باب الحشر و معناه الجمع التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة

 

باب الحشر و معناه الجمع

و هو على أربعة أوجه : حشران في الدنيا و حشران في الآخرة .

أما الذي في الدنيا فقوله تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر قال الزهري : كانوا من سبط لم يصيبهم جلاء ، و كان الله عز و جل قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا ، و كان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام . قال ابن عباس : من شك أن الحشر في الشام فليقرأ هذه الآية و ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم : أخرجوا قالوا أي أين ؟ قال : إلى أرض المحشر قال قتادة : هذا أول الحشر .

الثاني : ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين و راهبين و اثنان على بعير و ثلاثة على بعير و تحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث يأتوا ، و تقيل معهم حيث قالوا ، و تصبح معهم حيث أصبحوا ، و تمسي معهم حيث أمسوا أخرجه البخاري أيضاً .

و قال قتادة : الحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا ، و تقيل معهم حيث قالوا ، و تأكل منهم من تخلف . قال القاضي عياض : هذا الحشر في الدنيا قبل قيام الساعة و هو آخر أشراطهما كما ذكره مسلم بعد هذا في آيات الساعة . قال فيه : و آخر ذلك في نار تخرج من قعر عدن تزجر الناس ، و في رواية تطرد الناس إلى محشرهم ، و في حديث آخر : لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجار و يدل على أنها قبل يوم القيامة . قوله : فتقيل معهم حيث قالوا ، و تمسي معهم حيث أمسوا ، و تصبح معهم حيث أصبحوا . و قال و في بعض الروايات في غير مسلم فإذا سمعتم به فاخرجوا إلى الشام كأنه أمر بسبقها إليه قبل إزعاجها لهم .

قال المؤلف رحمه الله : و ذكر الحليمي في منهاج الدين له من حديث ابن عباس و ذكر أن ذلك في الآخرة فقال : يحمتل قوله عليه السلام : تحشر الناس على ثلاث طرائق إشارة إلى الأبرار و المخلطين و الكفار ، فالأبرار هم الراغبون إلى الله تعالى فيما أعد لهم من ثوابه ، و الراهبون هم الذين بين الخوف و الرجاء ، فأما الأبرار فإنهم يؤتون بالنجائب كما في الحديث على ما يأتي في هذا الباب ، و أما المخلطون فهم الذين أرادوا في هذا الحديث ، و قيل : إنهم يحملون على الأبعرة ، و أما الفجار الذين تحشرهم النار فإن الله تعالى يبعث إليهم ملائكة فتقيض لهم ناراً تسوقهم و لم يرد في هذا الحديث إلا ذكر البعير ، فأما أن ذلك من إبل الجنة أو من الإبل التي تحيا و تحشر يوم القيامة ، فهذا لم يأت بيانه . و الأشبه ألا يكون من نجائب الجنة لأن من خرج من جملة الأبرار فكان مع ذلك من جملة المؤمنين ، فإنهم بين الخوف و الرجاء أن من هؤلاء من يغفر الله تعالى ذنوبه فيدخل الجنة ، و منهم من يعاقبه بالنار ، ثم يخرجه منها و يدخله الجنة . و إذا كانوا كذلك لم يلق أن يردوا موقف الحساب على نجائب الجنة ، ثم ينزل الله بعضهم إلى النار لأن من أكرمه الله بالجنة لم يهنه بعد ذلك بالنار . قال : و في حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ يحشر الناس ] الحديث و في آخره أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب و شوك ، فهذا إن ثبت مرفوعاً فالركبان هم المتقون السابقون الذين يغفر الله ذنوبهم عند الحساب و لا يعذبهم إلا أن المتقين يكونون على نجائب الجنة و الآخرون على دواب سوى دواب الجنة ، و الصنف الثاني الذين يعذبهم الله بذنوبهم ثم يخرجهم من النار إلى الجنة و هؤلاء يكونون مشاة على أقدامهم ، و قد يحتمل على هذا أن يمشوا وقتاً ثم يركبوا أو يكونوا ركبانا فإذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا ليتفق الحديثان ، و الصنف الثالث المشاة على وجوههم هم الكفار ، و قد يحتمل أن يكونوا ثلاثة أصناف : صنف مسلمون و هم ركبان ، و صنفان من الكفار أحدهما العتاة و أعلام الكفر ، فهؤلاء يحشرون على وجوههم و الآخرون الأتباع فهم يمشون على أقدامهم .

قال المؤلف رحمه الله : و إلى هذا القول ذهب أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة في قوله عليه السلام كيف تحشر الناس يا رسول الله ؟ قال : اثنان على بعير و خمسة على بعير و عشرة على بعير و معنى هذا الحديث و الله أعلم أن قوماً يأتلفون في الإسلام برحمة الله يخلق الله لهم من أعمالهم بعيراً يركبون عليه ، و هذا من ضعف العمل لكونهم يشتركون فيه كقوم خرجوا في سفر بعيد و ليس مع واحد ، منهم ما يشترى به مطية توصله فاشترك في ثمنها رجلان أو ثلاثة فابتاعوا مطية يتعقبون عليها في الطريق ، و يبلغ بعير مع عشرة فاعمل هداك الله عملاً يكون لك به بعير خالص من الشركة ، و اعلم أن ذلك هو المتجر الرابح فالمتقون وافدون كما قال الجليل : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً .

و في غريب الرواية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوماً لأصحابه : كان رجل من بني إسرائيل كثيراً ما يفعل الخير حتى إنه ليحشر فيكم قالوا له : و ما كان يصنع قال : ورث من أبيه مالاً كثيراً فاشترى بستاناً فحبسه للمساكين و قال هذا بستاني عند الله تعالى و فرق دانانير عديدة في الضعفاء و قال بهذا أشترى جارية من الله تعالى و عبيداً و أعتق رقاباً كثيرة و قال هؤلاء خدمي عند الله تعالى ، و التفت ذات يوم لرجل ضرير البصر فرآه تارة يمشي و تارة يكبو ، فابتاع له مطية يسير عليها و قال هذه مطيتي عند الله تعالى أركبها و الذي نفس محمد بيده لكأني أنظر إليه و قد جيء بها إليه مسرجة ملجمة يركبها تسير به إلى الموقف .

قال المؤلف رحمه الله : ما ذكره القاضي عياض من أن ذلك في الدنيا أظهر و الله أعلم لما في الحديث نفسه من ذكر السماء و المبيت والصباح و القائلة ، و ذلك ليس في الآخرة . و قد احتج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفاً مشاة و صنفاً ركباناً و صنفاً على وجوههم قيل يا رسول الله : كيف يمشون على وجوههم ؟ قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب و شوك قال : هذا حديث حسن فقوله يتقون بوجوههم كل حدب و شوك يدل على أنه في الدنيا إذ ليس في الآخرة ذلك على ما يأتي من صفة أرض المحشر ، و الله أعلم .

و خرج النسائي عن أبي ذر قال : إن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج فوجاً راكبين طاعمين كاسين ، و فوجاً تسحبهم الملائكة على وجوههم ، و يحشر الناس فوجاً يمشون و يسعون يلقى الله ألافه على الظهر فلا تبقى حتى إن الرجل لتكون له الحديقة يعطيها بذات القتب لا يقدر عليها .

و ذكر عمر بن شيبة في كتاب المدينة على ساكنها السلام ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة و آخر من مزينة فيقولان أين الناس فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب ، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس . و هذا كله مما يدل على أن ذلك في الدنيا كما قال القاضي عياض ، و أما الآخرة ، فالناس أيضاً مختلفو الحال على ما ذكروه ، و سنذكر من ذلك ما فيه كفاية في الباب بعد هذا .

و الحشر الثالث : حشرهم إلى الموقف على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا إن شاء الله . قال الله تعالى و حشرناهم فلم نغادر منهم أحداً .

و الرابع : حشرهم إلى الجنة و النار . قال الله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً أي ركباناً على النجب ، و قيل : على الأعمال كما تقدم . و قد وردت أخبار منها ما رواه النعمان سعد عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً قال : أما إنهم ما يحشرون على أقدامهم و لا يساقون سوقاً و لكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب ، و أزمتها الزبرجد فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة، و سمي المتقون وفداً لأنهم يسبقون الناس إلى حيث يدعون إليه فهم لا يتباطئون ، لكنهم يجدون و يسرعون و الملائكة تتلقاهم بالبشارات . قال الله تعالى و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون فيزيدهم ذلك إسراعاً و حق للمتقين أن يسبقوا لسبقهم في الدنيا بالطاعات و نسوق المجرمين إلى جهنم ورداً أي عطاشاً . و قال و نحشر المجرمين يومئذ زرقاً و قال : و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً و بكماً و صماً و قال : الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكاناً و أضل سبيلاً .

مسلم عن أنس أن رجلاً قال يا رسول الله : الذين يحشرون على وجوههم أيحشر الكافر على وجهه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أليس الذي أمشاه على الرجلين قادراً أن يمشيه على وجهه يوم القيامة قال قتادة حين بلغه : بلى و عزة ربنا . أخرجه البخاري أيضاً:

فصل : قال أبو حامد : و ذكر هذا الفصل و في طبع الآدمي إنكار ما لم يأنس و به و لم يشاهده و لو لم يشاهد الإنسان الحية و هي تمشي على بطنها لأنكر المشي من غير رجل ، و المشي بالرجل أيضاً مستبعد عند من لم يشاهد ذلك ، فإياك أن تنكر شيئاً من عجائب يوم القيامة لمخالفتها قياس الدنيا فإنك لو لم تشاهد عجائب الدنيا ثم عرضت عليك قبل المشاهدة لكنت أشد إنكاراً لها ، فاحضر رحمك الله في قلبك صورتك ، و أنت قد وقفت عارياً ذليلاً مدحوراً متحيراً مبهوتاً منتظراً لما يجري عليك من القضاء بالسعادة أو بالشقاء .

باب بيان الحشر إلى الموقف كيف هو و في أرض المحشر

و ذكر الصخرة . و قوله تعالى و استمع يوم يناد المناد من مكان قريب الآية .

أبو نعيم قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد قال ، قال حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا المنذر النعمان أنه سمع وهب بن منبه يقول : قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس: لأضعن عليك عرشي و لأحشرن عليك خلقي و ليأتينك يومئذ داود راكباً و قال بعض العلماء في قوله تعالى : و استمع يوم يناد المناد من مكان قريب قال : إنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس فينادي : أيتها العظام البالية ، و الأوصال المتقطعة ، و يا عظاماً نخرة ، و يا أكفاناً فانية ، و يا قلوبا خلوية ، ويا أبداناً فاسدة ، و يا عيوناً سائلة قومواً لعرض رب العالمين . قال قتادة : المنادي هو صاحب الصور ينادي من الصخرة من بيت المقدس . قال كعب : و هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً . و قيل : باثني عشر ميلاً ذكره القشيري ، و الأول ذكره المارودي ، و قيل : إن المنادي جبريل و الله أعلم . قال عكرمة : ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم يوم يسمعون الصحية بالحق يريد النفخ في الصور ذلك يوم الخروج * إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير * يوم تشقق الأرض عنهم سراعا إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس أرض المحشر ذلك حشر علينا يسير أي هين سهل .

فإن قيل : فإذا كانت الصيحة للخروج فكيف يسمعونها و هم أموات ؟

قيل له : إن نفخة الإحياء تمتد و تطول ، فتكون أوائلها للإحياء و ما بعدها للإزعاج من القبور فلا يسمعون ما يكون للإحياء و يسمعون ما يكون للإزعاج ، و يحتمل أن تتطاول تلك النفخة و الناس يحيون منها أولاً فأولاً ، و كلما حيى واحد سمع ما يحيى به من بعده إلى أن يتكامل الجميع للخروج ، و قد تقدم أن الأرواح في الصور ، فإذا نفخ فيه النفخة الثانية ذهب كل روح إلى جسده ، فإذا هم من الأجداث أي القبور إلى ربهم ينسلون و هذا يبين لك ما ذكرنا و بالله توفيقنا .

و قال محمد بن كعب القرظي : يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة ، و تطوي السماء و تتناثر النجوم ، و تذهب الشمس و القمر ، و ينادي مناد فيتبع الناس الصوت يومئذ ، فذلك قول الله عز و جل يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له الآية . و قال الله عز و جل إذا السماء انفطرت * و إذا الكواكب انتثرت * و إذا البحار فجرت فجر عذبها في ملحها و ملحها في عذبها في تفسير قتادة و إذا القبور بعثرت أي أخرج ما فيها من الأموات ، و قال تعالى إذا السماء انشقت * و أذنت لربها أي سمعت و أطاعت و حقت أي و حق لها أن تفعل و إذا الأرض مدت تمد مد الأديم و هذا إذا بدلت بأرض بيضاء كأنها فضة لم تعمل عليها خطيئة قط ، و ألقت ما فيها من الأموات فصاروا على ظهرها .

مسلم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفرا كقرصة النقي ليس فيه علم لأحد .

