باب في إرضاء الله تعالى الخصوم يوم القيامة التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة

 

باب في إرضاء الله تعالى الخصوم يوم القيامة

روينا في الأربعين و ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم جالس إذ رأيته ضحك حتى بدت ثناياه ، فقيل له : مم تضحك يا رسول الله؟ قال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي ربي عز و جل فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من أخي ، فقال الله تعالى : أعط أخاك مظلمته فقال يا رب ما بقي من حسناتي شيء ، فقال يا رب فليحمل من أوزاري و فاضت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ثم قال إن ذلك اليوم ليوم يحتاج الناس فيه إلى أن تحمل عنهم أوزارهم ، ثم قال الله تعالى للطالب حقه ارفع بصرك فانظر إلى الجنان فرفع بصره ما أعجبه من الخير و النعمة فقال : لمن هذا يا رب ؟ فقال : لمن أعطاني ثمنه . قال و من يملك ثمن ذلك ؟ قال أنت . قال : بم إذاً ؟ قال بعفوك عن أخيك . قال يا رب فإني قد عفوت عنه . قال خذ بيد أخيك فأدخله الجنة . ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فاتقوا الله و أصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة .

و عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال : يجيء المؤمن يوم القيامة قد أخذه صاحب الدين فيقول ديني على هذا فيقول الله تعالى أنا أحق من قضى عن عبدي قال : فيرضى هذا من دينه و يغفر لهذا . و قال ابن أبي الدنيا ، و حدثني عبد الله بن محمد بن إسماعيل قال ، بلغني أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه بيعني ما يتحمل المتحملون من أجلي، و ما يكابدون في طلب مرضاتي أتراني أنسى لهم عملاً كيف و أنا أرحم الراحمين بخلقي . لو كنت معاجلاً بالعقوبة أحداً أو كانت العقوبة من شأني لعاجلت بها القانطين من رحمتي و لو يرى عبادي المؤمنون كيف استوهبهم ممن ظلموه ثم أحكم لمن وهبهم بالخلد المقيم في جواري إذاً ما اتهموم فضلي و كرمي .

فصل : قلت : و هذا لبعض الناس ممن أراد الله بها أن لا يعذبه بل يعفو عنه و يغفر له و يرضى عنه خصمه و قد يكون هذا في الظالمين الأوابين و هو قوله تعالى إنه كان للأوابين غفوراً و الأواب : الذي أقلع عن الذنب فلم يعد إليه . كذا تأوله أبو حامد ، و هو تأويل حسن أو يكون ذلك فيمن يكون له خبيثة حسنة من عمل صالح يغفر الله له به و يرضى خصماؤه كما تقدم ، و ظاهر حديث أنس الخصوص بذينك الرجلين لقوله رجلان ، و لفظ التثنية لا يقتضي الجمع إلا ما روي في الحديث : مثل المنافق كالشاة العابرة بين الغنمين خرجه مسلم و ليس هذا موضعه ، و لو كان ذلك في جميع الناس ما دخل أحد النار ، و كذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم ينادي مناد من تحت العرش يوم القيامة يا أمة محمد أما ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم و بقيت التبعات فتواهبوها و ادخلوا الجنة برحتمي ما دخل أحد النار و هذا واضح فتأمله .

باب أول من يحاسب أمة محمد صلى الله عليه و سلم

روى ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : نحن آخر الأمم و أول من يحاسب يقال : أين الأمة الأمية و نبيها ؟ فنحن الآخرون الأولون . و في رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما : فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرا محلجين من آثار الوضوء فتقول الأمم : كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها . خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده بمعناه و قد تقدم .

باب أول ما يحاسب عليه العبد من عمله: الصلاة و أول ما يقضى فيه بين الناس : الدماء ، و في أول من يدعى للخصومة

مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء أخرجه البخاري أيضاً و النسائي و الترمذي و قال : هذا حديث حسن صحيح . و للنسائي أيضاً عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة و أول ما يقضي بين الناس الدماء .

و في البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش قال أبو ذر و فيهم نزلت هذان خصمان اختصموا في ربهم الآية . و الخبر بهذا مشهور صحيح خرجه البخاري و مسلم و غيرهما .

و عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة قال ، حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في طائفة من أصحابه فيكون أول ما يقضى بينهم في الدماء و يأتي كل قتيل قتل في سبيل الله فيأمر الله كل من قتل فيحمل رأسه و تشخب أوداجه دماً فيقول : يا رب سل هذا فيم قتلني ؟ فيقول الله تعالى له ـ و هو أعلم ـ : فيم قتلته ؟ فيقول: رب قتلته لتكون العزة لي : فيقول الله تعالى : تعست ثم لا تبقى قتلة إلا قتل بها و لا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها و كان في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه و إن شاء رحمه . خرجه الغيلاني أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان عن أبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله البزار المعروف بالشافعي .

حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ، حدثنا أبو عاصم الضحاك ، عن مخلد ، حدثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد ، عن محمد بن كعب و خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس قال : سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : يأتي المقتول معلقاً رأسه بإحدى يديه متلبباً قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دماً حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه : هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل: تعست و يذهب به إلى النار .

و خرجه ابن المبارك موقوفاً على عبد الله بن مسعود قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم عن أبي وائل ، عن عبد الله فذكر معناه .

و خرجه الترمذي في جامعه قال ، حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال : حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء بن عمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته و رأسه بيده و أوداجه تشخب دماً يقول : يا رب قتلني هذا حتى يدينه من العرش قال : هذا حديث حسن غريب .

مالك عن يحيى بن سعيد قال : بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل المرء الصلاة ، فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله ، و إن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله .

قلت : و هذا الحديث و إن كان موقوفاً بلاغاً ، فقد رواه أبو داود الترمذي و النسائي مرفوعاً بهذا المعنى ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة. قال يقول ربنا عز و جل لملائكته : انظروا في صلاة عبدي أتمها أم أنقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة ، و إن كان انتقص منها شيئاً قال : انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك لفظ أبي داود و قال الترمذي حديث حسن غريب و خرجه ابن ماجه أيضاً .

فصل : قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله : أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون ذلك و الله أعلم فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها أو لم يحسن ركوعها و سجودها و لم يدر قدر ذلك ، و أما من تعمد تركها أو شيئاً منها ثم ذكرها فلم يأت بها عامداً و اشتغل بالتطوع عن أداء فرضه و هو ذاكر له فلا تكمل له فريضته تلك من تطوعه و الله أعلم .

و قد روي من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير عن عمرو بن قيس السكري ، عن عبد الله بن قرط ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه و سجوده و خشوعه زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم قال أبو عمرو : هذا لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من هذا الوجه و ليس بالقوي ، و إن كان صح كان معناه أخرج من صلاة قد أتمها عند نفسه و ليس في الحكم بتامة .

قلت : ينبغي للإنسان أن يحافظ على أداء فرضه فيصليه كما أمر من إتمام ركوع و سجود ، و حضور قلب . فإن غفل عن شيء من ذلك فيجتهد بعد ذلك في نفله و لا يتساهل فيه و لا في تركه ، و من لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى أن لا يحسن النفل لا جرم بل تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان و الخلل في التمام لخفة النفل عندهم و تهاونهم به ، و لعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه و يظن به العلم بنفله كذلك بل فرضه إذ ينقره نقر الديك، فكيف بالجهال الذيم لا يعلمون . و إذا كان هذا فكيف يكمل بهذا النفل ما نقص من الفرض هيهات هيهات ! فاعلموه أن الصلاة إذا كانت بهذه الصفة دخل صاحبها في معنى قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً ! و قال جماعة من العلماء : التضييع للصلاة هو أن لا يقيم حدودها من مراعاة وقت وطهارة و تمام ركوع و سجود و نحو ذلك و هو مع ذلك يصليها ، و لا يمتنع من القيام بها في وقتها و غير وقتها قالوا : فأما من تركها أصلاً و لم يصلها فهو كافر .

و روى الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع و السجود ، و قال : حديث حسن صحيح و العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و من بعدهم يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع و السجود .

قال الشافعي و أحمد و إسحاق : من لم يقم صلبه في الركوع و السجود فصلاته فاسدة لحديث النبي صلى الله عليه و سلم لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع و السجود .

و روى البخاري عن زيد بن وهب عن حذيفة ، و رأى رجلاً لا يتم ركوعه و لا سجوده ، فلما قضى صلاته قال له حذيفة : ما صليت و لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه و سلم . و أخرجه النسائي أيضاً عنه عن حذيفة أنه رأى رجلاً يصلي فخفف فقال له حذيفة : منذ كم تصلي هذه الصلاة ؟ قال منذ أربعين عاماً قال : ما صليت و لو مت و أنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة النبي ، ثم قال : إن الرجل ليخفف الصلاة و يتم و يحسن . و الأخبار في هذا المعنى كثيرة جداً قد أتينا عليها في غير هذا الباب و هي تبين لك المراد من قوله تعالى : أضاعوا الصلاة .

