس قال النبي صلى الله عليه و سلم : تخرج النائحة من قبرها شعثاء غبراء مسودة الوجه زرقاء العينين ثائرة الشعر كالحة الوجه و عليه جلباب من لعنة الله و درع من غضب الله إحدى يديها مغلولة إلى عنقها و الأخرى قد و ضعتها على رأسها . و هي تنادي يا ويلاه و يا ثبوراه و يا حزناه ، و ملك وراءها يقول : آمين آمين . ثم يكون من بعد ذلك حظها النار .

ابن ماجة عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : النياحة على الميت من أمر الجاهلية . و إن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران ، ثم يعلى عليها بدرع من لهب النار .

و في التنزيل : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قال أهل التأويل : المعنى لا يقومون من قبورهم . قاله ابن عباس و مجاهد و ابن جبير و قتادة و الربيع و السدي و الضحاك و ابن زيد و غيرهم ، قال : بعضهم يجعل معه شيطان يخنقه . و قالوا : كلهم يبعث كالمخنوق عقوبة له ، وتميقتاً عند جميع أهل المحشر . فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا ، و ذلك أنه أرباه في بطونهم فاثقلهم ، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون و يسقطون لعظم بطونهم و ثقلها عليهم . نسأل الله الستر و السلامة و العافية في الدنيا و الآخرة . و قال تعالى و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة و سيأتي .

و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم : من مات على مرتبة من المراتب بعث عليها يوم القيامة ذكره صاحب القوت و هو صحيح المعنى يدل على صجته ما ذكرناه و سياتي لهذا الباب مزيد بيان في باب بيان الحشر إلى الموقف إن شاء الله تعالى .

باب في بعث النبي صلى الله عليه و سلم من قبره

ابن المبارك قال : أخبرنا ابن لهيعة قال : حدثني خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نبيه بن وهب أن كعباً دخل على عائشة رضي الله عنه فذكروا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال كعب : ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفوا بالقبر ، يضربون بأجنحتهم و يصلون على النبي صلى الله عليه و سلم حتى إذا أمسوا عرجوا و هبط سبعون ألف ملك يحفون بالقبر و يضربون بأجنحتهم و يصلون عن النبي صلى الله عليه و سلم سبعون ألفاً بالليل و سبعون ألفاً بالنهار . و حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه و سلم . و الأخبار دالة ثابتة على أن جميع الناس يخرجون عراة و يحشرون كذلك على ما يأتي إن شاء الله تعالى .

و خرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول : حدثنا بشر بن خالد قال ، حدثنا سعيد بن مسلمة ، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع ، عن ابن عمر قال : خرج النبي صلى الله عليه و سلم و يمينه على أبي بكر و شماله على عمر فقال: هكذا نبعث يوم القيامة .

باب ما جاء في بعث الأيام و الليالي و يوم الجمعة

عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عز و جل يبعث لأيام القيامة على هيأتها . و يبعث يوم الجمعة : زهراء منيرة أهلها محتفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضيء لهم يمشون في ضوئها . ألوانهم كالثلج بياضاً ، و ريحهم يسطع كالمسك ، يخوضون في جبال الكافور ، ينظر إليهم الثقلان ما يطرقون تعجباً. يدخلون الجنة لا يخالطهم إلا المؤذنون المحتسبون خرجه القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي من ولد عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم و إسناده صحيح . و قال أبو عمران الجوني : ما من ليلة تأتي إلا تنادى : اعملوا في ما استطعتم من خير ، فلن أرجع إليكم يوم القيامة ذكره أبو نعيم .

 باب ما جاء أن العبد المؤمن إذا قام من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا و عمله

تقدم من حديث جابر مرفوعاً : فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات و ملك السيئات فأنشطا كتاباً معقوداً في عنقه . ثم حضرا معه واحد سائق ، و الآخر شهيد . ذكره أبو نعيم أيضاً عن ثابت البناني أنه قرأ : حم السجدة حتى إذا بلغ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة وقف فقال : بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعث من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له : لا تخف و لا تحزن و أبشر بالجنة التي كنت توعد قال : فأمن الله خوفه ، و أقر الله عينه فما عظيمة تغشى الناس يوم القيامة فالمؤمن في قرة عين لما هداه الله له . و لما كان يعمل له في الدنيا .