و خرج أبو بكر أحمد بن علي الخطيب ، عن عبد الله بن مسعود : [ يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط ، و أظمأ ما كانوا قط ، و أعرى ما كانوا قط ، و أنصب ما كانوا فمن أطعم لله أطعمه ، و من سقا لله سقاه ، و من كسا لله كساه ، و من عمل لله كفاه ، و من نصر الله أراحه الله في ذلك اليوم .

و روي من حديث معاذ بن جبل قال : قلت يا رسول الله أرأيت قول الله يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا معاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم ثم أرسل عينيه بالبكاء الدموع ، ثم قال : تحشر عشرة أصناف من أمتى أشتاتاً قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين و بدل صورهم ، فمنهم على صورة القردة ، و بعضهم على صورة الخنازير ، و بعضهم منسكين أرجلهم أعلاهم و وجوههم يسحبون عليها، و بعضهم عمي يترددون ، و بعضهم صم بكم لا يعلقون ، و بعضهم يمضغون ألسنتهم مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعاباً تقدرهم أهل الجمع ، و بعضهم مقطعة أيديهم و أرجلهم ، و بعضهم مصلبون على جذوع النار ، و بعضهم أشد نتناً من الجيف ، و بعضهم يلبسون جلابيب سابغة من القطران ، فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني النمام ، و أما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت و الحرام و المكس ، و أما المنكسون رؤوسهم و وجوههم فأكلة الربا ، و العمي من يجوز في الحكم ، و الصم البكم الذي يعجبون بأعمالهم ، و الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القصاص الذين يخالف قولهم فعلهم و المقطعة أيديهم و أرجلهم الذين يؤذون الجيران ، و المصلبون على جذوع النار السعاة بالناس إلى السلطان ، و الذين هم أشد نتناً من الجيف الذي يتمتعون بالشهوات و اللذات و يمنعون حق الله تعالى من أموالهم ، و الذين يلبسون الجلابيب فأهل الكبر و الفخر و الخيلاء .

و قال أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : و من الناس من يحشر بفتنته الدنيوية ، فقوم مفتونون بالعود معتكفون عليه دهرهم فعند قيام أحدهم من قبره يأخذ بيمينه فيطرحه من يده و يقول سحقاً لك شغلتني عن ذكر الله فيعود إليه ، يقول : أنا صاحبك حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين ، و كذلك يبعث السكران سكران ، و الزامر زامراً ، و كل واحد على الحال الذي صده عن سبيل الله . قال : و مثل الحديث الذي روي في الصحيح أن شارب الخمر يحشر و الكوز معلق في عنقه و القدح بيده و هو أنتن من كل جيفة على الأرض يلعنه كل من يمر به من الخلق . و قال أيضاً في الكتاب : فإذا استوى كل أحد قاعداً على قبره فمنهم العريان و منهم المكسو و الأسود و الأبيض ، و منهم من يكون له نور كالمصباح الضعيف ، و منهم من يكون كالشمس لا يزال كل واحد منهم مطرقاً برأسه ألف عام حتى تقوم من الغرب نار لها دوي تساق فيدهش لها رؤوس الخليقة إنساً و جناً و طيراً و وحشاً ، فيأتي كل واحد من المخاطبين عمله و يقول له : قم فانهض إلى المحشر ، فمن كان له حينئذ عمل جيد شخص له عمله بغلاً ، و منهم من يشخص عمله حماراً ، و منهم من يشخص له كبشاً تارة يحمله و تارة يلقيه و يجعل لكل واحد منهم نور شعاعي بين يديه و عن يمينه و مثله يسرس بين يديه في الظلمات و هو قوله تعالى يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم و ليس عن شمائلهم نور بل ظلمة حالكة لا يستطيع البصر نفاذها يحار فيها الكفار و يتردد المرتابون ، و المؤمن ينظر إلى قوة حلكتها و شدة حندسها و يحمد الله تعالى على ما أعطاه من النور المهتدي به في تلك الشدة يسعى بين أيديهم و بأيمانهم ، لأن الله تعالى يكشف للعبد المؤمن المنعم عن أحوال المعذب الشقي ليستبين له سبيل الفائدة ، كما فعل بأهل الجنة و أهل النار حيث يقول فاطلع فرآه في سواء الجحيم ، و كما قال سبحانه و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين لأن أربعاً لا يعرف قدرها إلا أربع : لا يعرف قدر الحياة إلا الموتى ، و لا يعرف قدر الأغنياء إلا الفقراء ، و لا يعرف قدر الصحة إلا أهل البلاء و السقم ، و لا يعرف قدر الشباب إلا الشيوخ . و في نسخة : و لا يعرف قدر النعيم إلا أهل الجحيم ، و من الناس من يبقى على قدميه و على طرف بنانه و نوره يطفأ تارة و يشتعل أخرى ، و إنما هم عند البعث على قدر إيمانهم و أعمالهم ، و قد مضى في باب يبعث كل عبد على ما مات عليه ما فيه كفاية ، و الحمد لله .

باب الجمع بين آيات وردت في الكتاب في الحشر ظاهرها التعارض

منها قوله تعالى و يوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم و قال تعالى و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً و بكماً و صماً و في آية ثالثة إنهم يقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا و هذا كلام و هو مضاد للبكم و التعارف تخاطب و هو مضاد للصم و البكم معاً ، و قال الله تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين و السؤال لا يكون إلا بالاسماع و إلا لناطق يتسع للجواب و قال نحشر المجرمين يومئذ زرقاً و قال ، فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون و قال يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون و النسلان و الاسراع مخالفان للحشر على الوجوه.

و الجواب : لمن سأل عن هذا الباب أن يقال له إن الناس إذا أحيوا و بعثوا من قبورهم ، فليست حالهم حالة واحدة و لا موقفهم و لا مقامهم واحداً ، و لكن لهم مواقف و أحوال و اختلفت الأخبار عنهم لاختلاف مواقفهم و أحوالهم و جملة ذلك أنها خمسة أحوال : حال البعث من القبور ، و الثانية حال السوق إلى مواضع الحساب و الثالثة حال المحاسبة ، و الرابعة حال السوق إذا دار الجزاء ، و الخامسة حال مقامهم في الدار التي يستقرون فيها .

فأما حال البعث من القبور : فإن الكفار يكونون كاملي الحواس و الجوارح لقول الله تعالى يتعارفون بينهم و قوله يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً و قوله فإذا هم قيام ينظرون و قوله : قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين إلى قوله ترجعون .

و الحالة الثانية : حال السوق إلى موضع الحساب و هم أيضاً في هذه الحال بحواس تامة لقوله عز و جل احشروا الذين ظلموا و أزواجهم و ما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون و معنى فاهدوهم أي دلوهم و لا دلالة لأعمى أصم و لا سؤال لأبكم ، فثبت بهذا أنهم يكونون بأبصار و أسماع و ألسنة ناطقة.

و الحالة الثالثة : و هي حالة المحاسبة و هم يكونون فيها أيضاً كاملي الحواس ليسمعوا ما يقال لهم و يقرأوا كتبهم الناطقة بأعمالهم و تشهد عليهم جوارحهم بسيئاتهم ، فيسمعونها و قد أخبر الله تعالى أنهم يقولون مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها و أنهم يقولون لجلودهم لم شهدتم علينا و ليشاهدوا أحوال القيامة و ما كانوا مكذبين في الدنيا به من شدتها و تصرف الأحوال بالناس فيها .

و أما الحالة الرابعة : و هي السوق إلى جهنم فإنهم يسلبون فيها أسماعهم و أبصارهم و ألسنتهم لقوله تعالى و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً و بكماً و صماً مأواهم جهنم و يحتمل أن يكون قوله تعالى يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام إشارة إلى ما يشعرون به من سلب الأبصار و الأسماع و المنطق .

و الحالة الخامسة ، حال الإقامة في النار . و هذه الحالة تنقسم إلى بدو و مآل . فبدوها أنهم إذا قطعوا المسافة التي بين موقف الحساب و شفير جهنم عمياً و بكماً و صماً إذلالاً لهم تمييزاً عن غيرهم ، ثم ردت الحواس إليهم ليشاهدوا النار ، و ما أعد الله لهم فيها من العذاب و يعاينوا ملائكة العذاب و كل ما كانوا به مكذبين ، فيستقرون في النار ناطقين سامعين مبصرين و لهذا قال الله تعالى و تراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي و قال لو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا و نكون من المؤمنين و قال كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم إلى قوله و قالت أولاهم لأخراهم و قال كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا و قلنا ما نزل الله من شيء و أخبر تعالى أنهم ينادون أهل الجنة فيقولون أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله و أن أهل الجنة ينادونهم أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم و أنهم يقولون يا مالك ليقض علينا ربك فيقول لهم إنكم ماكثون و أنهم يقولون لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب فيقولون لهم أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال . و أما العقبى و المال فإنهم إذا قالوا : أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فقال الله تعالى اخسؤوا فيها ولا تكلمون و كتب عليهم الخلود بالمثل الذي يضرب لهم و هو أن يؤتى بكبش أملح و يسمى المكوت ، ثم يذبح على الصراط بين الجنة و النار و ينادوا يا أهل الجنة خلود فلا موت ، و يا أهل النار خلود فلا موت سلبوا في ذلك الوقت أسماعهم ، و قد يجوز أن يسلبوا الأبصار و الكلام ، لكن سلب السمع يقين، لأن الله تعالى يقول : لهم فيها زفير و هم فيها لا يسمعون فإذا سلبوا الأسماع صاروا إلى الزفير و الشهيق ، و يحتمل أن تكون الحكمة في سلب الأسماع من قبل أنهم سمعوا نداء الرب سبحانه على ألسنة رسله فلم يجيبوه بل جحدوه ، و كذبوا به بعد قيام الحجة عليهم بصحته ، فلما كانت حجة الله عليهم في الدنيا الاستماع عاقبهم على كفرهم في الأخرى بسلب الأسماع يبين ذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه و سلم : و في آذاننا وقر و من بيننا و بنيك حجاب و قالوا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه و إن قوم نوح عليه السلام كانوا يستغشون ثيابهم تسترا منه لئلا يروه و لا يسمعوا كلامه و قد أخبر الله تعالى عن الكفار في وقت نبينا محمد صلى الله عليه و سلم مثله فقال : ألا أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم و إن سلبت أبصارهم فلأنهم أبصروا الغير فلم يعتبروا و النطق فلأنهم أوتوه فكفروا فهذا وجه الجمع بين الآيات على ما قاله علماؤنا ، و الله أعلم .

باب ما جاء في حشر الناس إلى الله عز و جل حفاة عراة غرلاً و في أول من يكسى منهم و في أول ما يتكلم من الإنسان

مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بموعظة فقال : أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده و عداً علينا إنا كنا فاعلين ألا و إن أول الناس يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا و إنه يؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول كما قال العبد الصالح و كنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم قال فيقال إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم .

أخرجه البخاري و الترمذي ، عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ذكره قال : و أشار بيده إلى الشام فقال : ههنا إلى ههنا تحشرون ركباناً و مشاة و تجرون على وجوهكم يوم القيامة أفواهكم الفدام توفون سيعين أمة أنتم خيرها على الله و أكرمهم على الله ، و إن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه و في رواية أخرى ذكرها ابن أبي شيبة و إن أول ما يتكلم من الإنسان فخذه و كفه .

فصل : قوله [ غرلاً ] أي غير مخنوتين النقي الحواري و هو الدرمك من الدقيق ، و العفر بياض ليس بخالص يضرب إلى الحمرة قليلاً ، و الفدام مصفاة الكوز و الابريق . قاله الليث . قال أبو عبيدة : يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم ، فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق و قوله أول من يكسى إبراهيم فضيلة عظيمة لإبراهيم و خصوص له كما خص موسى عليه السلام بأن النبي صلى الله عليه و سلم يجده معلقاً بساق العرش مع أن النبي صلى الله عليه و سلم أول من تنشق عنه الأرض ، و لا يلزم من هذا أن يكون أفضل منه مطلقاً ، بل هو أفضل من وافى القيامة على ما يأتي بيانه في أحاديث الشفاعة و المقام المحمود إن شاء الله تعالى .

قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر في كتاب المفهم له : و يجوز أن يراد بالناس من عداه من الناس فلم يدخل تحت خطاب نفسه . و الله أعلم .

قلت : هذا حسن لو لا ما جاء منصوصاً خلافه ، فقد روى ابن المبارك في رقائقه : أخبرنا سفيان ، عن عمر بن قيس ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، عن علي رضي الله عنه قال : أول من يكسى خليل الله إبراهيم قبطيتين ، ثم يكسى محمد صلى الله عليه و سلم حلة حبرة عن يمين العرش . ذكره البيهقي أيضاً .

و روى عباد بن كثير ، عن أبي الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : إن المؤذنين و الملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم يؤذن المؤذن و يلبي الملبي ، و أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم خليل الله ، ثم محمد صلى الله عليه و سلم ثم النبيون و الرسل عليهم السلام، ثم يكسى المؤذنون و تتلاقهم الملائكة على نجائب من نور أحمر أزمتها من زمرد أخضر رحالها من الذهب ، و يشيعهم من قبورهم سبعون ألف ملك إلى المحشر . ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له .

