باب ما ينجي من أهوال يوم القيامة و من كربها التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة

 

باب ما ينجي من أهوال يوم القيامة و من كربها

مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ذكر الحديث .

و خرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال : حدثنا أبي رحمه الله قال : حدثنا عبد الله بن نافع قال : حدثني ابن أبي فديك عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم و نحن في مسجد المدينة فقال إني رأيت البارحة عجباً رأيت رجلاً من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد عنه ، و رأيت رجلاً من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك ، و رأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم ، و رأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم ، و رأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما ورد حوضاً منع منه فجاءه صيامه فسقاه و أرواه ، و رأيت رجلاً من أمتي و النبيون قعود حلقاً حلقاً كلما دنا لحلقة طردوه ، فجاء اغتساله من الجنابة فأخذ بيده و أقعده بجنبي، و رأيت رجلاً من أمتي من بين يديه ظلمة و من خلفه ظلمة و عن يمينه ظلمة و عن شماله ظلمة و من فوقه ظلمة و من تحته ظلمة فهو متحير فيها ، فجاءته حجته و عمرته فاستخرجاه من الظلمة و أدخلاه في النور ، و رأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم ، فقالت يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه ، و رأيت رجلاً من أمتي يتقي شرر النار و وهجها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت ستراً على وجهه و ظلا على رأسه ، و رأيت رجلاً من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر فاستنفذه من أيديهم و أدخلاه مع ملائكة الرحمة ، و رأيت رجلاً من أمتي جانباً على ركبتيه بينه و بين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله ، و رأيت رجلاً من أمتي قد هوت صحيفة من قبل شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه ، و رأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه ، و رأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم فجاءه و جله من الله فاستنقذه من ذلك و مضى ، و رأيت رجلاً من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار ، و رأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعده و مضى ، و رأيت رجلاً من أمتي على الصراط ، و رأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب و أدخلته الجنة .

قلت : هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالاً خاصة تنجي من أهوال خاصة و الله أعلم .

و قد ينجي منها كلها ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس و كان موسراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال : قال الله عز و جل أنا أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي .

و خرج عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم أن رجلاً مات فدخل الجنة ، فقيل له ما كنت تعمل ؟ فقال : إني كنت أبايع الناس ، فكنت أنظر المعسر و أتجاوز في السكة أو في النقد فغفر له فقال له المسعود رضي الله عنه : و أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم . رواه مسلم من طرق ، و خرجه البخاري .

و روى مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه طلب غريماً له فتوارى عنه ، ثم وجده فقال: إني معسر . قال الله فقال الله . قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينس عن معسر أو يضع عنه .

و عن أبي اليسر و اسمه كعب بن عمرو رضي الله عنه أن سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله خرجه مسلم .

و قال أنس بن مالك رضي الله عنه : من أنظر مديوناً فله بكل يوم عند الله وزن أحد ما لم يطلبه .

و روى الأئمة عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل ، و شاب نشأ في عبادة الله ، و رجل قلبه معلق بالمساجد و رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه و تفرقا عليه ، و رجل دعته امرأة ذات منصب و جمال فقال : إني أخاف الله ، و رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، و رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه : معنى في ظله أي في ظل عرشه و قد جاء هكذا تفسيراً في الحديث .

و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أشبع جائعاً و كسا عرياناً و آوى مسافراً أعاذه الله من أهوال يوم القيامة .

و خرج الطبراني سليمان بن أحمد عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من لقم أخاه لقمة صرف الله عنه مرارة الموقف يوم القيامة . و في التنزيل تحقيقاً لهذا الباب ، و جامعاً له قوله الحق يوفون بالنذر إلى قوله فوقاهم الله شر ذلك اليوم مع قوله إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً مع قوله في غير موضع بعد ذكر الأعمال الصالحة فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون .

باب

ذكر أبو نعيم الحافظ قال : حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن يحيى ابن خالد قال : حدثنا محمد بن سلام قال : حدثنا يحيى بن بكير قال : حدثنا مالك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها الصلاة و لا الصوم و لا الحج و لا العمرة قال : و ما يكفرها يا رسول الله ؟ قال : الهموم في طلب المعيشة . قال أحمد بن يحيى : فقلت : كيف سمعت هذا من يحيى بن بكير فلم يسمعه أحد غيرك ؟ قال : كنت عند يحيى جالساً فجاءه رجل فذكر ضعفه فقال : قال ابن بكير : حدثنا مالك فذكره .

باب في الشفاعة العامة لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم لأهل المحشر

مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم يوماً يلحم فرفع إليه الذراع و كانت تعجبه فنهش منها نهشة فقال : أنا سيد الناس يوم القيامة و هل تدرون بم ذاك يجمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي و ينفذهم البصر و تدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم و الكرب ما لا يطيقون و لا يحتملون ، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض : أئتوا آدم فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبونا أبو البشر خلقك الله بيده ، و نفخ فيك من روحه ، و أمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله و إنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى نوح ، فيأتون نوحاً فيقولون : يا نوح أن أول الرسل إلى الأرض و سماك الله عبداً شكوراً ، اشفع لنا إلى ربنا ، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله ، و إنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي . نفسي نفسي ، اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم أنت نبي الله خليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم إبراهيم : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله ، و ذكر كذباته ، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى ، فيأتون موسى فيقولون يا موسى : أنت رسول الله فضلك الله برسالته و بتكليمه على الناس اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله و إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها نفسي نفسي ، اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله و كلمت الناس في المهد و كلمة منه ألقاها إلى مريم و روح منه فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغصب قبله مثله ، و لم يغضب بعده مثله ، و لم يذكر ذنباً . نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه و سلم فيأتون فيقولون : يا محمد أنت رسول الله و خاتم الأنبياء ، و غفر الله لك ما تقدم و ما تأخر ، اشفع لنا إلى ربك ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي ، ثم يفتح الله علي و يلهمني من محامده و حسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد غيري من قبلي ثم قال : يا محمد ارفع رأسك ، سل تعطه و اشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي أمتي ، فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عيله من الباب الأيمن من أبواب الجنة و هم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، و الذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة و هجر أو كما بين مكة و بصري و في البخاري كما بين مكة و حمير .

فصل : هذه الشفاعة العامة التي خص بها نبينا محمد صلى الله عليه و سلم من بين سائر الأنبياء هي المراد بقوله عليه السلام : لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته و إني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي . رواه الأئمة البخاري و مسلم و غيرهما ، و هذه الشفاعة العامة لأهل الموقف إنما هي ليجعل حسابهم و يراحوا من هول الموقف و هي الخاصة به صلى الله عليه و سلم و قوله : أقول يا رب أمتي أمتي اهتمام بأمر أمته و إظهار محبته فيهم و شفقته عليهم ، و قوله : فيقال يا محمد ادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه يدل على أنه شفع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف ، فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته ، فقد شرع في حساب من عليه حساب من أمته و غيرهم . و كان طلبه هذه الشفاعة من الناس بإلهام من الله تعالى لهم حتى يظهر في ذلك اليوم مقام نبيه صلى الله عليه و سلم المحمود الذي وعده ، و لذلك قال كل نبي : لست لها لست لها حتى انتهى الأمر إلى محمد صلى الله عليه و سلم فقال : أنا لها .

و روى مسلم ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك . و في رواية فيلهمون فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا . قال : فيأتون آدم و ذكر الحديث .

و ذكر أبو حامد أن بين إتيانهم من آدم إلى نوح ألف عام ، و كذا بين كل نبي إلى محمد صلى الله عليه و سلم .

و ذكر أيضاً أن الناس في الموقف على طبقات مختلفة و أنواع متباينة بحسب جرائمهم ، كمانع الزكاة و الغال و الغادر على ما يأتي بيانه ، و آخرون قد عظمت فروجهم و هي تسيل صديداً يتأذى بنتنها جيرانهم ، و آخرون قد صلبوا على جذوع النيران ، و آخرون قد خرجت ألسنتهم على صدورهم أقبح ما يكون ، و هؤلاء المذكرون هم الزناة و اللوطية و الكاذبون ، و آخرون قد عظمت بطونهم كالجبال الرواسي و هم آكلوا الربا و كل ذي ذنب قد بدا سوء ذنبه . قاله في كتاب كشف علوم الآخرة ، و ذكر في آخر الكتاب أن الرسل يوم القيامة على المنابر و الأنبياء و العلماء على منابر صغار ، و منبر كل رسول على قدره ، و العلماء العاملون على كراسي من نور ، و الشهداء و الصالحون كقراء القرآن و المؤذنون على كبثان من مسك ، و هذه الطائفة العاملة أصحاب الكراسي هم الذين يطلبون الشفاعة من آدم و نوح حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ذكر الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له : ويلهم رؤوس المحشر ممن يشفع لهم و يريحهم مما هم فيه و هم رؤساء أتباع الرسل فيكون ذلك .

باب ما جاء أن هذه الشفاعة هي المقام المحمود

الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر و بيدي لواء الحمد و لا فخر و ما من نبي يومئذ آدم و من سواه إلا تحت لوائي ، و أنا أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر قال :

فيفزع الناس فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أيونا فاشفع لنا إلى ربك فيقول : أنا أذنبت ذنباً فأهبطت به إلى الأرض ائتوا نوحاً فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا و لكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول : إني كذبت ثلاث كذبات ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما منها كذبة كذبة إلا ما حل بها عن دين الله و لكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول : إني قتلت نفساً و لكن ائتوا عيسى فيقول : إني عبدت من دون الله و لكن ائتوا محمداً صلى الله عليه و سلم فيأتوني فأنطلق معهم . قال ابن جدعان قال أنس : فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال من هذا ؟ فيقال : محمد فيفتحون لي و يرحبون فيقولون مرحباً فأخر ساجداً لله فيلهمني من الثناء و الحمد فيقال لي ارفع رأسك و سل تعط و اشفع تشفع و قل يسمع لقولك و هو المقام المحمود الذي قال الله فيه عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً . قال سفيان : ليس عن أنس إلا هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها . قال الترمذي حديث حسن .