و قال عمرو بن قيس الملاي : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة و أطيب ريح فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا . إلا أن الله قد طيب ريحك و حسن صورتك . فيقول كذلك كنت في الدنيا ، أنا عملك الصالح ، طال ما ركبتك في الدنيا ، اركبني اليوم و تلا : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً و أن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة و أنتن ريح فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد قبح صورتك ، و نتن ريحك . فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيء ، طال ما ركبتني في الدنيا . و أنا اليوم أركبك و تلا : و هم يحملون أوزارهم على ظهورهم ، ألا ساء ما يزرون و لا يصح من قبل إسناده قاله القاضي أبو بكر بن العربي .

باب أين يكون الناس ؟ يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات

مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال : السلام عليك يا محمد و ذكر الحديث و فيه فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هم في الظلمة دون الجسر الحديث بطوله و سيأتي .

و خرج مسلم أيضاً و ابن ماجه جميعاً قالا : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات فأين يكون الناس يومئذ ؟ قال : على الصراط .

و أخرجه الترمذي قال : حدثنا ابن أبي عمر قال : حدثنا سفيان عن داود بن هند ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : يا رسول الله و الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه فأين يكون المؤمنون يومئذ ؟ قال : على الصراط يا عائشة قال : هذا حديث حسن صحيح .

و خرج عن مجاهد قال : قال ابن عباس : أتدري ما سعة جهنم ؟ قلت : لا . قال : أجل و الله ما تدري . حدثتني عائشة أنه سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله عز و جل و الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه قال : فقلت : فأين الناس يا رسول الله ؟ قال : على جسر جهنم قال : حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه .

فصل : هذه الأحاديث نص في أن الأرض و السموات تبدل و تزال و يخلق الله أرضاً أخرى يكون عليها الناس بعد كونهم على الجسر و هو الصراط . لا كما قال كثير من الناس أن تبدل الأرض عبارة عن تغيير صفاتها ، و تسوية آكامها ، و نسف جبالها و مد أرضها ، و رواه ابن مسعود رضي الله عنه . خرجه ابن ماجه و سيأتي ذكره في الاشتراط إن شاء الله .

و ذكر ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب قال : حدثني ابن عباس قال : [ إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و زيد في سعتها كذا و كذا ] و ذكر الحديث . و روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها و يمدها مد الأديم ذكره الثعلبي في تفسيره .

و روى علي بن الحسين رضي الله عنهما قال : [ إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لأحد من البشر إلا موضع قدميه ] ذكره الماوردي ، و ما بدأنا بذكره أصح لأنه نص ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم . فإن قائل : إن بدل في كلام العرب معناه : تغيير الشيء ، و منه قوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها و قال : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ، و لا يقتضي هذا إزالة العين و إنما معناه تغيير الصفة . و لو كان المعنى لإزالة لقال يوم تبدل الأرض مخففاً من أبدلت الشيء إذا أزالت عنه و شخصه قيل له : ما ذكرته صحيح ، و لكن قد قرئ قوله عزو جل عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها مخففاً و مثقلاً بمعنى واحد . قال : و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً و قال : فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات و كذا ذكر تاج اللغة أبو نصر الجوهري في الصحاح ، و أبدلت الشيء بغيره و بدله الله من الخوف أمناً و تبديل الشيء أيضاً تغييره ، فقد دل القرآن و كلام العرب على أن بدل و أبدل بمعنى واحد ، و قد فسر النبي صلى الله عليه و سلم أحد المعنيين ، فهو أعلى و لا كلام معه .

