أبواب الميزان التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة

 

أبواب الميزان

باب ما جاء في الميزان و أنه حق

قال الله تعالى و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً و قال فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * و أما من خفت موازينه * فأمه هاوية . قال العلماء : و إذا انقضى الحساب كان بعد وزن الأعمال لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة فإن المحاسبة لتقدير الأعمال و الوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها . قال الله تعالى و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً الآية .

و قال فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * و أما من خفت موازينه إلى آخر السورة .

و قال و من خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم الآيتين . في الأعراف و المؤمنين .

و هذه الآيات إخبار لوزن أعمال الكفار لأن عامة المعنيين بقوله خفت موازينه في هذه الآيات هم الكفار و قال في سورة المؤمنين فكنتم بها تكذبون و في الأعراف بما كانوا بآياتنا يظلمون و قال فأمه هاوية و هذا الوعيد بإطلاقه للكفار ، و إذا جمع بينه و بين قوله و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين ثبت أن الكفار يسألون عما خالفوا فيه الحق من أصل الدين و فروعه إذ لم يسألوا عما خالفوا فيه أصل دينهم من ضروب تعاطيهم و لم يحاسبوا به و لم يعتد بها في الوزن أيضاً ، فإذا كانت موزونة دل على أنهم يحاسبون بها وقت الحساب ، و في القرآن ما يدل أنهم مخاطبون بها مسؤولون عنها محاسبون بها مجزيون على الإخلال بها لأن الله تعالى يقول : وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة فتوعدهم على منعهم الزكاة و أخبر عن المجرمين أنهم يقال لهم ما سلككم في سقر الآية . فبان بهذا أن المشركين مخاطبون بالإيمان و البعث و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة ، و أنهم مسؤولون عنها محتسبون مجزيون على الإخلال بها .

و في البخاري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة و اقرأوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً .

قال العلماء : معنى هذا الحديث أنه لا ثواب لهم و أعمالهم مقابلة بالعذاب فلا حسنة لهم توزن في موازين يوم القيامة، و من لا حسنة له فهو في النار . قال أبو سعيد الخدري : يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئاً . و قيل : يحتمل أن يريد المجاز و الاستعارة كأنه قال : فلا قدر لهم عندنا يومئذ و الله أعلم . و فيه من الفقه ذم السمن لمن تكلفه لما في ذلك من تكلف المطاعم و الاشتغال بها عن المكارم ، بل يدل على تحريم كثرة الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه و السمن و قد قال صلى الله عليه و سلم إن أبغض الرجال إلى الله الحبر السمين .

باب منه و بيان كيفية الميزان و وزن الأعمال فيه و من قضى لأخيه حاجة

الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة و تسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً ، أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول: لا يا رب . فيقول : أفلك عذر ؟ فقال : لا يا رب فيقول : بل إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً عبده و رسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم . قال فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء قال حديث حسن غريب و أخرجه ابن ماجه في سننه و قال بدل قوله في أول الحديث إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق و ذكر الحديث

و قال محمد بن يحيى : البطاقة : الرقعة . أهل مصر يقولون للرقعة بطاقة . و في الخبر إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه و سلم بأبي أنت و أمي ما أحسن وجهك و ما أحسن خلقك فمن أنت ؟ فيقول : أنا نبيك محمد و هذه صلاتك علي التي كنت تصلي علي قد وفيتك إياها أحوج ما تكون إليها . ذكره القشيري في تفسيره ، و ذكر أبو نعيم الحافظ بإسناده من حديث مالك بن أنس و العمري عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قضى لأخيه حاجة كنت واقفاً عند ميزانه فإن رجح و إلا شفعت له .

فصل : قال المؤلف : الميزان حق و لا يكون في حق كل أحد بدليل قوله عليه السلام فيقال يا محمد ادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه . الحديث ، و قوله تعالى يعرف المجرمون بسيماهم الآية ، و إنما يكون لمن بقي من أهل المحشر ممن خلط عملاً صالحاً و آخر سيئاً من المؤمنين و قد يكون للكافرين على ما ذكرنا و يأتي .

و قال أبو حامد : و السبعون الألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب لا يرفع لهم ميزان و لا يأخذون صحفاً ، و إنما هي براءات مكتوبة لا إله إلا الله محمد رسول الله . هذه براءة فلان ابن فلان قد غفر له و سعد سعادة لا يشقى بعدها فما مر عليه شيء أسر من ذلك لمقام .

قلت : و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن قال : تنصب الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ، و يؤتى بأهل الصيام فيوفون أجورهم بالموازين ، و يؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ، و يؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ، و يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان و لا ينتشر لهم ديوان و يصب عليهم الأجر صباً بغير حساب ذكره القاضي منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله .

و خرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يؤتى بالشهيد يوم القيامة فينصب للحساب ، و يؤتى بالمتصدق فينصب للحساب ، ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان و لا ينشر لهم ديوان فيصب عليهم الأجر صباً ، حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسامهم قرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله تعالى لهم . هذا حديث غريب من حديث جابر الجعفي و قتادة و تفرد به قتادة عن جابر عن ابن عباس عن مجاعة ابن الزبير .

و روى الحسين بن علي رضوان الله عليهما قال : قال لي جدي صلى الله عليه و سلم : يا بني عليك بالقناعة تكن أغنى الناس و أد الفرائض تكن أعبد الناس . يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا ينصب لهم ميزان و لا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الأجر صباً و قرأ صلى الله عليه و سلم إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ذكره أبو الفرج الجوزي في كتاب روضة المشتاق .

فصل : فإن قيل : أما وزن أعمال المؤمنين فظاهر وجهه فتقابل الحسنات بالسيئات فتوجد حقيقة الوزن و الكافر لا يكون له حسنات ، فما الذي يقابل بكفره و سيئاته و أن يتحقق في أعماله الوزن ؟ .

فالجواب : إن ذلك على الوجهين .

أحدهما : أن الكافر يحضر له ميزان فيوضع كفره أو كفره و سيئاته في إحدى كفتيه ، ثم يقال له : هل لك من طاعة تضعها في الكفة الآخرى ؟ فلا يجدها فيشال الميزان فترتفع الكفة الفارغة و تقع الكفة المشغولة ، فذلك خفة ميزانه و هذا ظاهر الآية ، لأن الله تعالى وصف الميزان بالخفة لا الموزون ، و إذا كان فارغاً فهو خفيف .

و الوجه الآخر : أن الكافر يكون منه صلة الأرحام و مؤاساة الناس و عتق المملوك و نحوهما مما لو كانت من المسلم لكانت قربة و طاعة ، فمن كان له مثل هذه الخيرات من الكفار فإنها تجمع و توضع في ميزانه ، غير أن الكفر إذا قابلها رجح بها و لم يخل من أن يكون الجانب الذي فيه الخيرات من ميزانه خفيفاً و لو لم يكن له إلا خيراً واحد أو حسنة واحدة لأحضرت و وزنت كما ذكرنا .

فإن قيل : لو احتسبت خيراته حتى يوزن لجوزي بها جزاء مثلها و ليس له منها جزاء ، لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن عبد الله ابن جدعان و قيل له : إنه كان يقري الضيف و يصل الرحم و يعين في النوائب ، فهل ينفعه ذلك ؟ فقال : لا لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين و سأله عدي بن حاتم عن أبيه مثل ذلك ، فقال : إن أباك طلب أمراً فأدركه يعني الذكر فدل أن الخيرات من الكافر ليست بخيرات و أن وجودها و عدمها بمنزلة واحدة سواء .

و الجواب : أن الله تعالى قال و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً و لم يفصل بين نفس و نفس ، فخيرات الكافر توزن و يجزى بها ، إلا أن الله تعالى حرم عليه الجنة فجزاؤه أن يخفف عند بدليل حديث أبي طالب فإنه قيل له : يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك و ينصرك فهل نفعه ذلك ؟ فقال نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح و لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار و ما قاله عليه السلام في ابن جدعان و أبي عدي إنما هو في أنهما لا يدخلان الجنة و لا يتنعمان بشيء من نعيمها و الله أعلم .

فصل : أصل ميزان موزان قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها . قال ابن فورك : و قد أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها ، و من المتكلمين من يقول كذلك ، و روي ذلك عن ابن عباس أن الله تعالى يقالب الأعراض أجساماً فيزنها يوم القيامة و قد تقدم بهذا المعنى .

و الصحيح ان الموازين تثقل بالكتب فيها الأعمال مكتوبة و بها تخف كما دل عليه الحديث الصحيح و الكتاب العزيز. قال الله عز و جل وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين و هذا نص . قال ابن عمر : توزن صحائف الأعمال و إذا ثبت هذا فالصحف أجسام فيجعل الله تعالى رجحان إحدى الكفتين على الأخرى دليلاً على كثرة أعماله بإدخاله الجنة أو النار . و روي عن مجاهد و الضحاك و الأعمش أن الميزان هنا بمعنى العدل و القضاء ، و ذكر الوزن و الميزان ضرب مثل كما يقول هذا الكلام في وزن هذا و في وزنه أي يعادله و يساويه و إن لم يكن هناك وزن .

قلت : و هذا القول مجاز و ليس بشيء و إن كان شائعاً في اللغة للسنة الثابتة في الميزان الحقيقي و وصفه بكفتين و لسان ، و إن كل كفة منهما طباق السموات و الأرض .

و قد جاء أن كفة الحسنات من نور ، و الأخرى من ظلام ، و الكفة النيرة للحسنات و الكفة المظلمة للسيئات ، و جاء في الخبر أن الجنة توضع عن يمين العرش و النار عن يسار العرش ، و يؤتى بالميزان فينصب بين يدي الله تعالى كفة الحسنات عن يمين العرش مقابل الجن ، و كفة السيئات عن يسار العرش مقابل النار . . و ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول .

و روي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال : توضع الموازين يوم القيامة فلو وضعت فيهن السموات و الأرض لوسعهتن ، فتقول الملائكة : يا ربنا ما هذا ؟ فيقول : أزن به لمن شئت من خلقي ، فتقول الملائكة عند ذلك : ربنا ما عبدناك حق عبادتك . و قال ابن عباس رضي الله عنهما : توزن الحسنات و السيئات في ميزان له لسان و كفتان . قال علماؤنا : و لو جاز حمل الميزان على ما ذكروه لجاز حمل الصراط على الدين الحق و الجنة و النار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد من الأحزان و الأفراح و الشياطين و الجن على الأخلاق المذمومة و الملائكة على القوى المحمودة ، و هذا كله فاسد لأنه رد لما جاء به الصادق . و في الصحيحين : فيعطي صحيفة حسناته . فيخرج له بطاقة و ذلك يدل على الميزان الحقيقي و أن الموزون صحف الأعمال كما بينا ، و بالله توفيقنا .

و لقد أحسن من قال :

تذكر يوم تأتي الله فرداً و قد نصبت موازين القضاء

و هتكت الستور عن المعاصي و جاء الذنب منكشف الغطاء

فصل : قال علماؤنا رحمهم الله : الناس في الآخر ، ثلاث طبقات . متقون لا كبائر لهم ، و مخلطون و هم الذين يوافون بالفواحش و الكبائر ، و الثالث الكفار .

فأما المتقون : فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة و صغائرهم إن كانت لهم الكفة الآخرى ، فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزناً و تثقل الكفة النيرة حتى لا تبرح ، و ترتفع المظلمة ارتفاع الفارغ الخالي .

و أما المخلطون ، فحسناتهم توضع في الكفة النيرة و سيئاتهم في الكفة المظلمة ، فيكون لكبائرهم ثقل ، فإن كانت الحسنات أثقل و لو بصؤابة دخل الجنة و إن كانت السيئات أثقل و لو بصؤابة دخل النار إلا أن يغفر الله ، و إن تساويا كان من أصحاب الأعراف على ما يأتي هذا إن كانت للكبائر فيما بينه و بين الله ، و أما إن كانت عليه تبعات و كانت له حسنات كثيرة فإنه ينقص من ثواب حسناته بقدر جزاء السيئات لكثرة ما عليه من التبعات فيحمل عليه من أوزار من ظلمه ، ثم يعذب على الجميع . هذا ما تقتضيه الأخبار على ما تقدم و يأتي .

قال أحمد بن حرب : تبعث الناس يوم القيامة على ثلاث فرق : فرقة أغنياء بالأعمال الصالحة ، و فرقة فقراء ، و فرقة أغنياء ثم يصيرون فقراء مفاليس في شأن التبعات .

و قال سفيان الثوري : إنك أن تلقى الله عز و جل بسبعين ذنباً فيما بينك و بينه أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك و بين العباد .

قال المؤلف : هذا صحيح لأن الله غني كريم و ابن آدم فقير مسكين محتاج في ذلك اليوم إلى حسنة يدفع بها سيئة إن كانت عليه ، حتى ترجح ميزانه فيكثر خيره و ثوابه .

و أما الكافر ، فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة و لا يوجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى ، فتبقى فارغة لفراغها و خلوها عن الخير ، فيأمر الله بهم إلى النار و يعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره و آثامه .

و أما المتقون ، فإن صغائرهم تكفر باجتنابهم الكبائر و يؤمر بهم إلى الجنة و يثاب كل واحد منهم بقدر حسناته و طاعته ، فهذان الصنفان هما المذكوران في القرآن في آيات الوزن ، لأن الله تعالى لم يذكر إلا من ثقلت موازينه و من خفت موازينه ، و قطع لمن ثقلت موازينه بالإفلاح و العيشة الراضية و لمن خفت موازينه بالخلود في النار بعد أن وصفه بالكفر ، و بقي الذين خلطوا عملاً صالحاً و آخر سيئاً فبينهم النبي صلى الله عليه و سلم حسب ما ذكرناه.

