باب ما جاء في الشهداء عند الحساب التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة

 

باب ما جاء في الشهداء عند الحساب

قال العلماء : و تكون المحاسبة بمشهد من النبيين و غيرهم قال الله تعالى و جيء بالنبيين و الشهداء و قضي بينهم بالحق و قال فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا . و شهيد كل أمة نبيها . و قيل إنهم كتبة الأعمال و هو الأظهر فتحضر الأمة و رسولها ، فيقال للقوم : ماذا أجبتم المرسلين ، و يقال للرسل ماذا أجبتم ؟ فتقول الرسل لا علم لنا على ما تقدم في الباب قبل ، ثم يدعى كل واحد على الانفراد فالشاهد عليه صحيفة عمله و كاتبها فإنه قد أخبر في الدنيا أن عليه ملكين يحفظان أعماله و ينسخانها.

و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أن المنادي ينادي من قبل الله لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب ، فيستخرج لهم كتاب عظيم يسد ما بين المشرق و المغرب فيه جميع أعمال الخلائق فما صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضراً و لا يظلم ربك أحداً ، و ذلك أن أعمال الخلائق تعرض على الله في كل يوم فيأمر الكرام البررة أن ينسخوها في ذلك الكتاب العظيم و هو قوله تعالى إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ثم ينادي بهم فرداً فرداً فيحاسب كل واحد منهم ، فإذا الأقدام تشهد و اليدان . و هو قوله تعالى يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون و قد جاء في الخبر أن رجلاً منهم يوقف بين يدي الله تبارك و تعالى فيقول له : يا عبد السوء كنت مجرماً عاصياً ، فيقول: ما فعلت ؟ فيقال له : عليك بينة فيؤتى بحفظته فيقول كذبوا علي فتشهد جوارحه عليه فيؤمر به إلى النار ، فيجعل يلوم جوارحه ، فتقول له : ليس عن اختيارنا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء و قد تقدم هذا المعنى مستوفى ، وتقدم أن الأرض و الأيام و الليالي و المال ممن تشهد ، و إذا قال الكافر لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني ختم علي فيه فتشهد أركانه كما تقدم .

باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه و سلم على أمته

ابن المبارك ، أخبرنا رجل من الأنصار ، عن المنهال بن عمرو ، حدثنا أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه و سلم أمته غدوة و عشية فيعرفهم بسماهم و أعمالهم فلذلك يشهد عليهم يقول الله تبارك و تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيداً .

فصل : قلت : قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله تعالى يوم الخميس و يوم الأثنين ، و على الأنبياء و الآباء و الأمهات يوم الجمعة و لا تعارض ، فإنه يحتمل أن يخص نبينا عليه السلام بالعرض كل يوم و يوم الجمعة مع الأنبياء و الله أعلم .

باب ما جاء في عقوبة مانعي الزكاة و فضيحة الغادر و الغال في الموقف و قت الحساب

مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من صاحب ذهب و لا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صحفت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه و جبينه و ظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النار . قيل يا رسول الله : فالإبل ؟ قال : و لا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها و من حقها حلبها يوم و ردها إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أو فر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها و تعضه بأفواهها قيل : يا رسول الله فالبقر و الغنم ؟ قال : و لا صاحب بقر و لا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء و لا جلحاء و لا غضباء تنطحه بقرونها و تطؤه بأظلافها ، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النار و ذكر الحديث . أخرجه البخاري بمعناه .

و روى مالك موقوفاً و النسائي و البخاري مرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا و لا يحسبن الذين يبخلون الآية ، وذكر مسلم من حديث جابر قال و لا صاحب كنز لا يؤدي فيه حقه إلا جاء يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه فاتحاً فاه فإذا أتاه فر منه فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني فإذا رأى أن لا بد له منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل و ذكر الحديث .

و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فذكر الغلول وعظم أمره ثم قال : لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله : أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك أخرجه البخاري أيضاً .

و عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا جمع الله الأولين و الآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان .

و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة و ذكر أبو داود الطيالسي قال : حدثنا قرة بن خالد ، عن عبد الملك بن عمير ، عن رافع بن شداد ، عن عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا آمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء غدر يوم القيامة

فصل : علماؤنا رحمهم الله في قوله تعالى و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة أن ذلك على الحقيقة كما بينه صلى الله عليه و سلم أي يأت به حاملاً له على ظهره و رقبته معذباً بحمله و ثقله و مرعوباً بصوته و موبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد ، و كذا مانع الزكاة كما في صحيح الحديث .