قال ابن عباس و ابن مسعود : تبدل الأرض أرضاً بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم حرام و لم يعمل عليها خطيئة قط . و قال ابن مسعود أيضاً تبدل الأرض ناراً و الجنة من ورائها يرى أكوابها و كواعبها . و قال أبو الجلد حيان بن فروة : إني لأجد فيما أقرأ من كتب الله أن الأرض تشعل ناراً يوم القيامة . و قال علي رضي الله عنه : تبدل الأرض فضة ، و السماء ذهباً ، و قال جابر : سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قول الله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض قال تبدل خبزة يأكل منها الخلق يوم القيامة . ثم قرأ و ما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام و قال سعيد بن جبير و محمد بن كعب : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه .

قلت : و هذا المعنى الذي قاله سعيد بن جبير و محمد بن كعب مروي في الصحيح و سيأتي . و إليه ذهب ابن برحان في كتاب الإرشاد له . و أن المؤمن يطعم يومئذ من بين رجليه و يشرب من الحوض ، فهذه أقوال الصحابة و التابعين دالة على ما ذكرنا .

و أما تبديل السماء فقيل تكوير شمسها و قمرها و تناثر نجومها . قاله ابن عباس و قيل : اختلاف أحوالها قتارة كالمهل ، و تارة كالدهان . حكاه ابن الأنباري . و قال كعب : تصير السماء دخاناً ، و تصير البحار نيراناً ، و قيل تبديلها : أن تطوي كطي السجل للكتاب ، و ذكر أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن حيدرة في كتاب الإفصاح له : أنه لا يعارض بين هذه الآثار ، و أن الأرض و السماوات تبدل كرتين إحداهما هذه الأولى و أنه سبحانه يغير صفاتها قبل نفخة الصعق فتنتثر أولاً كواكبها ، و تكسف شمسها و قمرها و تصير كالمهل ، ثم تكشط عن رؤوسهم ، ثم تسير الجبال ثم تموج الأرض ، ثم تصير البحار نيراناً ، ثم تنشق الأرض من قطر إلى قطر فتصير الهيئة غير الهيئة ، و البنية غير البنية ، ثم إذا نفخ في الصور نفخة الصعق طويت السماء و دحيت الأرض ، و بدلت السماء سماء أخرى ، و هو قوله تعالى و أشرقت الأرض بنور ربها و بدلت الأرض : تمد مد الأديم العكاظي . و أعيدت كما كانت فيها القبور . و البشر على ظهرها و في بطنها . و تبدل أيضاً تبديلاً ثانياً . و ذلك إذا وقفوا في المحشر فتبدل لهم الأرض التي يقال لها [ الساهرة ] يجلسون عليه و هو أرض عفراء و هي البيضاء من فضة لم يسفك عليها دم حرام قط ، و لا جرى عليه ظلم قط ، و حينئذ يقوم الناس على الصراط ، و هو لا يسع جميع الخلائق و إن كان قد روي أن مسافته ألف سنة صعوداً و ألف سنة هبوطاً و ألف سنة استواء ، و لكن الخلق أكثر من ذلك فيقوم من فضل على الصراط ، على متن جهنم ، و هي كإهالة جامدة و هي الأرض التي قال عبد الله إنها أرض من نار يعرق فيها البشر ، فإذا حوسب عليها أعين الأرض المسماة بالساهرة و جاوزوا الصراط و جعل أهل الجنان من وراء الصراط ، و أهل النيران في النار و قام الناس على حياض الأنبياء يشربون بدلت الأرض كقرصة النقي ، فأكلوا من تحت أرجلهم ، و عند دخولهم الجنة كانت خبزة واحدة أي قرصاً واحداً يأكل منه جميع الخلق ممن دخل الجنة و إدامهم زيادة كبد ثور في الجنة و زيادة كبد النون على ما يأتي .