و إنما توزن أعمال المؤمن المتقي لإظهار فضله ، كما توزن أعمال الكافر لخزيه و ذله ، فإن أعماله توزن تبكيتاً له على فراغه و خلوه عن كل خير ، فكذلك توزن أعمال المتقي تحسيناً لحاله و إشارة لخلوه من كل شر و تزييناً لأمره على رؤوس الأشهاد . و أما المخلط السيء بالصالح فإن دخل النار فيخرج بالشفاعة على ما يأتي .

فصل : فإن قيل : أخبر الله عن الناس أنهم محاسبون مجزيون ، و أخبر أنه يملأ جهنم من الجنة و الناس أجمعين ، و لم يخبر عن ثواب الجن و لا عن حسابهم بشيء . فما القول في ذلك عندكم و هل توزن أعمالهم ؟ .

فالجواب : أنه قد قيل إن الله تعالى لما قال و الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون دخل في الجملة الجن و الإنس ، فثبت للجن من وعد الجنة بعموم الآية ما ثبت للإنس و قال أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس إنهم كانوا خاسرين ثم قال و لكل درجات مما عملوا و إنما أراد لكل من الجن و الإنس فقد ذكروا في الوعد و الوعيد مع الإنس ، و أخبر تعالى أن الجن يسألون فقال خبراً عما يقال لهم : يا معشر الجن و الإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي و ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا و هذا سؤال ، و إذا ثبت بعض السؤال ثبت كله و قد تقدم هذا ، و قال تعالى و إذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن إلى قوله يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين و هذا يدل صريحاً على أن حكمهم في الآخرة كالمؤمنين . و قال حكاية عنهم و أنا منا المسلمون و منا القاسطون الآيتين .

و لما جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم زادهم كل عظيم و علف دوابهم كل روث فلا تستنجوا بهما . فإنهما طعام إخوانكم الجان فجعلهم إخواننا ، و إذا كان كذلك فحكمهم كحكمنا في الآخرة سواء و الله أعلم . و قد تقدمت الإشارة إلى هذا في باب ما جاء أن الله يكلم العبد ليس بينه و بينه ترجمان .

فصل : قوله في الحديث : فيخرج له بطاقة فيه أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ليست هذه شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في كفة شيء و في أخرى ضده ، فتوضع الحسنات في كفة و السيئات في كفة ، فهذا غير مستحيل لأن العبد يأتي بهما جميعاً ، و يستحيل أن يأتي الكفر و الإيمان جميعاً عند واحد حتى يوضع الإيمان في كفة و الكفر في كفة ، فلذلك استحال أن توضع شهادة التوحيد في الميزان و أما بعد ما آمن العبد فإن النطق منه بلا إله إلا الله حسنة توضع في الميزان مع سائر الحسنات . قاله الترمذي الحكيم رحمه الله.

و قال غيره : إن النطق بها زيادة ذكر على حسن نية و تكون طاعة مقبولة قالها على خلوة و خفية من المخلوقين ، فتكون له عند الله تبارك و تعالى وديعة يردها عليه في ذلك اليوم بعظم قدرها و محل موقعها و ترجح بخطاياه و إن كثرت ، و بذنوبه و إن عظمت ، ولله الفضل على عباده و يتفضل على من يشاء بما شاء .

قلت : و يدل على هذا قوله في الحديث فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة و لم يقل إن لك إيماناً ، و قد سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن لا إله إلا الله أمن الحسنات هي ؟ فقال : من أعظم الحسنات خرجه البيهقي و غيره .

و يجوز أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا كما في حديث معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كان آخر كلامه في الدنيا لا إله إلا الله وجبت له الجنة رواه صالح بن أبي غريب عن كثير بن مرة عن معاذ و قد تقدم أول الكتاب .

و قيل : يجوز حمل هذه الشهادة على الشهادة التي هي الإيمان ، و يكون ذلك في كل مؤمن ترجح حسناته و يوزن إيمانه كما توزن سائر حسناته و إيمانه يرجح سيئاته كما في هذا الحديث ، و يدخله النار بعد ذلك فيطهره من ذنوبه و يدخله الجنة بعد ذلك ، و هذا مذهب قوم يقولون : إن كل مؤمن يعطى كتابه بيمينه و كل مؤمن يثقل ميزانه و يتأولون قوله الله تعالى فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون أي الناجون من الخلود و هو في قوله فهو في عيشة راضية يوماً ما و كذلك في قول النبي صلى الله عليه و سلم من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة إنه صائر إليها لا محالة أصابه قبل ذلك ما أصابه .

قلت : هذا تأويل فيه نظر يحتاج إلى دليل من خارج ينص عليه ، و الذي تدل عليه الآي و الأخبار أن من ثقل ميزانه فقد نجا و سلم و بالجنة أيقن و علم أنه لا يدخل النار بعد ذلك و الله أعلم . و قال عليه السلام : ما شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن خرجه الترمذي عن أبي الدرداء و قال فيه حديث حسن صحيح ، و قد تقدم من حديث سمرة بن جندب : و رأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه فجاء أفراطه فثقلوا ميزانه و كذلك الأعمال الصالحة دليل على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم .

و ذكر القشيري في التحبير له : يحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت بعضهم في المنام فقلت ما فعل الله بك ؟ فقال : وزنت حسناتي فرجحت السيئات على الحسنات ، فجاءت صرة من السماء و سقطت في كفة الحسنات فرجحت فحللت الصرة ، فإذا فيها كف تراب ألقيته في قبر مسلم ، و ذكر أبو عمر في كتاب جامع بيان العلم بإسناده عن حماد بن زيد عن أبي حنيفة عن حماد بن إبراهيم في قوله عز و جل و نضع الموازين القسط ليوم القيامة قال : يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فتخفف ، فيجاء بشيء أمثال الغمام أو قال مثل السحاب فيوضع في ميزانه فترجح فيقال له : أتدري ما هذا فيقول : لا . فيقال له : هذا فضل العلم الذي كنت تعلمه الناس أو نحو ذلك .

باب منه

الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : إن لي مملوكين يكذبونني و يخونونني و يعصونني و أشتمهم و أضربهم فكيف أنا منهم ؟ قال : بحسب ما خانوك و عصوك و كذبوك و عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل قال : فتنحى الرجل فجعل يبكى و يهتف ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما تقرأ كتاب الله تعالى و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً الآية ؟ فقال الرجل : و الله يا رسول الله ما أجد لي و هؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم . أشهدك أنهم أحرار كلهم . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن غزوان .

و قد روى أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن غزوان هذا الحديث ، و عن وهب بن منبه في قوله تعالى و نضع الموازين القسط ليوم القيامة قال : إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، و إذ أراد الله بعبد خيراً ختم له بخير و إذا أراد الله به شراً ختم له بشر عمله . ذكره أبو نعيم.

قال المؤلف هذا صحيح يدل عليه قوله عليه السلام و إنما الأعمال بالخواتيم و الله تعالى أعلم.

باب منه و ذكر أصحاب الأعراف

ذكر خيثمة بن سليمان في مسنده عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم توضع الموازين يوم القيامة فتوزن السيئات و الحسنات ، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة ، و من رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار قيل يا رسول الله : فمن استوت حسناته و سيئاته ؟ قال : أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها و هم يطعمون .

و ذكر ابن المبارك قال ، أخبرنا أبو بكر الهذلي ، عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، و من كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ، ثم قرأ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ثم قال إن الميزان يخف بمثقال حبة أو ترجح . قال و من استوت حسناته و سيئاته كان من أصحاب الأعراف . و ذكر الحديث.

و قال كعب الأحبار : إن الرجلين كانا صديقين في الدنيا ، فيمر أحدهما بصاحبه و هو يجر إلى النار فيقول له أخوه: و الله ما بقي لي إلا حسنة أنجو بها خذها أنت يا أخي فتنجو بها مما أرى و أبقى أنا و إياك من أصحاب الأعراف ، قال : فيأمر الله بهما جميعاً فيدخلان الجنة.

و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : أنه يؤتى برجل يوم القيامة فما يجد له حسنة ترجح ميزانه و قد اعتدلت بالسوية ، فيقول الله تعالى رحمة منه : اذهب في الناس فالتمس من يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة فيصير يجوس خلال العالمين فيما يجد أحداً يكلمه في ذلك الأمر إلا يقول له خفت أن يخف ميزاني فأنا أحوج منك إليها ، فييأس فيقول له رجل : ما الذي تطلب ؟ فيقول : حسنة واحدة فلقد مررت بقوم لهم منها الألف فبخلوا علي ، فيقول له الرجل : لقد لقيت الله تعالى فما وجدت في صحيفتي إلا حسنة واحدة و ما أظنها تغني عني شيئاً خذها هبة مني إليك ، فينطلق فرحاً مسروراً فيقول الله له : ما بالك و هو أعلم فيقول : رب اتفق من أمري كيت و كيت ، ثم ينادي سبحانه بصاحبه الذي وهبه الحسنة فيقول له سبحانه : كرمي أوسع من كرمك خذ بيد أخيك و انطلقا إلى الجنة ، و كذا تستوي كفتا الميزان لرجل فيقول الله تعالى له : لست من أهل الجنة و لا من أهل النار ، فيأتي الملك بصحيفة فيضعها في كفة الميزان فيها مكتوب أف فترجح على الحسنات لأنها كلمة عقوق ترجح بها جبال الدنيا فيؤمر به إلى النار قال : فيطلب الرجل أن يرده الله تعالى فيقول : ردوه فيقول له أيها العبد العق لأي شيء تطلب الرد إلي فيقول : إلهي رأيت أني سائر إلى النار و إذ لا بد لي منها و كنت عاقاً لأبي و هو سائر إلى النار مثلي فضعف علي به عذابي و أنقذه منها . قال : فيضحك الله تعالى و يقول : عققته في الدينا و بررته في الآخرة خذ بيد أبيك و انطلقا إلى الجنة .

فصل : ذكر الله تعالى الميزان في كتابه بلفط الجمع ، و جاء السنة بلفظ الإفراد و الجمع ، فقيل : يجوز أن يكون هنالك موازين للعمل الواحد يوزن بكل ميزان منها صنف من الأعمال كما قال :

ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان

تتصرف الأشياء في ملكوته و لك شيء مدة و أوان

و يمكن أن يكون ميزاناً واحداً عبر عنه بلفظ الجمع كما قال تعالى كذبت عاد المرسلين و كذبت قوم نوح المرسلين و إنما هو رسول واحد ، و قيل : المراد بالموازين جمع موزون أي الأعمال الموزونة لا جمع ميزان .

و خرج اللالكائي في سننه ، عن أنس رفعه : أن ملكاً موكل بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان ، فإن رجح نادى الملك بصوت يسمع الخلائق كلها : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً و إن خف نادى الملك : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً و خرج عن حذيفة قال : [ صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام ] .

فصل : و أما أصحاب الأعراف فيقال : إنهم مساكين أهل الجنة . ذكر هناد بن السري قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مجاهد ، عن حبيب ، عن عبد الله بن الحارث قال : أصحاب الأعراف ينتهي بهم إلى نهر يقال له الحياة حافتاه قصب الذهب قال : أراه قال مكلل باللؤلؤ فيغتسلون منه اغتسالة فيبدو في نحورهم شامة بيضاء ، ثم يعودون فيغتسلون فكلما اغتسلوا زادت بياضاً فيقال لهم : تمنوا فيتمنون ما شاءوا . قال : فيقال لهم لكم ما تمنيتم و سبعين ضعفاً . قالوا : فهم مساكين أهل الجنة . و في رواية : فإذا دخلوا الجنة و في نحورهم تلك الشامة البيضاء فيعرفون بها . قال : فهو يسمون في الجنة مساكين أهل الجنة .

و اختلف العلماء في تعيينهم على اثني عشر قولاً :

الأول : ما تقدم ذكره في الحديث ، و هو قول ابن مسعود و كعب الأحبار كما ذكرنا و ذكره ابن وهب عن ابن عباس .

الثاني : قوم صالحون فقهاء علماء . قاله مجاهد .

الثالث : هم الشهداء ذكره المهدوي .

الرابع : هم فضلاء المؤمنين و الشهداء فرغوا من شغل أنفسهم و تفرغوا لمطالعة أحوال الناس . ذكره أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري .

الخامس : هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم . قاله شرحبيل بن سعد . و ذكر الطبري في ذلك حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : و أنه تعادل عقوقهم و استشهادهم .

السادس : هم العباس و حمزة و علي بن أبي طالب و جعفر ذو الجناحين يعرفون محبيهم ببياضالوجوه و مبغضيهم بسواد الوجوه . ذكره الثعلبي عن ابن عباس .

السابع : هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم و هم في كل أمة . ذكره الزهراوي و اختاره النحاس .

الثامن : هم قوم أنبياء . قاله الزجاج .

التاسع : هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام و المصائب في الدنيا فوقفوا و ليست لهم كبائر فحيسبون عن الجنة لينالهم بذلك غم ، فيقع في مقابلة صغائرهم . حكاه ابن عطية القاضي أبو محمد في تفسيره .

العاشر : ذكره ابن وهب عن ابن عباس قال : أصحاب الأعراف الذين ذكر الله في القرآن أصحاب الذنوب العظام من أهل القبلة ، و ذكره ابن المبارك قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : أصحاب الأعراف رجال كانت لهم ذنوب عظام ، و كان جسيم أمرهم لله فأقيموا ذلك المقام إذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه و قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ، و إذا نظروا إلى أهل الجنة عرفوهم ببياض وجوههم .