قال أبو حامد : فمانع زكاة الإبل يحمل بعيراً على كاهله له رغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم ، و مانع زكاة البقر يحمل ثوراً على كاهله له خوار و ثقل يعدل الجبل العظيم ، و مانع زكاة الغنم يحمل شاة لها ثغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم و الرغاء و الخوار و الثغاء كالرعد القاصف ، و مانع زكاة الزرع يحمل على كاهله أعدالاً قد ملئت من الجنس الذي كان يبخل به براً كان أو شعيراً أثقل ما يكون ينادي تحته بالويل و الثبور ، و مانع زكاة المال يحمل شجاعاً أقرع له زبيبتان و ذنبه قد انساب في منخريه و استدارت بجيده و ثقل على كاهله كأنه طوق بكل و حي في الأرض و كل واحد ينادي مثل هذا فتقول الملائكة هذا ما بخلتم به في الدنيا رغبة فيه وشحاً عليه و هو قوله تعالى سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة .

قلت : و هذه الفضيحة التي أوقعها الله بالغال و مانعي الزكاة نظير الفضيحة التي يوقعها بالغادر ، و جعل الله هذه المعاقبات حسب ما يعهده البشر و يفهمونه ألا ترى إلى قول الشاعر:

أسمى و يحك هل سمعت بغدرة رفع اللواء لنا بها في المجمع

فكانت العرب ترفع للغادر لواء في المحافل و مواسم الحج ، و كذلك يطاف بالجاني مع جنايته، و ذهب بعض العلماء إلى أن ما يجيء به الغال يحمله عبارة عن وزر ذلك و شهرة الأمر أي يأتي يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل يعيراً له رغاء أو فرساً له حمحمة .

قلت : و هذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز و التشبيه ، و قد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بالحقيقة فهو أولى . و قد روى أبو داود عن سمرة بن جندب قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالاً فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسها و يقسمها ، فجاء رجل يوماً بعد النداء بزمام من شعر ، فقال يا رسول الله : هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة . قال : أسمعت بلالاً ثلاثاً ؟ قال : نعم قال : فما منعك أن تجيء به فاعتذر إليه فقال كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك

فصل : و روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن الحجر ليرن لسبع خلفات فيلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفاً ، و يؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به قال فهو قول الله تعالى و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ذكره علي بن سليمان المرادي في الأربعين له . و قوله : يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة دليل على أن في الآخرة للناس ألوية ، فمنها ألوية خزي و فضيحة يعرف بها أهلها ، و منها ألوية حمد و ثناء و تشريف و تكريم . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لواء الحمد بيدي . و روي لواء الكرم و قدم و تقدم .

و روى الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار فعلى هذا من كان إماماً و رأساً في أمر ما معروفاً به فله لواء يعرف به خيراً كان أو شراً ، و قد يجوز أن يكون للصالحين الأولياء ألوية يعرفون بها تنويهاً بهم و إكراماً لهم ، و الله أعلم . و إن كانوا غير معروفين قال النبي صلى الله عليه و سلم رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره و قال إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي أخرجهما مسلم .