باب منه أمور تكون قبل الساعة

ذكر علي بن معبد عن أبي هريرة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و نحن في طائفة من أصحابه فقال : إن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات و الأرض خلق الصور و أعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر فقال أبو هريرة قلت : يا رسول الله و ما الصور ؟ قال : قرن فقلت : و كيف هو ؟ قال : هو عظيم و الذي نفسي بيده إن عظم دارة فيه لكعرض السماء و الأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى، نفخة الفزع ، و الثانية : نفخة الصعق ، و الثالثة : نفخة القيام لرب العالمين ، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماء و الأرض إلا ما شاء الله و يأمره فيمدها و يديمها و يطولها يقول الله عز و جل : و ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق مأخوذة من فواق الحالب و هي المهلة بين الحلبتين و ذلك أن الحالب يحلب الناقة و الشاة ثم يتركها ساعة يرضعها الفصيل لتدر ثم يحلب ، و منه سمي الفواق فواقاً لأنه ريح يتردد في المعدة بين مهليتن أي أن هذه النفخة ممتدة لا تقطيع فيها و يكون ذلك يوم الجمعة في النصف من شهر رمضان فيسير الله الجبال فتمر مر السحاب ، ثم تكون سراباً ثم ترتج الأرض بأهلها رجاً و هي التي يقول الله عز و جل يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيميد الناس على ظهرها و تذهل المراضع و تضع الحوامل ما في بطونها ، و تشيب الولدان ، و تتطاير الشياطين هاربة ، حتى تأتي الأقطار فتتلقاها الملائكة هاربة فتضرب بها وجوهها و يولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضعاً و هي التي يقول الله عز و جل يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم و من يضلل الله فما له من هاد فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر ، و رأوا أمراً عظيماً لم يروا مثله فيأخذهم من ذلك من الكرب و الهول ما الله به عليم ، ثم ينظرون إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم انشقت و انخسف شمسها و قمرها و انتثرت نجومها ، ثم كشطت السماء عنهم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و الموتى لا يعلمون شيئاً من ذلك . قلت : يا رسول الله فمن استثنى الله عز و جل ، حين يقول ففزع من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله ؟ قال : أولئك هم الشهداء عند ربهم يرزفون . إنما يصل الفزع إلى الأحياء ، يقيهم الله شر ذلك اليوم و يؤمنهم منه . و هو عذاب يلقيه الله على شرار خلقه ، و هو الذي يقول الله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم أي شديد فتمكثون في ذلك ما شاء الله إلا أنه يطول عليهم كأطول يوم ، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الصعق الحديث بطوله ، و قد تقدم وسطه و هذا آخره.

فصل : هذا الحديث ذكره الطبري و الثعلبي و صححه ابن العربي في سراج المريدين و قال: يوم الزلزلة و هو الاسم الثاني عشر يكون عن النفخة الأولى . بهذا اختلافهم الصحيح الواحد المفرد . و لما نبأ النبي صلى الله عليه و سلم بذكر الزلزلة التي تكون عند النفخة الأولى ذكر ما يكون في ذلك اليوم من الأهوال العظام التي يعظمها قوله [ شيء عظيم ] و من فزعها ما لا تطيق حمله النفوس و هو قوله لآدم : [ ابعث بعث النار ] فيكون ذلك في أثناء ذلك اليوم و لا يقتضي أن يكون ذلك متصلاً بالنفخة الأولى التي يشيب فيها الوليد و تضع الحوامل و تذهل المراضع و لكن يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون آخر الكلام منوطاً بأوله تقديره يقال لآدم ابعث بعث النار أثناء يوم يشيب فيه الوليد و تضع الحوامل و تذهل المراضع من أوله .

الثاني : أن شيب الوليد و وضع الحوامل و ذهول المراضع يكون في النفخة الأولى حقيقة . و في هذا القول الثاني تكون صفته بذلك إخباراً عن شدته و إن لم يوجد غير ذلك الشيء فيه و هذه طريقة العرب في فصاحتها .

قلت : ما ذكره ابن العربي من صحة الحديث و كلامه فيه : فيه نظر لما نبينه آنفاً و قد قال أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له : ورد في هذا الباب حديث منقطع لا يصح ذكره الطبري من حديث أبي هريرة عن النبي قال : ينفخ في الصور ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع فذكره . قال : و هو عنده في سورة يس .