و خرجه أبو داود الطيالسي بمعناه عن ابن عباس فقال : حدثنا حماد سلمة قال : حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من نبي إلا و له دعوة كلهم قد تنجزها في الدنيا و إني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ألا و إني سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر ، و أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة و لا فخر ، و بيدي لواء الحمد تحته آدم صلى الله عليه و سلم و من دونه و لا فخر ، و يشتد كرب ذلك اليوم على الناس فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فيشفع لنا إلى ربنا عز و جل حتى يقضي بيننا الحديث و فيه: فيأتون عيسى عليه السلام فيقولون اشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا فيقول إني لست هنا كم إني اتخذت و أمي إلهين من دون الله و لكن أرأيتم لو أن متاعاً في وعاء قد ختم عليه أكان بوصل إلى ما في الوعاء حتى يفض الخاتم ؟ فيقولون : لا . فيقول : إن محمداً صلى الله عليه و سلم قد خصه اليوم و قد غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأتيني الناس فيقولون اشفع لنا إلى ربنا حتى يقضى بيننا فأقول أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء و يرضى ، فإذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى مناد أين محمد صلى الله عليه و سلم و أمته ؟ فأقوم و تتبعني أمتي غراً محجلين من أثر الطهور . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فنحن الآخرون الأولون و أول من يحاسب و يفرج لنا في الأمم عن طريقنا و يقولون كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها و ذكر الحديث .

و في البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن الناس يصبرون يوم القيامة جثياً كل أمة تتبع نبيها تقول يا فلان اشفع يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود .

و روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً سئل عنها قال : هي الشفاعة . قال : هذا حديث صحيح .

فصل : قوله : فيفزع الناس ثلاث فزعات إنما ذلك و الله أعلم حين يؤتى بالنار تجر بأزمتها و ذلك قبل العرض و الحساب على الملك الديان ، فإذا نظرت إلى الخلائق فارت و ثارت و شهقت إلى الخلائق و زفرت نحوهم و توثبت عليهم غضباً لغضب ربهم على ما يأتي بيانه في كتاب النار إن شاء الله تعالى ، فتتساقط الخلائق حينئذ على ركبهم جثاة حولها قد أسبلوا الدموع من أعينهم و نادى الظالمون بالويل و الثبور . ثم تزفر الثانية فيزداد الرعب و الخوف في القلوب . ثم تزفر الثالثة فتتساقط الخلائق لوجوههم و يشخصون بأبصارهم و هم ينظرون من طرف خفي خوفاً أن تبلغهم أو يأخذهم حريقها . أجارنا الله منها .

فصل : و اختلف الناس في المقام المحمود على خمسة أقوال :

الأول : أنه الشفاعة للناس يوم القيامة كما تقدم . قاله حذبفة بن اليمان و ابن عمر رضي الله عنهم .

الثاني : إنه أعطاؤه عليه السلام لواء الحمد يوم القيامة قلت : و هذا القول لا تنافي بينه و بين الأول فإنه يكون بيده لواء الحمد و يشفع .

و روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، و أنا خطيبهم إذا وفدوا ، و أنا مبشرهم إذا أيسوا ، لواء الحمد بيدي فأنا أكرم ولد آدم على ربي و لا فخر . وفي رواية أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، و أنا قائدهم إذا وفدوا ، و أنا خطيبهم إذا أنصتوا ، و أنا شفيعهم إذا أيسوا ، و أنا مبشرهم إذا أبلسوا . لواء الكرم بيدي و أنا أكرم ولد آدم على ربي يطوف علي ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون .

الثالث : ما حكاه الطبري عن فرقة منها مجاهد . أنها قالت : المقام المحمود هو أن يجلس الله محمداً صلى الله عليه و سلم معه على كرسيه ، و روت في ذلك حديثاً .

قلت : و هذا قول مرغوب عنه و إن صح الحديث ، فيتأول على أنه يجلس مع أنبيائه و ملائكته . قال ابن عبد البر في كتاب التمهيد : و مجاهد و إن كان أحد أئمة بتأويل القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم . أحدهما هذا ، و الثاني في تأويل قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة قال : تنتظر الثواب و ليس من النظر .

الرابع : إخراجه طائفة من النار . روى مسلم عن يزيد الفقير قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج ، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج ثم نخرج على الناس فمررنا على المدينة ، فإذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يحدث الناس أو القوم إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و إذا هو قد ذكر الجهنميين قال فقلت له يا صاحب رسول الله : ما هذا الذي تحدثون و الله تعالى يقول ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها فما هذا الذي تقولون فقال : أتقرأ القرآن ؟ فقلت : نعم . فقال : فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه و سلم يعني الذي بيعثه الله عز و جل ؟ قلت : نعم . قال : فإنه مقام محمد صلى الله عليه و سلم الذي يخرج الله به من يخرج . و ذكر الحديث .

و في البخاري من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم و فيه : و قد سمعته يقول فأخرج فأخرجهم و أدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود قال : ثم تلا هذه الآية عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً قال هو المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه و سلم .

الخامس : ما روي أن مقامه المحمود شفاعته رابع أربعة و سيأتي الأوزاعي

فصل : إذا أثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ، فيشفع هذه الشفاعة العامة لأهل الموقف مؤمنهم و كافرهم ليراحوا من هول موقفهم ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في شفاعاته و كم هي ، فقال النقاش : لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث شفاعات العامة و شفاعة في السبق إلى الحنة و شفاعة في أهل الكبائر . و قال ابن عطية في تفسيره : و المشهور أنهما شفاعتان فقط العامة و شفاعة في إخراج المذنبين من النار و هذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون و يشفع العلماء .

قال القاضي عياض شفاعات نبينا صلى الله عليه و سلم يوم القيامة خمس شفاعات :

الأولى : العامة .

الثانية : إدخال قوم الجنة بغير حساب .

الثالثة : في قوم من أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفعه فيهم نبينا صلى الله عليه و سلم ، و من شاء أن يشفع و يدخلون الجنة و هذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج و المعتزلة ، فمنعتها على أصولهم الفاسدة و هي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين و التقبيح .

الرابعة : فيمن دخل النار من المذنبين فيخرج بشفاعة نبينا و غيره من الأنبياء و الملائكة و إخوانهم من المؤمنين .

قلت : و هذه المشافعة أنكرتها المعتزلة أيضاً و إذا منعوها فيمن استوجب النار بذنبه و إن لم يدخلها فأحرى أن يمنعوها فيمن دخلها .

الخامسة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها و ترفيعها. قال القاضي عياض : و هذه الشفاعة لا تنكرها المعتزلة و لا تنكر شفاعة الحشر الأول .

قلت : و شفاعة سادسة لعمه أبي طالب في التخفيف عنه ، كما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه فإن قيل : فقد قال الله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين قيل له : لا تنفع في الخروج من النار كعصاة الموحدين الذين يخرجون منها و يدخلون الجنة .

فصل : و اختلف العلماء هل وقع من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين بعد النبوة صغائر من الذنوب يؤاخذون بها و يعاتبون عليها و يشفقون على أنفسهم منها أم لا بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر و من الصغائر التي تزري بفاعلها وتحط منزلته و تسقط مروءته إجماعاً ؟ عند القاضي أبي بكر و عن الأستاذ أبي بكر أن ذلك مقتضى دليل المعجزة و عند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم ، فقال الطبري و غيره من الفقهاء و المتكلمين و المحدثين : تقع الصغائر منهم خلافاً للرافضة حيث قالوا إنهم معصومون من جميع ذلك كله ، و احتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل و ثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث و هذا ظاهر لا خفاء به .

و قال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك و أبي حنيفة و الشافعي : إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر لأنا أمرنا باتياعهم في أفعالهم و آثارهم و سيرهم مطلقاً من غير التزام قرينة ، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء لهم إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة و الإباحة و الحظر أو المعية و لا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين .

قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني و اختلفوا في الصغائر و الذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم و مال بعضهم إلى تجويزها و لا أصل لهذه المقالة .

و قال بعض النتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول : و الذي ينبغي أن يقال : إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم و نسبها إليهم و عاتبهم عليها و أخبروا بها عن نفوسهم و تنصلوا منها و استغفروا منها و تابوا ، و كل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا تقبل التأويل جملتها ، و إن قبل ذلك آحادها و كل ذلك مما لا يزري بمناصبهم و إنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور و على جهة الخطأ و النسيان أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلىغيرهم حسنات ، و في حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم و علو أقدارهم إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع عملهم بالأمن و الأمان والسلامة و هذا هو الحق .

و لقد أحسن الجنيد رضي الله عنه حيث قال : حسنات الأربار سيئات المقربين ، فهم صلوات صلى الله عليه و سلم عليهم و سلامه و إن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم ، فلم يخل ذلك بمناصبهم و لا قدح في رتبهم ، بل تلافاهم و اجتباهم و هداهم و مدحهم و زكاهم و اصطفاهم صلوات الله عليهم و سلامه .

باب

ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا رشدين بن سعد قال : أخبرني عبد الرحمن بن زياد ، عن دخين الحجري ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ذكر حديث الشفاعة و فيه فيقول عيسى عليه السلام أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني و يجعل لي نوراً من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ، ثم يقول الكافر قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ؟ فيقولون : ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد جد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك قد أضللتنا ، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمه أحد ثم يعظهم لجهنم و يقول عند ذلك و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم الآية .