و روى النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته ، فإن وجدت تامة كتبت تامة ، و إن كان انتقص منها شيئاً قال : انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل له ما ضيع من فريضته من تطوعه ، ثم سائر الأعمال تجري على ذلك . و هذا نص . و قال أبو عمر رضي الله عنه : و من ضيعها فهو لما سواها أضيع .

قلت : و لا اعتبار بقول من قال إن الواجب من أركان الصلاة و من الفصل بين أركانها أقل ما ينطلق عليه الاسم و هو أبو حنيفة ، و أشار إلى ذلك القاضي عبد الوهاب في تلقينه ، و هو يروي عن ابن القاسم لأن من اقتصر على ذلك صدق عليه أنه نقر الصلاة ، فدخل في الذم المترتب على ذلك بقوله عليه السلام تلك صلاة المنافقين يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً . رواه مالك في موطئه و مسلم في صحيحه و الأحاديث الثابتة تقضي بفساد صلاته كما بيناه مع قوله عليه السلام : أما الركوع فعظموا فيه الرب ، و أما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم خرجه مسلم .

و في موطأ مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن النعمان بن مرة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما ترون في الشارب و السارق و الزاني قال : و ذلك قبل أن ينزل فيهم قالوا الله و رسوله أعلم . قال : هن فواحش و فيهن عقوبة و أسوأ السرقة الذي يسرق صلاته قالوا : يا رسول الله و كيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها و لا سجودها .

و روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال : حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح ، عن الأحوص بن حكيم ، عن خالد بن معدان ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أحسن الرجل الصلاة فأتم ركوعها و سجودها ، قالت : الصلاة حفظك الله كما حفظني فترفع ، و إذا أساء الصلاة فلم يتم ركوعها و لا سجودها قالت الصلاة : ضيعك الله كما ضيعتني ، فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه فمن لم يحافظ على أوقات الصلاة لم يحافظ على الصلاة ، كما أن من لم يحافظ على وضوئها و ركوعها و سجودها فليس بمحافظ عليها ، و من لم يحافظ عليها فقد ضيعها و من ضيعها فهو لما سواها أضيع كما أن من حافظ عليها حفظ دينه ، و لا دين لمن لا صلاة له .

باب منه

ابن ماجه ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول له ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن الله عبداً حجته قال : يا رب رجوتك و فرقت من الناس .

و رواه الفريابي قال : حدثنا سفيان بن زيد ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يحقرن أحدكم نفسه إذا رأى أمر الله عليه فيه مقال فلا يقول فيه فيقول يوم القيامة ما منعك إذا رأيت كذا و كذا أن تقول فيه ، فيقول له أي ربي خفت الناس ، فيقال : إياي كنت أحق أن تخاف، قال الوائلي أبو نصر ، و رواه أحمد بن عبد الله بن يونس أبو عبد الله اليربوعي الكوفي ، قال : حدثنا زهير قال : حدثنا عمر بن قيس عن عمرو بن مرة المعنى واحد ، و هذا محفوظ من الطريقين عن عمرو بن مرة و مخرجه من الكوفة .

باب منه

ذكر أبو نعيم الحافظ : حدثنا عبد الله محمد بن جعفر من أصل كتابه ، حدثنا عبد الله بن محمد بن زكريا ، حدثنا إسماعيل بن عمرو ، حدثنا مندل عن أسد بن عطاء ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يقفن أحدكم على رجل يضرب ظلماً ، فإن اللعنة تنزل من السماء على من حضره إذا لم تدفعوا عنه ، و لا يقفن أحدكم على رجل يقتل ظلماً ، فإن اللعنة تنزل من السماء على من حضره إذا لم تدفعوا عنه. هذا حديث غريب من حديث أسد و عكرمة لم يروه عنه فيما أعلم إلا مندل بن علي الغنوي.

باب ما جاء في شهادة أركان الكافر و المنافق عليهما و لقائهما الله عز و جل

قال الله تعالى : اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون و قال : يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون و قال : و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا الآية . و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة من حديث معاوية بن حيدة القرشي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الفدام و أول ما يتكلم من الإنسان فخذه و كفه و قد تقدم .