و ذكر أبو نعيم الحافظ من حديث الأسود و علقمة و أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه و سلم الحديث و فيه : فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام يقول اكسوا خليلي فيؤتى بربطتين بيضاوين فيلبسهما ثم يقعد مستقبل العرش ، ثم أوتي بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه قياماً لا يقومه أحد غيري يغبطني فيه الأولون و الآخرون و ذكر الحديث .

و خرج البيهقي بإسناده في كتاب الأسماء و الصفات عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنكم تحشرون حفاة عراة ، و أول من يكسى من الجنة إبراهيم عليه السلام يكسى حلة من الجنة و يؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش ، و يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر ، ثم أوتي بكرسي فيطرح لي على ساق العرش و هذا نص بأن إبراهيم أول من يكسى ، ثم نبينا بإخباره صلى الله عليه و سلم فطوبى ثم طوبى لمن كسي في ذلك الوقت من ثياب الجنة ، فإنه من لبسه فقد لبس جبة تقيه مكاره الحشر و عرقه و حر الشمس و غير ذلك من أهواله .

فصل : و تكلم العلماء في حكمة تقديم إبراهيم عليه السلام بالكسوة فروي أنه لم يكن في الأولين و الآخرين لله عز و جل عبد أخوف من إبراهيم عليه السلام ، فتعجل له كسوته أماناً له ليطمئن قلبه ، و يحتمل أن يكون ذلك لما جاء به الحديث من أنه أول من أمر بلبس السراويل إذا صلى مبالغة في التستر ، و حفظاً لفرجه من أن يماس مصلاه ففعل ما أمر به فيجزى بذلك أن يكون أول من يستر يوم القيامة ، و يحتمل أن يكون الذين ألقوه في النار جردوه و نزعوا عنه ثيابه على أعين الناس كما يفعل بمن يراد قتله ، و كان ما أصابه من ذلك في ذات الله عز و جل فلما صبر و احتسب و توكل على الله تعال دفع الله عنه شر النار في الدنيا و الآخرة ، و جزاه بذلك العرى أن جعله أول من يدفع عنه العرى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ، و هذا أحسنها ، و الله أعلم.

و إذا بدئ في الكسوة بإبراهيم و ثنى بمحمد صلى الله عليه و سلم أوتي محمد بحلة لا يقوم لها البشر لينجبر التأخير بنفاسة الكسوة ، فيكون كأنه كسي مع إبراهيم عليهما السلام

قاله الحليمي . و قوله تجدون على أفواهكم الفدام ، الفدام : مصفاة الكوز و الإبريق قاله الليث . قال أبو عبيد يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق . قال سفيان : و فدامهم أن يؤخذ على ألسنتهم و هذا مثل .  

باب منه و بيان قوله تعالى : لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه

مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً . قلت يا رسول الله : الرجال و النساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض.

الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تحشرون حفاة عراة غرلاً فقالت امرأة : أيبصر بعضنا أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال : يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه قال حديث حسن صحيح .

فصل : قلت : هذا الباب و الذي قبله يدل على أن الناس يحشرون حفاة عراة غرلاً أي غير مخنوتين كما بدأنا أول خلق نعيده . قال العلماء : يحشر العبد غداً و له من الأعضاء ما كان له يوم ولد ، فمن قطع منه عشو يرد في القيامة عليه حتى الختان .

و قد عارض هذا الباب ما روى أبو داود في سننه ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لما حضرته الوفاة دعا بثياب جدد فلبسها و قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الميت يبعث في ثيابه التي دفن فيها . قال ابو عمر بن عبد البر : و قد احتج بهذا الحديث من قال : إن الموتى يبعثون جملة على هيئاتهم . و حمله الأكثر من العلماء على الشهيد الذي أمر أن يزمل في ثيابه و يدفن فيها و لا يغسل عنه دمه و لا يغير عليه شيء من حاله بدليل حديث ابن عباس و عائشة رضي الله عنهما . قالوا : و يحتمل أن يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهيد فتأوله على العموم ، و الله أعلم .

قلت : و مما يدل على قول الجماعة مما يواقف حديث عائشة و ابن عباس قوله الحق : و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و قوله : كما بدأكم تعودون و لأن الملابس في الدنيا أموال و لا مال في الآخرة زالت الأملاك بالموت و بقيت الأموال في الدنيا و كل نفس يومئذ ، فإنما يقيها المكاره ما وجب لها بحسن عملها أو رحمة ميتدأة من الله عليها . فأما الملابس فلا غنى فيها يومئذ إلا ما كان من لباس الجنة على ما تقدم في الباب قبل .

و ذهب أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بالغوا في أكفان موتاكم فإن أمتي تحشر بأكفانها و سائر الأمم عراة و رواه أبو سفيان مسنداً .

قال المؤلف رحمه الله : و هذا الحديث لم أقف عليه . و الله أعلم بصحته ، و إن صح فيكون معناه فإن أمتي الشهداء تحشر بأكفانها حتى لا تتناقض الأخبار و الله أعلم . و لا يعارض هذا الباب ما تقدم أول الكتاب من أن الموتى يتزاورون في قبورهم بأكفانهم ، فإن ذلك يكون في البرزخ ، فإذا قاموا من قبورهم خرجوا عراة ما عدا الشهداء ، و الله أعلم .

باب

ذكر أبو بكر أحمد بن علي حديث ثابت عن عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو الغفاري قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أحشر يوم القيامة بين أبي بكر و عمر رضي الله عنهما حتى أقف بين الحرمين فيأتي أهل المدينة و مكة غريب من حديث مالك تفرد به عبد الله بن إبراهيم عنه ، و يقال لم يروه غير عبد العزيز بن عبد الله الهاشمي البغدادي عن الغفاري .

الجزء الأول

من باب قول النبي صلى الله عليه و سلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقت و في أسماء يوم القيامة

الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سره أن ينظر غلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت و إذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقت قال : هذا حديث حسن .

فصل : قلت : و إنما كانت هذه السور الثلاث أخص بالقيامة لما فيها من انشقاق السماء و انفطارها و تكور شمسها و انكدار نجومها و تناثر كواكبها إلى غير ذلك من أفزاعها و أهوالها ، و خروج الخلق من قبورهم إلى سجونهم أو قصورهم بعد نشر صحفهم و قراء كتبهم و أخذها بأيمانهم و شمائلهم أو من وراء ظهورهم في موقفهم على ما يأتي بيانه . قال الله تعالى إذا السماء انشقت و قال إذا السماء انفطرت و قال : و يوم تشقق السماء بالغمام فتراها واهية منفطرة متشققة كقوله تعالى : و فتحت السماء فكانت أبواباً و يكون الغمام سترة بين السماء و الأرض . و قيل : إن [ الباء ] بمعنى [ عن ] أي تشقق عن سحاب أبيض . و يقال : انشقاقها لما يخلص غليه من حر جهنم ، و ذلك إذا بطلت المياه و برزت النيران ، فأول ذلك أنها تصير حمراء صافية كالدهن و تتشقق لما يريد الله من نقض هذا العالم و رفعه ، و قد قيل : إن السماء تتلون فتصفر ثم تحمر أو تحمر ثم تصفر كالمهرة تميل في الربيع إلى الصفرة ، فإذا اشتد الحر مالت إلى الحمرة ثم إلى الغبرة . قاله الحليمي .

و قوله تعالى : إذا الشمس كورت قال ابن عباس رضي الله عنه تكويرها إدخالها في العرش . و قال : ذهاب ضوئها. قاله الحسن و قتادة . و روي ذلك عن ابن عباس و مجاهد. و قال أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة تلف فتمحى ، و قال الربيع بن خيثم كورت رمى بها و منه كورته فتكور أي سقط .

قلت : و أوصل التكوير الجمع مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لا تها و جمهعا فهي تكور ثم يمحى ضوءها ثم يرمى بها و الله أعلم .

و قوله تعالى : و إذا النجوم انكدرت أي انتثرت قيل تتناثر من أيدي الملائكة لأنهم يموتون. و في الخبر أنها معلقة بين السماء و الأرض بسلاسل بأيدي الملائكة . و قال ابن عباس رضي الله عنه : انكدرت تغيرت و أصل الانكدار الانصباب فتسقط في البحار فتصير معها نيراناً إذا ذهبت المياه .

و قوله و إذا الجبال سيرت هو مثل قوله و تسير الجبال أي تحول عن منزلة الحجارة فتكون كثيباً مهيلاً أي رملاً سائلاً و تكون كالعهن ، و تكون هباء منبثاً ، و تكون سراباً مثل السراب الذي ليس بشيء ، و قيل : إن الجبال بعد اندكاكها أنها تصير كالعهن من حر جهنم كما تصير السماء من حرها كالمهل . قال الحليمي : و هذا و الله أعلم لأن مياه الأرض كانت حاجزة بين السماء و الأرض ، فإذا ارتفعت و زيد مع ذلك في إحماء جهنم أثر في كل واحد من السماء و الأرض ما ذكر .

قوله و إذا العشار عطلت أي عطلها أهلها فلم تحلب من الشغل بأنفسهم و العشار : الإبل الحوامل واحدها عشراء و هي التي أتي عليها في الحمل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع و بعد ما تضع ، و إنما خص العشار بالذكر لأنها أعز ما يكون على العرب ، فأخبر أنه تعطل يوم القيامة . و معناه : أنهم إذا قاموا من قبورهم و شاهد بعضهم بعضاً و رأوا الوحوش و الدواب محشورة و فيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم لم يعبئوا بها و لم يهمهم أمرها ، و يحتمل تعطل العشار إبطال الله تعالى أملاك الناس عما كان ملكهم إياها في الدنيا ، و أهل العشار يرونها فلا يجدون إليها سبيلاً . و قيل : العشار السحار يعطل مما يكون فيه و هو الماء فلا يمطر . و قيل : العشار الديار تعطل فلا تسكن . و قيل : الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع . و القول الأول أشهر و عليه من الناس الأكثر .

و قوله : و إذا الوحوش حشرت أي جمعت و الحشر الجمع و قد تقدم .

و قوله : و إذا البحار سجرت أي أوقدت و صارت ناراً . رواه الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه و قال قتادة : غار ماؤها فذهب ، و قال الحسن و الضحاك : فاضت . قال ابن أبي زمنين سجرت حقيقته ملئت فيقضي بعضها إلى بعض فتصير شيئاً واحداً و هو معنى قول الحسن و يقال : إن الشمس تلف ثم تلقى في البحار فمنها تحمى و تنقلب ناراً . قال الحليمي : و يحتمل إن كان هذا هكذا أن البحار في قول من فسر التسجير بالامتلاء هو أن النار حينئذ تكون أكثرها لأن الشمس أعظم من الأرض مرات كثيرة ، فإذا كورت و ألقيت في البحر فصارت ناراً ازدادت امتلاء .

و قوله : و إذا النفوس زوجت تفسير الحسن أن تلحق كل شيعة شيعتها اليهود باليهود ، و النصارى بالنصارى ، و المجوس بالمجوس ، و كل من كان يعبد من دون الله شيئاً يلحق بعضهم ببعض و المنافقون بالمنافقين و المؤمنون بالمؤمنين . و قال عكرمة : المعنى تقرن بأجسادها أي ترد إليها . و قيل : يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان . و قيل : يقرن المؤمنون بالحور العين و الكافرون بالشياطين .

و قوله : و إذا الموؤدة سئلت يعني بنات الجاهلية كانوا يدفنونهن أحياء لخصلتين .

إحدهما : كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات به .

الثانية : مخافة الحاجة و الإملاق و سؤال الموؤدة على وجه التوبيخ لقاتلها كما يقال للطفل إذا ضرب لم ضربت و ما ذنبك ؟ و قال الحسن : أراد الله أن يوبخ قاتلها لانها قتلت بغير ذنب و بعضهم يقرأ و إذا الموؤدة سئلت تعلق الجارية بأبيها فتقول بأي ذنب قتلتني ؟ و قيل : معنى سئلت يسأل عنها كما قال إن العهد كان مسؤولا .

و قوله : و إذا الصحف نشرت أي للحساب و سيأتي .

و قوله : و إذا السماء كشطت قيل معناه طويت كما قال الله تعالى : يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب أي كطي الصحيفة على ما فيها فاللام بمعنى [ على ] يقال : كشطت السقف أي قلعته فكان المعنى قلعت فطويت . و الله أعلم . و الكشط و القشط سواء و هو القلع و قيل : السجل كاتب للنبي صلى الله عليه و سلم و لا يعرف في الصحابة من اسمه سجل .

و قوله : و إذا الجحيم سعرت أي أوقدت .