و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة : و في الحديث الصحيح أن أول ما يقضي الله فيه الدماء ، و أول من يعطى الله أجورهم الذين ذهبت أبصارهم ينادى يوم القيامة بالمكفوفين فيقال لهم أنتم أحرى أحق من ينظر إلينا ثم يستحي الله تعالى منهم و يقول لهم: اذهبوا إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية و تجعل بيد شعيب عليه السلام فيصير أمامهم و معهم ملائكة النور ما لا يحصى عددهم إلا الله تعالى يزفونهم كما تزف العروس ، فيمر بهم على الصراط كالبرق الخاطف و صفة أحدهم الصبر و الحلم كابن عباس و من ضاهاه من الأئمة ثم ينادي أين أهل البلاء ؟ و يريد المجذومين فيؤتى بهم فيحييهم الله بتحية طيبة بالغة فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء و تجعل بيد أيوب عليه السلام فيصير أمامهم ذات اليمين ، و صفة المبتلى صبر و حلم كعقيل بن أبي طالب و من ضاهاه من الأئمة ثم ينادي : أين الشباب المتعففون ؟ فيؤتى بهم إلى الله فيرحب بهم نعماً و يقول ما شاء الله أن يقول ، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء ثم تجعل في يد يوسف عليه السلام و يصير أمامهم إلى ذات اليمين ، و صفة الشباب صبر و علم و حلم كراشد بن سليمان و من ضاهاه من الأئمة ، ثم يخرج النداء أين المتحابون في الله ؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى فيرحب بهم و يقول ما شاء الله أن يقول ، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين ، و صفة المتحاب في الله صبر و علم و حلم لا يسخط و لا يسيء من رضى الأحوال الدنيوية كأبي تراب أعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه و من ضاهاه من الأئمة ، ثم يخرج النداء أين الباكون ؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى فتوزن دموعهم و دم الشهداء و مداد العلماء فيرجع الدمع فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية ملونة لأنهم بكوا في أنواع مختلفة هذا بكى خوفاً و هذا بكى طمعاً و هذا بكى ندماً و تجعل بيد نوح عليه السلام ، فتهم العلماء بالتقدم عليهم و يقولون علمنا بكاءهم فإذا النداء على رسلك يا نوح فتوقف الزمرة ثم يوزن مداد العلماء فيرجع دم الشهداء فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية مزعفرة و تجعل في يد يحيى عليه السلام ، ثم ينطلق أمامهم فيهم العلماء بالتقدم عليهم و يقولون عن علمنا قاتلوا فنحن أحق بالتقدم ، فيضحك لهم الجليل جل جلاله و يقول لهم أنتم عندي كأنبيائي أشفعوا فيمن تشاءون ، فيشفع العالم في جيرانه و إخوانه و يأمر كل واحد منهم ملكاً ينادي في الناس : ألا إن فلاناً العالم قد أمر له أن يشفع فيمن قضى له حاجة أو أطعمه لقمة حين جاع أو سقاه شربة ماء حين عطش فليقم إليه فإنه يشفع له.

و في الصحيح أول من يشفع المرسلون ، ثم النبيون ، ثم العلماء و يعقد لهم راية بيضاء و تجعل بيد إبراهيم عليه السلام ، فإنه أشد المرسلين مكاشفة ثم ينادي : أين الفقراء ؟ فيؤتى بهم إلى الله عز و جل فيقول لهم مرحباً بمن كانت الدنيا سبحنهم ، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية صفراء و تجعل في يد عيسى بن مريم عليه السلام و يصير إلى ذات اليمين ، ثم ينادي أين الأغنياء ؟ فيؤتى بهم إلى الله عز و جل فيعدد عليهم ما خولهم فيه خمسمائة عام، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية ملونة و تجعل بيد سليمان عليه السلام و يصير أمامهم في ذات اليمين .

و في الحديث : أن أربعة يستشهد عليهم بأربعة : ينادى بالأغنياء و أهل الغبطة فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة الله ؟ فيقولون : أعطانا الله ملكاً و غبطة شغلنا عن القيام بحقه في دار الدنيا فيقال لهم : من أعظم ملكاً : أنتم أم سليمان ؟ فيقولون : بل سليمان . فيقال : ما شغله ذلك عن القيام بحق الله و الدأب في ذكره . ثم يقال : أين أهل البلاء ؟ فيؤتى بهم أنواعاً فيقال لهم : أي شيء شغلكم عن عبادة الله تعالى ؟ فيقولون : ابتلانا الله في دار الدنيا بأنواع من الآفات و العاهات شغلتنا عن ذكره و القيام بحقه فيقال لهم : من أشد بلاء : أنتم أم أيوب ؟ فيقولون بل أيوب .فيقال لهم : ما شغله ذلك عن حقنا و الدأب لذكرنا ثم ينادي : ابن الشباب العطرة و المماليك فتقول الشباب : أعطانا الله جمالاً و حسناً فتناً به فكنا مشغولين عن القيام بحقه و كذلك المماليك فيقولون : شغلنا رق العبودية في الدنيا فيقال لهم : أنتم أكثر جمالاً أم يوسف عليه السلام . فلقد كان في رق العبودية ما شغله ذلك عن القيام بحقنا و لا الدأب لذكرنا ثم ينادي : أين الفقراء ؟ فيؤتى بهم أنواعاً فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة الله تعالى ؟ فيقولون : ابتلانا الله في دار الدنيا بفقر شغلنا فيقال لهم : من أشد فقراً . . أنتم أم عيسى عليه السلام ؟ ! فيقولون : بل عيسى فيقول لهم : ما شغله ذلك عن القيام بحقنا و الدأب لذكرنا . . . فمن بلى بشيء من هذه الأربع فليذكر صاحبه . .