مسلم عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم نضحك فقال : هل تدرون لم أضحك ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم . قال : من مخاطبة العبد ربه ، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلا ، قال : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني قال : كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً و بالكرام الكاتبين شهوداً ، قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطق فتنطق بأعماله ، قال : ثم يخلى بينه و بين الكلام قال : فيقول بعداً لكن و سحقاً فعنكن كنت أناضل . الترمذي عن أبي سعيد و أبي هريرة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول : ألم أجعل لك سمعاً و بصراً و مالاً و ولداً ، و سخرت لك الأنعام ، و الحرث و ترأس و تربع فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا ؟ فيقول: لا . فيقول : اليوم أنساك كما أنسيتني . قال هذا حديث صحيح غريب ، و أخرجه مسلم عن أبي هريرة بأطول من هذا و قد تقدم .

البخاري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملك الأرض ذهباً كنت تفتدى به ؟ فيقول : نعم . فيقال له : قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك . و أخرجه مسلم و قال بدل قد كنت كذبت قد سئلت ما هو أيسر من ذلك .

فصل : قوله عليه السلام فأول مايتكلم من الإنسان فخذه يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون ذلك زيادة في الفضيحة و الخزي على ما نطق به الكتب في قوله : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق لأنه كان في الدنيا يجاهر بالفواحش و يخلو قلبه عندها من ذكر الله تعالى فلا يفعل ما بفعل خائفاً مشفقاً فيجزيه الله بمجاهرته بفحشه على رؤوس الأشهاد .

و الوجه الآخر : أن يكون هذا فيمن يقرأ كتابه و لا يعرف بما ينطق به بل يجحد فيختم الله على فيه عند ذلك ، و تنطق منه الجوارح التي لم تكن ناطقة في الدنيا فتشهد عليه سيئاته ، و هذا أظهر الوجهين يدل عليه أنهم يقولون لجلودهم أي لفروجهم في قول زيد بن أسلم . لم شهدتم علينا ؟ فتمردوا في الجحود فاستحقوا من الله الفضح و الإخزاء . نعوذ بالله منهما .

فصل : قوله [ و تركتك ترأس و تربع ] أي ترأس على قومك بأن يكون رئيساً عليهم و يأخذ الربع مما يحصل لهم من الغنائم و الكسب ، و كانت عادتهم أن أمراءهم كانوا يأخذون من الغنائم الربع و يسمونه المرباع قال شاعرهم :

 ‌ لك المرباع منها و الصفايا و حكمك و النشيطة و الفضول

و قال آخر :

منا الذي ربع الجيوش لصلبه عشرون و هو يعد في الأحياء

يقال : ربع الجيش يربعه إذا أخذ ربع الغنيمة . قال الأصمعي : ربع في الجاهلية و خمس في الإسلام .

و قوله : اليوم أنساك كما نسيتني أي اليوم أتركك في العذاب كما تركت عبادتي و معرفتي .

فإن قيل : فهل يلقى الكافر ربه و يسأله ؟ قلنا : نعم بدليل ما ذكرنا . و قد قال تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم في أحد التأويلين و قال : و لو ترى إذ وقفوا على ربهم و قال : أولئك يعرضون على ربهم و قال و عرضوا على ربك صفاً الآيتين . و قال : إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم و قال : و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم إلى قوله و ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون و الآي في هذا المعنى كثير .

فإن قيل : قد قال الله تعالى يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام و قال عليه السلام : و يخرج عنق من النار فيقول : وكلت بثلاث بكل جبار عنيد و كل من جعل مع الله إلهاً آخر و بالمصورين .

قلنا : هذا يحتمل أن يكون يكون بعد الوزن و الحساب و تطاير الكتب في اليمين و الشمال و تعظيم الخلق كما تقدم و يدل عليه قوله : و بالمصورين فإنهم كانوا موحدين فلا بد لهم من سؤال و حساب و بعده يكونون أشد الناس عذاباً ، و إن كانوا كافرين مشركين فيكون ذكرهم تكراراً في الكلام على أنا نقول :

قال بعض العلماء : ذكر الله تعالى الحساب جملة و جاءت الأخبار بذلك ، و في بعضها ما يدل على أن كثيراً من المؤمنين يدخلون الجنة بغير حساب ، فصار الناس إذاً ثلاث فرق : فرقة لايحاسبون أصلاً ، و فرقة تحاسب حساباً يسيراً ، و هما من المؤمنين ، و فرقة تحاسب حساباً شديداً يكون منها مسلم و كافر ، و إذا كان من المؤمنين من يكون أدنى إلى رحمة الله فلا يبعد أن يكون من الكفار من هو أدنى إلى غضب الله فيدخله النار بغير حساب .