قال ابن عباس : أدخل الله أصحاب الأعراف الجنة ، و في رواية سعيد بن جبير عن عبد الله بن مسعود و كانوا آخر أهل الجنة دخولاً الجنة .

قال ابن عطية : و تمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأن مذهبه أنهم مذنبون .

الحادي عشر : أنهم أولاد الزنا . ذكره أبو نصر القشيري عن ابن عباس .

الثاني عشر : أنهم ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل دخالهم الجنة و النار . قاله أبو مجلز لاحق بن حميد ، فقيل له : لا يقال للملائكة رجال فقال : إنهم ذكور و ليسوا بإناث فلا يبعد إيقاع لفظ الرجال عليهم كما وضع على الجن في قوله تعالى و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن .

و الأعراف : سور بين الجنة و النار . قيل : هو جبل أحد يوضع هناك .

روى عن النبي صلى الله عليه و سلم من طريق أنس و غيره ذكره أبو عمر بن عبد البر و غيره حسب ما ذكرناه في كتاب جامع أحكام القرآن من سورة الأعراف و الحمد لله .

حكاية

روي عن بعض الصالحين رضي الله عنه أنه قال : أخذتني ذات ليلة سنة فنمت فرأيت في منامي كأن القيامة قد قامت و كأن الناس يحاسبون ، فقوم يمضي بهم إلى الجنة و قوم يمضي بهم إلى النار قال : فأتيت إلى الجنة فناديت أهل الجنة بماذا نلتم سكنى الجنة في محل الرضوان ؟ فقالوا : بطاعة الرحمن و مخالفة الشيطان ، ثم أتيت إلى باب النار فناديت يا أهل النار : بماذا نلتم النار ؟ قالوا : بطاعة الشيطان و مخالفةالرحمن . قال : فنظرت فإذا أنا بقوم موقوفون بين الجنة و النار ، فقالوا لي : لنا ذنوب جلت و حسنات قلت ، فالسيئات منعتنا من دخول الجنة و الحسنات منعتنا دخول النار و أنشدوا :

نحن قوم لنا ذنوب كبار منعتنا من الوصول إليه

تركتنا مذبذبين حيارى أمسكتنا من القدوم عليه

باب إذا كان يوم القيامة تتبع كل أمة ما كانت تعبد فإذا بقي في هذه الأمة منافقون امتحنوا و ضرب الصراط

الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد ، فيمثل لصاحب الصليب صليبه و لصاحب التصاوير تصاويره و لصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون و يبقى المسلمون و ذكر الحديث بطوله .

و خرج مسلم أن ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم يا رسول الله : هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هل تضارون في القمر ليلة البدر قالوا : لا يا رسول الله . قال هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا . قال : فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئاً فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، و يتبع من كان يعبد القمر القمر و يتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيث ، و تبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه و يضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا و أمتي أول من يجوز و لا يتكلم يومئذ إلا الرسل ، و دعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم ، و في جهنم كلاليب مثل شوك السعدان . هل رأيتم السعدان ؟ قالوا نعم يا رسول الله . قال : فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم الموبق بعمله ، و منهم المجازى حتى ينجى و ذكر الحديث و سيأتي .

فصل : ذكر الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له بعد قوله : يفهم رؤوس المحشر لطلب من يشفع و يريحهم مما هم فيه ، و هم رؤوساء أتباع الرسل فيكون ذلك ، ثم يؤمر آدم عليه السلام بأن يخرج بعث النار من ذريته ، و هم سبعة أصناف البعثان الأولان يلتقطهم عنق النار من بين الخلائق لقط الحمام حب السمسم و هم أهل الكفر بالله جحدوا و عتوا ، و أهل الكفر بالله إعراضاً و جهلاً ، ثم يقال لأهل الجمع : أين ما كنتم تعبدون من دون الله لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فمن كان يعبد من دون الله شيئاً اتبعه حتى يقذف به في جهنم ، قال الله عز و جل : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله مولاهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون و قال : فكبكبوا فيها هم و الغاوون * و جنود إبليس أجمعون .

و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تمد الأرض مد الأديم يوم القيامة لعظمة الله عز و جل . ثم لا يكون لبشر من بني آدم منها إلا موضع قدميه ، ثم ادعى أنا أول الناس فأخر ساجداً ، ثم يؤذن لي فأقول يا رب : خبرني هذا جبريل صلى الله عليه و سلم و هو عن يمين عرش الرحمن تبارك و تعالى أنك أرسلته إلي و جبريل ساكت لا يتكلم حتى يقول الله عز و جل صدق ، ثم يؤذن لي في الشفاعة فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أقطار الأرض فذلك المقام المحمود ، ثم يبعث المقام المحمود ، ثم يبعث البعث الرابع و هم قوم وحدوا الله و كذبوا المرسلين جهلوا صفات الله جل جلاله ، و ردوا عليه كتابه و رسله ، ثم يبعث البعث الخامس و السادس و هم أهل الكتابين يأتون عطاشاً يقال لهم : ما كنتم تبغون ؟ فيقولون : عطشنا يا رب فاسقنا ، فيقال لهم : ألا ترون فيشار لهم إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيردونها سقوطاً فيها ، ثم تقع المحنة بالمنافقين و المؤمنين في معرفة ربهم و تميزه من المعبودات من دونه فيذهب الله المنافقين و يثبت المؤمنين ، ثم ينصب الصراط مجازاً على متن جهنم أعادنا الله منها أرق من الشعر و أحد من الموسى كما وصفه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فيسقط أهل البدع في الباب السادس منه أو الخامس ، و أهل الكبائر في السابع أو السادس ، و إنما يسقط الساقط بعدما يعجز عن عمله و يخلص المؤمنون على درجاتهم في تفاوتهم في النجاة و يحبسون على قنطرة بين الجنة و النار يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا صفوا و هذبوا ، أدخلوا الجنة ، و من ذلك المقام يوقف أصحاب الأعراف .

قال المؤلف : هكذا ذكر الترتيب و هو ترتيب حسن ، و سيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

فصل : قوله : هل تضارون بضم التاء و فتحها و بتشديد الراء و تخفيفها ، و ضم التاء و تشديد الراء أكثر ، و أصله تضارون أسكنت الراء الأولى و أدغمت مع الثانية و ماضيه ضورر على ما لم يسم فاعله ، و يجوز أن يكون مبيناً للفاعل بمعنى تضاررون بكسر الراء إلا إنها سكنت الراء و أدغمت و كله من الضر المشدد ، و أما التخفيف فهو من ضاره يضيره و يضوره مخففاً .

و المعنى أن أهل الجنة إذا امتن الله عليهم برؤيته سبحانه تجلى لهم ظاهراً بحيث لا يحجب بعضهم بعضاً و لا يضره و لا يزاحمه و لا يجادله كما يفعل عند رؤية الأهلة ، بل كالحال عند رؤية الشمس و القمر ليلة تمامه .

و قد روى تضامون من المضامكة و هي الازدحام أيضاً . أي لا تزدحمون عند رؤيته تعالى كما تزدحمون عند رؤية الأهلة .

و روي تضامون بتخفيف الميم من الضيم الذي هو الذل أي لا يذل بعضكم بعضاً بالمزاحمة و المنافسة و المنازعة، و سيأتي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه و سلم في أبواب الجنة إن شاء الله تعالى .

قوله : فإنكم ترونه كذلك هذا تشبيه للرؤية و حالة الرائي لا المرئي ، لأن الله سبحانه لا يحاط به و ليس كمثله شيء و لا يشبهه شيء .

و قوله : فيأيتهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون هذا موضع الامتحان ليميز المحق من المبطل و ذلك أنه لما بقي المنافقون و المراؤون متلبسين بالمؤمنين و المخلصين زاعمين أنهم منهم و أنهم عملوا مثل أعمالهم و عرفوا الله مثل معرفتهم . امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة قالت الجميع أنا ربكم . فأجاب المؤمنون بإنكار ذلك و التعوذ منه لما قد سبق لهم من معرفتهم بالله عز و جل في دار الدنيا و أنه منزه عن صفات هذه الصور إذ سماتها سمات المحدثين .

و لهذا قال في حديث أبي سعيد الخدري فيقولون : نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً مرتين أو ثلاثاً حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب .

قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر في كتاب المفهم لشرح اختصار مسلم كتاب مسلم ، و هذا لمن لم يكن له رسوخ العلماء ، و لعلهم الذين اعتقدوا الحق و جزموا عليه من غير بصيرة و لذلك كان اعتقادهم قابلاً للانقلاب . و الله أعلم .

قلت : و يحتمل أن يكونوا المنافقين و المرائين و هو أشبه و الله أعلم . لأن في الامتحان الثاني يتحقق ذلك لأن في حديث أبي سعيد بعد قوله حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم و بينه آية فتعرفوه بها ؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود و لا يبقى من كان يسجد اتقاء و رياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ، ثم يرفعون رؤوسهم و قد تحول في الصورة التي رأوا فيها فيقول : أنا ربكم ؟ فيقولون : أنت ربنا . ثم يضرب الجسر على جهنم و تحل الشفاعة ، و سيأتي قوله: فيأتيهم الله في صورة التي يعرفون أي يتجلى لهم في صفته التي هو عليها من الجلال و الكمال و التعالي و الجمال بعد أن رفع الموانع عن أبصارهم . فيتبعونه . أي يتبعون أمره أو ملائكته و رسله الذين يسوقونهم إلى الجنة. و الله أعلم .

و الدعوى : الدعاء . قال الله تسبحاته و تعالى : دعواهم فيها سبحانك اللهم أي دعاؤهم و الكلاليب : جمع كلوب . و السعدان : نبت كثير الشوك شوكه كالخطاطيف و المحاجن ترعاه الإبل فيطيب لبنها . تقول العرب : مرعى و لا كالسعدان . و الموبق : المهلك أوبقه ذنبه : أهلكه .

و منه الحديث : اجتنبوا السبع الموبقات . و قوله تعالى : أو يوبقهن بما كسبوا و المجازى : الذي جوزء بعمله .

و قوله : يكشف عن ساق كشف الساق عبارة عن معظم الأمر و شدته ذكره ابن المبارك قال : أخبرنا أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : يوم يكشف عن ساق قال : يوم كرب و شدة . أخبرنا ابن جريج عن مجاهد قال: شدة الأمر و جده . قال مجاهد و قال ابن عباس هي أشد ساعة في القيامة.

و قال أبو عبيدة : إذا اشتد الأمر أو الحرب قيل : كشف الأمر عن ساقه . و الأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج إلى الجد شمر عن سقاه فاستعير الساق و الكشف عنها في موضع الشدة و كذا قال القتبي . قال : يوم يكشف عن ساق هذا من الاستعار فسمي الشدة ساقاً ، لأن الرجل إذا وقع في الشدة شمر في ساقه فاستعيرت في موضع شدة قال الشعر :

و كنت إذا جاري دعا لمصيبة أشمر حتى ينصف الساق مئزري

و قال آخر :

فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها و إن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

و قال آخر يصف سنة شديدة :

قد شمرت عن ساقها

و قال آخر :

كشفت لهم عن ساقها و بدا من الشر البراح

و قال آخر :

أبشر عناق . إنه شر باق . قد سن لي قومك ضرب الأعناق و قامت الحرب بنا على ساق .

و الشعر في هذا المعنى كثير :

و قيل : يكشف عن شاق جهنم ، و قيل : عن ساق العرش .

فأما ما روي أن الله تعالى يكشف عن ساقه يوم القيامة ، فيسجد له كل مؤمن و مؤمنة كما في صحيح البخاري ، فإنه تعالى على التبعيض و الأعضاء ، و أن ينكشف و يتغطى ، و معناه أي يكشف على العظيم من أمره .

و قال الخطابي : إنما جاء ذكر الكشف عن الساق على معنى الشدة ، فيحتمل أن يكون معنى الحديث أنه يبرز من أهوال القيامة و شدتها ما يرتفع معه سواتر الأمتحان ، فيميز عند ذلك أهل اليقين و الإخلاص ، فيؤذن لهم في السجود ، و ينكشف الغطاء عن أهل النفاق فتعود ظهورهم طبقاً واحداً لا يستطيعون السجود قال : و قد تأوله بعض الناس فقال : لا ينكر أن يكون الله سبحانه قد يكشف لهم عن ساق لبعض المخلوقين من ملائكته أو غيرهم ، فيجعل ذلك سبباً لبيان ما شاء من حكمه في أهل الإيمان و أهل النفاق .

قال الخطابي : و فيه وجه آخر لم أسمعه من قدوة و قد يحتمله معنى اللغة . سمعت أبا عمر يذكر عن أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي فيما عدة من المعاني المختلفة الواقعة تحت هذا الاسم ، قال : و الساق النفس ، و منه قول علي رضي الله عنه حين راجعه أصحابه في قتل الخوارج فقال : و الله لأقاتلنهم حتى و لو تلفت ساقي يريد نفسه . و قال أبو سليمان ، و قد يحتمل على هذا أن يكون المراد التجلي لهم و كشف الحجب عن أبصارهم حتى إذا رأوه سجدوا له قال : و لست أقطع به القول ، و لا أراه واجباً فيما أذهب إليه من ذلك .