فصل : و قوله هذه غدرة فلان ابن فلان دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم و أسماء آبائهم و قد تقدم هذا في غير موضع ، و في هذا رد على من قال إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك ستراً على آبائهم ، و هذا الحديث خلاف قولهم . خرجه البخاري و مسلم و حسبك .

فصل : و قوله فيكوي بها جنبه الحديث إنما خص الجنب و الجبهة و الظهر بالكي لشهرته في الوجه و شناعته ، و في الجنب و الظهر لأنه آلم و أوجع ، و قيل خص الوجه لتقطيبه في وجه السائل أولاً و الجنب لأزوراره عن السائل ثانياً و الظهر لانصرافه إذا راد في السؤال و أكثر منه ، فرتب الله تعالى هذه العقوبات في هذه الأعضاء لأجل ذلك و الله أعلم .

و قالت الصوفية : لما طلبوا الجاه و المال شان الله وجوههم ، و لما طووا كشحاً عن الفقير إذ جالسهم كويت جنوبهم و لما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها و اعتماداً عليها كويت ظورههم .

فصل : و قوله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قيل : معناه لو حاسب فيها غير الله تعالى و إنما هو سبحانه و تعالى يفرغ منه في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا . و قيل : قدر مواقفهم للحساب عن الحسن و قال ابن اليمان كل موقف منها ألف سنة .

و في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : و الذي نفسي بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة و قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري و ذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال : يقصر يومئذ على المؤمن حتى يكون كوقت الصلاة .

و في الحديث لا ينتصف النهار حتى يستقر أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار ذكره ابن عزير في غريب القرآن له . و بطح : ألقي على وجهه . قاله بعض المفسرين . و قال أهل اللغة : البطح : هو البسط كيفيما كان غير الوجه أو على الوجه ، و منه سميت بطحاء مكة لانبساطها ، و بقاع قرقر أي موضع مستو واسع و أصل القاع : الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء و جمعه قيعان ، و العقصاء : الملتوية القرن . و الجلحاء : التي لا قرن لها. و العضباء : المكسورة داخلة القرن يريد : إنها كلها ذوات قرون صحاح و يمكن بها النطح و الطعن حتى يكون أشد لألمه و أبلغ في عذابه ، و الله أعلم .

باب منه و ذكر الولاة

ذكر الغيلاني أبو طالب قال : حدثنا أبو بكر الشافعي قال : حدثنا محمد بن غالب قال : حدثنا أمية بن بسطام ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا روح بن القاسم ، عن ابن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة حتى يفكه الله بعدله أو يوبقه بجرمه و قال عمر لأبي ذر رضي الله عنهما : حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : سمعته يقول : يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ به على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقى منه مفصل إلا زال عن مكانه ، فإن كان مطيعاً لله في عمله عما مضى فيه ، و إن كان عاصياً لله عز و جل انحرف به الجسر فهوى به في جهنم مقدار خمسين عاماً فقال عمر : من يطلب العمل بعد هذا يا أبا ذر ؟ قال : من سلت الله أنفه و ألصق خذه بالتراب ذكره أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله .

و روى الأئمة ، عن أبي حميد الساعدي ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه استعمل رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فجاء فقال : هذا لكم و هذا أهدي لي ، فقام النبي صلى الله عليه و سلم على المنبر فحمد الله و أثنى عليه و قال : ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم و هذا أهدي لي أفلا أجلس في بيت أبيه و أمه فينظر أيهدي إليه أم لا لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيراً فله رغاء ، و إن كان بقرة فلها خوار أو شاة تيعر ، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ، ثم قال : اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت و روى أبو داود عن بريدة عن النبي صلى الله عليه و سلم من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول .

باب ما جاء في حوض النبي صلى الله عليه و سلم في الموقف و سعته و كثره أوانيه و ذكر أركانه و من عليها

ذهب صاحب القوت و غيره إلى أن حوض النبي صلى الله عليه و سلم إنما هو بعد الصراط، و الصحيح أن للنبي صلى الله عليه و سلم حوضين : أحدهما في الموقف قبل الصراط ، و الثاني في الجنة و كلاهما يسمى كوثرا على ما يأتي ، و الكوثر في كلام العرب الخير الكثير، و اختلف في الميزان و الحوض أيهما قبل الآخر ، فقيل : الميزان قبل، و قيل : الحوض . قال أبو الحسن القابسي : و الصحيح أن الحوض قبل .