و قد ذكر ابن المبارك في دقائقه عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أن بعد أخذ النار هؤلاء تنشر الصحف و توضع الموازين ، و تدعى الخلائق للحساب .

فإن قيل : فقد قال تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون و قال : و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون و قال : و لا يكلمهم الله و هذا يتناول بعمومه جميع الكفار .

قلنا : القيامة مواطن فموطن يكون فيه سؤال و كلام و موطن لا يكون ذلك فلا يتناقض الآي، و الأخبار و الله المستعان .

قال عكرمة : القيامة مواطن يسأل في بعضها و لا يسأل في بعضها . و قال ابن عباس : لا يسألون سؤالاً شفا و راحة ، و إنما يسألون سؤال تقريع و توبيخ لم عملتم كذا و كذا و القاطع لهذا قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون .

قال أهل التأويل عن لا إله إلا الله : و قد قيل إن الكفار يحاسبون بالكفر بالله الذي كان طول العمر دثارهم وشعارهم و كل دلالة من دلائل الإيمان خالفوها و عاندوها ، فإنهم يبكتون عليها و يسألون عنها عن الرسل و تكذيبهم إياهم لقيام الدلائل على صدقهم .

و قال تعالى : و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم ، و ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء ، إنهم لكاذبون * و ليحملن أثقالهم و أثقالاً مع أثقالهم و ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون و الآي في هذا المعنى كثيرة ، و من تأمل آخر سورة المؤمنين فإذا نفخ في الصور إلى آخرها تبين له الصواب في ذلك و الحمد لله على ذلك .

و ذكر ابن المبارك ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن بعد أخذ النار هؤلاء الثلاثة : تنشر الصحف و توضع الموازين و يدعى الخلائق للحساب . و شهر : ضغفه مسلم في كتابه و غيره .

فإن قيل : فقد ذكر اللالكائي في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت : لا يحاسب رجل يوم القيامة إلا دخل الجنة قالوا : و لأن الحساب إنما يراد للثواب و الجزاء و لا حسنات للكافر فيجازي عليها بحسابه و لأن المحاسب له هو الله تعالى ، و قد قال : و لا يكلمهم الله يوم القيامة .

قلنا : ما روي عن عائشة قد خالفها غيرها في ذلك للآيات و الأحاديث الواردة في ذلك و هو الصحيح ، و معنى [ لا يكلمهم الله ] أي بما يحبونه ، قال الطبري : و في التنزيل اخسؤوا فيها ولا تكلمون و قد قيل إن معنى قوله تعالى : و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان سؤال التعرف لتمييز المؤمنين من الكافرين . أي أن الملائكة لا تحتاج أن تسأل أحداً يوم القيامة أن يقال ما كان دينك و ما كنت تصنع في الدنيا حتى يتبين لهم بإخباره عن نفسه أنه مان مؤمناً أو كان كافراً . لكن المؤمنين يكونون ناضري الوجوه منشرحي الصدور ، و يكون المشركون سود الوجوه زرقاً مكروبين ، فهم إذا كلفوا سوق المجرمين إلى النار و تميزهم في الموقف كفتهم مناظرهم عن تعرف أديانهم ، و من قال هذا فيحتمل أن يقول إن الأمر يوم القيامة يكون بخلاف ما هو كائن قبله على ما وردت به الأخبار من سؤال الملكين الميت إذا دفن و انصرف الناس عنه فيسألونه عن ربه و دينه و نبيه . أي إذا كان يوم القيامة لم تسأل الملائكة عند الحاجة إلى تمييز فريق عن هذا لاستغنائهم بمناظرهم عما وراءها ، و من قاله يحتج بقوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون أخبر أنهم يسألهم عن أعمالهم وهذه الآية في الكافرين ، و من قال يسألهم عن أصل كفرهم ثم عن تجريدهم إياه كل وقت باستهزائهم بآيات الله تعالى و رسله، فقد سألهم عما كانوا يعملون . و ذلك هو المراد .

باب ما جاء في شهادة الأرض و الليالي و الأيام بما عمل فيها و عليها و في شهادة المال على صاحبه و قوله تعالى: و جاءت كل نفس معها سائق و شهيد

الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية يومئذ تحدث أخبارها قال : أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم . قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبداً أو أمةً بما عمل على ظهرها تقول : عمل يوم كذا كذا و كذا. فهذه أخبارها قال : هذا حديث حسن صحيح غريب .