قال المؤلف : هذا القول أحسن الأقوال إن شاء ، وقد جاء فيه حديث حسن ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسير سورة ن و القلم ، فقال : حدثنا الخليل بن أحمد : حدثنا ابن منيع قال : حدثنا هدبة قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن عمارة القرشي عن أبي بردة بن أبي موسى قال : حدثني أبي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قال قوم إلى ما كانوا يعبدون و يبقى أهل التوحيد فيقال لهم : ما تنتظرون و قد ذهب الناس ؟ فيقولون : إن لنا رباً كنا نعبده في الدنيا و لم نره ، قال : و تعرفونه إذا رأيتموه ؟ فيقولون : نعم ، فيقال : فكيف تعرفونه و لم تروه ؟ قالوا : إنه لا شبيه له ، فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجداً ، و تبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون فيقول الله تعالى : عبادى ارفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم من اليهود و النصارى في النار .

قال أبو بردة : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال : الله الذي لا إله إلا هو فحدثك أبوك بهذا الحديث ، فحلفت له ثلاث أيمان فقال عمر : ما سمعت من أهل التوحيد حديثاً هو أحب إلي من هذا .

قال المؤلف : فهذا الحديث يبين لك معنى كشف الساق و أنه عبارة عن رؤيته سبحانه و هو معنى ما في صحيح مسلم ، و الحديث يفسر بعضه بعضاً فلا إشكال فيه ، و الحمد لله .

و قد ذكر البيهقي عن روح بن جناج عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : يوم يكشف عن ساق ، قال : عن نور عظيم يخرون له سجداً تفرد به روح بن جناح ، و هو شامي يأتي بأحاديث منكرة لا يتابع عليها ، و موالي عمر بن عبد العزيز فيهم كثرة .

قال المؤلف : الحديث الذي قبله أبين و أصح إسناداً فليعول عليه . و قد هاب الإمام أبو حامد الغزالي القول فيه و أشفق من تأويله ، فقال في كتاب كشف علم الآخرة : ثم يكشف الجليل عن ساقه فيسجد الناس كلهم تعظيماً له و تواضعاً إلى الكفار الذين قد أشركوا به أيام حياتهم و عبدة الحجارة و الخشب و ما لم ينزل به سلطاناً ، فإن صياصي أصلابهم تعود حديداً فلا يقدرون على السجود و هو قوله تعالى : يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون .

و روي البخاري في تفسيره مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يكشف الله عن ساقه النبي يوم القيامة فيسجد له كل مؤمن و مؤمنة ، و قد أشفقت من تأويل الحديث ، و عدلت عن منكر به ، و كذا أشفقت من صفة الميزان و زيفت قول واصفيه و جعلته متحيزاً إلى العالم الملكوتي ، فإن الحسنات و السيئات أعراض و لا يصح وزن الأعراض إلا بميزان ملكوتي .

قال المؤلف : قد ذكرنا الميزان و بينا القول فيه ، و في الأعمال الموزونة غاية البيان بالأخبار الصحيحة و الحسان، و بينا القول هنا في كشف الساق بحيث لم يبق فيه لأحد ريب ولا مخالفة و لا شقاق . فالله الحمد على ما به أنعم و فهم و علم .

باب كيف الجواز على الصراط و صفته و من يحبس عليه و يزل عنه

و في شفقة النبي صلى الله عليه و سلم على أمته عند ذلك ، و في ذكر القناطر قبله و السؤال عليها و بيان قوله تعالى : و إن منكم إلا واردها

روي عن بعض أهل العلم أنه قال : لن يجوز أحد الصراط حتى يسأل في سبع قناطر ، أما القنطرة الأولى : فيسأل عن الإيمان بالله ، و هي شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن أجاز بها مخلصاً ، و الإخلاص قول و عمل جاز ، ثم يسأل على القنطرة الثانية عن الصلاة ، فإن جاؤ بها تامة جاز ، ثم يسأل على القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان ، فإن جاء به تاماً جاز ، ثم يسأل على القنطرة الرابعة عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز ، ثم يسأل في الخامسة عن الحج و العمرة فإن جاء بهما تامتين جاز ، ثم يسأل في القنطرة السادسة عن الغسل و الوضوء فإن جاء بهما تأمين جاز ، ثم يسأل في السابعة و ليس في القناطر أصعب منها فيسأل عن ظلامات الناس .

و ذكره أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : أنه إذا لم يبق في الموقف إلا المؤمنون و المسلمون و المحسنون والعارفون و الصديقون و الشهداء و الصالحون و المرسلون ليس فيهم مرتاب و لا منافق و لا زنديق فيقول الله تعالى : يا أهل الموقف من ربكم ؟ فيقولون : الله ، فيقول لهم : أتعرفونه ؟ فيقولون : نعم . فيتجلى لهم ملك عن يسار العرش ، لو جعلت البحار السبع في نقره إبهامه لما ظهرت ، فيقول لهم بأمر الله : أنا ربكم . فيقولون : نعوذ بالله منك ، فيتجلى لهم ملك عن يمين العرش لو جعلت البحار الأربعة عشر في نقرة إبهامه لما ظهرت فيقول لهم أنا ربكم : فيقولون : نعوذ بالله منك ، فيتجلى لهم الرب سبحانه في صورة غير صورته التي كانوا يعرفونه ، و سمعوا و هو يضحك فيسجدون له جميعهم ، فيقول : أهلا بكم ثم ينطلق بهم سبحانه إلى الجنة فيتبعونه فيمر بهم على الصراط . و الناس أفواج : المرسلون ، ثم النبيون ، ثم الصديقون ، ثم الشهداء ، ثم المؤمنون ، ثم العارفون ، ثم المسلمون . منهم المكبوب لوجهه ، و منهم المحبوس في الأعراف ، و منهم قوم قصروا عن تمام الإيمان . فمنهم من يجوز الصراط مائة عام ، و آخر يجوز على ألف ، و مع ذلك كله لن تحرق النار من رأى ربه عياناً لا يضام في رؤيته .

فتوهم نفسك يا أخي إذا صرت على الصراط و نظرت إلى جهنم تحتك سوداء مظلمة قد لظى سعيرها و علا لهيبها و أنت تمشي أحياناً و تزحف أخرى ، قال :

أبت نفسي تتوب فما احتيالي إذا برز العباد لذي الجلال

و قاموا من قبورهم سكارى بأوزار كأمثال الجبال

و قد نصب الصراط لكي يجوزوا فمنهم من يكب على الشمال

و منهم من يسير لدار عدن تلقاه العرائس بالغوالي

يقول له المهمين يا وليي غفرت لك الذنوب فلا تبالي

و قال آخر :

إذا مد الصراط على جحيم تصول على العصاة و تستطيل

فقوم في الجحيم لهم ثبور و قوم في الجنان لهم مقيل

و بان الحق و انكشف الغطاء و طال الويل و اتصل العويل

و ذكر مسلم من حديث أبي هريرة فيأتون محمداً صلى الله عليه و سلم فيؤذن لهم و ترسل الأمانة و الرحم فيقومان جنبتي الصراط يميناً و شمالاً فيمر أولهم كالبرق الخاطف .

قال : قلت بأبي أنت و أمي و أي شيء كمر البرق ؟ قال : ألم تر إلى البرق كيف يمر و يرجع في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح ، ثم كمر الطير و شد الرجال تجري بهم أعمالهم و نبيكم صلى الله عليه و سلم قائم على الصراط يقول : رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل و لا يستطيع السير إلا زاحفاً .

قال : و في حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أموت بأخذه فمخدوش ناج ، و مكردس في النار ، و الذي نفس محمد بيده : إن قعر جهنم لسبعون خريفاً ؟

وروي من حديث حذيفة أيضاً . و ذكر مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري و فيه: ثم يضرب الجسر على جهنم و تحل الشفاعة و يقولون : اللهم سلم سلم قيل : يا رسول الله ، و ما الجسر ؟ قال : دحض مزلة فيه خطاطيف و كلاليب و حسكة تكون بنجد فيها شوكة يقال لها السعدان : فيمر المؤمنون كطرف العين و كالبرق و كالريح و كالطير و كأجاويد الخيل و الركاب فناج مسلم و مخدوش مرسل و مكردس في نار جهنم الحديث و سيأتي بتمامه إن شاء الله تعالى .

و في رواية قال أبو سعيد الخدري : بلغني أن الجسر أدق من الشعر وأحد من السيف و في رواية أرق من الشعر رواها مسلم .

و خرج ابن ماجه حديث أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يوضع الصراط بينم ظهراني جهنم على حسك كحسك السعدان ، ثم يستجيز الناس فناج مسلم و مخدوج به ثم ناج و محتبس به و منكوس فيها .

وذكر ابن المبارك قال : حدثنا هشام بن حسان ، عن موسى ، عن أنس عن عبيد بن عمير [ أن الصراط مثل السيف على جسر جهنم و أن لجنبتيه كلاليب و حسكا ، و الذي نفسي بيده إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة و مضر] .

و أخبرنا رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال قال : [ بلغنا أن الصراط يوم القيامة يكون على بعض الناس أدق من الشعر و على بعض الناس مثل الوادي الواسع ] أعمل.

قال : و أخبرنا عوف عن عبد بن سفيان العقيلي قال : [ يجوز الناس يوم القيامة على الصراط على قدر إيمانهم و أعمالهم ، فيجوز الرجل كالطرف في السرعة و كالسهم المرمى و كالطائر السريع الطيران و كالفرس الجواد المضمر و يجوز الرجل يعدو عدواً ، و الرجل يمشي مشياً حتى سكون آخر من ينجو يحبو حبواً ] .

وذكر هناد بن السري ، حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا سفيان ، حدثنا سلمة بن كهيل عن أبي الزعفراء قال : قال عبد الله [ يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم ] . قال : [ فيمر الناس على قدر أعمالهم . أولهم كلمح البرق ، ثم كمر الريح ، ثم كأسرع البهائم ، ثم كذلك حتى يمر الرجل سعياً و حتى يمر الرجل ماشياً ، ثم يكون آخرهم يتلبط على بطنه يقول يا رب لم أبطأت بي ؟ فيقول : لم أبطئ بك إنما أبطأ بك عملك ] .

قال : و حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن قتادة قال : قال عبد الله ابن مسعود : [ تجوزون الصراط بعفو الله و تدخلون الجنة برحمة الله و تقتسمون المنازل بأعمالكم ] .

أبو داود ، عن معاذ بن أنس الجهني ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من حمى مؤمناً من منافق أراه قال : بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ، و من رمى مؤمناً بشيء شينه حبسه الله عز و جل على جسر جهنم حتى يخرج مما قال .

و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الزالون على الصراط كثير . و أكثر من يزل عنه النساء ذكره أبو الفرج بن الجوزي .

و قال المصطفى صلى الله عليه و سلم : فإذا صار الناس على طرف الصراط نادى ملك من تحت العرش : يا فطرة الملك الجبار جوزوا على الصراط ، و ليقف كل عاص منكم و ظالم . فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها و ما أشد حرها ، يتقدم فيها من كان في الدينا ضعيفاً مهيناً ، و يتأخر عنها من كان في الدنيا عظيماً مكيناً ، ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك بالجواز على الصراط على قدر أعمالهم في ظلمتهم و أنوارهم ، فإذا عصف الصراط بأمتي نادوا : و امحمداه فأبادر من شدة إشفاقي عليهم و جبريل آخد بحجزتي ، فأنادي رافعاً صوتي رب أمتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي ، و لا فاطمة ابنتي و الملائكة قيام عن يمين الصراط و يساره ينادون : رب سلم سلم . و قد عظمت الأهوال و اشتدت الأوجال ، و العصاة يتساقطون عن اليمين و الشمال و الزبانية يتلقونهم بالسلاسل و الأغلال و ينادونهم : أما نهيتم عن كسب الأوزار ؟ أما خوفتم عذاب النار ؟ أما أنذرتم كل الإنذار ، أما جاءكم النبي المختار ؟ ذكره أبو الفرج بن الجوزي أيضاً في كتاب روضة المشتاق و الطريق إلى الملك الخلاق .

فتفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط و دقته ، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته ، ثم قرع سمعك شهيق النار و تغيظها ، و قد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك ، و اضطراب قلبك ، و تزلزل قدمك و ثقل ظهرك بالأوزار ، المنعة لك من المشي على بساط الأرض ، فضلاً عن حدة الصراط . فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك فأحسست بحدته ، و اضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني ، و الخلائق بين يديك يزلون و يعثرون ، و تتناولهم زبانية النار بالخطاطيف و الكلاليب ، و أنت إليهم كيف ينكسون فتسفل إلى جهة النار رؤوسهم ، و تعلو أرجلهم فيا له من منظر ما أفظعه ، و مرتقى ما أصبعه ، و مجاز ما أضيقه .

فصل : ذهب بعض من تكلم على أحاديث هذا الباب في وصف الصراط بأنه أدق من الشعر و أحد من السيف أن ذلك راجع إلى يسره و عسره على قدر الطاعات و المعاصي . و لا يعلم حدود ذلك إلا الله تعالى لخفائها و غموضها. و قد جرت العادة بتسمية الغامض الخفي : دقيق . فضرب المثل له بدقة الشعر . فهذا و الله أعلم من هذا الباب .

و معنى قوله : و أحد من السيف : أن الأمر الدقيق الذي يصعد من عند الله تعالى إلى الملائكة في إجازة الناي على الصراط يكون في نفاذ حد السيف و مضيه إسراعاً منهم إلى طاعته و امتثاله . و لا يكون له مرد كما أن السيف إذا نفذ بحدة و قوة ضاربة في شيء لم يكن له بعد ذلك مرد .

و إما أن يقال : إن الصراط نفسه أحد من السيف و أدق من الشعر ، فذلك مدفوع بما وصف من أن الملائكة يقومون بجنبيه و أن فيه كلاليب و حسكاً أي أن من يمر عليك يقع على بطنه، و منهم من يزل ثم يقوم . و فيه أن من الذين يمرون عليه من يعطى النور بقدر موضع قدميه. و في ذلك إشارة إلى أن للمارين عليه موطئ الأقدام و معلوم أن رقة الشعر لا يحتمل هذا كله . و قال بعض الحفاظ : إن هذه اللفظة ليست ثابتة .