قلت : و المعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم كما تقدم ، فيقدم قبل الصراط و الميزان و الله أعلم، و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة ، و حكى بعض السلف من أهل التصنيف : أن الحوض يورد بعد الصراط و هو غلط من قائله . قال المؤلف : هو كما قال .و قد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل رجل من بيني و بينهم فقال : هلم فقلت إلى أين ؟ فقال : إلى النار و الله ، قلت ما شأنهم فقال إنهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة أخرى حتى إذا عرفتهم خرج من بيني و بينهم رجل فقال لهم : هلم فقلت إلى أين ؟ قال إلى النار و الله . قلت : ما شأنهم قال إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم .

قلت : فهذا الحديث مع صحته أدل دليل على أن الحوض يكون في الموقف قبل الصراط ، لأن الصراط إنما هو جسر على جهنم ممدود يجاز عليه ، فمن جازه سلم من النار على ما يأتي ، و كذا حياض الأنبياء عليهم السلام تكون أيضاً في الموقف على ما يأتي .

و روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوقوف بين يدي الله تعالى هل فيه ماء ؟ قال : أي و الذي نفسي بيده إن فيه لماء و إن أولياء الله تعالى ليردون حياض الأنبياء و يبعث الله سبعين ألف ملك بأيديهم عصي من نار يذودون الكفار عن حياض الأنبياء .

مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ما آنية الحوض ؟ قال : و الذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء و كواكبها في الليلة المظلمة المصحية ، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ ، آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ ، عرضه مثل طوله ، ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضاً من الثلج و أحلى من العسل .

و عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إني لبعقر حوضي أذود الناس لأهل اليمين أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم فسئل عن عرضه فقال : من مقامي إلى عمان . و سئل عن شرابه فقال : أشد بياضاً من الثلج و أحلى من العسل ، يغت فيه ميزابان من الجنة أحدهما من ذهب و الأخر من ورق . في غير كتاب مسلم يعب فيه ميزابان من الكوثر الحديث . و في أخرى ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليه قدح .

مسلم عن أنس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفي إغفاءه ، ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا : ما أضحك يا رسول الله ؟ قال : نزلت علي آنفاً سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك و انحر * إن شانئك هو الأبتر ثم قال : أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم . قال : فإنه نهر و عدنيه ربي عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم ، فيختلج العبد منهم فأقول : يا رب إنه من أمتي ، فيقال : ما تدري ما أحدث بعدك . و في رواية أخرى : ما أحدث .

و عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حوضي مسيرة شهر ، و زواياه سواء، و ماؤه من الورق ، و ريحه أطيب من المسك ، كيزانه كنجوم السماء من ورد فشرب منه لم يظمأ بعده أبداً . أخرجه البخاري .

و عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أمامكم حوضاً كما بين جرباً و أذرح فيه أباريق كنجوم السماء من ورد فشرب منه لم يظمأ بعدها أبداً .

قال عبيد الله فسألته فقال قريتين بالشام بينهما مسيرة ثلاث . أخرجه البخاري .

و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن حوضي أبعد من أيلة إلى عدن لهو أشد بياضاً من الثلج و أحلى من العسل باللبن ، و لآنيته أكثر من عدد النجوم و إني لأصد الناس كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه ، قالوا : يا رسول الله أتعرفنا يومئذ ؟ قال : نعم لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غير محجلين من أثر الوضوء .

ابن ماجه ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن لي حوضاً ما بين الكعبة ، و بيت المقدس أبيض مثل اللبن آنيته عدد نجوم السماء ، و إني لأكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة .

فصل : ظن بعض الناس أن هذه التحديات في أحاديث الحوض اضطراب و اختلاف و ليس كذلك ، و إنما تحدث النبي صلى الله عليه و سلم بحديث الحوض مرات عديدة و ذكر فيها تلك الألفاظ المختلفة مخاطباً لكل طائفة بما كانت تعرف من مسافات مواضعها ، فيقول لأهل الشام ما بين أذرح و جرباً ، و لأهل اليمن من صنعاء إلى عدن . و هكذا و تارة آخرى يقدر بالزمان فيقول : مسيرة شهر ، و المعنى المقصود أنه حوض كبير متسع الجوانب و الزوايا فكان ذلك بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهات فخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها ، و الله أعلم .