قلت : قد تقدم أن الصحيح في النفخ إنما هو مرتان لا ثلاث ، و حديث مسلم في قول الله تعالى لآدم [ يا آدم ابعث بعث النار ] إنما هو يعد البعث يوم القيامة . و نفخة الفزع هي نفخة الصعق على ما تقدم أو نفخة البعث على ما قيل على ما يأتي و لأنه لو كانت نفخة الفزع غير نفخة الصعق لأقتضى ذلك أن يكون بقاء الناس بعدها أحياء ما شاء و يكون هناك ليل و نهار حتى تأتي نفخة الصعق التي يموت لسماعها جميع الخلق كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص و على هذا لا يكون قوله ابعث في أثناء اليوم الذي يكون مبدؤه نفخة الفزع على ما ذكره ابن العربي و الله أعلم .

و لا يلزم من زلزال الأرض أن تكون عن نفخة فإنا نشاهد تحرك الأرض و ميدها بمن عليها و ما عليها من جبال و مياه كالسفينة في البحر إذا تلاطمت أمواجه من غير نفخ و إنما تلك الزلزلة من أشراط الساعة و مقدماتها كسائر أشراطها .

و قد قال علقمة و الشعبيث : الزلزلة من أشراط الساعة و هي في الدنيا . و كذلك قال أنس بن مالك و الحسن البصري . و قد ذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم في تفسيره : أن المراد بنفخة الفزع ، و النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون : من بعثنا من مرقدنا و يعاينون من الأمر ما يهولهم و يفزعهم . و الله أعلم . ونحو ذلك ذكره الماوردي و اختاره .

و قد قيل : إن هذه الزلزلة تكون قبل الساعة في النصف من شهر رمضان بعدها

طلوع الشمس من مغربها و الله أعلم .

و قوله تعالى : ترونها الضمير المنصوب في ترونها للزلزلة أو القيامة قولان : فعلى الأولى أن ذلك في الدنيا قبل نفخة الصعق لعظم تلك الزلزلة و قوة حركتها بالأرض لأن القيامة لارضاع فيها و لا حمل فترى الناس سكارى يعني من الخوف . و على القول الثاني يكون فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون مثلاً ، و المعنى أن يكون يوماً لا يهم أحداً فيه إلا نفسه و الحامل تسقط من مثله كما تسقط الحوامل من الصيحة الشديدة و يكون الهول عظيماً .

و الوجه الآخر : أن يكون ذلك حقيقة لا مثلاً . و يكون المعنى أن من كانت محشورة مع ولد رضيع فإنها إذا رأت هول ذلك اليوم ذهلت عن من ولدت ، و أن الحوامل إذا بعثن أسقطت من فزع يوم القيامة : الأحمال التي كانت أحياء فماتت بموت أمهاتها أحياء ثم لا يمتن بالإسقاط . لأن الموت لا يتكرر عليهن مرتين لأنه لا موت في القيامة ، و إنما هو يوم الحياة و تضع الحوامل حملها . ثم يحتمل أن يحيي الله كل حمل كان قد أتم خلقه و نفخ فيه الروح و يسويه و يعدله فإن الأم تذهل عنه ، و لو لم تذهل ما قدرت على إرضاعه لأنه لا غذاء يومئذ لها و لبن ، و اليوم يوم الحساب لا يقبل فيه من عذر و لا علة فكيف تخلى و الاشتغال بالولد مع ما عليها من الحساب و هي بصدده من الجزاء و الحمل الذي لم ينفخ فيه قط إذا سقط يكون مع الوحوش تراباً و لم يبتدأ إحياؤه لأن اليوم الآعادة . فمن لم يمت في الدنيا لم يحى في الآخرة . قاله الحليمي في منهاج الدين .

و قال الحسن في قوله تعالى : و ترى الناس سكارى أي من العذاب و الخوف و ما هم بسكارى من الشراب و مما يبين ما قلناه : أن إبليس قال : أنظرني إلى يوم يبعثون سأل النظرة و الإمهال إلى يوم البعث و الحساب طلب أن لا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده فقد قال تعالى : إنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم قال ابن عباس و السدي و غيرهما : أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم ، و كان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه .

قال المؤلف رحمه الله : و ما وقع في هذا الحديث من انشقاق السماء ، و تناثر نجومها و طمس شمسها و قمرها . فقد ذكر المحاسبي و غيره : أن ذلك يكون بعد جمع الناس في الموقف . و روي عن ابن عباس و سيأتي و قاله الحليمي في كتاب منهاج الدين .

فصل : فأما التكوين يوم القيامة قبل الحساب . فقد قال الله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم إلى قوله عذاب الله شديد و قال : إذا زلزلت الأرض زلزالها إلى آخرها .

و الذي ثبت بسياق الآيات : أن هذه الزلزلة إنما يكون بعد أحياء الناس و بعثهم من قبورهم لأنه لا يراد بها إلا إذعان الناس و التهويل عليهم ، فينبغي أن يشاهدوها ليفزعوا منها و يهولهم أمرها ، و لا تمكن المشاهدة منهم و هم أموات . و لأنه تعالى قال : يومئذ تحدث أخبارها . أي تخبر عما عمل عليها من خير و شر يومئذ يصدر الناس أشتاتاً فدل ذلك على أن هذه الزلزلة إنما تكون و الناس أحياء و اليوم يوم الجزاء و قال تعالى : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة يعني الآخرة و حملت الأرض و الجبال إلى قوله لا تخفى منكم خافية فدلت هذه السورة على أن اصطدام الأرض و الجبال لا يكون إلا بعد الإحياء ، فدلت هذه الآية على أن الكوائن إنما تكون بعد النشأة الثانية . والله أعلم .

و أما قوله فيه يوم التناد ، فقال الحسن و قتادة ، ذلك يوم ينادي أهل الجنة أهل النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، و ينادي أهل النار أهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء يوم تولون مدبرين يعني عن النار أي غير قادرين و غير معجزين فيتفسر مجاهد . و قيل : معناه يوم ينادي أهل النار بالويل و الثبور و يولون مدبرين من شدة العذاب . و قيل : إن ذلك نداء بعض الناس لبعضهم في المحشر و توليهم مدبرين إذا رأوا عنقاً من النار .

و قال قتادة : معنى تولون مدبرين منطلقاً بكم إلى النار ما لكم من الله من عاصم أي مانع يمنعكم ، فإن قيل : فقد قال الآلله تعالى : يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة إلى أن قال : فإنما هي زجرة واحدة و هذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث له ليس كذلك ، و إنما المراد بالزجرة النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم كذلك قال ابن عباس و مجاهد و عطاء و ابن زيد و غيرهم ، قال مجاهد : هما صيحتان ، أما الأولى فيموت كل شيء بإذن الله ، و أما الأخرى فيحيا كل شيء بإذن الله .

و قال مجاهد أيضاً : الرادفة حين تنشق السماء و تحمل الأرض و الجبال فتدك دكة واحدة . و قال عطاء : الراجفة القيامة ، و الرادفة البعث ، و قال ابن زيد : الراجفة الموت ، و الرادفة الساعة ، فهذا يبين لك ما قلناه من أن المراد بالزجرة النفخة الثانية .

و اختلفوا في الساهرة اختلافاً كثيراً ، فقال ابن عباس : و أما الساهرة فأرض من فضة بيضاء لم يعص الله عليها طرفة عين خلفها الله يومئذ و هو قوله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض .

و قال بعضهم : الساهرة اسم الأرض السابعة يأتي الله بها فيحاسب عليها الخلائق و ذلك حين تبدل الأرض غير الأرض . و قال قتادة : هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم ، و قيل صحراء قريب من شفير جهنم .

و قال الثوري : الساهرة أرض الشام و قيل غير هذا ، و إنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون عليها حينئذ ، و معنى فإذا هم بالساهرة أي على الأرض بعدما كانوا في بطنها و العرب تسمي الفلاة و وجه الأرض ساهرة ، قال أمية بن أبي الصلت :

و فيها لحم ساهرة و بحر و ما فاهوا به لهم مقيم