باب من أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه و سلم

البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال : لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه .

و روى زيد بن أرقم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة . قيل يا رسول الله : ما إخلاصها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول .

باب ما جاء في تطاير الصحف عند العرض و الحساب

باب ما جاء في تطاير الصحف عند العرض و الحساب و إعطاء الكتب باليمين و الشمال و من أول من يأخذ كتابه بيمينه من هذه الأمة ، و في كيفية و قوفهم للحساب و ما يقبل منهم من الأعمال ، و في دعائهم بأسماء آباهم و بيان قوله يوم ندعوا كل أناس بإمامهم و في تعظيم خلق الإنسان الذي يدخل الناس به النار أو الجنان و ذكر القاضي العدل و من نوقش عذب .

قال الترمذي : و روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : [ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر و إنما يخف الحساب على من حاسب نفسه في الدنيا ] و قال عطاء الخراساني : يحاسب العبد يوم القيامة عند معارفة ليكون أشد عليه . ذكره أبو نعيم .

البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من حوسب يوم القيامة عذب . قالت فقلت يا رسول الله : أليس قد قال الله فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً ؟ فقال : ليس ذلك الحساب إنما ذلك عرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب أخرجه مسلم و الترمذي و قال : حديث حسن صحيح.

أبو داود الطيالسي قال : حدثنا عمر بن العلاء اليشكري قال : حدثني صالح بن طبرج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول و ذكر عندها القضاة ، فقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط .

الترمذي عن الحسن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم ، تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال و معاذير فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فأخذ بيمينه و أخذ بشماله قال أبو عيسى و لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه ، و قد رواه بعضهم عن علي الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم .

قلت : قوله وقد رواه بعضهم هو وكيع بن الجراح . ذكره ابن ماجه قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا و كيع عن علي بن علي فذكره .

قال الترمذي :

و تكلم يحيى بن سعيد القطان في علي بن علي ، و خرجه أبو بكر البزار أيضاً عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ، و أما الثالثة فتطاير الكتب يميناً و شمالاً .

و ذكره الترمذي الحكيم في الأصل السادس و الثمانين قال : فروى لنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : أن الناس يعرضون ثلاث عرضات يوم القيامة ، فأما عرضتان فجدال و معاذي ، و أما العرضة الثالثة فتطاير الصحف فالجدال لأهل الأهواء يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوه نجوا و قامت حجتهم ، و المعاذير لله تعالى يعتذر الكريم إلى آدم و إلى أنبيائه و يقيم حجته عندهم على الأعداء ، ثم يبعثهم إلى النار ، فإنه يجب أن يكون عذره عند أنبيائه و أوليائه ظاهراً حتى لا تأخذهم الحيرة ، و لذلك قيل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا أحد أحب إليه المدح من الله و لا أحد أحب إليه العذر من الله ، و العرضة الثالثة للمؤمنين و هو العرض الأكبر يخلو بهم فيعاتبهم في تلك الخلوات من يريد أن يعاتبهم حتى يذوق و بال الحياء و يرفض عرقاً بين يديه و يفيض العرق منهم على أقدامهم من شدة الحياء ، ثم يغفر لهم و يرضى عنهم .

و ذكر أبو جعفر العقيلي من حديث نعيم بن سالم ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم الموقف بعث الله ريحاً فتطيرها بالإيمان و الشمائل أول خط فيها : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً .

أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : ذكرت النار فبكيت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يبكيك ؟ قلت: ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة ؟ فقال : أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً . عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل ، و عند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله من وراء ظهره ، و عند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز .

و ذكر أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب ، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه و له شعاع كشعاع الشمس فقيل له : أين يكون أبو بكر يا رسول الله ؟ قال : هيهات زفته الملائكة إلى الجنان .

و خرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد له عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله تبارك و تعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع : يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين و أحكم الحاكمين و أسرع الحاسبين ، يا عبادي لا خوف عليكم اليوم و لا أنتم تحزنون ، أحضروا حجتكم و يسروا جوابكم ، فإنكم مسؤلون محاسبون ، يا ملائكتي أقيموا عبادي طفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب .

و أسند سمرة بن عطية قال : يؤتى بالرجل يوم القيامة للحساب ، و في صحيفته أمثال الجبال من الحسنات ، فيقول رب العزة تبارك و تعالى : صليت يوم كذا و كذا ، ليقال : فلان صلى، أنا الله لا إله إلا أنا ، لي الدين الخالص ، صمت يوم كذا و كذا ، ليقال : صام فلان ، أنا الله لا إله إلا أنا ، لي الدين الخالص ، تصدقت يوم كذا و كذا ليقال : تصدق فلان ، أنا الله لا إله إلا أنا ، لي الدين الخالص ، فما زال يمحى شيء بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما فيها شيء ، فيقول ملكاه : ألغير الله كنت تعمل ؟

قلت : و مثل هذا لايقال من جهة الرأي فهو مرفوع ، و قد رفع معناه الدار قطني في سننه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يجاء يوم القيامة بصحف مختومة فتنصب بين يدي الله عز و جل فيقول الله تعالى : ألقوا هذا و اقبلوا هذا ، فتقول الملائكة : و عزتك ما رأينا إلا خيراً فيقول الله عز و جل ـ و هو أعلم ـ : إن هذا كان لغيري و لا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي . خرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : يوم ندعوا كل أناس بإمامهم قال : يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ، و يمد له في جسمه ستون ذراعاً ، و يبيض و جهه ، و يجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فبنطلق إلى أصحابه فيرونه من بعد ، فيقولون : اللهم آتنا بهذا و بارك لنا في هذا حتى يأتيهم ، و يقول : أبشروا لكل مسلم مثل هذا ، قال : و أما الكافر فيسود و جهه و يمد في جسمه ستون ذراعاً على صورة آدم ، و يلبس تاجاً من نار فيراه أصحابه فيقولون : نعوذ بالله من شر هذا ، اللهم لا تأتنا بهذا قال : فيأتيهم فيقولون : اللهم اخزه ، فيقول : أبعدكم الله ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب .

و روي أن عيسى عليه السلام مر بقبر فوكزه برجله و قال : يا صاحب هذا القبر قم بإذن الله فقام إليه رجل ، و قال: ياروح الله ما الذي أردت فإني لقائم في الحساب منذ سبعين سنة حتى أتتني الصيحة الساعة أن أجب روح الله ، فقال عيسى : يا هذا لقد كنت كثير الذنوب و الخطايا ما كان عملك ؟ فقال : و الله يا روح الله ما كنت إلا حطاباً أحمل الحطب على رأسي آكل حلالاً و أتصدق ، فقال عيسى : يا سبحان الله حطاباً يحمل الحطب على رأسه ، يأكل حلالاً و يتصدق ، و هو قائم في الحساب منذ سبعين سنة ، ثم قال له : يا روح الله كان من توبيخ ربي لي أن قال : اكتراك عبدي لتحمل له حزمة ، فأخذت منها عوداً فتخللت به و ألقيته في غير مكانه امتهاناً منك بي ، و أنت تعلم أني أنا الله المطلع عليك و أراك .

فصل : قال الله تعالى و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه قال الزجاج : ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق . و قال إبراهيم بن أدهم كل آدمي في عنقه قلادة يكتب فيها نسخة عمله فإذا مات طويت و إذا بعث نشرت و قيل له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً و قال ابن عباس رضي الله عنه : طائره عمله و نخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً قال الحسن : يقرأ الإنسان كتابه أمياً كان أو غير أمي .

و قال أبو السوار العدوي : و قرأ هذه الآية و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه قال : هما نشرتان و طية أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت فإذا مت طويت ، حتى إذا بعثت نشرت اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً فإذا وقف الناس على أعمالهم من الصحف التي يؤتونها بعد البعث حوسبوا بها . قال الله تعالى فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً . فدل على أن المحاسبة تكون عند إتيان الكتب ، لأن الناس إذا بعثوا لا يكون ذاكرين لأعمالهم . قال الله تعالى يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله و نسوه .

و قد تقدم القول في محاسبة الله تعالى لخلقه في يوم الحساب من أسماء القيامة فإذا بعثوا من قبورهم إلى الموقف و قاموا فيه ما شاء تعالى على ما تقدم حفاة عراة و جاء و قت الحساب يريد الله أن يحاسبهم فيه أمر بالكتب التي كتبها الكرام الكاتبون بذكر أعمال الناس فأوتوها ، فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه فأولئك هم السعداء ، و منهم من يؤتى كتابه بشماله أو من وراء ظهره و هم الأشقياء ، فعند ذلك يقرأ كل كتابه و أنشدوا :

مثل و قوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا

و النار تلهب من غيظ و من حنق على العصاة و رب العرش غضبانا

اقرأ كتابك ياعبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا

لما قرات و لم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفاناً

نادى الجليل : خذوه يا ملائكتي و امضوا بعبد عصى للنار عطشانا

المشركون غداً في النار يلتهبوا و المؤمنون بدار الخلد سكانا

فتوهم نفسك يا أخي إذا تطايرت الكتب و نصبت الموازين و قد نوديت باسمك على رؤوس الخلائق أين فلان ابن فلان هلم إلى العرش على الله تعالى و قد وكلت الملائكة بأخذك فقربتك إلى الله لا يمنعها اشتباه الأسماء باسمك و اسم أبيك إذ عرفت أنك المراد بالدعاء إذ قرع النداء قلبك ، فعلمت أنك المطلوب ، فارتعدت فرائصك ، و اضطربت جوارحك ، و تغير لونك ، و طار قلبك . تحظى بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه و الوقوف بين يديه ، و قد رفع الخلائق إليك أبصارهم و أنت في أيديهم و قد طار قلبك و اشتد رعبك لعلمك أين يراد بك .