قال المؤلف : ما ذكره القاتل مردود بما ذكرنا من الأخبار ، و أن الإيمان يجب بذلك . و أن القادر على إمساك الطير في الهواء قادر على أن يمسك عليه المؤمن فيجزيه أو يمشيه و لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند الاستحالة و لا استحالة في ذلك ، للآثار الواردة في ذلك و ثباتها بثقل الأئمة العدول و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .؟

و عن يحيى بن اليمان : رأيت رجلاً نام و هو أسود الرأس و اللحية شاب يملأ العين ، فرأى في منامه كأن الناس قد حشروا ، و إذا بنهر من نار ، و جسر يمر الناس عليه ، فدعى فدخل الجسر ، فإذا هو كحد السيف يمر يميناً و شمالاً ، فأصبح أبيض الرأس و اللحية .

فصل : أحاديث هذا الباب تبين لك معنى الورود المذكور في القرآن في قوله عز و جل : و إن منكم إلا واردها .

روي عن ابن عباس و ابن مسعود و كعب الأحبار أنهم قالوا : الورود المرور على الصراط. رواه السدي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم .

و ذكر أبو بكر النجاد ، سلمان قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدة السليطي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي قال : حدثنا سليم بن منصور بن عمار قال : حدثني أبي منصور بن عمار قال : حدثني بشر بن طلحة الخزامي ، عن خالد بن الدريك ، عن يعلى منبه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي و قيل : الورود الدخول . روي عن ابن مسعود و عن ابن عباس أيضاً و خالد بن معدان و ابن جريج و غيرهم ، و حديث أبي سعيد الخدري نص في ذلك على ما يأتي ، فيدخلها العصاة بجرائمهم ، و الأولياء بشفاعتهم .

و روي عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : الورد الدخول لا يبقى بر و لا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً و سلاماً كما كانت على إبراهيم ، ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا .

و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا سفيان عن رجل عن خالد بن معدان قال : قالوا ألم يعدنا ربنا أنا نرد النار فقال : إنكم مررتم بها و هي خامدة .

قال ابن المبارك و أخبرنا سعيد الجيزي عن أبي الليل ، عن غنيم ، عن أبي العوام ، عن كعب أنه تلا هذه الآية : و إن منكم إلا واردها قال : هل تدرون ما ورودها ؟ قالوا : الله أعلم . قال : فإن ورودها أن يجاء بجهنم و تمسك للناس كأنها متن إهالة حتى إذا استقرت عليها أقدام الخلق برهم و فاجرهم نادى مناد : أن خذي أصحابك ، و ذرى أصحابي . فتخسف بكل ولي لها . لهي أعلم بهم من الوالد بولده و ينجو المؤمنون .

و قال مجاهد : و رود المؤمنين هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا و هي حظ المؤمن من النار فلا يردها .

و أسند أبو عمر بن عبد البر في ذلك حديثاً في التمهيد ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عاد مريضاً من وعك به فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أبشر فإن الله تعالى يقول : هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار .

و قالت طائفة : الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز ، و يصلاها قدر عليه دخولها، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى ، و احتجوا بحديث ابن عمر : [ إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشي ] الحديث .

و قيل : المراد بالورود الإشراف على جهنم و الإطلاع عليها و القرب منها . و ذلك أنهم يحضرون موضع الحساب و هو بقرب جهنم فيرونها و ينظرون إليها في حالة الحساب ، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ، و يصار بهم إلى الجنة و نذر الظالمين أي يؤمر بهم إلى النار ، قال الله تعالى : و لما ورد ماء مدين أي أشرف عليه لا أنه دخله و روت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يدخل النار أحد من أهل بدر ، و الحديبية قال : فقلت يا رسول الله : و أين قول الله عز و جل : و إن منكم إلا واردها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثم ننجي الذين اتقوا خرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم عند حفصة . الحديث .

و قيل : الخطاب للكفار في قوله تعالى : و إن منكم إلا واردها روى وكيع ، عن شعبة ، عن عبد الله بن السائب ، عن رجل ، عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز و جل : و إن منكم إلا واردها قال : هذا خطاب للكفار . و روي عنه أنه كان يقرأ و إن منهم رداً على الآيات التي قبلها من الكفار قوله : فوربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم و أيهم أشد . ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا * وإن منكم . و كذلك قرأ عكرمة و جماعة .

و قالت فرقة : المراد منكم : الكفرة . و المعنى : قل لهم يا محمد و إن منكم .

و قال الجمهور : المخاطب العالم كله و لا بد من ورود الجميع و عليه نشأ الخلاف في الورود كما ذكرنا و الصحيح أن الورود : الدخول لحديث أبي سعيد كما ذكرنا .

و في مسند الدرامي أبي محمد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس ، ثم كالراكب في رحله ، ثم كشد الرجل في مشيه .

و قال صلى الله عليه و سلم : لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم خرجه الأئمة . قال الزهري كأنه يريد هذه الآية و إن منكم إلا واردها ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده ، و هذا يبين لك ما ذكرناه لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون برداً و سلاماً على المؤمنين و ينجون منها سالمين ، قال : خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ألم يقل ربنا إنا نرد النار ؟ فيقال : قد وردتموها فلقيتموها رماداً.

قلت : و الذي يجمع شتات الأقوال : أن يقال إن من وردها ، و لم تؤذه بلهبها و حرها فقد أبعد عنها و نجي منها ، نجانا الله منها بفضله و كرمه ، و جعلنا ممن وردها سالماً ، و خرج منها غانماً .

و روي ابن جريج عن عطاء قال : قال أبو راشد الحروري لابن عباس لا يسمعون حسيسها فقال له ابن عباس : أمجنون أنت ؟ فأين قوله تعالى : و إن منكم إلا واردها و قوله : فأوردهم النار و قوله : إلى جهنم ورداً . و لقد كان من دعاء من مضى اللهم أخرجني من النار سالماً و أدخلني الجنة فائزاً .

و قد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود ، و الجهل بالصدر ، كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه يقول : ليت أمي لم تلدني فتقول له امرأته : يا أبا ميسرة إن الله قد أحسن إليك و هداك إلى الإسلام ، قال : أجل و لكن الله قد بين لنا أنا واردوا النار و لم يبين لنا أنا صادرون .

و عن الحسن قال : قال رجل لأخيه أي أخي هل أتاك أنك وارد النار ؟ قال : نعم قال : فهل أتاك أنك خارج منها ؟ قال : لا . قال : ففيم الضحك إذاً ؟ قال : فما رئي ضاحكاً حتى مات .

و روي عن ابن عباس أنه قال في هذ المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي : [ أما أنا و أنت فلا بد أن يدرها فأما أنا فينجيني الله منها و أما أنت فما أظنه ينجيك ] .

و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي عاصم قال : بكى ابن رواحة فبكت امرأته فقال لها : ما يبكيك ؟ قالت : بكيت حين رأيتك تبكي . فقال عبد الله: إني علمت أني وارد النار فما أدري أناج منها أم لا ؟ و في معناه قيل :

و قد أتانا ورود النار ضاحية حقا يقيناً ، و لما يأتنا الصدر

باب ما جاء في شعار المؤمنين على الصراط

الترمذي عن المغيرة بن شعبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : شعار المؤمنين على الصراط : رب سلم سلم ، قال : حديث غريب .

و في صحيح مسلم : و نبيكم صلى الله عليه و سلم قائم على الصراط يقول : رب سلم سلم و قد تقدم.

باب فيمن لا يوقف على الصراط طرفة عين

ذكر الوائلي أبو نصر في كتاب الإبانة : أخبرنا محمد بن الحجاج قال : أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الربعي ، حدثنا علي بن الحسين أبو عبيد قال : حدثنا زكريا ابن يحيى أبو السكن قال : حدثني عبد الله بن صالح الهماني قال : حدثني أبو همام القرشي ، عن سليمان بن المغيرة ، عن قيس بن مسلم ، عن طاووس ، عن أبي هريرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم علم الناس سنتي و إن كرهوا ذلك و إن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدث الجنة فلا تحدث في دين الله حدثاً برأيك . قال : و هذا غريب الإسناد و المتن حسن.

باب منه

أبو نعيم قال : حدثنا سليمان بن أحمد ، قال : حدثنا خير بن عرفة قال : حدثنا هانئ بن المتوكل قال : حدثنا ربيعة سليمان بن ربيعة ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أحسن الصدقة في الدنيا جاز على الصراط . و من قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته . قال : هذا حديث غريب من حديث محمد ، تفرد بن سليمان عن موسى .

و ذكر الختلي أبو القاسم ، حدثنا عثمان بن سعيد أبو عمرو الأنطاكي قال : حدثنا علي بن الهيثم ، حدثنا إبراهيم بن بشار ، حدثنا شيخ يكنى أبا جعفر قال : رأيت في منامي كأني واقف على قناطر جهنم فنظرت إلى هول عظيم ، فجعلت أفكر في نفسي كيف العبور على هذه ؟ فإذا قائل يقول من خلفي : يا عبد الله ضع حملك و اعبر فقلت : و ما حملي ؟ قال : دع الدنيا و اعبر ، قال : و حدثني أبو بكر خليفة الحارث بن خليفة قال : قال : حدثنا عمرو بن جرير، حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا الدرداء يقول لابنه : يا بني لا يكن بيتك إلا المسجد ، فإن المساجد بيوت المتقين سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من يكن المسجد بيته ، ضمن الله لو بالروح و الرحمة و الجواز على الصراط .

قلت : و هذا الحديث يصحح ما ذكرناه من الرؤيا فإن من سكن المسجد و اتخذه بيتاً و أعرض عن الدنيا و أهله وأقبل إلى الآخرة و عمل لها .

باب ثلاثة مواطن لا يخطئها النبي صلى الله عليه و سلم لعظم الأمر فيها و شدته

الترمذي عن أنس قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يشفع لي يوم القيامة قال: أنا فاعل إن شاء الله . قال : فأين أطلبك ؟ قال :أول ما تطلبني على الصراط ، قلت : فإن لم ألقك ؟ قال : فاطلبني عند الميزان . قلت : فإن لم ألقك عند الميزان ؟ قال : فاطلبني عند الحوض ، فإني لا أخطئ هذه الثلاثة مواطن . قال : هذا حديث حسن ، و قد تقدم من حديث عائشة أنه عليه السلام قال : أما ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً عند الميزان و عند تطاير الصحف و عند الصراط .

باب في تلقي الملائكة للأنبياء و أممهم بعد الصراط و في هلاك أعدائهم

ابن المبارك ، عن عبد الله بن سلام قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأنبياء نبياً نبياً ، و أمة أمة حتى يكون آخرهم مركزاً محمد و أمته ، و يضرب الجسر على جهنم و ينادي مناد أين أحمد و أمته ؟ فيقول نبي الله صلى الله عليه و سلم و تتبعه أمته برها و فاجرها ، حتى إذا كان على الصراط طمس الله ابصار أعدائه فتهافتوا في النار يميناً و شمالاً و يمضي النبي صلى الله عليه و سلم و الصالحون معه فتتلقاهم الملائكة فيدلونهم على طريق الجنة على يمينك على شمالك ، حتى ينتهي إلى ربه فيوضع له كرسي من الجانب الآخر ، ثم يدعى نبي نبي و أمة أمة ، حتى يكون آخرهم نوحاً ، رحم الله نوحاً .

باب ذكر الصراط الثاني و هو القنطرة التي بين الجنة و النار

اعلم رحمك الله أن في الآخرة صراطين : أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم ثقيلهم و خفيفهم إلا من دخل الجنة بغير حساب أو من يلتقطه عنق النار فإذا خلص من هذا الصراط الأكبر الذي ذكرناه و لا يخلص منه إلا المؤمنون الذين علم الله منهم أن القصاص لا يستنفذ حسناتهم حسبوا على صراط آخر خاص لهم و لا يرجع إلى النار من هؤلاء أحد إن شاء الله لأنهم قد عبروا ا الصراط الأول المضروب على متن جهنم الذي يسقط فيها من أوبقه ذنبه و أربى على الحسنات بالقصاص جرمه .

البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يخلص المؤمنون من النار فيحسبون على قنطرة بين الجنة و النار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا و نقوا أذن لهم في دخول الجنة ، فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم بمنزله في الجنة منه بمنزله كان له في الدنيا .

فصل : قلت : معنى يخلص المؤمنون من النار أي يخلصون من الصراط المضروب على النار ، و دل هذا الحديث على أن المؤمنين في الآخرة مختلفو الحال قال مقاتل : إذا قطعوا جسر جهنم حسبوا على قنطرة بين الجنة و النار ، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا و طيبوا قال لهم رضوان و أصحابه سلام عليكم بمعنى التحية طبتم فادخلوها خالدين .

و قد ذكر الدراقطني حديثاً ذكر فيه : أن الجنة بعد الصراط .

قلت : و لعله أراد بعد القنطرة بدليل حديث البخاري و الله أعلم . أو يكون ذلك في حق من دخل النار و خرج بالشفاعة فهؤلاء لا يحبسون بل إذا خرجوا بثوا على أنهار الجنة على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى .

و قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : أصحاب الجنة محبوسون على قنطرة بين الجنة و النار يسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم . و لا تعارض بين هذا و بين حديث البخاري ، فإن الحديثين مختلفا المعنى لاختلاف أحوال الناس ، و كذلك لا تعارض بين قوله عليه السلام لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة و بين قول عبد الله بن سلام إن الملائكة تدلهم على

طريق الجنة يميناً و شمالاً ، فإن هذا يكون فيمن لم يحبس على قنطرة و لم يدخل النار فيخرج منها فيطرح على باب الجنة . و قد يحتمل أن يكون ذلك في الجميع ، فإذا وصلت بهم الملائكة إلى باب الجنة كان كل أحد منهم أعرف بمنزلة في الجنة و موضعه فيها منه بمنزله كان في الدنيا و الله أعلم و هو معنى قوله و يدخلهم الجنة عرفها لهم قال أكثر أهل التفسير : إذا دخل أهل الجنة الجنة يقال لهم تفرقوا إلى منازلكم فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم .

و قيل : إن هذا التعريف إلى المنازيل بدليل ، و هو أن الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه و حديث أبي سعيد الخدري يرده و الله أعلم .

باب من دخل النار من الموحدين مات و احترق ثم يخرجون بالشفاعة

مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها و لا يحيون و لكن ناساً أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن لهم في الشفاعة فيجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل فقال رجل من القوم كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد كان يرعى الغنم بالبادية .

فصل : هذه الموتة للعصاة موتة حقيقية لأنه أكدها بالمصدر ، و ذلك تكريماً لهم حتى لا يحسوا ألم العذاب بعد الاحتراق بخلاف الحي الذي هو من أهلها و مخلد فيها كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب و قيل : يجوز أن تكون إماتتهم عبارة عن تغيبه إياهم عن آلامها بالنوم ، و لا يكون ذلك موتاً على الحقيقة ، فإن النوم قد يغيب عن كثير من الآلام و الملاذ ، و قد سماه الله موتاً . فقال الله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فهو وفاة و ليس بموت على الحقيقة الذي هو خروج الروح عن البدن ، و كذلك الصعقة قد عبر الله بها الموت في قوله تعالى فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله .

و أخبر عن موسى عليه السلام أنه خر صعقاً و لم يكن ذلك موتاً على الحقيقة غير أنه لما غيب عن أحوال المشاهدة من الملاذ و الآلام جاز أن يسمى موتاً ، و كذلك يجوز أن يكون أماتهم غيبهم عن الآلام و هم أحياء بلطيفة يحدثها الله فيهم ، كما غيب النسوة اللاتي قطعن أيديهن بشاهد ظهر لهن فغيبهن فيه عن آلامهن ، و التأويل الأول أصح لما ذكرناه على الحقيقة كما أن أهلها أحياء على الحقيقة و ليسوا بأموات .

فإن قيل : فما معنى إدخالهم النار و هم فيها غير عالمين ؟ قيل : يجوز أن يدخلهم تأديباً لهم و إن لم يعذبهم فيها ، و يكون صرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالمحبوسين في السجون ، فإن الحبس عقوبة لهم و إن لم يكن معه غل و لا قيد و الله أعلم . و سيأتي لهذا مزيد بيان في أبواب النار إن شاء تعالى .

و قوله : ضبائر ضبائر معناه جماعات جماعات الواحدة ضبارة بكسر الضاد و هي الجماعة من الناس . و بثوا : فرقوا . و الحبة بكسر الحاء بزر البقول و حميل السيل ما احتمله من غثاء و طين . و سيأتي إن شاء الله تعالى .

باب فيمن يشفع لهم قبل دخول النار من أجل أعمالهم الصالحة و هم أهل الفضل في الدنيا

ذكر أبو عبد الله محمد بن ميسرة الجبلي القرطبي في كتاب التبيين له . روى أبي و ابن وضاح من حديث أنس يرفعه قال : يصف أهل النار فيقرنون فيمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول الرجل منهم يا فلان : أما تذكر رجلاً سقاك شربة ماء يوم كذا و كذا ؟ فيقول : إنك لأنت هو . قال : فيقول نعم . قال فيشفع فيه فيشفع و يقول الرجل منهم يا فلان لرجل من أهل الجنة : أما تذكر رجلاً وهب لك وضوءاً يوم كذا و كذا ؟ . فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه .

قلت : أخرجه ابن ماجه في سننه بمعناه قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير و علي بن محمد قالا : حدثنا الأعمش، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يصف الناس يوم القيامة صفوفاً و قال ابن نمير أهل الجنة فيمر الرجل من أهل النار على الرجل من أهل الجنة فيقول يا فلان : أما تذكر يوم استسقيتني فسقيتك شربة ؟ قال : فيشفع له ، و يمر الرجل على الرجل فيقول : أما تذكر يوم ناولتك طهوراً فيشفع له. قال ابن نمير و يقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا و كذا فذهبت لك فيشفع له .

و خرج أبو نعيم الحافظ بإسناده عن الثوري ، حدثنا الأعمش ، عن شفيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليوفيهم أجورهم يوم القيامة و يزيدهم من فضله قال: أجورهم يدخله الجنة و يزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا .

و ذكر أبو جعفر الطحاوي أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الجنة صفوفاً ، و أهل النار صفوفاً ، فينظر الرجل من صفوف أهل النار إلى الرجل من صفوف أهل الجنة فيقول يا فلان : تذكر يوم اصطنعت معروفاً إليك ؟ فيقول : اللهم إن هذا اصطنع إلي في الدنيا معروفاً قال فيقال له خذ بيده و أدخله الجنة برحمة الله عز و جل ، قال أنس رضي الله عنه أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقوله .

قال أبو عبد الله محمد بن ميسرة : و رأيت في الكتاب الذي يقال إنه الزبور [ إني أدعو عبادي الزاهدين يوم القيامة فأقول لهم : عبادي إني لم أزو عنكم الدنيا لهواتكم علي ، و لكن أردت أن تستوفوا نصيبكم موفوراً اليوم ، فتخللوا الصفوف فمن أحببتموه في الدنيا أو قضى لكم حاجة أو رد عنكم غيبة أو أطعمكم لقمة ابتغاء وجهي و طلب مرضاتي فخذوا بيده و أدخلوه الجنة ] .

فصل : و ذكر أبو حامد في آخر كتاب الآحياء . قال أنس رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن رجلا من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار فيناديه رجل من أهل النار و يقول يا فلان هلى تعرفني ؟ فيقول : لا و الله ما أعرفك . من أنت ؟ فيقول : أنا الذي مررت بي في الدنيا يوماً فاستسقيتني شربة ماء فسقيتك . قال : قد عرفت . قال فاشفع لي بها عن ربك فيسأل الله تعالى و يقول : إني أشرفت على أهل النار فناداني رجل من أهلها فقال هل تعرفني ، فقلت : لا . من أنت ؟ قال أنا الذي استسقيتني في الدنيا فسقيتك فاشفع لي بها فشفعني . فيشفعه الله تعالى فيؤمر به فيخرج من النار . و الله تعالى أعلم .

باب في الشافعين لمن دخل النار و ما جاء أن النبي صلى الله عليه و سلم يشفع رابع أربعة و ذكر من يبقى في جهنم بعد ذلك

ابن ماجه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء .

و ذكر ابن السماك أبو عمرو عثمان بن أحمد قال : حدثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان قال : أخبرنا علي بن عاصم قال : حدثنا خالد الحذاء ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبيه ، عن أبي الزعراء قال : قال عبد الله بن مسعود يشفع نبيكم رابع أربعة : جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم صلى الله عليه و سلم ثم الملائكة ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء ، و يبقى قوم من جهنم فيقال لهم ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * و لم نك نطعم المسكين إلى قوله : فما تنفعهم شفاعة الشافعين قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : فهؤلاء الذين يبقون في جهنم .

قال المؤلف رحمه الله : و قيل إن هذا هو المقام المحمود لنبينا صلى الله عليه و سلم خرجه أبو داود الطيالسي قال ، حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه ، عن أبي الزعراء ، عن عبد الله قال : ثم يأذن الله عز و جل في الشفاعة فيقوم روح القدس جبريل عليه الصلاة و السلام ، ثم يقوم إبراهيم خليل الله صلى الله عليه و سلم ، ثم يقوم موسى أو عيسى عليه السلام . قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما قال ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه و سلم رابعاً فيشفع لا يشفع لأحد بعده في أكثر مما يشفع و هو المقام المحمود الذي قال الله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً .

ابن ماجه ، عن عبد الله بن أبي الجدعاء أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم قالوا : يا رسول الله : سواك ؟ قال: سواي قلت : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : أنا سمعته أخرجه الترمذي و قال : حديث حسن صحيح غريب . و لا نعرف لابن الجدعاء غير هذا الحديث الواحد .

قال المؤلف رحمه الله : و خرجه البيهقي في دلائل النبوة و قال في آخره قال عبد الوهاب الثقفي ، قال هشام بن حيان كان الحسن يقول إنه أويس القرني ، و ذكر ابن السماك قال : حدثنا يحيى بن جعفر ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا حريز بن عثمان ، عن عبد الله بن ميسرة و حبيب بن عدي الرحبي ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخل بشفاعة رجل من أمتي الجنة مثل أحد الحيين : ربيعة و مضر قال قيل يا رسول الله و ما ربيعة من مضر ؟ قال إنما أقول ما أقول قال : فكان المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان .

الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن من أمتي من يشفع للفئام ، و منهم من يشفع للقبيلة ، و منهم من يشفع للعصبة ، و منهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة قال : حديث حسن .

و ذكر البزار في مسنده عن ثابت أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الرجل ليشفع للرجلين و الثلاثة و ذكر القاضي عياض في الشفاء عن كعب : [ أن لكل رجل من الصحابة رضي الله عنهم شفاعة ] ذكره ابن المبارك قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يكون في أمتي رجل يقال له : صلة بن أشيم يدخل الجنة بشفاعته كذا و كذا .

فصل : إن قال قائل : كيف تكون الشفاعة لمن دخل النار ، و الله تعالى يقول إنك من تدخل النار فقد أخزيته و قال : و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و قال : و كم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى و من ارتضاء الله لا يخزيه . قال الله تعالى يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم الآية ؟ قلنا : هذا مذهب أهل الوعيد الذين ضلوا عن طريق ، و حادوا عن التحقيق .

و أما مذهب أهل السنة الذين جمعوا بين الكتاب و السنة ، فإن الشفاعة تنفع العصاة العصاة من أهل الملة ، حتى لا يبقى منهم أحد إلا دخل الجنة . و الجواب عن الآية الأولى ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه أن معنى من تدخل النار من يخلد . و قال قتادة : يدخل مقلوب يخلد و لا تقول كما قال أهل حروراء فيكون قوله على هذا فقد أخزيته على بابه من الهلاك أي أهلتكه و أبعدته و مقته . و بهذا قال سعيد بن المسيب ، فإن الآية جاءت خاصة في قوم لا يخرجون من النار . دليله قوله في آخر الآية و ما للظالمين من أنصار أي الكفار .

و إن قدرنا الآية في العصاة من الموحدين ، فيحتمل أن يكون الخزي بمعنى الحياء . يقال : خزي يخزي خزاية إذا استحي فهو خزيان و امرأة خزناية . كذا قال أهل المعاني فخزي المؤمنين يومئذ : استحياؤهم في دخول النار من سائر أهل الأديان إلى أن يخرجوا منها . و الخزي للكافرين هو هلاكهم فيها من غير موت و المؤمنون يموتون ، فافترقوا في الخزي و الهوان ، ثم يخرجون بشفاعة من أذن الله له في الشفاعة و برحمة الرحمن و شفاعته على ما يأتي في الباب بعد هذا ، و عند ذلك يكونون مرضيين قد رضي عنهم ، ثم لا يأتي الإذن في أحد حتى يرضى لا يبقى عليه من قصاص ذنبه إلا ما تجيزه الشفاعة فيؤذن فيه فيلحق بالفائزين الراضين ، و الحمد لله رب العالمين .

و أما قوله تعالى : يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه فمعناه : لا يعذبه و لا يعذب الذين آمنوا و إن عذب العصاة و أماتهم فإنهم يخرجهم بالشفاعة و برحمته على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا ، و الله أعلم .

باب منه في الشفعاء و ذكر الجهنميين

ذكر ابن المبارك قال ، أخبرنا رشدين بن سعد ، عن يحيى ، عن أبي عيد الرحمن الختلي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الصيام و القرآن يشفعان للعبد يقول الصيام : رب منعته الطعام و الشراب و الشهوات بالنهار فشفعني فيه و يقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان .

و ذكر مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه و فيه بعد قوله في نار جهنم : حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله تعالى في استيفاء الحق من المؤمنين يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار .

و خرجه ابن ماجه و لفظه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم : إذا خلص الله المؤمنين من النار و آمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا أشد مجادلة من المؤمنين الذين دخلوا النار . قال يقول ربنا إخواننا كانوا . فذكره بمعناه . يقولون ربنا كانوا يصومون معنا و يصلون و يحجون ، فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقه و إلى ركبتيه يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ، ثم يقول الله عز و جل : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ربنا لم نذر فيها خيراً .

و كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم : إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً فيقول الله تعالى : شفعت الملائكة ، و شفع النبيون ، و شفع المؤمنون و لم يبق إلا أرحم الراحمين . في البخاري و بقيت شفاعتي بدل قوله و لم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط عادوا حمماً فيلقيقهم في نهر على أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل . ألا ترونها تكون إلى الحجر أو الشجر ما يكون إلى الشمس أصفر و أخضر ، و ما يكون منها إلى الظل يكون أبيض قالوا يا رسول الله : كأنك كنت ترعى بالبادية . قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه و لا خير قدموه ، ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم ، فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين ، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا . فيقولون : يا ربنا و أي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبداً .

و خرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له ، حدثنا أحمد بن أبي الحارث قال : حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد ، عن معمر راشد ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه أخرج كتاباً من تحت العرش : إن رحمتي سبقت غضبي فأنا أرحم الراحمين . قال فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال مثلي أهل الجنة قال : و أكثر ظني أنه قال مثلي أهل الجنة مكتوب بين أعينهم عتقاء الله .

فصل : هذا الحديث بين أن الإيمان يزيد و ينقص حسب ما بيناه في آخر سورة آل عمران من كتاب جامع أحكام القرآن فإن قوله : أخرجوا من في قلبه مثقلا دينار و نصف دينار و ذرة يدل على ذلك و قوله : من خير يريد من إيمان و كذلك ما جاء ذكره في الخبر في حديث قتادة عن أنس و كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ما يزن برة ما يزن ذرة أي من الإيمان بدليل الرواية الأخرى التي رواها معبد بن هلال العنبري عن أنس و فيها فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل . الحديث بطوله أخرجه مسلم فقوله : من إيمان أي من أعمال الإيمان التي هي أعمال الجوارح ، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من شرائع الإيمان و منه قوله تعالى و ما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم .

و قد قيل : إن المراد في هذا الحديث أعمال القلوب كأنه يقول : أخرجوا من عمل عملاً بنية من قلبه كقوله الأعمال بالنيات و في هذا المعنى خبر عجيب يأتي ذكره آنفاً إن شاء الله تعالى.

و يجوز أن يراد به ، رحمة على مسلم رقة على يتيم خوفاً من الله رجاء له ، توكلاً عليه ثقة به مما هي أفعال القلوب دون الجوارح ، وسماها إيماناً لكونها في محل الإيمان .

و الدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلنا و لم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد له و نفي الشركاء و الإخلاص بقوله لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله أخرجوا أخرجوا ثم هو سبحانه بعد ذلك يقبض قبضة فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط يريد إلا التوحيد المجرد عن الأعمال ، و قد جاء هذا مبيناً فيما رواه الحسن عن أنس و هي الزيادة التي زادها علي بن معبد في حديث الشفاعة ، ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً قال فيقال لي محمد ارفع رأسك و قل يسمع لك و سل تعطه و اشفع تشفع ، فأقول : يا رب أئذن لي فيمن قال لا إله إلا الله . قال : ليس ذاك لك أو قال ليس ذلك إليك و عزتي و كبريائي و عظمتي و جبروتي لأخرجن من قال لا إله إلا الله .

و ذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول ، عن محمد بن كعب القرطي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكتب على جباههم عتقاء الرحمن فيسألون أن يمحوا ذلك الاسم عنهم فيمحوه و في رواية فيبعث الله ملكاً فيمحوه عن جباههم الحديث و سيأتي . يقال : محا لوحه يمحوه محواً و يمحيه محياً و محاه أيضاً فهو ممحو و ممحى . صارت الواو ياء لكسر ما قبلها فأدغمت في الياء التي هي لام الفعل و أنشد الأصمعي :

كما رأيت الورق الممحيا

و انمحى انفعل و امتحى لغة فيه ضعيفة قاله الجوهري .

و ذكره أبو بكر البزار في مسنده ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها و لا يحيون ، و أما الذين يريد الله إخراجهم فتميتهم النار ثم يخرجون منها فيلقون على نهر الحياة فيرسل الله عليهم من مائها، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل و يدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة : الجهنميين فيدعون الله تعالى فيذهب ذلك الاسم عنهم .

البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين .

الترمذي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ليخرجن قوم من النار بشفاعتي يسمون الجهنميين قال : حديث حسن .

و عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي خرجه الترمذي و صححه أبو محمد عبد الحق .

و خرجه أبو داود الطيالسي و ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي . زاد الطيالسي قال : فقال لي جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له و للشفاعة ؟ قال أبو داود و حدثناه محمد بن ثابت عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر .

و ذكر أبو الحسن الدراقطني عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال نعم أنا لشرار أمتي . فقالوا : فكيف أنت لخيارها ؟ قال : أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم و أما شرارهم فيدخلون الجنة بشفاعتي .

و خرج ابن ماجه ، حدثنا إسماعيل بن أسد ، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد السلوي ، حدثنا زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند ، عن ربعي بن حراش ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرت بين الشفاعة و بين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم و أكفى . أترونها للمتقين ؟ لا . و لكنها للخاطئين المذنبين المتلوثين .

قلت : و أنبأنا الشيخ الفقيه أبو القاسم عبد الله بن علي بن خلف الكوفي إجازة عن أبيه الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف الكوفي قال : قرئ على الشيخة الصالحة فخر النساء خديجة بنت أحمد بن الحسن بن عبد الكريم النهرواني في منزلها و أنا حاضر أسمع قيل لها : أخبركم الشيخ أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد النعالي فأقرت به ، و قالت : نعم . قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن رزقويه البزار ، أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح الصغار ، حدثنا عبد الله بن أيوب المخرمي ، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد السكوني ، عن زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند ، عن ربعي بن خراش عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : خيرت بين الشفاعة و نصف أمتي فاخترت الشفاعة أترونها للمتقين لا و لكنها للخاطئين المتلوثين ؟ .

و خرج ابن ماجه قال : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد حدثنا ابن جابر قال سمعت سليم بن عامر يقول، سمعت عوف بن مالك الأشجعي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتدرون ما خيرني ربي الليلة ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم . قال : إنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة و بين الشفاعة فاخترت الشفاعة . قلنا : يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا من أهلها . قال : هي لكل مسلم و ما الخبر العجيب الذي وعدنا بذكره فذكره الكلاباذي أبو بكر محمد بن إبراهيم في بحر الفوائد له ، حدثنا أبو النصر محمد بن إسحاق الرشادي قال ، حدثنا أبو بكر محمد بن عيسى بن زيد الطرسوسي قال ، حدثنا نعيم بن حماد قال ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن أبي قلابة قال : كان لي ابن أخ يتعاطى الشراب فمرض فبعث إلي ليلا : أن ألحق بي فأتيته فرأيت أسودين قد دنوا من ابن أخي فقلت: إنا لله هلك ابن أخي فاطلع أبيضان من الكوة التي في البيت ، فقال أحدهما لصاحبه : انزل إليه فلما نزل تنحى الأسودان فجاء فشم فاه ، فقال ما أرى فيه ذكراً ، ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوماً ، ثم شم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة ، فقال له صاحبه : إنا لله و إنا إليه راجعون رجل من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ليس له من الخير شيء ويحك عد فانظر فعاد فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكراً ، ثم عاد فشم بطنه فقال ما رأى فيه صوماً ثم عاد فشم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة ، فقال : ويحك رجل من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ليس معه من الخير شيء اصعد حتى أنزل أنا ، فنزل الآخر فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكراً ، ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوماً ، ثم شم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة ، قال : ثم عاد فأخرج طرف لسانه فشم لسانه فقال : الله أكبر تكبيرة في سبيل الله يريد بها وجه الله بإنتاكية قال ، ثم فاضت نفسه و شممت في البيت رائحة المسك ، فلما صليت الغداة قلت لأهل المسجد : هل لكم في رجل من أهل الجنة ؟ و حدثتهم حديث ابن أخي ، فلما بلغت ذكر إنتاكية قالوا ليست بإنتاكية هي إنطاكية قلت لا و الله لا أسمتيها إلا كما سماها الملك .

قال علماؤنا : فهذا أنجته تكبيرة أراد بها وجه الله تعالى ، و هذه التكبيرة كانت سوى الشهادة التي هي شهادة الحق التي هي شهادة الإيمان بالله تعالى كما قررناه ، فشفاعة النبي صلى الله عليه و سلم و الملائكة و النبيين و المؤمنين لمن كان له عمل زائد على مجرد التصديق ، و من لم يكن معه من الإيمان خير كان من الذين يتفضل الله عليهم فيخرجهم من النار فضلاً و كرماً وعداً منه حقاً و كلمة صدقاً إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء فسبحان الرؤوف لأبياته بعباده الموفي بعهده .

فصل : قلت : جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يكتب على جباههم عتقاء الرحمن و هذا تعارض .

و وجه الجمع بين الحديث أن يكون بعضهم سيماهم في وجوههم و بعضهم سيماهم في رقابهم، و قد جاء في حديث جابر و فيه بعد إخراج الشافعين ، ثم يقول الله تبارك و تعالى أنا الله أخرج بعلمي و رحمتي فيخرج أضعاف ما خرجوا و أضعافهم ، و يكتب في رقابهم عتقاء الله عز و جل فيدخلون الجنة فيسمون فيها بالجهنميين .

قلت : و قد يعبر بالرقبة عن جملة الشخص قال الله تعالى فتحرير رقبة و قال عليه السلام و لم ينس حق الله في رقابها و لا ظهورها . و قد تعبر العرب بالرقاب عن جملة المال قال الشاعر :

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً علقت لضحكته رقاب المال

فيحتمل أن يكون المعنى في حديث أبي سعيد و جابر رضي الله عنهما فيخرجون اللؤلؤ يعرف أهل الجنة أشخاصهم بالخواتيم المكتوبة على جباههم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه و لا تعارض على هذا ، و الله أعلم .

فصل : إن قال قائل لم سألوا محو ذلك الاسم عنهم و هو اسم شريف لأنه سبحانه أضافه إليه، كما أضاف الأسماء الشريفة فقال : نبيي و بيتي و عرشي و ملائكتي ، و قد جاء في الخبر : إن المتحابين في الله مكتوب على جباههم هؤلاء المتحابون في الله و لم يسألوه محوه ؟ قيل : إنما سألوا ذلك بخلاف المتحابين في الله تعالى لأنهم أنفوا أن ينسوا إلى جهنم التي هي دار الأعداء و استحيوا من إخوانهم لأجل ذلك ، فلما من عليهم بدخول الجنة أرادوا كمال الامتنان بزوال هذه النسبة عنهم . و قد روي مرفوعاً : إنهم إذا دخلوا الجنة قال أهل الجنة هؤلاء الجهنميون فعند ذلك يقولون إلهنا لو تركتنا في النار كان أحب إلينا من العار ، فيرسل الله ريحاً من تحت العرش يقال لها المثيرة فتهب على وجوههم فتمحي الكتابة و تزيدهم بهجة و جمالاً و حسناً .

أخبرنا الشيخ الراوية أبو محمد عبد الوهاب عرف بابن رواحة قرأت عليه ، قال قرئ على الحافظ السلفي و أنا أسمع قال : أخبرنا الحاجب أبو الحسن العلاف ، أخبرنا أبو القاسم بن بشران ، أخبرنا الآجري أبو بكر محمد بن الحسين ، حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن سعيد الأنصاري ، حدثنا علي بن مسلم الطوسي ، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال : حدثني عمرو بن رفاعة الربعي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها و لا يحيون و أهلها الذين يخرجون منها إذا أسقطوا فيها كانوا فحماً ، حتى يأن الله فيخرجهم فيلقيهم على نهر يقال له الحياة أو الحيوان ، فيرش أهل الجنة عليهم الماء فينبتون ثم يدخلون الجنة يسمون الجهنميين ، ثم يطلبون من الرحيم عز و جل فيذهب ذلك الاسم عنهم و يلحقون بأهل الجنة . و أما سيماء المتحابين فعلامة شريفة و نسبة رفيعة فلذلك لم يسألوا محوها و لا طلبوا زوالها و إزالهتا و الله أعلم .

فإن قيل : ففي هذا ما يدل على أن بعض من يدخل الجنة قد يلحقه تنغيص ما ، و الجنة لا تنغيص فيها و لا نكد .

قيل له : هذه الأحاديث تدل على ذلك و أن ذلك يلحقهم عند دخول الجنة ثم يزول ذلك الاسم عنهم : و قد مثل بعض علمائنا هذا الذي أصاب هؤلاء بالبحر تقع فيه النجاسات أنه لاحكم لها كذلك ما أصاب هؤلاء بالنسبة إلى أهل الجنة، و هو تشبيه حسن .

قلت : و قد يلحق الجميع خوف ما عند ذبح الموت على الصراط على ما يأتي : و بعده يكونون آمنين مسرورين قد زال عنهم كل متوقع ، و الله أعلم .

فصل : إن قال قائل : كيف يشفع القرآن و الصيام و إنما ذلك عمل العاملين ؟ قيل له : و قد تقدم هذا المعنى و نزيده وضوحاً ، فنقول أنا الذي أسهرت ليلك و أظمأت نهارك خرجه ابن ماجه في سننه من حديث بريدة و إسناده صحيح، فقوله : يجيء القرآن أي ثواب قارئ القرآن .

و قد جاء في صحيح مسلم من حديث النواس بين سمعان الكلابي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: يؤتى بالقرآن يوم القيامة و أهله الذين كانوا يعملون به تتقدمه سورة البقرة و آل عمران و ضرب لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة أمثال ما نستيهن بعد قال كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما .

قال علماؤنا فقوله تحاجان عن صاحبهما أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة كما جاء في بعض الحديث أنه من قرأ شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة خلق الله سبعين ألف ملك يستغفرون إلى يوم القيامة .