أبو نعيم ، عن معاوية بن قرة ، عن معقل بن يسار ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه : يا ابن آدم أنا خلق جديد ، و أنا فيما تعمل عليك غداً شهيد فاعمل في خيراً أشهد لك به غداً فإني لو قد مضيت لم ترني أبداً . و يقول الليل مثل ذلك غريب من حديث معاوية تفرد عنه زيد العمى ، و لا أعلمه مرفوعاً عن النبي إلا بهذا الإسناد .

ابن المبارك ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : من سجد في موضع عن شجر أو حجر شهد له عند الله يوم القيامة قال : و أخبرني ابن أبي خالد رضي الله عنه قال : سمعت أبا عيسى يحيى بن رافع يقول : سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه : يقول : و جاءت سكرة الموت بالحق وقال تعالى : و جاءت كل نفس معها سائق و شهيد قال : سائق يسوقها إلى أمر الله و شاهد يشهد عليها بما عملت .

و خرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم و فيه : و إن هذا المال خضر حلو و نعم صاحب السلم هو لمن أعطى منه المسكين و اليتيم و ابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و إنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل و لا يشبع و يكون عليه شهيداً يوم القيامة ، و قد تقدم أنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن و لا إنس و لا شجر و لا حجر و لا مدر إلا شهد له يوم القيامة رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم . و رواه الأئمة مالك و غيره .

قال المؤلف : فتفكر يا أخي و إن كنت شاهداً عدلاً بأنك مشهود عليك في كل أحوالك من فعلك و مقالك و أعظم الشهود لديك المطلع عليك الذي لا تخفى عليه خافية عين و لا يغيب عنه زمان و لا أين . قال الله تعالى لا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه فاعمل عمل من يعلم أنه راجع إليه و فادم عليه يجازي على الصغير و الكبير و القليل و الكثير . سبحانه لا إله إلا هو .

باب لا يشهد العبد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة

ابن المبارك قال : أخبرنا رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد ابن أبي هلال، عن سليمان بن راشد أنه بلغه أن امرأً لا يشهد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ، و لا يمتدح عبداً في الدنيا إلا امتدحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد. قلت : هذا صحيح ، يدل على صحته من الكتاب قول الحق ستكتب شهادتهم و يسألون . و قوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد و الله أعلم .

باب ما جاء في سؤال الأنبياء و في شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم

قال الله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم و ما كنا غائبين ، و قال : فوربك لنسألنهم أجمعين . فيبدأ بالأنبياء عليهم السلام فيقول : ماذا أجبتم قيل : في تفسيرها كانوا قد علموا و لكن ذهبت عقولهم و عزبت أفهامهم و نسوا من شدة الهول و عظيم الخطب و صعوبة الأمر فقالوا : لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ثم يقربهم الله تعالى فيدعى نوح عليه السلام ، و يقال : إن الهيبة تأخذ بمجامع قلوبهم فيذهلون عن الجواب . ثم إن الله يثبتهم و يحدث لهم ذكراً فيشهدون بما أجابت به أممهم و يقال إنما قالوا ذلك تسليماً كما فعل المسيح في قوله تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب . و الأول أصح لأن الرسل يتفاضلون ، و المسيح من أجلهم لأنه كلمة الله و روحه ، قاله أبو حامد .

و خرج ابن ماجه ، حدثنا أبو كريب و أحمد بن سنان قالا : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يجيء النبي يوم القيامة و معه الرجل و يجيء النبي و معه الرجلان و يجيء النبي و معه الثلاثة ، و أكثر من ذلك فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم . فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم ؟ فيقولون : لا فيقال : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد و أمته فتدعى أمة محمد صلى الله عليه و سلم ، فيقال : هل بلغ هذا ؟ فيقولون : نعم فيقول : و ما علمكم بذلك ؟ فيقولون : أخبرنا نبينا صلى الله عليه و سلم بذلك أن الرسل قد بلغوا فصدقناه . قال فذلك قوله تعالى : و كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيداً .

و ذكره البخاري أيضاً بمعناه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك و سعديك يارب فيقول : هل بلغت ؟ فيقول : نعم فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير ، فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد و أمته فيشهدون أنه قد بلغ ، فذلك قوله : و كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيداً .

أخرجه ابن المبارك في رقائقه مرسلاً بأطول من هذا فقال : أخبرني رشدين ابن سعد قال : أخبرني ابن أنعم المغافري عن حبان بن أبي جبلة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل عليه السلام ، فيقول له ربه : ما فعلت في عهدي هل بلغت عهدي ؟ فيقول : نعم قد بلغت جبريل فيدعى جبريل عليه السلام فيقول : هل بلغك إسرافيل عهدي ؟ فيقول : نعم يا رب قد بلغني ، فيخلي عن إسرافيل ، و يقال لجبريل هل بلغت عهدي ؟ فيقول جبريل : نعم قد بلغت الرسل فيدعي الرسل فيقول : هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون : نعم . فيخلي عن جبريل ، ثم يقال للرسل هل بلغكم عهدي ؟ فيقولون : قد بلغنا أممنا ، فتدعى الأمم فيقال لهم : هل بلغكم الرسل عهدي ؟ فمنهم المصدق و منهم المكذب فتقول الرسل : إن لنا عليهم شهوداً يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك فيقول : من يشهد لكم ؟ فيقولون محمد و أمته فتدعى أمة محمد فيقول : تشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه ؟ فيقولون : نعم ، رب شهدنا أن قد بلغوا ، فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب : كيف تشهدون على من لم تدركوا ؟ فيقولون : ربنا بعثت إلينا رسولا ، و أنزلت إلينا عهدك و كتابك و قصصك علينا إنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا ، فيقول الرب : صدقوا . فذلك قوله عز و جل : و كذلك جعلناكم أمة وسطاً ، و الوسط العدل لتكونوا شهداء على الناس ، و يكون الرسول عليكم شهيد قال ابن أنعم : فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد إلا من كان في قلبه حنة على أخيه .

قلت : و ذكر هذا الخبر أبو محمد في كتاب العاقبة له ، فذكر بعد قوله : و الوسط العدل ، ثم يدعى غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ثم ينادي كل إنسان باسمه واحداً واحداً و يسألون واحداً واحداً ، و تعرض أعمالهم على رب العزة جل جلاله قليلها و كثيرها حسنها و قبيحها .