فتوهم نفسك و أنت بين يدي ربك في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها و لا مخبأة أسررتها ، و أنت تقرأ ما قيها بلسان كليل و قلب منكسر و الأهوال محدقة بك من بين يديك و من خلفك ، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكرتها ، و كم من شيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها و أبداها ، و كم من عمل ظننت أنه سلم لك و خلص فرده عليك في ذلك الموقف و أحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً ، فيا حسرة قلبك و يا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك فأما من أوتي كتابه بيمينه فعلم أنه من أهل الجنة فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه و ذلك حين يأذن الله فيقرأ كتابه .

فإذا كان الرجل رأساً في الخير يدعوا إليه و يأمر به و يكثر تبعه عليه دعي باسمه و اسم أبيه فيتقدم ، حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض في باطنه السيئات و في ظاهره الحسنات ، فيبدأ بالسيئات فيقرؤها فيشفق و يصفر وجهه و يتغير لونه ، فإذا بلغ آخر الكتاب و جد فيه هذه سيئاتك و قد غفرت لك ، فيفرح عند ذلك فرحاً شديداً ، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحاً ، حتى إذا بلغ آخر الكتاب و جد فيه هذه حسناتك قد ضوعفت لك فيبيض و جهه ، و يؤتى بتاج فيوضع على رأسه و يكسى حلتين و يحلى كل مفصل فيه و بطول ستين ذراعاً و هي قامة آدم و يقال له : انطلق إلى أصحابك فبشرهم و أخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا فإذا أدبر قال هاؤم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه قال الله تعالى فهو في عيشة راضية أي مرضية قد رضيها في جنة عالية في السماء قطوفها ثمارها و عناقيدها دانية أدنيت منهم فيقول لأصحابه هل تعرفونني ؟ فيقولون قد غمرتك كرامة الله من أنت فيقول أنا فلان ابن فلان ليبشر كل رجل منكم بمثل هذا كلوا و اشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية أي قدمتم في أيام الدنيا .

و إذا كان الرجل رأساً في الشر يدعو إليه و يأمره به فيكثر تبعه عليه و نودي باسمه و اسم أبيه ، فيتقدم إلى حسابه فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات و في ظاهره السيئات ، فيبدأ بالحسنات فيقرؤها و يظن أنه سينجو ، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه : هذه حسناتك و قد ردت عليك ، فيسود وجهه و يعلوه الحزن و يقنط من الخير ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزناً و لا يزداد و جهه إلا سوداً ، فإذا بلغ آخر الكتاب و جد فيه : هذه سيئاتك و قد ضوعفت عليك أي يضاعف عليه العذاب ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل . قال : فينظر إلى النار و تزرق عيناه و يسود و جهه و يكسى سرابيل القطران ، و يقال له : انطلق إلى أصحابك فأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا فينطلق و هو يقول : يا ليتني لم أوت كتابيه * و لم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية يعني الموت هلك عني سلطانيه تفسير ابن عباس رضي الله عنهما هلكت عني حجتي . قال تعالى خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه أي اجعلوه يصلى الجحيم ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه و الله أعلم بأي ذراع . قال الحسن و قال ابن عباس رضي الله عنهما : سبعون ذراعاً بذراع الملك . و سيأتي في كتاب النار لهذه السلسلة مزيد بيان . فاسلكوه فيها أي تدخل من فيه حتى تخرج من دبره قاله الكلبي ، و قيل : بالعكس . و قيل : يدخل عنقه فيها ثم يجر بها و لو أن حلقة منها وضعت على جبل لأذابته فينادي أصحابه فيقول هل تعرفونني فيقولون لا ولكن قد نرى ما بك من الخزي فمن أنت فيقول أنا فلان ابن فلان لكل إنسان منكم مثل هذا.

و أما من أوتي كتابه وراء ظهره فتخلع كتفه اليسرى فتجعل يده خلفه فيأخذ بها كتابه ، و قال مجاهد : يحول مجاهد و جهه في موضع قفاه فيقرأ كتابه كذلك . فتوهم نفسك إن كنت من السعداء و قد خرجت على الخلائق مسرور الوجه قد حل لك الكمال و الحسن و الجمال كتابك في يمينك آخذ بضبعيك ملك ينادي على رؤوس الخلائق هذا فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا.

أما إن كنت من أهل الشقاوة فيسود و جهك و تتخطى الخلائق . كتابك في شمالك أو من وراء ظهرك تنادي بالويل و الثبور و ملك آخذ بضبيعك ينادي على رؤوس الخلائق ألا إن فلان ابن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً .

قلت : قوله ألا إن فلان ابن فلان دليل على أن الإنسان يدعى في الآخرة باسمه و اسم أبيه ، و قد جاء صريحاً من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم و أسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم . خرجه أبو نعيم الحافظ . قال حدثنا أبو عمر بن حمدان قال حدثنا الحسن بن سفيان قال : حدثنا زكريا بن يحي قال : حدثنا هشيم عن داود بن عمر عن عبد الله بن أبي زكريا عن أبي الدرداء فذكره .

باب في قوله تعالى يوم تبيض وجوه و تسود وجوه

الترمذي عن أبي غالب قال : رأى أبو إمامة رؤوساً منصوبة على برج دمشق ، فقال أبو أمامة : [ كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ] . ثم قرأ قوله تعالى يوم تبيض وجوه و تسود وجوه إلى آخر الآية فقلت لأبي أمامة الباهلي : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عد سبعاً ما حدثتكموه . قال : هذا حديث حسن .

و خرج أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب ، عن مالك بن سليم الهروي أخي غسان ، عن مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قول الله تعالى يوم تبيض و جوه و تسود وجوه قال : يعني تبيض و جوه أهل السنة و تسود و جوه أهل البدعة و قال مالك بن أنس رضي الله عنه هي في أهل الأهواء . و قال الحسن هي في المنافقين ، و قال قتادة في المرتدين ، و قال أبي بن كعب هي في الكفار و هو اختيار الطبري . اللهم بيض و جوهنا يوم تبيض و جوه أو ليائك و لا تسود و جوهنا يوم تسود و جوه أعدائك بحق رسلك و أنبيائك و أصفيائك بفضلك ياذا الفضل العظيم و كرمك يا كريم .

 باب في قوله تعالى و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه الآية

ابن المبارك قال : أخبرنا الحكم و أبو الحكم ـ شك ـ نعيم ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن ، عن رجل من بني أسد قال : قال عمر لكعب : و يحك يا كعب حدثنا من حديث الآخرة قال نعيم : يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا و هو ينظر إلى عمله قال ، ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنشر حول العرش و ذلك قوله تعالى ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها قال الأسدي : الصغيرة ما دون الشرك و الكبيرة الشرك [ إلا أحصاها ] قال كعب : ثم يدعى المؤمن فيعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فحسناته باديات للناس و هو يقرأ سيئاته فذكر معنى ما تقدم ، و كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول : يا ويلتنا ضجوا إلى الله من الصغائر قبل الكبائر . قال ابن عباس رضي الله عنه : الصغيرة التبسم و الكبيرة الضحك بعني ما كان من ذلك في معصية الله .

و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم ضرب بصغائر الذنوب مثلاً فقال : إنما محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض و حضر صنيع القوم فانطلق كل رجل منهم يحتطب فجعل الرجل يجيء بالعود و الآخر بالعودين، حتى جمعوا سواداً و أججوا ناراً فشووا خبزهم ، و أن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه فيهلكه إلا أن يغفر الله ، و اتقوا محقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً .

أنبأنا الشيخان أبو محمد عبد الوهاب القرشي و الإمام أبو الحسن الشافعي قالا : أخبرنا السلفي قال : أخبرنا الثقفي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن مخمش الزيادي إملاء بنيسابور قال : أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي قال : أخبرنا محمد بن حماد الأبيوردي قال : أخبرنا أنس بن عياض الليثي ، عن أبي حازم لا أعلمه إلا عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إياكم و محقرات الذنوب فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود و جاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم ، و إن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه غريب من حديث أبي حازم سلمة بن دينار تفرد به عنه أبو ضمرة أنس بن عياض الليثي ، و لقد أحسن القائل :

خل الذنوب صغيرها و كبيرها ها ذاك التقي

واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

و قال جماعة من العلماء : إن الذنوب كلها كبائر ، قال بعضهم : لا تنظر إلى صغر الذنب ، و لكن انظر من عصيت فهي من حيث المخالفة كبائر ، و الصحيح أن فيها صغائر و كبائر ليس هذا موضع الكلام في ذلك ، و قد بيناه في سورة النساء في كتاب جامع أحكام القرآن و الله أعلم .

باب ما يسأل عنه العبد و كيفية السؤال

قال الله تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا

و قال : ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون و قال قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم أي ما عملتموه . و قال فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * و من يعمل مثقال ذرة شراً يره أي يسأل عن ذلك و يجازي عليه و الآيات في هذا المعنى كثيرة و قال ثم لتسألن يومئذ عن النعيم .

الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية لتسألن يومئذ عن النعيم قال الناس يا رسول الله : عن أي نعيم نسأل فإنما هما الأسودان و العدو حاضر و سيوفنا على عواتقنا ؟ قال : إن ذلك سيكون و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة يعني العبد أن يقال له ألم أنصح لك جسمك و نرويك من الماء البارد قال الترمذي : حديث غريب .

و خرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش ، عن أبي وائل شفيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من عبد يخطو خطوة إلا سئل عنها ما أراد بها

مسلم عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ؟ و عن جسده فيما أبلاه ؟ و عن عمله ما عمل فيه ؟ و عن ماله من أين اكتسبه ؟ و فيما أنفقه ؟ خرجه الترمذي ، و قال فيه : حديث حسن صحيح ، رواه عن ابن عمر عن ابن مسعود رضي الله عنهما عن النبي ، و قال فيه : حديث غريب لا أعرفه إلا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من حديث الحسين بن قيس ، و الحسين يضعف في الحديث .

و في الباب عن أبي برزة و أبي سعيد ، قلت : و معاذ بن جبل أخبرناه الشيخ الراوية أبو محمد عبد الوهاب بثغر الإسكندرية قراءة عليه ، قال : قرأ على البيهقي و أنا أسمع قال : حدثنا الحاجب أبو الحسن علي بن محمد بن علي العلاف ببغداد سنة أربع و سبعين و أربعمائة ، قال : أخبرنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن بشران المعدل ، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة في شوال سنة ثلاث و خمسين و ثلاثمائة قال : أخبرنا أبو سعيد الفضل بن محمد الجندي إملاء في المسجد الحرام سنة تسع و تسعين و مائتين قال: أخبرنا صامت بن معاذ الجندي ، أخبرنا عبد الحميد ، عن سفيان بن سعيد الثوري ، عن صفوان بن سليم ، عن عدي بن عدي ، عن الصالحي ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ؟ و عن شبابه فيما أبلاه ؟ و عن ماله من أين اكتسبه ؟ و فيما أنفقه ؟ و عن عمله ماذا عمل فيه ؟ .

و خرج الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ، أخبرنا أحمد بن خالد الحلبي ، أخبرنا يوسف بن يونس الأفطس قال : أخبرنا سليمان بن بلال ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده فيوقفه بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن عمله .

مسلم عن صفوان بن محرز قال : قال رجل لابن عمر رضي الله عنه . كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول : يدنى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه ، فيقول هل تعرف ؟ فيقول : رب أعرف . قال فيقول : إني سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم . قال : فيعطى صحيفة حسناته ، و أما الكفار و المنافقون ، فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله . أخرجه البخاري و قال في آخره : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين .

و روي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة خلا الله عز و جل بعبده المؤمن يوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً ، ثم يغفر الله له لا يطلع على ذلك ملك مقرب و لا نبي مرسل و ستر عليه من ذنوبه ما يكرهه أن يقف عليها ثم يقول لسيئاته كوني حسنات .

قال المؤلف : خرجه مسلم بمعناه و سيأتي آنفاً إن شاء الله تعالى .

و خرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتاب الديباج له . حدثنا هارون بن عبد الله قال : حدثنا سيار قال : قال جعفر قال : حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : يدني الله العبد منه يوم القيامة و يضع عليه كفنه فيستره من الخلائق كلها و يدفع إليه كتابه في ذلك الستر فيقول له : اقرأ يا ابن آدم كتابك قال : فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه ، و يمر بالسيئة فيسود لها وجهه ، قال : فيقول الله تعالى له : أتعرف يا عبدي ؟ قال : فيقول نعم يا رب أعرف ، قال : فيقول : إني أعرف بها منك ، قد غفرتها لك ، قال : فلا تزال حسنة تقبل فيسجد و سيئة تغفر فيسجد ، فلا يرى الخلائق منه إلا ذلك حتى ينادي الخلائق بعضها بعضاً طوبى لهذا العبد الذي لم يعص قط و لا يدرون ما قد لقي فيما بينه و بين الله تعالى مما قد وقفه عليه.

قلت : نسخة من هنا إلى الفصل قوله لا يزول ، أخبرنا الشيخ الراوية القرشي عبد الوهاب قراءة عليه بثغر الإسكندرية حماه الله، قال : قرئ على الحافظ السلفي ، و أنا أسمع . قال : حدثنا الحاجب أبو الحسن بن العلاء ، و قال : أخبرنا أبو القاسم بن بشران ، أخبرنا الأجري ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى السونيطي ، حدثنا أحمد بن أبي رجاء المصيصي ، حدثنا وكيع بن الجراح ، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه و تخبأ كبارها ، فيقال له : عملت يوم كذا و كذا كذا و كذا ثلاث مرات ، قال : و هو يقر ليس ينكر قال : و هو مشفق من الكبائر أن تجيء قال : فإذا أراد الله به خيراً قال : أعطوه مكان كل سيئة حسنة ، فيقول حين طمع : يا رب إن لي ذنوباً ما رأيتها ها هنا ، قال : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحك حتى بدت نواجذه . ثم تلا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات خرجه مسلم في صحيحه عن محمد بن عبد الله بن نمير قال : حدثنا الأعمش فذكره .

فصل : قوله لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل : عام لأنه نكرة في سياق النفي لكنه مخصوص بقوله عليه السلام ، يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب على ما يأتي .

و بقوله تعالى لمحمد عليه السلام : أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن، و قد تقدم الحديث .

و بقوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام .

قوله عليه السلام : و عن عمله ما عمل فيه .

قلت : هذا مقام مخوف لأنه لم يقل و عن عمله ما قال فيه ، و إنما قال ما عمل فيه فلينظر العبد ما عمل فيما علمه هل صدق الله في ذلك و أخلصه حتى يدخل فيمن أثنى الله عليه بقوله: أولئك الذين صدقوا أو خالف علمه بفعله فيدخل في قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف و رثواً الكتاب الآية و قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب و قوله : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة ، و سيأتي ذكرها في أبواب النار إن شاء الله تعالى ، قوله : حتى يضع عليه كنفه أي ستره و لطفه و إكرامه فيخاطب خطاب الملاطفة و يناجيه مناجاة المصافاة و المحادثة فيقول : هل تعرف ؟ فيقول : رب أعرف ، فيقول الله تعالى : ممتنا عليه و مظهراً فضله لديه : فإني قد سترتها عليك في الدنيا أي لم أفضحك بها فيها ، و أنا أغفرها لك اليوم ، ثم قيل هذه الذنوب تاب منها . كما ذكره أبو نعيم عن الأوزاعي عن هلال بن سعد قال : إن الله يغفر الذنوب و لكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقفه عليها يوم القيامة و إن تاب منها .

قال المؤلف : و لا يعارض هذا ما في التنزيل و الحديث من أن السيئات تبدل بالتوبة حسنات، فلعل ذلك يكون بعد ما يوقفه عليها و الله أعلم .

و قيل في صغائر اقترفها ، و قيل كبائر بينه و بين الله تعالى اجترحها ، و أما ما كان بينه و بين العباد فلا بد فيها من القصاص بالحسنات و السيئات على ما يأتي ، و قيل : ما خطر بقلبه ما لم يكن في وسعه و يدخل تحت كسبه ، و يثبت في نفسه و إن لم يعلمه ، و هذا اختيار الطبري و النحاس و غير واحد من العلماء جعلوا الحديث مفسراً لقوله تعالى : و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فتكون الآية على هذا محكمة غير منسوخة و الله أعلم .

و قد بينا في كتاب جامع أحكام القرآن و المبين لما تضمن من السنة ، و آي القرأن و الحمد لله .

و روي عن ابن مسعود أنه قال : ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر الله عليه في الآخرة ، و هذا مأخوذ من حديث النجوى ، و من قوله عليه السلام : يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة خرجه مسلم .

و في صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : [ من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا و الآخرة ] ، و روى [ من ستر على مسلم عورته ، ستر الله عورته يوم القيامة ] ، قال أبو حامد : فهذا إنما يرجوه عبد مؤمن ستر على الناس عيوبهم و احتمل في حق نفسه تقصيرهم . و لم يحرك لسانه بذكر مساوئ الناس و لم يذكرهم في غيبتهم بما يكرهون لو سمعوه ، فهذا جدير بأن يجازى بمثله في القيامة .

فصل : و في قوله : [ سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم ] نص منه تعالى على صحة قول أهل السنة في ترك إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين ، و العرب تفتخر بخلف الوعيد حتى قال قائلهم :

و لا يرهب ابن العم ما عشت صولتي و لا أختشى من روعة المتهدد

و إني متى أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي و منجز موعدي

قال ابن العربي : إنه كذلك عند العرب ، و أما ملك الملوك القدوس الصادق فلا يقع أبداً خبره إلا على وفق مخبره كان ثوابا أو عقاباً ، فالذي قال المحققون في ذلك قول بديع ، و هو أن الآيات وقعت مطلقة في الوعد و الوعيد عامة فخصصتها الشريعة ، و بينها الباري تعالى في كتابه في آيات أخر ، كقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و قوله تعالى : و إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم الآية و كقوله تعالى : حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو و بالشفاعة التي أكرم الله بها صلى الله عليه و سلم و من شاء من الخلق من بعده .

باب ما جاء أن الله تعالى يكلم العبد ليس بينه و بينه ترجمان

مسلم عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه و بينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ، و ينظر أيسر منه فلا يرى إلا ما قدم ، و ينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار و لو بشق تمرة زاد ابن حجر قال الأعمش : و حدثني عمرو بن مرة عن خيثمة عن عدي مثله و زاد فيه و لو بكلمة طيبة . أخرجه البخاري و الترمذي ، و قال : حديث حسن صحيح .

ابن المبارك قال : أخبرنا إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن و قتادة ، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجاء بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول له : أعطيتك و خولتك و أنعمت عليك ، فماذا صنعت ؟ فيقول : يا رب جمعته و ثمرته فتركته أكثر ما كان فارجعني آتيك به فيقول الله تعالى : أرني ما قدمت . فيقول : فإذا عبد لم يقدم خيراً فيمضي به إلى النار . خرجه ابن العربي في سراج المريدين و زاد فيه بعد قوله كأنه بذج . و قال فيه حديث صحيح من مراسيل الحسن ، و قال الهروي كأنه بدوج من الذل .