و قوله : و إذا الجنة أزلفت أي قربت لأهلها و أدنيت علمت نفس ما أحضرت أي من عملها و هو مثل قوله : علمت نفس ما قدمت و أخرت و مثل قوله : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم و أخر فهو يوم الانشقاق و يوم الانفطار و يوم التكوير و يوم الانكدار و يوم الانتثار و يوم التسيير قال الله تعالى : و تسير الجبال سيراً و إذا الجبال سيرت و يوم التعطيل و يوم التسجير و يوم التفجير و يوم الكشط و الطي و يوم المد لقوله تعالى : و إذا الأرض مدت إلى غير ذلك من أسماء القيامة و هي الساعة الموعود أمرها و لعظمها أكثر الناس السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أنزل الله عز و جل على رسوله يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات و الأرض لا تأتيكم إلا بغتةً و كل ما عظم شأنه تعددت صفاته و كثرت أسماؤه و هذا جميع كلام العرب ألا ترى أن السيف لما عظم عندهم موضعه و تأكد نفعه لديهم و موقعه جمهوا له خمسمائة اسم . و له نظائر . فالقيامة لما عظم أمرها ، و كثرت أهوالها ، سماها الله تعالى في كتابه بأسماء عديدة ، و وصفها بأوصاف كثيرة . منها ما ذكرناه ، مما وقع في هذه السور الثلاث .

و قيل : إن الله تعالى يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها فتوقف بين يدي الله تعالى و يوم الجمعة فيها زاهراء مضيئة يعرفها الخلائق فيوم القيامة يوم يتضمن الأيام كلها فسمى بكل حال يوماً فقيل : يوم ينفخ في الصور ثم قيل : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ثم قيل : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه فهذه حالة أخرى . ثم قيل : يوم تعرضون ثم قيل : يومئذ يصدر الناس أشتاتاً . قهذه أحوال فقد يجري يوم القيامة بطوله على هذه الأحوال كل حال منها كاليوم المتجدد و لذلك كررت في قوله تعالى : و ما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين . لآن ذلك اليوم و مابعده يوم ، و اليوم العظيم متضمن لهذه الأيام فهو لله يوم و للخلائق أيام فقد عرفت أيامهم في يومه و قد بطل الليل و النهار . قاله الترمذي الحكيم و مما قيل في معنى ما ذكرنا من النظم قول بعضهم :

مثل لنفسك أيها المغرور يوم القامة و السماء تمور

إذ كورت شمس النهار و أدنيت حتى على رأس العباد تسير

و إذا النجوم تساقطت و تناثرت و تبدلت بعد الضياء كدور

و إذا البحار تفجرت من خوفها و رأيتها مثل الجحيم تفور

و إذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير

و إذا العشار تعطلت و تخربت خلت الديار فما بها معمور

و إذا الوحوش لدى القيامة أحشرت و تقول للأملاك أين نسير

و إذا تقاة المسلمين تزوجت من حور عين زانهن شعور

و إذا الموؤدة سئلت عن شأنها و بأي ذنب قتلها ميسور

و إذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور

و إذا الصحائف عند ذاك تساقطت تبدى لنا يوم القصاص أمور

و إذا الصحائف نشرت فتطايرت و تهتكت للمؤمنين ستور

و إذا السماء تكشطت عن أهلها و رأيت أفلاك السماء تدور

و إذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير

و إذا لجنان تزخرفت و تطيبت لفتى على طول البلاء صبور

و إذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص و قلبه مذعور

هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور

و منها الساعة قال الله تعالى و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة و قال و يوم تقوم الساعة يبلس المجرمون . و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون و قال و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب و هو في القرآن كثير ، و الساعة كلمة يعبر بها في العربية عن جزء الزمان غير محدود و في العرف على جزء من أربعة و عشرين جزءاً من يوم و ليلة و الذين هما أصل الأزمنة ، و تقول العرب أفعل كذا الساعة ، و أنا الساعة في أمر كذا تريد الوقت الذي أنت فيه ، و الذي يليه تقريباً له و حقيقة الإطلاق فيها أن الساعة بالألف و اللام عبارة في الحقيقة عن الوقت الذي أنت فيه و هو المسمى بالآن و سميت به القيامة إما لقربها فإن كل آت قريب ، و إما أن تكون سميت بها تنبيهاً على ما فيها من الكائنات العظام التي تصهر الجلود و تكسر العظام و قيل: إنما سميت بالساعة لأنها تأتي بغتة في ساعة ، و قيل : إنما سميت بالساعة لأن الله تعالى يأمر السماء أن تمطر بماء الحيوان حتى تنبت الأجساد في مدافنها و مواضعها حيث كانت من بحر أو بر و تستقل و تتحرك بحياتها بماء الحيوان ، و ليست فيها أرواح ثم تدعى الأرواح ، فأرواح المؤمنين تتوقد نوراً ، و أرواح الكافرين تتوهج ظلمة ، فإذا دعا الأرواح ألقاها في الصور ثم يأمر إسرافيل أن ينفخ في الصور فإذا نفخ فيه خرجت من الصور ثم أمرت أن تلحق الأجساد فتبعث إلى الأجساد في أسرع من اللمحة ، و أنما سميت الساعة لسعي الأرواح إلى الأجساد في تلك السرعة فهي سائغ و جمعها ساعة كقولك ، بائع و باعة و ضائع و ضاعة و كائل و كالة ، فوصف أن سائر أموره في السرعة كلمح البصر و أمر السائق أقرب من لمح البصر . قاله الترمذي الحكيم .

و ذكر أبو نعيم الحافظ بإسناده عن و هب بن منبه قال : إذا قامت الساعة صرخت الحجارة صراخ النساء و قطرت العظاة دماً و منها القيامة قال الله تعالى لا أقسم بيوم القيامة و هي في العربية مصدر قام يقوم و دخلها التأنيث للمبالغة على عادة العرب ، و اختلف في تسميتها بذلك على أربعة أقوال .

الأول : لوجود هذه الأمور فيها .

الثاني : لقيام الخلق من قبورهم إليها . قال الله تعالى يوم يخرجون من الأجداث سراعاً .

الثالث : لقيام الناس لرب العالمين كما روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم يوم يقوم الناس لرب العالمين قال يوم يقوم أحدكم في رشحه إلى نصف أذنيه قال ابن عمر رضي الله عنهما [ يقومون مائة سنة ] . و يروى عن كعب [ يقومون ثلاثمائة سنة ] .

الرابع : لقيام الروح و الملائكة صفاً . قال الله تعالى يوم يقوم الروح و الملائكة صفاً .

قال علماؤنا : و اعلم أن كل ميت مات فقد قيامته ، و لكنها قيامة صغرى و كبرى ، فالصغرى هي ما يقوم على كل إنسان في خاصته من خروج روحه و فراق أهله و انقطاع سعيه و حصوله على عمله . إن كان خيراً فخير و إن كان شراً فشر ، و القيامة الكبرى هي التي تعم الناس و تأخذهم أخذة واحدة ، و الدليل على أن كل ميت يموت فقد قامت قيامته قول النبي صلى الله عليه و سلم لقوم من الأعراب و قد سألوه متى القيامة ؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال : إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم أخرجه مسلم و غيره ، و قال الشاعر :

خرجت من الدنيا و قامت قيامتي غداة أقيل الحاملون جنازتي

و عجل أهلي حفر قبري و صبروا خروجي و تعجيلي إليه كرامتي

كأنهم لم يعرفوا قط سيرتي غداة أتى يومي علي و ساعتي

و منها : يوم النفخة . قال الله تعالى يوم ينفخ في الصور و قد مضى القول فيه .

و منها : يوم الزلزلة و يوم الرجفة . قال الله تعالى يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة و قد تقدم .

و منها : يوم الناقور كقوله تعالى فإذا نقر في الناقور و قد تقدم القول فيه و الحمد لله .

و منها : القارعة سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها يقال : قد أصابتهم قوارع الدهر أي أهواله و شدائده ، قالت الخنساء :

تعرفني الدهر نهشاً و حزاً و أوجعني الدهر قرعاً و غمزا

أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه و صغرياتها .

و منها : يوم البعث و حقيقته إثارة الشيء عن خفاء و تحريكة عن سكون ، قال عنترة :

و عصابة شم الأنوف بعثهم ليلاً و قد مال الكرا بطلاها

و قال امرؤ القيس :

و فتيان صدق قد بعثت بسحرة فقاموا جميعاً بين غات و نسوان

و قد تقدم القول فيه و في صفته و الحمد لله . و منها : يوم النشور و هو عبارة عن الإحياء . يقال : قد أنشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم الله فحييوا و منه قوله تعالى و انظر إلى العظام كيف ننشزها أي نحييها ، و قد يكون معناه التفريق من ذلك قولك أمرهم نشر .

و منها : يوم الخروج قال الله تعالى يوم يخرجون من الأجداث سراعاً فأوله الخروج من القبور و آخره خروج المؤمنين من النار ثم لا خروج و لا دخول على ما يأتي .

و منها : يوم الحشر و هو عبارة عن الجمع ، و قد يكون مع الفعل إكراه قال الله تعالى : و أرسل في المدائن حاشرين أي من يسوق السحرة كرهاً و قد مضى القول في الحشر مستوفي و الحمد لله .

و منها : يوم العرض قال الله تعالى : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية و قال : و عرضوا على ربك صفاً و حقيقتة إدراك الشيء بإحدى الحواس ليعلم حاله و غايته السمع و البصر فلا يزال الخلق قياماً في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما شاء الله أن يقوموا حتى يلهموا أو يهتموا . فيقولون : قد كنا نستشفع في الدنيا فهلم فلنسال الشفاعة إلى ربنا فيقولون : أئتوا آدم الحديث و سيأتي .

قال ابن العربي : و في كيفية العرض أحاديث كثيرة المعول منها على تسعة أحاديث في تسعة أوقات :

الأول : الحديث المشهور الصحيح رواه أبي هريرة و أبو سعيد الخدري رضي الله عنهما و اللفظ له قال : إن ناساً في زمن النبي صلى الله عليه و سلم قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب ، و هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فها سحاب ، قالوا : لا يا رسول الله . قال : ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما . إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام و النصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر و غير أهل الكتاب ، فيدعى اليهود فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد عزيز بن الله . فيقال لهم : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة و لا ولد، فماذا تبغون ؟ قالوا عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً قيتساقطون في النار ، ثم تدعى النصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد المسيح ابن الله . فيقال لهم : كذبتم ما تخذ الله من صاحبة و لا ولد . فيقال لهم : ماذا تبغون ؟ فيقولون : عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار ، حتى إذا لم يبق إلا من يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها . قال : فماذا تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم و لم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً مرتين أو ثلاثاً . حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم و بينه آية فتعرفونه بها ، فيقولون : نعم . فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود و لا يبقى من كان يسجد نفاقاً ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ، ثم يرفعون رؤوسهم و قد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة . فيقول : أنا ربكم . فيقولون : أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم و تحل الشفاعة و يقولون اللهم سلم سلم و ذكر الحديث و سيأتي تمامه إن شاء الله تعالى .

الثاني : صح حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من نوقش الحساب عذب ، قلت يا رسول الله أليس الله يقول فسوف يحاسب حساباً يسيراً قال : ليس ذلك الحساب ذلك العرض و سيأتي .

الثالث : روى الحسن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات وسيأتي .

الرابع : روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال عن النبي صلى الله عليه و سلم يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج الحديث ، و سيأتي .

الخامس : ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه و أبي سعيد الخدري و اللفظ له ، يؤتى بعبد يوم القيامة فيقال له ألم أجعل لك سمعاً و بصراً و مالاً و ولداً و تركتك ترأس و ترتع فكنت تظن أنك ملاقى يومك هذا . فيقول : لا . فيقال له : اليوم أنساك كما نسيتني و هذا حديث صحيح . قلت : خرجه مسلم و الترمذي مطولاً .

السادس : ثبت من طرق صحاح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة فيضع عليه كفنه فيقول له عبدي تذكر يوم كذا وكذا حين فعلت كذا وكذا فلا يزال يقرره حتى يرى أنه هلك . ثم يقول له : عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم .

السابع : و في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً و آخر أهل النار خروجاً من النار رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغار ذنوبه و ارفعوا عنه كبارها و ذكر الحديث .

الثامن : و في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يخرج من النار أربعة فيعرضون على الله فيلتفت أحدهم فيقول : أي رب إذا أخرجتني منها فلا تعدني فيها فينجيه الله منها .

و روى مسلم يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول لهم : و هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك و ذكر حديث الشفاعة قال الله تعالى و يوم يعرض الذين كفروا على النار و ذلك قوله في الحديث المتقدم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً قال القاضي أبو بكر بن العربي : و هذا مما أغفله الأئمة في التفسير .

التاسع : العرض على الله و لا أعلمه في الحديث إلا قوله في النص المتقدم حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر و فاجر أتاهم رب العالمين ، و ذكر الحديث .

قلت : إذا تتبعت الأحاديث في هذا الباب على هذا السياق كان الحسن و الصحيح منها أكثر من تسعة .

و قد خرج عن أبي بردة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: لا تزول قدماً عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع الحديث و سيأتي .

و قوله في الحديث الآخر إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده فيوقفه بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن عمله .

و خرج مسلم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه و بينه ترجمان الحديث و سيأتي .

و خرج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يارب الحديث وسيأتي .