قال المؤلف : و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أن هذا يكون بعد ما يحكم الله تعالى بين البهائم و يقتص للجماء من القرناء و يفصل بين الوحش و الطير ، ثم يقول لهم : كونوا تراباً فتسوى بهم الأرض و حينئذ يود الذين كفروا و عصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض و يتمنى الكافر فيقول : يا ليتني كنت تراباً . ثم يخرج النداء من قبل الله تعالى : أين اللوح المحفوظ ؟ فيؤتى به له هرج عظيم ، فيقول الله تعالى : أين ما سطرت فيك من توارة و زبور و إنجيل و فرقان ؟ فيقول : يارب نقله مني الروح الأمين فيؤتى به يرعد و تصك ركبتاه ، فيقول الله تعالى : يا جبريل هذا اللوح المحفوظ يزعم أنك نقلت منه كلامي و وحيى أصدق ؟ قال : نعم يا رب . قال : فما فعلت فيه ؟ قال : أنهيت التوراة إلى موسى ، و أنهيت الزبور إلى داود و أنهيت الإنجيل إلى عيسى ، و أنهيت الفرقان إلى محمد عليه السلام ، و أنهيت إلى كل رسول رسالته و إلى أهل الصحف صحائفهم ، فإذا بالنداء يا نوح فيؤتى به يرعد و تصطك فرائصه فيقول : يانوح زعم جبريل أنك من المرسلين , قال : صدق ، فقيل له : ما فعلت مع قومك ؟ قال دعوتهم ليلاً نهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ، فإذا بالنداء يا قوم نوح فيؤتى بهم زمرة واحدة . فيقال : هذا أخوكم نوح يزعم أنه بلغكم الرسالة . فيقولون : يا ربنا كذب ما بلغنا من شيء و ينكرون الرسالة ، فيقول الله : يا نوح ألك بينة ؟ فيقول : نعم يا رب بينتي عليهم محمد و أمته ، فيقولون : كيف و نحن أول الأمم و هم آخر الأمم ؟ فيؤتى بالنبي صلى الله عليه و سلم فيقول يا محمد هذا نوح يستشهد فيشهد له تبليغ الرسالة فيقرأ صلى الله عليه و سلم إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه إلى آخر السورة ، فيقول الجليل جل جلاله : قد وجب عليكم الحق و حقت كلمة العذاب على الكافرين فيؤمر بهم زمرة واحدة إلى النار من غير وزن عمل و لا حساب ، ثم ينادي : أين هود ؟ فيفعل قوم هود مع هود كما فعل قوم نوح مع نوح فيستشهد عليهم بالنبي صلى الله عليه و سلم و خيار أمته فيتلو كذبت عاد المرسلين فيؤمر بهم إلى النار مثل أمة نوح ، ثم ينادي : يا صالح و يا ثمود فيأتون فيستشهد صالح عندما ينكرون فيتلوا النبي صلى الله عليه و سلم كذبت ثمود المرسلين إلى آخر القصة فيفعل بهم مثلهم و لا يزال يخرج أمة بعد أمة قد أخبر عنهم القرآن بياناً و ذكرهم فيه إشارة كقوله تعالى و قروناً بين ذلك كثيراً و قوله ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها و قوله و الذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات و في ذلك تنبيه على أولئك القرون الطاغية كقوم تارخ و تارح و دوحاو أسرا و ما أشبه ذلك حتى ينتهي النداء إلى أصحاب الرس و تبع و قوم إبراهيم ، و في كل ذلك لا يرفع لهم ميزان و لا يوضع لهم حساب و هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، و الترجمان يكلمهم لأن الرب تعالى من نظر إليه و كلمه لم يعذبه ، ثم ينادي بموسى ابن عمران فيأتي و هو كأنه ورقة في ريح عاصف قد اصفر لونه و اصطكت ركبتاه فيقول له : يا ابن عمران جبريل يزعم أنه بلغك الرسالة و التوراة فتشهد له بالبلاغ ؟ قال : نعم : قال فارجع إلى منبرك واتل ما أوحى إليك من ربك فيرقى المنبر ، ثم يقرأ فينصت له كل من في الموقف فيأتي بالتوراة غضة طرية على حسنها يوم أنزلت حتى تتوهم الأحبار أنهم ما عرفوها يوماً ثم ينادي يا داود فيأتي و هو يرعد و كأنه ورقة في ريح عاصف تصطك ركبتاه فيصفر لونه، فيقول الله جل ثناؤه يا داود : زعم جبريل أنه بلغك الزبور فتشهد له البلاغ ؟ فيقول : نعم يا رب فيقال له : ارجع إلى منبرك واتل ما أوحى إليك . فيرقى ثم يقرأ و هو حسن الناس صوتاً. و في الصحيح أنه صاحب المزامير . ثم ينادي المنادي أين عيسى بن مريم ؟ فيؤتى به على باب المرسلين فيقول : أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله ثم يحمد تحميداً ما شاء الله تعالى و يثنى عليه كثيراً ثم يعطف على نفسه بالذم و الاحتقار و يقول سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ، فيضحك الله و يقول هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم يا عيسى ارجع إلى منبرك واتل الإنجيل الذي بلغك جبريل ، فيقول : نعم ثم يرقى و يقرأ فتشخص إليه الرؤوس لحسن ترديده و ترجيعه فإنه أحكم الناس به رواية فيأتي به غضاً طرياً حتى يظن الرهبان أنهم ما عملوا به قط ، ثم ينقسم قومه فرقتين المجرمون مع المجرمين و المؤمنون مع المؤمنين . ثم يخرج النداء أين محمد ؟ فيؤتى به صلى الله عليه و سلم فيقول يا محمد هذا جبريل يزعم أنه بلغك القرآن ، فيقول : نعم يا رب فيقال له ارجع إلى منبرك و اقرأ فيتلوا صلى الله عليه و سلم القرآن فيأتي به غضاً طريا له حلاوة و عليه طلاوة و يستبشر به المتقون و إذا وجوههم ضاحكة مستبشرة و المجرمون و جوههم مغبرة مقترة فإذا تلا النبي القرآن توهمت الأمة أنهم ما سمعوه قط .

و قد قيل للأصمعي تزعم أنك أحفظهم لكتاب الله قال : يا ابن أخي يوم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم كأني ما سمعته ، فإذا فرغت قراءة الكتب خرج النداء من قبل سرداقات الجلال : و امتازوا اليوم أيها المجرمون فيرتج الموقف و يقوم فيه روع عظيم و الملائكة قد امتزجت بالجن و الجن بيني آدم و الكل لجة واحدة ثم يخرج النداء : يا آدم ابعث بعث النار ، فيقول : كم يا رب ؟ فيقال له : من كل ألف تسع مائة و تسعة و تسعون إلى النار و واحد إلى الجنة على مايأتي بيانه ، فلا يزال يستخرج من سائر الملحدين و الغافلين و الفاسقين حتى لا يبقى إلا قدر حفنة الرب كما قال الصديق رضي الله عنه : نحن حفنات بحفنات الرب سبحانه و تعالى ، على مايأتي إن شاء الله تعالى .