قال أبو عبيد : هو ولد الضأن و جمعه بدجان . و قال الجوهري : البدوج من الضأن بمنزلة العقود من أولاد المعز و أنشدوا :

قد هلكت جارتنا من الهمج و إن تجع تأكل عقوداً أو بدج

قلت : و قوله : ما منكم من أحد مخصوص بما ذكرناه في الباب قبل أي ما منكم ممن لا يدخل الجنة بغير حساب من أمتي إلا وسيكلمه الله ، و الله أعلم فتكفر في عظيم حياتك إذا ذكرك ذنوبك شقاها إذ يقول : يا عبدي أما استحييت مني فبارزتني بالقبح و استحييت من خلقي فأظهرت لهم الجميل أكنت أهون عليك من سائر عبادي استخففت بنظري إليك فلم تكترث به ، و استعظمت نظر غيري ألم أنعم عليك فماذا غرك بي ؟ .

و عن ابن مسعود قال : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ثم يقول يا ابن آدم ما غرك بي ؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ يا ابن آدم ألم أكن رقيباً على عينيك و أنت تنظر بهما إلى ما لا يحل لك ألم أكن رقيباً على أذنيك ؟ و هكذا عن سائر الأعضاء فكيف ترى حياءك و خجلك و هو يعد عليك إنعامه و معاصيك و أياديه و مساويك ؟ فإن أنكرت شهدت عليك جوارحك ، فنعوذ بالله من الافتضاح على ملأ الخلق بشهادة الأعضاء إلا أن الله وعد المؤمن أن يستر عليه ، و لا يطلع عليه غيره كما ذكرنا ، و ذلك بفضل منه .

و هل يكلم الكفار عند المحاسبة لهم ؟ فيه خلاف تقدم بيانه في أسماء القيامة . و يأتي أيضاً في باب ما جاء في شهادة أركان الكافر و المنافق عليهما ، و لقائهما بالله عز و جل مستوفي إن شاء الله تعالى .

فصل : فإن قيل : أخبر الله تعالى عن الناس أنهم مجزيون محاسبون ، و أخبر أنه يملأ جهنم من الجنة و الناس أجمعين و لم يخبر عن ثواب الجن و لا عن حسابهم بشيء فما القول في ذلك عندكم ، و هل يكلمهم الله ؟ فالجواب أن الله تعالى أخبر أن الإنس و الجن يسألون فقال خبراً عما يقال لهم يا معشر الجن و الإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي و ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا الآية و هذا سؤال فإذا ثبت بعض السؤال ثبت كله ، و لما كانت الجن ممن يخاطب و يعقل ، قال منكم ، و إن كانت الرسل من الإنس و غلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث ، و أيضاً لما كان الحساب عليهم دون الخلق قال منكم فصير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع لأن الثقلين قد ضمتهما عرضة القيامة ، فلما صاروا في تلك العرضة في حساب واحد في شأن الثواب و العقاب خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة كأنهم جماعة واحدة لأن بدء خلقهم للعبودية ، كما قال تعالى : و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون و الثواب و العقاب على العبودية إلا أن الجن أصلهم من مارج من نار ، و أصلنا من تراب و خلقهم غير خلقنا ، و منهم مؤمن و كافر ، و عدونا إبليس عدو لهم يعادي مؤمنهم و يوالي كافرهم ، و فيهم أهواء شيعية و قدرية و مرجئة، و هو معنى قوله : كنا طرائق قدداً .

و قيل : إن الله تعالى لما قال : و الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون دخل في الجملة الجن و الإنس ، فثبت للجن من وعد الجنة لعموم الآية ما ثبت للإنس .

فإن قيل : فما الحكمة في ذكر الجنة مع الإنس في الوعيد و ترك إفراده الإنس عنهم في الوعد؟ .

فالجواب : أنهم قد ذكروا أيضاً في الوعد لأنه سبحانه يقول : أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس إنهم كانوا خاسرين ثم قال : و لكل درجات مما عملوا و إنما أراد لكل من الإنس و الجن فقد ذكروا في الوعد مع الإنس.

فإن قيل : فقد ذكر يخاطب الجن والإنس في النار لأن الله تعالى قال : و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق إلى قوله و لوموا أنفسكم قال قرينه ربنا ما أطغيته و لكن كان في ضلال بعيد و لم يأت عن تفاوض الفريقين في الجنة خبر ، قيل : إنما ذكر من تفاوضهم في النار أن الواحد من الإنس يقول للشيطان الذي كان قرينه في الدينا إنه أطغاني و أضلني فيقول له قرينه : ربنا ما أطغيته و لكنه كان ضالاً بنفسه و لا سبب بين الفريقين يدعو أهل الجنة فيهما إلى التفاوض فلذلك سكت عنهما ، و أيضاً فإن الله تعالى أخبر الناس أن عصاتهم يكونون قرناء الشياطين يتخاصمون في النار ليزجرهم بذلك عن التمرد و العصيان ، و هذا المعنى مقصود في الأخبار ، فلهذا سكت عن ذلك في الوعد به .

باب القصاص يوم القيامة ممن استطال في حقوق الناس و في حسبه لهم حتى ينصفوا منه

مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء . البخاري عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون ديناراً و لا درهم . إن كان له عمل صالح أخذه منه بقدر مظلمته و إن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه .

مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس من لا درهم له و لا متاع . قال : إن المفلس من أمتي ، من يأتي يوم القيامة بصلاة و صيام و زكاة ، و يأتي قد شئتم هذا و قذف هذا و أكل هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته و هذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار .

و خرج ابن ماجه ، حدثنا محمد بن ثعلبة بن سواء ، حدثنا عمي محمد بن سواء ، عن حسين المعلم ، عن مطر الوراق ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات و عليه دينار أو درهم قضي من حسناته ليس ثم دينار و لا درهم من ترك دنيا أو ضياعاً فعلى الله و رسوله .

الحارث بن أبي أسامة ، و عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يحشر الله العباد أو قال الناس ـ شك ـ و أومأ بيده إلى الشام عراة غرلاً بهما ، قال : ما بهما ؟ قال : ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد و من قرب ، أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، و واحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ، و لا ينبغي لأحد من أهل النار و واحد من أهل الجنة يطلبه حتى اللطمة ، قال : قلنا : كيف و إنما نأتي الله عراة حفاة ، قال بالحسنات و السيئات .

قال الشيخ المؤلف رحمه الله : هذا الحديث الذي أراد البخاري بقوله ، و رحل جابر عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد .

سفيان بن عيينة ، عن مسعر عن عمرو بن مرة قال : سمعت الشعبي يقول : حدثني الربيع بن خيثم و كان من معادن الصدق قال : إن أهل الدين في الآخرة أشد تقاضياً له منكم في الدنيا يحبس لهم فيأخذونه ، فيقول : يا رب ألست تراني حافياً ؟ فيقول : خذوا من حسناته بقدر الذي لهم فإن لم يكن له حسنات يقول : زيدوا على سيئاته من سيئاتهم ، و ذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث البراء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صاحب الدين مأسور يوم القيامة بالدين .

و روى أبو نعيم الحافظ بإسناده عن زاذان أبي عمر قال : دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخز و اليمنة قد سبقوني إلى المجلس ، فقلت يا عبد الله من أجل أبي رجل أعجمي أدنيت هؤلاء و أقصيتني ، قال : ادن فدنوت حتى ما كان بيني و بينه جليس فسمعته يقول : يؤخذ بيد العبد أو الأمة فينصب على رؤوس الأولين و الآخرين ، ثم ينادي مناد هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت إلى حقه ، فتفرح المرأة بأن يدون لها الحق على ابنها أو أختها أو أبيها أو على زوجها ، ثم قرأ ابن مسعود فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون ، فيقول الرب تعالى للعبد : ائت هؤلاء حقهم ، فيقول : يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم ؟ فيقول للملائكة : خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته ، فإن كان ولياً لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل من خبر ضاعفها حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً و إن كان عبداً شقياً قالت الملائكة رب فنيت حسناته و بقي طالبون فيقول للملائكة : خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته و صكوا له صكاً إلى النار .

و عنه ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: إنه ليكون للوالدين على ولدهما دين ، فإذا كان يوم القيامة يتعلقان به ، فيقول أنا ولدكما فيودان أو يتمنيان لو كان أكثر من ذلك .

و روى رزين عن أبي هريرة قال : كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة هو لا يعرفه فيقول : مالك إلي و ما بيني و بينك معرفة ؟ فيقول : كنت تراني على الخطايا و على المنكر و لا تنهاني . و قال ابن مسعود : تفرح المرأة يوم القيامة أن يكون لها حق و على أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها أو أختها فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون .

ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه قال : لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مهاجرة البحر قال : ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة ؟ فقال فتية منهم : بلى يا رسول الله بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائزها تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم ، فجعل إحدى يديه بين كفيه ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت : سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي و جمع الأولين و الآخرين و تكلمت الأيدي و الأرجل بما كانوا يكسبون ، فسوف تعلم كيف أمري و أمرك عنده غداً . قال يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقت صدقت كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم .

فصل : أنكر بعض المتغفلة الذين اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله إعجاباً برأيهم و تحكماً على كتاب الله تعالى و سنة نبيه محمد صلى الله عليه و سلم بعقول ضعيفة و أفهام سخيفة ، فقالوا : لا يجوز في حكم الله تعالى و عدله أن يضع سيئات من اكتسبها على من لم يكتسبها و يؤخذ حسنات من عملها فتعطى من لم يعملها ، و هذا زعموا جوراً و أولوا قول الله تعالى و لا تزر وازرة وزر أخرى فكيف تصح هذه الأحاديث و هي تخالف ظاهر القرآن و تستحيل في العقل ؟ .