و يتضمن من غير رواية البخاري عرض اللوح المحفوظ ثم إسرافيل ثم جبرائيل ثم الأنبياء نبياً نبياً صلوات الله عليهم أجمعين ، و سيأتي .

و خرج الترمذي و ابن ماجه حديث الرجل الذي ينشر عليه تسعة و تسعون سجلاً و سيأتي .

و هذا كله من باب العرض على الله . و إذا تتبعت الأحاديث كانت أكثر من هذا في مواطن مختلفة و أشخاص متباينة و الله أعلم ، و في بعض الخبر أنه يتمنى رجال أن يبعث بهم إلى النار ، و لا تعرض قبائحهم على الله تعالى ، و لا يكشف مساوئهم على رؤوس الخلائق .

قلت : و أما ما وقع ذكره في الحديث من كشف الساق و ذكر الصورة فيأتي إيضاحه ذلك و كشفه إن شاء الله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .

و أما ما جاء من طول هذا اليوم و وقوف الخلائق فيه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فقد جاء من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فقلت : ما أطول هذا . فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ذكره قاسم بن أصبغ و قيل : غير هذا و سيأتي .

و منها : يوم الجمع و حقيقته في العربية ضم واحد إلى واحد ، فيكون شفعاً أو زوجاً إلى زوج فيكون جمعاً . قال الله تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع و قال ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه و هو في القرآن كثير .

و منها : يوم التفرق قال الله تعالى و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون * و أما الذين كفروا و كذبوا بآياتنا و لقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون و هو معنى قوله تعالى فريق في الجنة و فريق في السعير .

و منها : يوم الصدع و الصدر أيضاً قال الله تعالى يومئذ يصدر الناس أشتاتاً و قال يومئذ يصدعون و معناهما معنى الإسم الذي قبله .

و منها : يوم البعثرة و معناه تتبع الشيء المختلط مع غيره حتى يخلص منه فيخلص الله تعالى الأجسام من التراب و الكافرين من المؤمنين و المنافقين ، ثم يخلص المؤمنين من المنافقين كما في الحديث الصحيح : إن الله تعالى يجمع الأوليين و الآخرين في صعيد واحد خرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

و منها : ما روي أنه يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم و هو صحيح أيضاً و سيأتي . و قال صلى الله عليه و سلم يؤخذ برجال ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك .

و منها : يوم الفزع و حقيقته ضعف النفس عن حمل المعاني الطارئة عليها خلاف العادة ، فإن استمر كان جبناً و عند ذلك تتشوق النفس إلى ما يقويها فلأجل ذلك قالوا : فزعت من كذا أي ضعفت عن حمله عن طريانه على خلاف العادة ، و فزعت إلى كذا أي تشوقت نفسي عند ذلك إلى ما يقويها على ما نزل بها والآخرة كلها خلاف العادة و هي فزع كلها و في التنزيل لا يحزنهم الفزع الأكبر ، و قد اختلف فيه فقيل هو قوله لا بشرى يومئذ للمجرمين . و قيل ، إذا طبقت النار على أهلها و ذبح الموت بين الجنة و النار . و قال الحسن : هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار و عنه أن الفزع الأكبر النفخة الآخرة و تتلقاهم الملائكة بالبشارة حتى يخرجوا من قبورهم .

و منها : يوم التناد بتخفيف الدال من النداء و تشديدها من ند إذا ذهب و هو قال تعالى يوم تولون مدبرين و هو الذهاب في غير قصد . و روي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات و الأرض الحديث ، و قد تقدم التي يقول الله ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق فيسير الله الجبال و يرج الأرض بأهلها رجاً و هي التي يقول الله يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة * أبصارها خاشعة فيميد الناس على ظهرها فتذهل المراضع و تضع الحوامل و تشيب الولدان و تولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً و هو الذي يقول الله تعالى يوم التناد * يوم تولون مدبرين قال ابن العربي : و قد رويت في ذلك آثار كثيرة هذا أمثلها فدعوها ، فالمعنى الواحد يكفينا منها و من هولها و من تحقيق المعنى لها .

قلت : قد بينا أقوال العلماء في ذلك عند ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في باب أين تكون الناس فتأمله هناك .

و منها : يوم الدعاء و هو النداء أيضاً .

و النداء على ثمانية و جوه فيما ذكر ابن العربي :

الأول : نداء أهل الجنة أهل النار بالتقريع .

الثاني : نداء أهل النار لأهل الجنة بالاستغاثة كما أخبر الله عنهم .

الثالث : يدعى كل أناس بإمامهم و هو قوله لتتبع كل أمة ما كانت تعبد قال المؤلف : و يقال بكتابهم و قيل : نبيهم . قال سري السقطي : تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها فيقال يا أمة موسى يا أمة عيسى و يا أمة محمد غير المحبين لله فإنهم ينادون يا أولياء الله هلموا إلى الله سبحانه فتكاد قلوبهم تنخلع فرحاً .

الرابع : نداء الملك ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، و إن فلان ابن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً و سيأتي .

الخامس : النداء عند ذبح الموت يا أهل الجنة خلود فلا موت ، و ياأهل النار خلود فلا موت .

السادس : نداء أهل النار يا حسرتنا و ياويلنا .

السابع : قول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين .

الثامن : نداء الله تعالى أهل الجنة فيقول : يا أهل الجنة هل رضيت ؟ فيقولون : و ما لنا لا نرضى و قد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك . فيقول : أعطيتكم أفضل من ذلك رضائي .

الجزء الثاني من باب قول النبي صلى الله عليه و سلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت و إذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقت و في أسماء يوم القيامة

قال المؤلف رضي الله عنه : و نداء تاسع ذكره أبو نعيم عن مروان بن محمد قال : قال أبو حازم الأعرج : يخاطب نفسه يا أعرج ينادي يوم القيامة يا أهل خطيئة كذا و كذا و كذا فتقوم معهم ، ثم ينادي يا أهل خطيئة أخرى فتقوم معهم فأراك يا أعرج تريد أن تقوم مع أهل كل خطيئة و في التنزيل يوم يناديهم فيقول أين شركائي الآية التي في القصص و حم السجدة و يوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين و بالنداء في الأخبار كثير يأتي بيانها و ذكرها في باب من يدخل الجنة بغير حساب .

و منها : يوم الواقعة . و أصل وقع في كلام العرب كان و وجد ، و جاءت الشريعة في تأكيد ذلك بثبوت ما وجد قال الله تعالى : و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم و المراد بالقول هنا إخبار الباري عن الساعة و أنها قريبة ، و من أعظم علاماتها الدابة ، و سيأتي ذكرها و ما للعلماء فيها من الأشراط إن شاء الله تعالى و قوله كاذبة مصدر كالباقية و العاقبة أي ليس لوقعتها مقالة كاذبة .

و منها : الخافضة الرافعة أي ترفع قوماً في الجنة و تخفض أخرى في النار ، و الخفض و الرفع يستعملان عند العرب في المكان و المكانة و العز و الإهانة ، و نسب سبحانه الخفض و الرفع للقيامة توسعاً و مجازاً على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل و الزمان و غيرهما مما لم يمكن منه الفعل يقولون ليل قائم و نهار صائم و في التنزيل بل مكر الليل و النهار و الخافض و الرافع على الحقيقة إنما هو الله تعالى وحده ، فرفع أولياءه في أعلى الدرجات و جعل أعداءه في أسفل الدركات قال الله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً * و نسوق المجرمين إلى جهنم ورداً و قال صلى الله عليه و سلم في حديث جابر رضي الله عنه : نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس . قال ابن العربي و هذا حديث فيه تخليط في كتاب مسلم لم يتقنه رواية . و معناه : أن جميع الخلق على بسيط من الأرض سواء إلا محمداً صلى الله عليه و سلم و أمته فإنهم يرفعون جميعهم على شبه من الكوم و يخفض الناس عنهم ، و في رواية : أكون أنا و أمتي يوم القيامة على تل فيكسوني ربي حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فذلك المقام المحمود .

قلت : و هذا الرفع في المكان بحسب الزيادة في المكانة . قال ابن العربي : و هي أنواع فرفع محمداً صلى الله عليه و سلم بالشفاعة في أول الخلق و بأنه أول من يدخل الجنة و يقرع بابها ، و رفع العادلين بالحديث الصحيح المقسطون يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن و كلتا يديه يمين ، و رفع القراء إلى حيث انتهت قراءتهم . يقال : اقرأ و رتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ، و سيأتي ورفع الشهداء فقال في الحديث الصحيح إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله الحديث و سبأتي ، و رفع كافل اليتيم فقال صلى الله عليه و سلم أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة و أشار مالك بالسبابة و الوسطى يريد في الجوار و قال صلى الله عليه و سلم : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغائر في أفق السماء و أن أبا بكر و عمر منهم و أنعما ، و رفع عائشة على فاطمة رضي الله عنهما ، فإن عائشة مع النبي صلى الله عليه و سلم و فاطمة مع علي رضي الله عنهما .

و منها : يوم الحساب و معناه أن الباري سبحانه يعدد على الخلق أعمالهم من إحسان و إساءة يعدد عليهم نعمه ، ثم يقابل البعض بالبعض فما يشف منها على الآخر حكم للمشفوق بحكمه الذي عينه للخير بالخير و للشر بالشر .

و جاء عن النبي أنه قال : ما منكم من أحد إلا و سيكلمه الله ليس بينه و بينه ترجمان فقيل إن الله يحاسب المكلفين بنفسه و يخاطبهم معاً و لا يحاسبهم واحداً بعد واحد و المحاسبة حكم. فلذلك تضاف إليه كما يضاف الحكم إليه قال الله تعالى : ألا له الحكم و قال و هو خير الحاكمين .

و في الخبر : أنه يوقف شيخ للحساب فيقول الله له : يا شيخ ما أنصفت غذوتك بالنعم صغيراً فلما كبرتك عصيتني أما إني لا أكون لك كما كنت لنفسك اذهب فقد غفرت لك ما كان قبل ، و إنه ليؤتى بالشاب كثير الذنوب فإذا وقف تضعضعت أركانه و اصطكت ركبتاه فيقول الرب جل جلاله : أما استحييتني أما راقبتني أما خشيت نقمتي أما علمت أني مطلع عليك خذوه إلى أمه الهاوية ، و قيل : إن الملائكة يحاسبون بأمر الله كما أن الحكام يحكمون بأمر الله تعالى . و قد قال الله تعالى : إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمناً قليلاً إلى قوله و لا يكلمهم الله و إن من لم يكن بهذه الصفة فإن الله تعالى يكلمه فيكلم المؤمنين و يحاسبهم حساباً يسيراً من غير ترجمان إكراماً لهم ، كما أكرم موسى عليه السلام في الدنيا بالكليم ، و لا يكلم الكفار فتحاسبهم الملائكة و يميزهم بذلك عن أهل الكرامة فتتسع قدرته لمحاسبة الخلق كلهم معاً كما تتسع قدرته لإحداث خلائق كثيرة معاً .

قال الله تعالى : ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة أي إلا كخلق نفس واحدة .

و يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه و سئل عن محاسبة الخلق فقال : كما يرزقهم في غداة واحدة كذلك يحاسبهم في ساعة واحدة . و في صحيح مسلم حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة ؟ قالوا : لا . قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر وليس في سحابة قالةا : لا . قال : فو الذي نفس محمد بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما . قال : فيلقى العبد فيقول : أيأفل ألم أكرمك و أسودك و أزوجك و أسخر لك الخيل و الإبل و أذرك ترأس و ترتع ؟ فيقول : بلى فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا . فيقول : إني أنساك كما نسيتني ، ثم يلقى الثاني فيقول له و يقول هو مثل ذلك بعينه ، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك و بكتابك و برسلك و صليت و تصدقت و صمت و يثني بخير ما استطاع قال : فيقول ها هن إذاً ثم يقول الآن نبعث شاهداً عليك فيقول في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه . و يقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه و لحمه و عظام بعمله و ذلك ليعذر من نفسه و ذلك المنافق و ذلك الذي يسخط الله عليه ، و قد قال الله تعالى اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً أي حاسباً فعيلاً بمعنى فاعل ، و إذا نظر فيها و رأى أنه قد هلك فإن أدركته سابقة حسنة وضعت له لا إله إلا الله في كفة فرجحت له السموات و الأرض . و في رواية فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة و سيأتي و قال من نوقش الحساب عذب .

و منها : يوم السؤال و الباري سبحانه و تعالى يسأل الخلق في الدنيا و الآخرة تقريراً لإقامة الحجة و إظهاراً للحكمة. قال الله تعالى : سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة و قال و اسألهم عن القرية التي كانت حاضرةً البحر و قال : و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا و هو في القرآن كثير و قال : ليسأل الصادقين عن صدقهم و قال : و إذا الموؤدة سئلت و قال : فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون قيل : عن لا إله إلا الله . و قال : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا و قال عليه السلام لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع الحديث و سيأتي .

و روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ألا كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع و مسؤول عن رعيته ، و الرجل راع على أهل بيته و هو مسؤول عنهم ، و المرأة راعية على بيت زوجها و هي مسؤولة عنه ، و العبد راع على مال سيده و هو مسؤول عنه ألا فكلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته .

ومنها : يوم الشهادة و يوم يقوم الأشهاد .

و الشهادة على أربعة أنواع :

شهادة محمد و أمته تحقيقاً لشهادة الرسل على قومها .

الثاني : شهادة الأرض و الأيام و الليالي بما عمل فيها و عليها .

الثالث : شهادة الجوارح قال الله تعالى : يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم و قال : و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا و ذلك بين أيضاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

الرابع : حديث أنس رضي الله عنه و فيه و يختم على فيه و يقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ، و سيأتي بيان هذا الباب كله إن شاء الله تعالى .

و مناه : يوم الجدال قال الله تعالى : يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها أي تخاصم و تحاج عن نفسها . و جاء في الخبر : أن كل أحد يقول يوم القيامة نفسي نفسي من شدة أهوال يوم القيامة سوى محمد صلى الله عليه و سلم فإنه يسأل في أمته . على ما يأتي.

و في حديث عمر رضي الله عنه أنه قال لكعب الأحبار يا كعب : خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا فقال كعب : يا أمير المؤمنين و الذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبياً لأتت عليك تارات و لا يهمك إلا نفسك و إن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب و لا نبي منتخب إلا وقع جاثياً على ركبتيه ، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلى بالخلة فيقول رب أنا خليلك إبراهيم لا أسألك اليوم إلا نفسي . قال يا كعب : اين نجد ذلك في كتاب الله تعالى ؟ قال : قوله تعالى : يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها و توفى كل نفس ما عملت و هم لا يظلمون .

و قال ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية : ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد ، فتقول الروح : رب الروح منك أنت خلقته لم يكن لي يد أبطش بها و لا رجل أمشي بها و لا عين أبصر بها و لا أذن أسمع بها و لا عقل أعقل به ، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعف عليه أنواع العذاب و نجني . فيقول الجسد : رب أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة ليس لي يد أبطش بها و لا قدم أسعى بها و لا بصر أبصر به و لا سمع أسمع به ، فجاء هذا كشعاع الشمس فيه نطق لساني و به أبصر عيني و به مشت رجلي و به سمعت أذني فضعف عليه أنواع العذاب و نجني قال : فيضرب الله لهما مثلاً أعمى و مقعد أدخلا بستاناً فيه ثمار فالأعمى لا يبصر و المقعد لا ينالها ، فنادى المقعد للأعمى ائتني فاحملني آكل و أطعمك فدنا منه فحمله فأصابا من الثمرة فعلى من يكون العذاب . قالا : عليهما ، قال : عليكم جميعاً العذاب .

قال المؤلف رضي الله عنه و أرضاه : و من هذا الباب قول الأمم : كيف يشهد علينا من لم يدركنا إلى غير ذلك مما في معناه حسب ما يأتي .

و منها : يوم القصاص . و فيه أحاديث كثيرة يأتي ذكرها في باب إن شاء الله تعالى .

و منها : يوم الحاقة . و سميت بذلك لأن الأمور تحق فيها . قاله الطبري كأنه جعلها من باب: ليلي نائم كما تقدم .

و قيل : سميت حاقة لأنها كانت من غير شك . و قيل : سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام النار.

و منها يوم الطامة . معناها الغالبة من قولك طم الشيء إذا علا و غلب ، و لما كانت تغلب كل شيء كان لها هذا الاسم حقيقة دون كل شيء . قال الحسن : الطامة النفخة الثانية ، و قيل: حين يساق أهل النار إلى النار .

و منها : يوم الصاخة قال عكروة : الصاخة : النفخة الأولى و الطامة : النفخة الثانية قال الطبري أحسبه من صخ فلان فلاناً إذا أصمه . قال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم و إنها المسمعة ، و هذا من بديع الفصاحة حتى لقد قال بعض أحداث الأسنان حديثي الأزمان:

أصم بك الناعي و إن كنت أسمعا

و قال آخر :

أصمني شرهم أيام فرقتهم فهل سمعتم بشر يورث الصمما

و لعمرو الله إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا و تسمع أمور الآخرة ، و بهذا كله كان يوماً عظيماً كما قال الله تعالى في وصفه بالعظيم . وكل شيء كبر في أجزائه فهو عظيم .كذلك ما كبر في معانيه . و بهذا المعنى كان الباري عظيماً ، لسعة قدرته و علمه و كثرة ملكه الذي لا يحصى ، و لما كان أمر الآخرة لا ينحصر كان عظيماً بالإضافة إلى الدنيا و لما كان محدثاً له أول صار حقيراً بالإصافة إلى العظيم الذي لا يحد .

و منها : يوم الوعيد و هو أن الباري سبحانه أمر و نهى و وعد و أوعد فهو أيضاً يوم الوعد و الوعد للنعيم والوعيد للعذاب الأليم ، و حقيقة الوعيد هو الخبر عن العقوبة عند المخالفة ، و الوعد الخبر عنى المثوبة عند الموافقة ، و قد ضل في هذه المسألة المبتدعة و قالوا : إن من أذنب ذنباً واحداً فهو مخلد في النار تخليد الكفار أخذاً بظاهر هذا اللفظ في آي فلم يفهموا العربية و لا كتاب الله و أبطلوا شفاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم . و سيأتي الرد عليهم في أبواب من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .

و منها : يوم الدين . و هو في لسان العرب الجزاء قال الشاعر :

حصادك يوماً ما زرعت و إنما يدان الفتى فيه كما هو دائن

و قال آخر :

و اعلم يقيناً أن ملكك زائل و اعلم بأنك كما تدين تدان

و منها : يوم الجزاء . قال الله تعالى : اليوم تجزون ما كنتم تعملون و قال : اليوم تجزى كل نفس بما كسبت و هو أيضاً يوم الوفاء . قال الله تعالى : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق أي حسابهم و جزاؤهم و الجنة جزاء الحسنات و النار جزاء السيئات . قال الله تعالى في المعنيين جزاء بما كانوا يكسبون و جزاء بما كانوا يعملون و قال في جهة الوعيد كذلك نجزي كل كفور .

و منها : يوم الندامة . و ذلك أن المحسن إذا رأى جزاء إحسانه و الكافر جزاء

كفره ندم المحس أن لا يكون مستكثراً ، و ندم المسيء أن لا يكون استعتب ، فإذا صار الكافر إلى عذاب لا نفاد له تحسر ، فلذلك سمي يوم الحسرة قال الله تعالى : و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر و ذلك عند ذبح الموت على ما يأتي و هم في غفلة يعني الآن عن ذلك اليوم . و الحسرة : عبارة عن استشكاف المكروه بعد خفائه .

و منها : يوم التبديل . قال الله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات و قد تقدم القول في ذلك مستوفى .

و منها : يوم التلاق . قال الله تعالى : لينذر يوم التلاق و هو عبارة عن اتصال المعنيين بسبب من أسباب العلم و الجسمين . و هو أنواع أربعة :

الأول : لقاء الأموات لمن سبقهم إلى الممات فيسألونهم عن أهل الدنيا كما تقدم .

و الثاني : عمله و قد تقدم .

الثالث : لقاء أهل السموات لأهل الأرض في المحشر و قد تقدم .

الرابع : لقاء الخلق للباري سبحانه و تعالى و ذلك يكون في عرصات القيامة و في الجنة على ما يأتي .

و منها : يوم الآزفة . تقول العرب أزف كذا أي قرب قال الشاعر :

أزف الترحل غير أن ركابنا لما نزل برحالنا و كأن قد

و هي قريبة جداً و كل آت قريب و إن بعد مداه قال الله تعالى : و ما يدريك لعل الساعة تكون قريباً و ما يستبعد الرجل من الساعة و مدته ساعة .

و منها : يوم المآب . و معناه الرجوع إلى الله تعالى و لم يذهب عن الله شيء فيرجع إليه . و إنما حقيقته أن العبد يخلق الله فيه ما شاء من أفعاله لما خلق فيه علماً و خلق فيه إيثاراً و اختياراً ظن الناس أنه شيء أو أن له فعلاً ، فإذا أماته و سلب ما كان أعطاه أذعن و آب في وقت لا ينفعه الإياب ، و لم يزل عن الله تعالى في حال فهو الأواب .

و منها : يوم المصير . و هو يوم المآب بعينه قال الله تعالى : و لله ملك السموات و الأرض و إلى الله المصير فالخلق سائرون إلى أمر الله تعالى . و آخر ذلك ذار القرار و هي الجنة أو النار قال الله تعالى في حق الكافرين : قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار .

و منها : يوم القضاء . وهو أيضاً يوم الحكم و الفصل ، و سيأتي أن أول ما يقضى فيه الدماء و قال صلى الله عليه و سلم : ما من صاحب ذهب و لا فضة لا يؤدى منها حقها الحديث و فيه كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد و الفصل هو الفرق و القطع فيفصل يومئذ بين المؤمن و الكافر و المسيء و المحسن . قال الله تعالى : يوم القيامة يفصل بينكم الآية و هو يوم الحكم لأن إنفاذ الحكم هو إنفاذ العلم قال الله تعالى : الملك يومئذ لله يحكم بينهم الآية . و قال ذلكم حكم الله يحكم بينكم .

و منها : يوم الوزن . قال الله تعالى : و الوزن يومئذ الحق الآية . و سيأتي الكلام في الميزان و وزن الأعمال فيه في أبواب إن شاء الله .

و منها : يوم عقيم . و هو في اللغة عبارة عن من لا يكون له ولد . و لما كان الولد يكون بين الأبوين و كان الأيام تتوالى قبل و بعد جعل الاتباع بالتعدية فيها كهيئة الولادة . و لما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم .

و منها : يوم عسير . و هذا في حق الكافرين خاصة . و العسر ضد اليسر فهو عسير على الكافرين ، لأنهم لا يرون فيه أملاً و لا يقطعون فيه رجاء حتى إذا خرج المؤمنون من النار طلبوا مثل ذلك ، فيقال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون فحينئذ يكون المنع الصريح على ما يأتي بيانه في أبواب النار إن شاء الله تعالى ، و أما المؤمنون فتنحل عقدهم بيسر إلى يسر ، فينحل طول الوقوف إلى تعجيل الحساب و تثقيل الموازين و جواز الصراط و الضلال بالأعمال ، و لا تنحل للكافرين من هذه العقد عقدة واحدة إلا إلى أشد منها حتى إلى جهنم دار القرار .

و منها : يوم مشهود . سمي بذلك لأنه يشهده كل مخلوق و قيل : سمي بذلك لأن الشهداء يشهدون فيه على ما يأتي و الله أعلم .

و منها : يوم التغابن . سمي بذلك لأن الناس يتغابنون في المنازل عند الله : فريق في الجنة و فريق في السعير . و حقيقته في لسان العرب : ظهور الفضل في المعاملة لأحد المتعاملين و الدنيا و الآخرة دار العملين و حالين و كل واحد منهما لله و لا يعطى أحدهما إلا لمن ترك نصيبه من الأخرى : قال الله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد و قال : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه و من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها و ما له في الآخرة من نصيب و من أراد الآخرة فسعيه مشكور ، و حظه في الآخرة موفور .

و منها : يوم عبوس قمطرير ، و القمطرير : الشديد و قيل الطويل . و أما العبوس فهو الذي يعبس فيه سمي باسم ما يكون فيه ، كما يقال ليل قائم و نهار صائم و كلوح الوجه ، و عبوسه هو قبض ما بين العينين و تغير السحنة عن عادتها الطلقة . يقال : يوم طلق إذا كانت شمسه نيرة فاترة و إذا كانت شمسه مدجية قد غطاها السحاب . قيل : يوم عبوس و أول العبوس و الكلوح عند الخروج من القبور و رؤية الأعمال في الصور القبيحة كما تقدم ، و آخر ذلك كلوح النار و هو الكلوح الأعظم يشوي الوجوه و يسقط الجلود على ما يأتي ، و مع العبوس تشخص الأبصار و هي ثبوتها راكدة على منظر واحد لهول لا ينتقل منه إلى غيره كما قال سبحانه ليوم تشخص فيه الأبصار .

و منها : يوم تبلى السرائر . و معناه إخراج المخبآت بالاختبار بوزن الأعمال في الصحف و يكشف الساق عند السجود على ما يأتي .

و منها : يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً . و هو مثل قوله و اتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً و لا يقبل منها شفاعة و لا يؤخذ منها عدل و لا هم ينصرون و قال : يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً فكل نفس بما كسبت رهينة لا يغنى أحد عن أحد شيئاً، بل ينفصل كل واحد عن أخيه و أبيه ، و لذلك كان يوم الفصل و يوم الفرار . قال الله تعالى : إن يوم الفصل كان ميقاتاً و قال تعالى : يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه أما إنه يجزي و يقضي و يعطي و يغني بغير اختياره من حسناته ما عليه من الحقوق على ما يأتي بيانه في أحاديث المفلس إن شاء الله تعالى .