و لا يخطر ببالك أو يذهب وهمك إلى أن الحوض يكون على وجه هذه الأرض و إنما يكون وجوده في الأرض المبدلة على مسامتة هذه الأقطار أو في الموضع تكون بدلاً من هذه المواضع في هذه الأرض و هي أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم ، و لم يظلم على ظهرها أحد قط كما تقدم ، تطهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء ، و يغت : معناه يصب ، و يشخب أي يسيل ، و العقر مؤخر الحوض حيث تقف الإبل إذا وردته ، و تسكن قافه و تضم فيقال : عقر و عقر كعسر و عسر قاله في الصحاح . و الهمل من النعم الضوال من الإبل واحدها هامل قاله الهروي و المعنى أن الناجي منهم قليل كهمل النعم ، و يقال : إن على أحد أركانه أبا بكر ، و على الثاني عمر ، و على الثالث عثمان ، و على الرابع عليا .

قلت : هذا لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع و قد رفعه صاحب الغيلانيات من حديث حميد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن على حوضي أربعة أركان . فأول ركن منها في يد أبي بكر ، و الركن الثاني في يد عمر ، و الركن الثالث في يد عثمان ، و الركن الرابع في يد علي رضي الله عنهم أجمعين .

فمن أحل أبا بكر و أبغض عمر لم يسقه أبو بكر و من أحب عمر و أبغض أبا بكر لم يسقه عمر ، و من أحب عثمان و أبغض علياً لم يسقه عثمان ، و من أحب علياً و أبغض عثمان لم يسقه علي . و ذكر الحديث .

باب منه

ذكر أبو داود الطيالسي : قال : حدثنا شعبة قال : أخبرني عمرو بن مرة قال : سمعت أبا حمزة عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما أنتم بجزء من مائة ألف أو سبعين ألف جزء ممن يرد على الحوض ، و كانوا يومئذ ثمانمائة أو تسعمائة . و الله أعلم .

باب فقراء المهاجرين أول الناس و رود الحوض على النبي صلى الله عليه و سلم

ابن ماجه عن الصنابجي الأحمسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا إني فرطكم على الحوض و إني مكاثر بكم الأمم فلا تقتتلن بعدي .

و خرج عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن حوضي ما بين عدن إلى إيلة أشد بياضاً من اللبن و أحلى من العسل أكاويبه كعدد نجوم السماء من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً ، و أول الناس من يرد على الحوض فقراء المهاجرين : الدنس ثيابا الشعث رؤوساً الذين لا ينكحون المتنعمات و لا تفتح لهم أبواب السدد قال : فبكى عمر حتى ابتلت لحيته فقال : لكني نكحت المتنعمات و فتحت لي أبواب السدد ، لا جرم أني لا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ ، و لا أدهن رأسي حتى تشعث . خرجه الترمذي .

عن أبي سلام الحبشي قال : بعث إلي عمر بن عبد العزيز فحملت على البريد ، قال : فلما دخل عليه ، قال يا أمير المؤمنين : لقد شق مركبي البريد فقال : يا أبا سلام ما أردت أن أشق عليك و لكن بلغني عنك حديث تحدثه عن ثوبان عن النبي في الحوض فأحببت أن تشافهني به.

قال أبو سلام : حدثني ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد فذكره بمعناه و قال حديث حسن غريب .

و قال أنس بن مالك رضي الله عنه : [ أول من يرد الحوض على رسول الله صلى الله عليه و سلم الذابلون الناحلون السائحون الذي إذا جنهم الليل استقبلوه بالحزن ] .

باب ذكر من يطرد عن الحوض

البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول أصحابي ، فيقال لي : لا تدرلي ما أحدثوا بعدك .

و عن أبي هريرة أنه كان يتحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يرد علي الحوض رهط من أصحابي فيخلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري .

مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم ، و سيؤخذ ناس دوني فأقول : يا رب مني و من أمتي فيقال : أما شعرت ما عملوا بعدك ؟ و الله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم. و في حديث أنس فيختلج العبد منهم فأقول : يا رب من أمتي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، و قد تقدم . و كذلك حديث البخاري إذا زمرة حتى إذا عرفتهم تقدم أيضاً . و في الموطأ و غيره من حديث أبي هريرة فقالوا : كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك يا رسول الله ؟ الحديث . و فيه قال : فإنهم يأتون غراً محجلين من أثر الوضوء .

فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين : فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله و لم يأذن به الله ، فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه ، و أشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين و فارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها ، و الروافض على تباين ضلالها ، و المعتزلة على أصناف أهوائها فهؤلاء كلهم مبدلون ، و كذلك الظلمة المسرفون في الجور و الظلم و تطميس الحق ، و قتل أهله و إذلالهم ، و المعلنون بالكبائر المستحفون بالمعاصي . و جماعة أهل الزيغ و الأهواء و البدع . ثم البعد قد يكون في حال و يقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال و لم يكن في العقائد ، و على هذا التقدير يكون نور الوضوء يعرفون به ، ثم يقال لهم سحقاً، و إن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يظهرون الإيمان و يسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر . ثم يكشف لهم الغطاء فيقول لهم : سحقاً سحقاً ، و لا يخلد في النار إلا كافر جاحد مبطل ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان .

و قد يقال : إن من أنفذ الله عليه و عيده من أهل الكبائر إنه ، و إن ورد الحوض و شرب منه فإنه إذا دخل النار بمشيئة الله تعالى لا يعذب بعطش ، و الله أعلم .

و روى الترمذي عن كعب بن عجرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي فمن غشى أبوابهم فصدقهم في كذبهم و أعانهم على ظلمهم فليس مني و لست منه ، و لا يرد على الحوض ، و منه غشى أبوابهم و لم يصدقهم في كذبهم و لم يعنهم على ظلمهم فهو مني و أنا منه ، و سيرد على الحوض، يا كعب بن عجرة : الصلاة برهان ، و الصبر جنة حصينة ، و الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب . و خرجه أيضاً في كتاب الفتن و صححه .

و خرج الأوزاعي أبو عمر في مسنده قال : حدثني عمرو بن سعد قال : حدثني يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : حوضي ما بين أيلة إلى مكة ، أباريقه كنجوم السماء أو كعدد نجوم نجوم السماء ، له ميزابان من الجنة كلما نضب أمداه ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ، و سيأتيه قوم ذابلة شفاههم ، لا يطمعون منه قطرة واحدة ، من كذب به اليوم لم يصب منه الشرب يومئذ .

و خرج الترمذي الحكيم في نوادرالأصول من حديث عثمان بن مظعون ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في آخره : يا عثمان لا ترغب عن سنتي فمن رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة ، و قد ذكرناه بكماله في آخر كتاب قمع الحرص بالزهد و القناعة .

باب ما جاء أن لكل نبي حوضاً

الترمذي عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن لكل نبي حوضاً ، و أنهم يتباهون أيهم أكثر وارده و إني أرجو أن أكون أكثرهم وارده . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب . رواه قتادة عن الحسن عن سمرة ، و قد رواه الأشعث ابن عبد الملك عن الحسين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم و لم يذكر فيه غير سمرة . و قال البكري المعروف بابن الواسطي : لكل نبي حوض إلا صالحاً فإن حوضه ضرع ناقته ، و الله سبحانه و تعالى أعلم .

باب ما جاء في الكوثر الذي أعطيه صلى الله عليه و سلم في الجنة

البخاري عن أنس بن مالك عن النبي قال : بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر في الجنة حافتاه قباب الدر المجوف ، قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فإذا طينه أو طينته مسك أذفر ـ شك هدبة ـ خرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه و زاد ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فرأيت عندها نوراً عظيماً .

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . و خرجه ابن وهب قال : أخبرني شبيب عن أبان عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : حين عرج به إلى السماء قال : رأيت نهراً عجاجاً مثل السهم يطرد أشد بياضاً من اللبن و أحلى من العسل حافتاه قباب من در مجوف فقلت : يا جبريل ما هذا ؟ قال : هذا نهر الكوثر الذي أعطاك ربك ، قال : فضربت بيدي إلى حمأته فإذا هو مسك أذفر ، ثم ضربت بيدي إلى رضواضه فإذا هو در .

الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب و مجراه الدر و الياقوت تربته أطيب من المسك و ماؤه أحلى من العسل و أبيض من الثلج . هذا حديث حسن و الله أعلم .