و الجواب : أن الله سبحانه و تعالى لم يبن أمور الدين على عقول العباد ، و لم يعد و لم يوعد على ما تحملته عقولهم و يدركونها بأفهامهم ، بل وعدوا وعداً بمشيئته و إرادته و أمر و نهي بحكمته ، و لو كان كلما لا تدركه العقول مردوداً لكان أكثر الشرائع مستحيلاً على موضوع عقول العباد ، و ذلك أن الله تعالى أوجب بخروج المني الذي هو طاهر عند بعض الصحابة و كثير من الأئمة ، و أوجب غسل الأطراف من الغائط الذي لا خلاف بين الأئمة و سائر من يقول بالعقل و غيره في نجاسته و قذارته و نتنه ، و أوجب بريح يخرج من موضع الحدث ما أوجب بخروج الغائط الكثير المتفاحش ، فبأي عقل يستقيم هذا و بأي رأي تجب مسواة ريح ليس لها عين قائمة بما يقوم عينه و تزيد على الريح نتناً و قذراً ، قد أوجب الله قطع يمين مؤمن بعشرة دراهم ، و عند بعض الفقهاء بثلاثة دراهم و دون ذلك ، ثم سوى بين هذا القدر من المال و بين مائة ألف دينار ، فيكون القطع فيهما سواء ، و أعطى الأم من ولدها الثلث ، ثم إن كان للمتوفى إخوة جعل لها السدس من غير أن ترث الإخوة من ذلك شيئاً . فبأي عقل يدرك هذا إلا تسليماً وانقياداً من صاحب الشرع إلى غير ذلك فكذلك القصاص بالحسنات و السيئات ، و قد قال و قوله الحق : و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس الآية . و قال : و ليحملن أثقالهم و أثقالاً مع أثقالهم و قال : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم و هذا يبين قوله تعالى و لا تزر وازرة وزر أخرى أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى إذا لم تتعد ، فإذا تعدت و استطالت بغير ما أمرت فإنها تحمل عليها و يؤخذ منها بغير اختيارها ، كما تقدم في أسماء القيامة عند قوله تعالى و اتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً .

فصل : و إذا تقرر هذا ، فيجب على كل مسلم البدار إلى محاسبة نفسه ، كما قال عمرو رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا ، و إنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحاً و يتدارك ما فرط من تقصير في فرائض الله عز و جل ، و يرد المظالم إلى أهلها حبة حبة ، و يستحل كل من تعرض له بلسانه و يده و سطوته بقلبه ، و يطيب قلوبهم حتى يموت ، و لم يبق عليه فريضة و لا مظلمة ، فهذا يدخل الجنة بغير حساب ، فإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه ، فهذا يأخذ بيده ، و هذا يقبض على ناصيته ، وهذا يتعلق بلبته ، و هذا يقول ظلمتني ، و هذا يقول شتمتني ، و هذا يقول استهزأت بي ، و هذا يقول ذكرتني في الغيبة بما يسوءني و هذا يقول جاورتني فأسأت جواري ، و هذا يقول عاملتني فغششتني ، و هذا يقول بايعتني و أخفيت عني عيب متاعك ، و هذا يقول كذبت في سعر متاعك ، و هذا يقول رأيتني محتاجاً و كنت غنياً فما أطعمتني ، و هذا يقول وجدتني مظلوماً و كنت قادراً على دفع الظلم فداهنت الظلم و ما راعيتني ، فبينما أنت كذلك و قد أنشب الخصماء فيك مخاليبهم و احكموا في تلابيبك أيديهم و أنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إلا و قد استحق عليك مظلمة بغيبة أو جناية أو نظر بعين استحقار ، و قد ضعفت عن مقاومتهم و مددت عنق الرجاء إلى سيدك و مولاك لعله يخلصك من أيديهم إذ قرع سمعك نداء الجبار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة ، و توقن نفسك بالبوار ، و تتذكر ما أنذرك الله به على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم حيث قال : و لا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إلى قوله لا يرتد إليهم طرفهم و أفئدتهم هواء.

فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس و تناولك أموالهم ، و ما أشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقف بك على بساط العدل ، و شوفهت بخطاب السيئات ، و أنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على أن ترد حقاً أو تظهر عذراً ، فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك و تنقل إلى أخصامك عوضاً عن حقوقهم ، كما ورد في الأحاديث المذكورة في هذا الباب .

فانظر إلى مصيبتك في مثل هذا اليوم إذ ليس لك حسنة قد سلمت من آفات الرياء و مكائد الشيطان ، فإن سلمت حسنة واحدة في مدة طويلة ابتدرها خصماؤك و أخذوها . و يقال : لو أن رجلاً له ثواب سبعين نبياً و له خصم بنصف دانق لم يدخل الجنة حتى يرضي خصمه ، و قيل : يؤخذ بدانق قسط سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم . ذكره القشيري في التحبير له عند اسمه المقسط الجامع .

قال أبو حامد : و لعلك لو حاسبت نفسك و أنت مواظب على صيام النهار و قيام الليل ، لعلمت أنه لا يمضي عليك يوم إلا و يجري على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفي جميع حسناتك ، فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام و الشهوات و التقصير في الطاعات ؟ و كيف ترجو الخلاص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء من القرناء ؟ و يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا فكيف بك يا مسكين في يوم ترى فيه صحيفتك خالية من حسنات طال فيها تعبك ؟ فتقول : أين حسناتي ؟ فيقال : نقلت إلى صحيفة خصمائك ، و ترى صحيفتك مشحونة بسيئات غيرك . فتقول يا رب هذه سيئات ما قارفتها قط . فيقال : هذه سيئات الذين اغتبتهم و شتمتهم و قصدتهم بالسوء و ظلمتهم في المعاملة و المبايعة و المجاورة و المخاطبة و المناظرة و المذاكرة و المدارسة و سائر أصناف المعاملة ، فاتق الله في مظالم العباد بأخذ أموالهم و التعرض لأعراضهم و أبشارهم و تضييق قلوبهم و إساءة الخلق في معاشرتهم ، فإن ما بين العبد و بين الله خاصة المغفرة إليه أسرع ، و من اجتمعت عليه مظالم و قد تاب عنها و عسر عليه استحال أرباب المظالم من حيث لا يطلع عليه إلا الله فليكثر من الاستغفار لمن ظلمه ، فعساه أن يقربه ذلك إلى الله فينال به لطفه الذي ادخره لأرباب المؤمنين في دفع مظالم العباد عنهم بإرضائه إياهم على ما يأتي بيانه في باب إرضاء الخصوم بعد هذا إن شاء الله تعالى .

فصل : قوله في الحديث : فيناديهم بصوت استدل به مكن قال بالحرف و الصوت . و أن الله يتكلم بذلك تعالى الله عما يقوله المجسمون و الجاحدون علوا كبيراً ، و إنما يحمل النداء المضاف إلى الله تعالى على نداء بعض الملائكة المقربين بإذن الله تعالى و أمره ، و مثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل نادى الأمير و بلغني نداء الأمير كما قال تعالى : و نادى فرعون في قومه و إنما المراد نادى المنادي عن أمره و أصدر نداءه عن إذنه ، و هو كقولهم أيضاً : قتل الأمير فلاناً ، و ضرب فلاناً ، و ليس المراد توليه لهذه الأفعال و تصديه لهذه الأعمال ، و لكن المقصود صدورها عن أمره ، و قد ورد في صحيح الأحاديث أن الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى و الرشاد : ألا إن فلان ابن فلان كما تقدم .

و مثله ما جاء في حديث التنزيل مفسراً فيما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه و أبي سعيد قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله عز و جل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر منادياً يقول : هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل يعطى ؟ صححه أبو محمد عبد الحق ، و كل حديث اشتمل على ذكر الصوت أو النداء ، فهذا التأويل فيه و أن ذلك من باب حذف المضاف . و الدليل على ذلك ما ثبت من قدم كلام الله تعالى على ما هو مذكور في كتاب الديانات .

فإن قال بعض الأغبياء : لا وجه لحمل الحديث على ما ذكرتموه فإن فيه [ أنا الديان ] و ليس يصدر هذا الكلام حقاً و صدقاً إلا من رب العالمين .

قيل له : إن الملك إذا كان يقول عن الله تعالى و ينبئ عنه فالحكم يرجع إلى الله رب العالمين. و الدليل عليه أن الواحد منا إذا تلا قول الله تعالى إني أنا الله فليس يرجع إلى القارئ و إنما القارئ ذاكر لكلام الله تعالى و دال عليه بأصواته ، و هذا بين ، و قد أتينا عليه في الصفات من كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى و صفاته العليا .

فصل : و اختلف االناس في حشر البهائم و في قصاص بعضها من بعض ، فروي عن ابن عباس أن حشر الدواب و الطير موتها، و قال الضحاك : و روي عن ابن عباس في رواية أخرى : أن البهائم تحشر و تبعث قال أبو ذر ، و أبو هريرة ، و عمرو بن العاص ، و الحسن البصري و غيرهم و هو الصحيح لقوله تعالى : و إذا الوحوش حشرت و قوله ثم إلى ربهم يحشرون ، قال أبو هريرة : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم و الطير و الدواب و كل شيء فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني تراباً فذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار و يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا و نحوه عن ابن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص ، و في الخبر : إن البهائم إذا صارت تراباً يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار ، فذلك قوله تعالى وجوه يومئذ عليها غبرة أي غبار و قالت طائفة : الحشر في قوله تعالى ثم إلى ربهم يحشرون راجع الكفار . و ما تخلل من قوله تعالى و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء كلام معترض و إقامة حجج ، و أما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب و القصاص فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه و أنه لا محيص لمخلوق عنه ، و عضدوا ذلك بما روي في غير الصحيح عن بعض رواياته من الزيادة ، فقال : حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء ، و للحجر لما ركب الحجر ، و العود لما خدش العود . قالوا فظهر من هذا أن المقصود التمثيل المفيد للاعتبار و التهويل ، لأن الجمادات لا تعقل خطابها و لا عقابها و ثوابها و لم يصر إليه أحد من العقلاء و متخيلة من جملة المعتوهين الأغبياء . أجاب بعض من قال إنها تحشر و تبعث بأن قال إن من الحكمة الإلهية أن لا يجري أمر من أمور الدنيا و الآخرة إلا على سنة مسنونة و حكمة موزونة .