و منها : يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً . والدع الدفع أي يدفعون إلى جهنم و يسحيون فيها وجوههم كما قال تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم .

و منها : يوم التقلب و هو التحول . قال الله تعالى : يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب و الأبصار أي قلوب الكفار و أبصارهم فتقلب قلوب الكفار انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا هي ترجع إلى أماكنها و لا هي تخرج ، فأما تقلب الأبصار فالزرقة بعد الحكل و العمى بعد البصر . و قيل : تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة و الخوف من الهلاك و الإبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم و إلى أي ناحية يؤخذ بهم . و قيل : إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك و كذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة .

و منها : يوم الشخوص و الإقناع . قال الله تعالى : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار أي لا تغمض فيه من هول ما ترى في ذلك اليوم . قاله الفراء .

و قال ابن عباس رضي الله عنه : تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يغتمضون مهطعين أي مديمي النظر.

قال مجاهد و الضحاك : مقنعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم و إقناع الرأس رفعه . قاله ابن عباس و مجاهد ، و قال الحسن : وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد . فإن قيل : فقد قال الله تعالى في غير هذه الآية خاشعة أبصارهم و قال : خشعاً أبصارهم فكيف يكون الرافع رأسه الناظر نظراً طويلاً حتى إن طرفه لا يرتد إليه خاشع البصر ؟ .

فالجواب أنهم يخرجون حال المضي إلى الموقف خاشعة أبصارهم ، و في هذه الحال وصفهم الله تعالى بخشوع الأبصار و إذا توافوا و ضمهم الموقف و طال القيام عليهم فإنهم يصيرون من الحيرة كأنهم لا قلوب لهم و يرفعون رؤوسهم فينظرون النظر الطويل و لا يرتد إليهم طرفهم كأنهم قد نسوا الغمض أو جلهوه فهو تعسير عليهم .

و منها : هذا يوم لا ينطقون * و لا يؤذن لهم فيعتذرون .

و ذلك حين يقال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون و تطبق عليهم جهنم على ما يأتي بيانه في أبواب النار .

و منها : يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم و إن أذن لهم بأن يمكنوا منها لا بأن يقال لهم اعتذروا كقوله ربنا إنا أطعنا سادتنا و كبراءنا الآية و كقوله ربنا أخرجنا منها الآية .

و منها : و لا يكتمون الله حديثاً .

و منها : يوم الفتنة . قال الله تعالى يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون من قولك فتنت الذهب إذا رميت به في النار.

و منها : يوم لا مرد له من الله يريد يوم القيامة أي لا يرده أحد بعد ما حكم الله به و جعل له أجلاً و وقتاً .

و منها : يوم الغاشية . و سميت بذلك لأنها تغشى بإفزاعها . أي تعمهم بذلك . و منه غاشية السرج . و منها : فيومئذ لا يعذب عذابه أحد و لا يوثق وثاقه أحد .

و منها : يوم لا بيع فيه و لا خلال قال الله تعالى قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة و ينفقوا مما رزقناهم سراً و علانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلال و قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلة و لا شفاعة و الخلة و الخلال الصداقة و المودة .

و منها : يوم لا ريب فيه ، و إن وقع فيه رب الكفار أي شك فليس فيه ريب لقيام الأدلة الظاهرة عليه كما قال الله تعالى أفي الله شك فليس في الباري شك لقيام الأدلة عليه و لشهادة أفعاله و لاقتضاء المحدث أن يكون له محدث ، و لكن قد شك فيه قوم و نفاه آخرون ، و لم يوجب ذلك شكا فيه لقيام الأدلة عليه ، فكذلك يوم القيامة لا ريب و لا شك فيه مع النظر في الدليل و العلم ، فإذا خلق الله تعالى الرين على القلب كان الشك . قال الله تعالى ذلك بأن الله هو الحق و أنه يحيي الموتى و أنه على كل شيء قدير * و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور .

و منها : يوم تبيض وجوه و تسود وجوه و سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

و منها : يوم الأذان : دخل طاووس على هشام بن عبد الملك فقال له : اتق الله و احذر يوم الأذان فقال : و ما يوم الأذان ؟ قال : قوله تعالى فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين فصعق هشام ، فقال طاووس : هذا ذل الصفة فكيف ذل المعاينة .

و منها : يوم الشفاعة قال الله تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه و قال تعالى و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و قال لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له و قال فما لنا من شافعين و سيأتي بيانه .

و منها : يوم العرق ، و سيأتي بيانه في أحاديث في الباب بعد هذا بحول الله وقوته .

و منها يوم القلق و الجولان . و هو عبارة عند عدم الاستقرار و الثبوت يقال : قلق الرجل يقلق قلقاً إذا لم يستقر و مثله جال يجول إذا لم يثبت .

و منها : يوم الفرار . قال الله تعالى يوم يفر المرء من أخيه * و أمه و أبيه * و صاحبته و بنيه فيفر كل واحد من صاحبه حذراً من مطالبته إياه ، إما لما بينهم من التبعات أو لئلا يروا ما هو فيه من الشدة . و قال عبد الله بن طاهر الأبهري : يفر منهم لما يتبين له من عجزهم و قلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب و الهموم عنه ، و لو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئاً سوى ربه تعالى . و قال الحسن : أول من يفر يوم القيامة من أبيه إبراهيم ، و أول من يفر من ابنه نوح ، و أول من يفر من امرأته لوط . قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم ، و هذا فرار التبري نجانا الله من أهوال هذا اليوم بحق محمد نبي الرحمة و صحبه الكرام البرزة ، و جعلنا ممن حشر في زمرتهم و لا خالف بنا على طريقهم و مذهبهم بمنه و كرمه آمين ، و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم .

قال المؤلف : و قد سرد تسمية هذه الأيام على التوالي من غير تفسير غير واحد من العلماء . منهم ابن نجاح في سبل الخيرات ، و أبو حامد الغزالي في غير موضع من كتبه كالإحياء و غيره ، و القتبي في كتاب عيون الأخبار ، و هذا تفسيرها حسب ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين ، و ربما زدنا عليه في ذلك و الحمد لله على ذلك . و لا يمتنع أن تسمي غير ما ذكرنا بحسب الأحوال الكائنة فيه من الازدحام و التضايق و اختلاف الأقدام الخزي و الهوان و الذل و الافتقار و الصغار و الانكسار و يوم الميقات و المرصاد إلى غير ذلك من الأسماء، و سيأتي التنبية على ذلك إن شاء الله تعالى في الباب بعد هذا .

باب ما يلقي الناس في الموقف من الأهوال العظام و الأمور الجسام

قال المحاسبي في كتاب التوهم و الأهوال : يحشر الله الأمم من الإنس و الجن عراة أذلاء قد نزع الملك من ملوك الأرض و لزمهم الصغار بعد عتوهم و الذلة بعد تجبرهم على عباد الله في أرضه . ثم أقبلت الوحوش من أماكنها منكسة رؤوسها بعد توحشها من الخلائق و انفرادها ذليلة من هول يوم النشور من غير ريبة و لا خطية أصابتها حتى وقفت من وراء الخلق بالذلة و الانكسار لذلك الجبار ، و أقبلت الشياطين بعد تمردها و عتوها خاضعة ذليلة للعرض على الملك الديان ، حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها و جنها و شياطينها و وحوشها و سباعها و أنعامها و هوامها تناثرت نجوم السماء من فوقهم و طمست الشمس و القمر فأظلما عليهم و مارت سماء الدنيا من فوقهم فدارت من فوقهم بعظمها فوق رؤوسهم و هي خمسمائة عام فيا هول صوت انشقاقها في سمعهم و تمزقت و تفطرت لهول يوم القيامة من عظم يوم الطامة ثم ذابت حتى صارت مثل الفضة المذابة كما قال الجبار تبارك و تعالى فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان و قال يوم تكون السماء كالمهل * و تكون الجبال كالعهن أي كالصوف المنفوش و هو أضعف الصوف و هبطت الملائكة من حافاتها إلا الأرض بالتقديس لربها فتوهم انحدارهم من السماء لعظم أجسامهم و كثرة أخطارهم و هول أصواتهم و شدة فرقهم من خوف ربهم فتوهم فزعك حينئذ و فزع الخلائق لنزولهم مخافة أن يكونوا قد أمروا بهم فأخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسي رؤوسهم العظيم هول يومهم قد تسربلوا أجنحتهم و نكسوا رؤوسهم بالذلة و الخضوع لربهم ، و كذلك ملائكة كل سماء إلى السماء السابعة قد أضعف أهل كل سماء على أهل السماء الذين قبلهم في العدة و عظم الأجسام و الأصوات حتى إذا وافى الموقف أهل السموات السبع و الأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين ، ثم أدنيت من الخلائق قاب قوسين أو قوس فلا ظل ذلك اليوم إلا ظل عرش الرحمن فمن بين مستظل بظل العرش و بين مضح بحر الشمس قد صهرته و اشتد فيها كربه و أقلقته و قد ازدحمت الأمم و تضايقت و دفع بعضهم بعضاً ، و اختلفت الأقدام و انقطعت الأعناق من العطش قد اجتمع عليهم في مقامهم حر الشمس مع وهج أنفاسهم و تزاحم أجسامهم ففاض العرق منهم على وجه الأرض ، ثم على أقدامهم ، ثم على قدر مرابتهم و منازلهم عند ربهم من السعادة و الشقاء ، فمنهم من يبلغ العرق منكبيه و حقويه ، و منهم إلى شحمة أذنيه ، و منهم من قد ألجمه العرق فكاد أن يغيب فيه .

قلت : ذكر المحاسبي و غيره أن انفطار السماء انشقاقها بعد جمع الناس في الموقف و قد قدمنا أن ذلك يكون قبل ذلك و هو ظاهر القرآن كما ذكرنا و الله اعلم و قد جاء ذلك مرفوعاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه و قد تقدم .

و ما ذكره المحاسبي مروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و زيد في سعتها كذا و كذا ، و جمع الخلائق بصعيد واحد جهنم و إنسهم ، فإذا كان ذلك قبضت هذه السماء عن أهلها فينتشرون على وجه الأرض فلأهل السماء أكثر من أهل جميع الأرض جهنم و إنسهم بالضعف .

الحديث بطول ما ذكره ابن المبارك في رقائقه . قال : أخبرنا عوف عن أبي المنهال سيار بن سلامة الرياحي قال ، أخبرنا شهر بن حوشب . قال : حدثني ابن عباس فذكره . قال ابن المبارك و أخبرني جويبر عن الضحاك قال : إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمر الرب فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض و من فيها ، ثم يأمر السماء التي تليها فينزلون فيكونون صفاً خلف ذلك الصف ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة فينزل الملك الأعلى في بهائه و جلاله و ملكه و بجنبته اليسرى جهنم فيسمعون زفيرها و شهيقها فلا يأتون قطراً من أقطارها إلا وجدوا صفوفاً قياماً من الملائكة فذلك قوله تعالى يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات و الأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان و السلطان العذر و ذلك قوله عز و جل و جاء ربك و الملك صفاً صفاً و قال و انشقت السماء فهي يومئذ واهية * و الملك على أرجائها يعني على حافاتها يعني بأرجائها ما تشفق منها ، فبيناهم كذلك إذ سمعوا الصوت فأقبلوا إلى الحساب .

قلت : و لا يصح إسنادهما ، فإن شهراً و جبيراً قد تكلم فيها و ضعفوهما .

قال البخاري في التاريخ جويبر بن سعيد البلخي عن الضحاك قال لي علي ، قال يحيى : كنت أعرف جويبراً بحديثين ، ثم أخرج هذه الأحاديث بعد فضعفه ، و أما شهر فقال مسلم في صدر كتابه سئل ابن عوف عن حديث شهر و هو قائم على أسكفة الباب ، فقال : إن شهراً تركوه . قال مسلم : يقول أخذته ألسنة الناس تكلموا فيه ، و قال عن شعبة و قد لقيت شهراً فلم أعتد به .

و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة نحواً مما ذكر المحاسبي عن ابن عباس رضي الله عنه و الضحاك فقال إن الخلائق إذا اجتمعوا في صعيد واحد الأولين و الآخرين أمر الجليل جل و جلاله بملائكة سماء الدنيا أن يتولوهم فيأخذ كل واحد منهم إنساناً و شخصاً من المبعوثين إنساً و جناً و وحشاً و طيراً و حولوهم إلى الأرض الثانية ، و هي أرض بيضاء من فضة نورية ، و صارت الملائكة من وراء العالمين حلقة واحدة ، فإذا هم أكثر من أهل الأرض بعشر مرات ، ثم إن الله سبحانه و تعالى يأمر ملائكة السماء الثانية فيحدقون بهم واحدة فإذا هم مثلهم عشرين مرة ثم تنزل ملائكة السماء الثالثة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة ، فإذا هم أكثر منهم ثلاثين ضعفاً ، ثم تنزل ملائكة السماء الرابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة أكثر منهم بأربعين صفاً ، ثم تنزل ملائكة السماء الخامسة فيحدقون من ورائهم حلقة واحدة فيكونون مثلهم خمسين مرة ، ثم تنزل ملائكة السماء السادسة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة و هم مثلهم ستين مرة ، ثم تنزل ملائكة السماء السابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة و هم مثلهم سبعين مرة و الخلق تتداخل و تندمج حتى يعلو القدم ألف قدم لشدة الزحام ، و تخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة إلى الأذقان و إلى الصدر و إلى الحقوين و إلى الركبتين ، و منهم من يصيبه الرشح اليسير كالقاعد في الحمام ، و منهم من تصيبه البلة كالعاطش إذا شرب الماء ، و كيف لا يكون القلق و العرق و الأرق و قد قربت الشمس من رؤوسهم حتى لو مد أحدهم يده لنالها ، و يضاعف حرها سبعين مرة .