و من قال هنا بما قالته طائفة من المتوسمة بالعلم المتسمة بالفقه و الفهم على الزعم أن الجامد لا يفقه و الحيوان غير الإنسان لا يعقل ، و إنما هو منزل في الحيوان و لسان حال في الجامد و النامي ، و قال إن الله تعالى يقول في الضالين المكذبين إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً و لو كان عندها عقل أو فهم ما نزل بالكافر الفاسق إلى درجتها في موضع التنقيص و التقصير ، و الله سبحانه قد وصفه بالموت و الصمم في موضع التبصير و التذكير ، فقال : و لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين و قال أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي صم بكم عمي فهم لا يرجعون .

قيل له : ليس الأمر كما ذكرت و لا الحق على شيء مما زعمت ، و أنه ليس عليك من حيث الزعم و رؤية النفس في درجة العلم أبداً من الآية التي وقفت فيها إلى التي قبلها إن شئت ، فارجع بصرك في الذي رأيت تجده قد وصفهم عز و جل بالموت و الصمم ، كما وصفهم بالعمى و البكم و ليسوا في الحقيقة الظاهرة بموتى و لا صم و لا بعميان و لا بكم ، و إنما هم أموات بالعقول و الأذهان عن صفة الإيمان و حياة دار الحيوان . صم عن كلمة الأحياء ، عمى عن النظر في مرآة وجوه الأخلاء ، كذلك وصف الأنعام بضلال و ليست في الحقيقة بضلال من حيث شرعتها و حكمتها ، إنما ذلك من حيث قد كنا وافقنا فكيف يكون ذلك و الله تعالى يقول و ما من دابة في الأرض إلى قوله يحشرون فوربك لنحشرهم جماً غفيراً و لنحاسبن حساباً يسيراً ، و لو كان من عند غير الله و لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً و أنه تعالى لا يسأل إلا عاقلاً و لا يحاسب إلا مفضولاً و ضلاً . و إنما جعل لكل موجود من موجوداته في أشتات الخلائق و أجناس العوالم دار دنيا و دار أخرى ، و جعل لها أفلاكاً و آفاقاً و ظلماً و أضواء ، فكل في فلكه ، و أفقه بليله و نهاره و سمعه و بصره و علمه و فهمه ، و حاكم من عقله أو جهله ، و قائم بنحلته و حكمته و سنته و شرعته ، فأدنى و أعلى من الروحانية الأقصى إلى الجمادية الأقسى ، فالملائكة الروحانية في مصافها ترانا من حيث لا نرى و تعلم منا أكثر مما نعلم ، و إنها لتشاهد من نقصنا و قلة عقلنا في الموضع الذي يجب العلم به و إعمال العقل فيه ما تحكم به علينا أكثر مما نحكم به على الأنعام من قلة العقل و تحقيق المعرفة ، فمن نظر إلى الأنعام وجدها من حيث نحن لا من حيث فلكها و أفقها لا تسمع و لا تعقل إلا ميزاً ما قدر ما تتسخر به و تتذلل طبعاً، فتلقن المراد منها من هذا الفن خاصة لا غير و أما ما نحن بسبيله من تصرفات و تعملات فليس لها ذلك من حيث الفلكية التي أحازتها عنا و الأفقية التي اقتطعتها منا ، فهي في طرقاتنا ضلال و بتعملاتنا و أحوال تصرفاتنا جهال، و أما من حيث شرعتها و باطن رؤيتها فعارفة عقال . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أخذ الجمل القضم الذي ند و امتنع بحائط بني النجار و غلب الخلق عن أخذه و الوصول إليه حتى جاء صلى الله عليه و سلم ، فلما مشي إليه ورآه الجمل برك لديه و جعل يمر بمشفره على الأرض بين يديه تذللاً و تسخيراً فقال صلى الله عليه و سلم هات الخطام فلما خطمه و رأى الناس يعجبون منه رد رأسه إليهم فقال ألا تعجبون أو كما قال إنه ليس شيء بين السماء و الأرض إلا يعلم أني رسول الله غير عاصي الجن و الإنس و ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما دابة إلا و هي مصيخة بأذنها يوم الجمعة تنتظر قيام الساعة و قال صلى الله عليه و سلم لا يسمع مدى صوت المؤذن جن و لا إنس و لا شجر و لا مدر و لا شيء إلا شهد له يوم القيامة .

قال المؤلف رحمه الله : خرجه مالك في موطئه و ابن ماجه في سننه و اللفظ له من حديث أبي سعيد الخدري ، و قد تقدم أن الميت يسمع صوته كل شيء إلا الإنسان و في رواية إلا الثقلين . و الأخبار في هذا المعنى كثيرة قد أتينا على جملة منها في هذا الكتاب ، فكل حيوان و جماد محشور لما عنده من الإدراك و المشاهدة و الحضور من حيث هي لا من حيث نحن . قال الله تعالى و إن من شيء إلا يسبح بحمده و قال و لله يسجد من في السموات و الأرض طوعاً و كرها و ظلالهم بالغدو و الآصال و قال عز من قائل : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات و من في الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدواب لا يقال إن هذا السجود و التسبيح لسان حال ليس بلسان المقال، فإنا نقول هذا مجاز و الله سبحانه يقص الحق كما أخبر في كتابه إن الحكم إلا الله يقص الحق .

و من نظر بنور الله جاز العين إلى المعنى و حل الرمز و فك المعمى و هم إنما نظروا من حيث هم و من حيث العقل البشري و لم ينظروا الحياة الفلكية من حيث هي فغابوا عن الحضور و جمدوا على القصور و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .

قلت : هذا كله صحيح لحديث أبي سعيد الخدري المذكور و هو صحيح ، و كذلك حديث أبي هريرة في شهادة الأرض بما عمل عليها . و هو صحيح و كذلك حديث أبي سعيد الخدري في شهادة المال صحيح و سيأتي .

و قد روى ليث ابن أبي سليم عن عبد الرحمن بن مروان ، عن الهزيل ، عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مر بشاتين تنتطحان فقال : إن الله تعالى ليقضين يوم القيامة لههذ الجلحاء من هذه القرناء .

و ذكر ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة و عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة أن أبا سالم الجيشاني حدثه أن ثابت بن طريف استأذن على أبي ذر فسمعه رافعاً صوته يقول : أما و الله لولا يوم الخصومة لسؤتك . قال ثابت : فدخلت فقلت ما شأنك يا أبا ذر ؟ قال : هذه قلت و ما عليك إن رأيتك تضربها قال [ و الذين نفسي بيده أو نفس محمد بيده لتسئلن الشاة فيما نطحت صاحبتها و ليسئلن الجماد فيما نكب أصبع الرجل ] .

و روي عن شعبة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن أبي ذر قال رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم شاتين تنتطحان ، فقال : يا أبا ذر أتدري فيم تنتطحان ؟ قلت : لا يا رسول الله قال : لكن الله يدري و يقضي بينهما يوم القيامة أخرجه أبو داود الطيالسي فقال ، حدثنا شعبة قال : أخبرني الأعمش ، قال سمعت منذر الثوري يحدث عن أصحاب له عن أبي ذر بلفظه و معناه ، و قال عمرو بن العاص رضي الله عنه : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و حشر الجن و الإنس و الدواب و الوحوش ، فإذا كان ذلك اليوم جعل الله القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء تنتطحها ، فإذا فرغ الله من القصاص بين الدواب قال لها كوني تراباً فيراها الكافر فيقول يا ليتني كنت تراباً ] .

و ذكر عبد الكريم الإمام أبو القاسم القشيري في التحبير له فقال : و في خبر الوحوش و البهائم تحشر يوم القيامة فتسجد لله سجدة فتقول الملائكة ليس هذا يوم سجود هذا يوم الثواب و العقاب و تقول البهائم هذا سجود شكر حيث لم يجعلنا الله من بني آدم و يقال أن الملائكة تقول للبهائم : لم يحشركم الله جل ثناؤه لثواب و لا لعقاب و إنما يحشركم تشهدون فضائح بني آدم . ذكره القشيري في اسمه المقسط الجامع ، و هذا قول ثابت فتأمله .

فصل : ظن بعض العلماء أن الصيام مختص بعامله موفراً له أجره و لا يؤخذ منه شيء لمظلمة ظلمها متمسكاً بقوله تعالى الصيام لي و أنا أجزي به

و أحاديث هذا الباب ترد قوله ، و أن الحقوق تؤخذ من سائر الأعمال صياماً كان أو غيره و قيل : إن النوم إذا لم يكن معلوماً لأحد و لا مكتوباً في الصحف هو الذي يستره الله و يخبؤه عليه ، حتى يكون له جنة من العذاب، فيطرحون أولئك عليه سيئاتهم فيذهب عنهم و يقيه الصوم فلا يضر أصحابها لزوالها عنهم و لا له لأن الصوم جنته. قال القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين : و هو تأويل حسن إن شاء تعالى و لا تعارض و الحمد لله .

باب

أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن آبائهم دنية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه في حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة صححه أبو محمد عبد الحق .