و قال بعض السلف لو طلعت الشمس على الأرض كهيتئها يوم القيامة لأحرقت الأرض و ذابت الصخر و جفت الأنهار ، فبينما الخلائق يموجون في تلك الأرض البيضاء التي ذكرها الله تعالى حيث يقول : يوم تبدل الأرض غير الأرض و هم على أنواع في المحشر على ما تقدم في حديث معاذ ، و الملوك كالذر كما قد ورد في الخبر في وصف المتكبرين و ليس هم كهيئة الذر غير أن الأقدام عليهم حتى صاروا كالذر في مذلتهم و انخفاضهم ، و قوماً يشربون ماء بارداً عذباً صافياً ، لأن الصبيان يطوفون على آبائهم بكؤوس من أنهار الجنة يسقونهم .

و عن بعض السلف أنه نام فرأى القيامة قد قامت ، و كأنه في الموقف عطشان و صبيان صغار يسقون الناس قال : فناديتهم ناولوني شربة ، فقال لي واحد منهم ألك فينا ولد ؟ فقلت : لا . فقال : فلا إذاً و لهذا فضل التزويج . و لهذا الولد الساقي شروط ذكرناها في الإحياء ، و قوم قدموا على رؤوسهم ظل يمنعهم من الحر و هي الصدقة الطيبة لا يزالون كذلك ألف عام حتى إذا سمعوا نقر الناقور الذي وصفناه في كتاب الإحساء و هو بعض أسرار القرآن فتوجل له القلوب و تخشع الأبصار لعظيم نقره ، و تشتاف الرؤوس من المؤمنين ، و الكافرين يظنون أن ذلك عذاب يزداد بهم في هول يوم القيامة ، فإذا بالعرش تحمله ثمانية أملاك قدم الملك منهم مسيرة عشرين ألف سنة ، و أفواج الملائكة و أنواع الغمام بأصوات التسبيح ، لهم هرج عظيم لا تطيقه العقول حتى يستقر العرش في تلك الأرض البيضاء التي خلقها الله تعالى لهذا الشأن خاصة ، فتطرق الرؤوس و تخنس و تشفق البرايا و ترعب الأنبياء و تخاف العلماء و تفزع الأولياء و الشهداء من عذاب الله سبحانه الذي لا يطيق شيء إذ غشاهم نور حتى غلب عليه نور الشمس التي كانوا في حرها فلا يزالون يموج بعضهم في بعض ألف عام و الجليل سبحانه لا يكلمهم كلمة واحدة ، فحينئذ يذهب الناس إلى آدم فيقولون : يا أبا البشر الأمر علينا شديد ، و أما الكافر فيقول : يا رب أرحني و لو إلى النار من شدة ما يرى من الهول . يقولون : أنت الذي خلقك الله بيده و أسجد لك ملائكته و نفخ فيك من روحه اشفع لنا في فصل القضاء ، و ذكر أمر الشفاعة من نبي إلى نبي و أن ما بين إتيانهم من نبي إلى نبي ألف عام حتى تنتهي الشفاعة إلى نبينا محمد صلى الله عليه و سلم على ما يأتي بيانه من أمر الشفاعة في أحاديث إن شاء الله تعالى، و نحو من هذا ذكره الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له قال : فإذا كان يومئذ جمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد و كورت الشمس و انكدرت النجوم و مارت السماء فوق الخلائق موراً ، و تفطرت من عظيم هول ذلك اليوم ، و تشققت بالغمام المنزل من عليهن فوقهن ، ثم صارت وردة كالدهان و كشطن سماء سماء، و نزلت الملائكة تنزيلاً ، و قام الخلائق و طال قيامهم أقل ما قيل في قيامهم مقدار أربعين عاماً إلى ثلاثمائة عام ، و أياماً كان فاليوم يسعه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من صاحب إبل الحديث و فيه وردت عليها أولاها . في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، و سيأتي بكماله و هم في قيامهم ذلك في الظلمة دون الجسر كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان عراة غرلاً . أعطش ما كانوا و أجوع ما كانوا عليه قط عراة فلا يسقى ذلك اليوم إلا من سقى لله عز و جل ، و لا يطعم إلا من أطعم لله ، و لا يكسى يومئذ إلا من كسا لله ، و لا يكفى إلا من اتكل على الله . و مصداق هذا من كتاب الله عز و جل قوله الحق يوفون بالنذر إلى قوله تعالى : فوقاهم الله شر ذلك اليوم أي من إزالة الجوع و العطش و العرى إلى غير ذلك من أهوال القيامة و أفزاعها على ما يأتي بيانه في هذا الباب الذي يليه .

أبو بكر بن أبي شيبة ، عن أبي معاوية ، عن عاصم ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين . قال : فيعرفون حتى يرشح العرق في الأرض قامة ، ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل قال سلمان: حتى يقول الرجل غرغر ، فإذا رأوا ما هم فيه قال بعضهم لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ائتوا أباكم آدم فيشفع لكم . الحديث بطوله ، و سيأتي مرفوعاً من حديث أبي هريرة ، و أخرجه ابن المبارك قال : أنبأنا سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال : تدنى الشمس من الناس يوم القيامة حتى تكون من رؤوسهم قاب قوسين فتعطى حر عشر سنين و ليس على أحد يومئذ طحرية و لا يرى فيها عورة مؤمن و لا مؤمنة لا يضر حرها يومئذ مؤمنا و لا مؤمنة و أما الآخرون أو قال الكفار فتطبخهم طبخاً فإنما تقول أجوافهم : [ غق غق ] قال نعيم : الطحرية : الخرقة . و أخرجه هناد بن السري ، حدثنا قبيضة عن سفيان عن سليمان التيمي فذكره سواء إلا أنه قال [ و لا يجد حرها ] بدل [ و لا يضر ] و قال [ و أما الكافر أو الآخرون فتطبخهم طبخاً حتى يسمع لأجوافهم غق غق ] .

مسلم عن سليم بن عامر ، عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل قال سليم بن عامر فو الله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين قال [ فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق ، فمنهم من يكون إلى كعبيه ، و منهم من يكون إلى ركبتيه ، و منهم من يكون إلى حقويه ، و منهم من يلجمه إلجاماً ] قال: و أشار رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده إلى فيه ، و أخرجه الترمذي و زاد قوله تكحل به العين فتصهرهم الشمس .

و ذكر ابن المبارك ، أخبرنا مالك بن مغول ، عن عبيد الله بن العيزار قال : إن الأقدام يوم القيامة مثل النبل في القرن و السعيد الذي يجد لقدميه موضعاً يضعهما عليه ، و إن الشمس تدنى من رؤوسهم حتى لا يكون بينها و بين رؤوسهم إما قال ميلاً أو ميلين ثم يزاد في حرها بضعة و ستون ضعفاً ، و عند الميزان ملك إذا وزن العبد نادى ألا إن فلان بن فلان قد ثقلت موازينه و سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً . ألا فلان ابن فلان قد خفت موازينه و شقى شقاء لا يسعد بعده أبداً .

مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعاً و إنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو آذانهم يشك ثور أيهما قال : أخرجه البخاري ، و عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه و سلم يوم يقوم الناس لرب العالمين قال : يوم يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه أخرجه البخاري و الترمذي و قال : حديث صحيح مرفوعاً و موقوفاً .

و روى هناد بن السري قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن ضرار بن مرة ، عن عبد الله بن المكتب ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال له رجل إن أهل المدينة ليوفون الكيل يا أبا عبد الرحمن . قال : و ما يمنعهم أن يوفوا الكيل .

و قد قال الله تعالى ويل للمطففين حتى بلغ يوم يقوم الناس لرب العالمين .

قالت : إن العرق ليبلغ أنصاف آذانهم من هول يوم القيامة و عظمه .

و خرج الوائلي من حديث ابن وهب قال : حدثني عبد الرحمن بن ميسرة ، عن ابن هانئ ، عن أبي عبد الرحمن الحيلي ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية يوم يقوم الناس لرب العالمين ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف بكم إذا جمعكم الله عز و جل كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم ؟ قال الوائلي غريب جيد الإسناد .

و قد خرج مسلم لابن وهب عن أبي هانئ نفسه عن الحيلي عن عبد الله أحاديث ابن المبارك قال : أخبرنا الأوزاعي قال : سمعت بلال بن سعيد يقول : إن للناس يوم القيامة جولة و هو قوله عز و جل يقول الإنسان يومئذ أين المفر و قوله : لو ترى إذ فزعوا فلا فوت و في حديث جويبر عن الضحاك : فينزل الملك و مجنبته اليسرى جهنم فيسمعون زفيرها و شهيقها فلا يأتون قطراً من أقطارها إلا وجدوا صفوفاً قياماً من الملائكة فذلك قوله : يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات و الأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان و السلطان العذر و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خوفني جبريل من يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ربي ذنبي ما تقدم و ما تأخر ؟ فقال لي يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم أحدهما ينسيك المغفرة . ذكره أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله .

فصل : قلت : ظاهر ما رواه ابن المبارك عن سلمان أن الشمس لا يضر حرها مؤمن و لا مؤمنة العموم في المؤمنين و ليس كذلك لحديث المقداد المذكور بعده ، و إنما المراد لا يضر حرها مؤمناً كامل الإيمان أو من استظل بظل عرش الرحمن كما في الحديث الصحيح سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الحديث رواه الأئمة مالك و غيره و سيأتي في الباب بعد هذا .

و كذلك ما جاء أن المرء في ظل صدقته و كذلك الأعمال الصالحة أصحابها في ظلها إن شاء الله ، و كل ذلك من ظل العرش و الله أعلم .

و أما غير هؤلاء فمتفاوتون في العرق على ما دل عليه حديث مسلم ، قال ابن العربي : و كل واحد يقوم عرقه معه فيغرق فيه إلى أنصاف ساقيه و إلى جانبيه مثلاً يمين من يبلغ كعيبه، و من الجهة الشمال من يبلغ ركبتيه ، و من أمامه من يكون عرقه إلى نصفه ، ومن خلفه من يبلغ العرق صدره ، و هذا خلاف المعتاد في الدنيا فإن الجماعة إذا وقفوا في الأرض المعتدلة أخذهم الماء أخذاً واحداً و لا يتفاوتون ، كما ذكرنا مع استواء الأرض و مجاورة المحل ، و هذا من القدرة التي تخرق العادات في زمن الآيات .

و قال الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له : و لا يبعدون عليك هذا يرحمك الله أن يكون الناس كلهم في صعيد واحد و موقف سواء يشرب أحدهم أو بعض من الحوض و لا يشرب الغير ، و يكون النور يسعى بين يدي البعض في الظلمات مع قرب المكان و ازدحام الناس ، و يكون أحدهم يغرق في عرقه حتى يلجمه أو يبلغ منه عرقه ما شاء الله جزاء لسعيه في الدنيا و الآخرة في ظل العرش على قرب المكان و المجاورة ، كذلك كانوا في الدنيا يمشي المؤمن بنور إيمانه في الناس و الكافر في ظلام كفره ، و المؤمن في وقاية الله و كفايته و الكافر و العاصي في خذلان الله لهما و عدم العصمة ، و المؤمن السني يكرع في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و يروى ببرد اليقين و يمشي في سبل الهداية بحسن الاقتداء و المبتدع عطشان إلى ما روى المؤمن به حيران لا يشعر سالك في مسالك ضلالات البدع و هو لا يدري ، كذلك في الوجود الأعمى لا يجد نور بصر البصير و لا ينفعه دواء إنما هي بواطن و ظواهر بطنت فتشعر لذلك و تفطن و استعن بالله يعنك ، و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل .

و قال أبو حامد : و اعلم أن كل عرق لم يخرجه التعب في سبيل الله من حج و جهاد و صيام و قيام و تردد في قضاء حاجة مسلم و تحمل مشقة في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، فسيخرجه الحياء و الخوف في صعيد القيامة و يطول فيه الكرب ، و لو سلم ابن آدم من الجهل و الغرر لعلم أن تعب العارف في تحمل مصاعب الدنيا أهون أمراً و أقصر زماناً من عرق الكرب و الانتظار في القيامة ، فإنه يوم عظيم شديد طويل مدته .

و ذكر أبو نعيم عن أبي حازم أنه قال : لو نادى مناد من السماء أمن أهل الأرض من دخول النار لحق عليهم الوجل من هول ذلك الموقف و معاينة ذلك اليوم .