قلت : و كذلك يخلق الله من ثواب القرآن و الصيام ملكين كريمين ، فيشفعان له و كذلك إن شاء الله سائر الأعمال الصالحة ، كما ذكره ابن المبارك في دقائقه : أخبرنا رجل عن زيد بن أسلم قال : بلغني أن المؤمن يتمثل له عمله يوم القيامة في أحسن صورة و أحسن ما خلق الله وجهاً و ثياباً و أطيبه ريحاً ، فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء أمنه و كلما تخوف شيئاً هون عليه ، فيقول له : جزاك الله من صاحب خيراً من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني و قد صحبتك في قبرك و في دنياك أنا عملك كان و الله حسناً . فلذلك تراني حسناً و كان طيباً فلذلك تراني طيباً . تعال فاركبني فطال ما ركبتك في الدنيا و هو قوله تعالى : و ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم الآية . حتى يأتي به إلى ربه عز و جل فيقول يا رب إن كل صاحب عمل في الدنيا قد أصاب في عمله ، و كل صاحب تجارة و صانع قد أصاب في تجارته غير صاحبي هذا قد شغل في نفسه فيقول الله تعالى : فما تسأل ؟ فيقول المغفرة و الرحمة أو نحو هذا فيقول : فإني قد غفرت له ، ثم يكسى حلة الكرامة و يجعل عليه تاج الوقار فيه لؤلؤة تضيء من مسيرة يومين ثم يقول : يا رب إن أبويه قد شغل عنهما و كل صاحب عمل و تجارة قد كان يدخل على أبويه من عمله فيعطى أبويه مثل ما أعطى .

و يتمثل للكافر عمله في أقبح ما يكون صورة و أنتن رائحة و يجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده ، و كلما تخوف شيئاً زاده خوفاً منه ، فيقول : بئس الصاحب أنت و من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ فيقول : لا . فيقول : أنا عملك كان قبيحاً فلذلك تراني قبيحاً و كان منتناً ، فلذلك تراني منتناً فطأطئ رأسك أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فذلك قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة .

قلت : مثل هذا لا يقاب من جهة الرأي ، و معناه يستند من حديث قيس بن عاصم المنقري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك و هو حي و تدفن معه و أنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك و إن كان لئيماً أسلمك ، ثم لا يحشر إلا معك و لا تبعث إلا معه و لا تسأل إلا عنه ، فلا تجعله إلا صالحاً فإن كان صالحاً فلا تأنس إلا به، و إن كان فاحشاً فلا تستوحش إلا منه و هو فعلك.

و ذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتاب روضة المشتاق ، و الطريق إلى الملك الخلاق قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يؤتى يوم القيامة بالتوبة في صورة حسنة و رائحة طيبة فلا يجد رائحتها و لا يرى صورتها إلا مؤمن فيجدون لها رائحة و أنساً ، فيقول الكافر و العاصي المصر : ما لنا ماوجدنا ماوجدتم و لا رأينا ما رأيتم فتقول التوبة : طال ما تعرضت لكم في الدنيا فما أردتموني فلو كنتم قبلتموني لكنتم اليوم وجدتموني فيقولون : نحن اليوم نتوب فينادي مناد من تحت العرش : ههيات ذهبت أيام المهلة و انقضى زمان التوبة ، فلو جئتموني بالدنيا و ما اشتملت عليه ما قبلت توبتكم و لا رحمت عبرتكم ، فعند ذلك تنأى التوبة عنهم و تبعد ملائكة الرحمة عنهم ، و ينادي مناد من تحت العرش : يا خزنة النار هلموا إلى أعداء الجبار و هذا بين فما ذكرناه و بالله توفيقنا ، و الله أعلم.

باب معرفة المشفوع فيهم بأثر السجود و بياض الوجوه

قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري أن المؤمنين يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصومون معنا و يصلون و يحجون أدخلتهم النار ، فيقول لهم : اذهبوا فمن عرفتم أخرجوه . و ذكر الحديث.

و خرج مسلم من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه و سلم و فيه بعد قوله منهم المجازى حتى ينجى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد و أراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله ، فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود ، و حرم الله على النار أن تأكل آثر السجود ، فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل و ذكر الحديث .

و خرج عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن قوماً يخرجون من النار يحترقون فيها إلا درات وجوههم حتى يدخلوا الجنة .

فصل : هذا الحديث أدل دليل على أن أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم لا تسود لهم وجوه ، و لا تزرق لهم أعين ، و لايغلون بخلاف الكفار ، و قد جاء هذا المعنى منصوصاً في حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ثم ماتوا عليها ، فهم في الباب الأول من جهنم لا تسود وجوههم و لا تزرق أعينهم و لا يغلون بالأغلال و لا يقرنون بالشياطين ، و لا يضربون بالمقامع و لا يطرحون في الأدراك ، منهم من يمكث فيها ساعة ثم يخرج ، و منهم من يمكث فيها يوماً ثم يخرج ، و منهم من يمكث فيها شهراً ثم يخرج ، و منهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج ، و أكثرهم مكثاً فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت ، و ذلك سبعة آلاف سنة الحديث بطوله و سيأتي تمامه إن شاء الله تعالى ، خرجه الترمذي في نوادر الأصول .

و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة إنه يؤتى بأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم شيوخاً و عجائز و كهولاً و نساء و شباباً ، فإذا نظر إليهم مالك خازن النار ، قال: من أنتم معشر الأشقياء ما لي أرى أيديكم لا تغل ، و لم توضع عليكم الأغلال و السلاسل و لم تسود وجوهكم و ما ورد علي أحسن منكم ، فيقولون : يا مالك نحن أشقياء أمة محمد صلى الله عليه و سلم دعنا نبكي على ذنوبنا . فيقول لهم : ابكوا فلن ينفعكم البكاء .

فكم من شيخ وضع يده على لحيته و يقول : وا شيبتاه وا طول حسرتاه وا ضعف قوتاه ، و كم من كهل ينادي وا مصيبتاه وأطول مقاماه . و كم من شاب ينادي وا أسفاه وا شباباه على تغيير حسناه ، و كم من امرأة قد قبضت على ناصيتها و شعرها و هي تنادي وا سوأتاه واهتك أستارها ، فيبكون ألف عام ، فإذا النداء من قبل الله : يا مالك أدخلهم النار في أول باب منها ، فإذا همت النار أن تأخذهم فيقولون بجمعهم : لا إله إلا الله فتنفر عنهم النار خمسمائة عام ، ثم يأخذون في البكاء فتشتد أصواتهم ، و إذا النداء من قبل الله تعالى : يا نار خذيهم ، يا مالك أدخلهم الباب الأول من النار ، فعند ذلك يسمع لها صلصلة كالرعد القاصف ، فإذا همت النار أن تحرق القلوب زجرها مالك و جعل يقول : لا تحرقي قلباً فيه القرآن ، و كان وعاء الإيمان ، فإذا بالزبانية قد جاءوا بالحميم ليصبوه في بطونهم فيزجرهم مالك ، فبقول : لا تدخلوا الحميم بطوناً أخمصها رمضان ، و لا تحرق النار جباهاً سجدت لله تعالى ، فيعودون فيها حمماً كالغاسق المحلو لك و الإيمان يتلألأ في القلوب . و سيأتي لهذا مزيد بيان في آخر أبواب النار ، نجانا الله منها و لا يجعلنا ممن يدخلها فيحترق فيها .

فصل : قوله : إذا فرغ الله مشكل و في التنزيل : سنفرغ لكم أيها الثقلان و معناه المبالغة في التهديد و الوعيد من عند الله تعالى لعباده كقول القائل سأفرغ لك و إن لم يكن مشغولاً عنه بشغل و ليس بالله تعالى شغل ، تعالى عن ذلك.

و قيل : المعنى : سنقصد لمجازاتكم و عقوبتكم كما يقول القائل لمن يريد تهديده : إذاً أتفرغ لك أي أقصد قصدك . وفرغ بمعنى قصد و أحكم . قال جرير بن نمير الجعفي :

الآن و قد فرغت إلى نمير فهذا حين كنت لها عذابا

يريد ؟ و قد قصدت نحوه فمعنى فرغ الله من القضاء بين العباد . أي تمم عليهم حسابهم و فصل بينهم لأنه لا يشغلهم شأن عن شأن سبحانه و تعالى .

باب ما يرجى من رحمة الله تعالى و مغفرته و عفوه يوم القيامة

قال الحسن : يقول الله تعالى يوم القيامة : جوزوا الصراط بعفوي ، و ادخلوا الجنة برحمتي ، و اقتسموها بأعمالكم .

و قال عليه السلام : ينادي منادي من تحت العرش : يا أمة محمد أما ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم و بقيت التبعات فتواهبوها فيما بينكم و ادخلوا الجنة برحمتي .

و روي أن إعرابياً سمع ابن عباس يقرأ : و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها فقال الأعرابي : و الله ما أنقذكم منها و هو يريد أن يوقعهم فيها ، فقال ابن عباس خذوها من غير فقيه .

و قال الصنابحي دخلت على عبادة بن الصامت و هو في الموت فبكيت فقال : مهلاً لم تبكي؟ فوالله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً ، و سوف أحدثكموه اليوم ، و قد أحيط بنفسي . سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من شهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار . خرجه مسلم و غيره من الأئمة .

و خرج مسلم من حديث سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات و الأرض مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء و الأرض ، فجعل في الأرض منها رحمة واحدة ، فيها تعطف الوالدة على ولدها ، و الطير و الوحوش بعضها على بعض ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة . أخرجه ابن ماجة من حديث أبي سعيد .

و في بعض الطرق لأبي هريرة فإذا كان يوم القيامة رد هذه الرحمة على تلك التسعة و التسعين فأكملها مائة رحمة فرحم بها عباده يوم القيامة .

قلت: أخبرناه عالياً . الشيخ الإمام الحافظ المسند ابو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن عمرو البكري التيمي من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه قراءة عليه بالصنورة المنصورة بالديار المصرية في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب الفرد سنة سبع و أربعين و ستمائة قال : حدثنا الشيخ المسند أبو حفص عمر بن محمد بن معمر الدارقري قدم علينا من دمشق قال : أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الكاتب ببغداد أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن عيلان البزاز ،أخيرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي أخبرنا موسى بن سهل الوشا ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا الحجاج بن أبي ديب قال : سمعت أبا عثمان النهدي يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لما خلق الله تعالى السموات و الأرض أنزل مائة رحمة كل رحمة طباقهما فقسم رحمة واحدة منها بين جميع الخلائق ، فمنها يتعاطفون ، فإذا كان يوم القيامة رد هذه الرحمة على التسعة و التسعين فأكملها مائة يرحم الله بها عباده يوم القيامة حتى إن أبليس ليتطاول لها رجاء أن ينال منها شيئاً .

و قال ابن مسعود : لن تزال الرحمة بالناس حتى إن إبليس ليهتز صدره يوم القيامة مما يرى من رحمة الله تعال وشفاعة الشافعين ، و قال الأصمعي : كان رجل يحدث بأهوال يوم القيامة و أعرابي جالس يسمع ، فقال : يا هذا من يلبي هذا من العباد ؟ قال : الله . فقال الأعرابي : إن الكريم إذا قدر عفا و غفر.

و روى ابن ماجة ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية هو أهل التقوى و أهل المغفرة قال : فقال الله تعالى : أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله آخر فمن اتقى ألا يجعل معي إلهاً آخر فأنا أهل أن أغفر له و خرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه و قال حديث حسن غريب .

و روي عن عبد الله بن أبي أوفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده الله أرحم بعبده من الوالدة الشفيقة بولدها .

و روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم بسبي و إذا بامرأة من السبي تبتغي ولداً لها إذ وجدت صبياً في السبي فأخذته فألصقته ببطنها و أرضعته ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم : أترون هذه المرأة طارحة ولدها . قلنا : لا و الله و هي قادرة على أن تطرحه ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أرحم بعباده من هذه بولدها أخرجه البخاري أيضاً .

و قال أبو غالب كنت أختلف إلى أبي أمامة بالشام ، فدخلت يوماً على فتى مريض من جيران أبي أمامة و عنده عم له و هو يقول له : يا عدو الله ألم آمرك ؟ ألم أنهك ؟ فقال الصبي : ياعماه لو أن الله تعالى دفعني إلى والدتي كيف كانت صانعة بي ؟ قال : كانت تدخلك الجنة ، قال : إن ربي الله أشفق من والدتي و أرحم بي منها . و قبض الفتى من ساعته ، فلما جهزه عمه و صلى عليه ، و أراد أن يضعه في لحده فدخلت القبر مع عمه فلما سواه صاح و فزع فقلت له : ما شأنك ؟ قال : فسح لي في قبره و ملئ نوراً فدهشت منه .

و قال هلال بن سعد يؤمر بإخراج رجلين من النار فيقول الله تعالى لهما : كيف وجدتما مقيلكما ؟ فيقولان : شر مقيل. فيقول الله تعالى : ذلك بما قدمت أيديكما ، و ما أنا بظلام للعبيد ، ثم يأمر بصرفهما إلى النار ، فيعدو أحدهما في سلاسله حتى يقتحمها . و يتلكأ الآخر فيؤمر بردهما و يسألهما عن حالهما ، فيقول الذي عدا : قد خبرت من وبال المعصية ما لم أكن لأتعرض لمخالفتك ثانية ، و يقول الذي تلكأ : حسن ظني بك أن لا تردني إليها بعدما أخرجتني منها . فيؤمر بهما إلى الجنة .

قال المؤلف رحمه الله : و هذا الخبر رفعه الترمذي أبو عيسى بمعناه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن رجلين ممن دخلا النار اشتد صياحهما فقال الرب تبارك و تعالى : أخرجوهما ، فلما أخرجا قال لهما لأي شيء اشتد صياحكما ؟ قالا : فعلنا ذلك لترحمنا ، قال : إن رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتمامن النار فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها له برداً و سلاماً و يقوم الآخر فلا يلقي نفسه ، فيقول الله تبارك و تعالى : ما منعك أن تلقى نفسك كما ألقى صاحبك ؟ فيقول : رب إني لأرجو أن تعيدني بعدما أخرجتني ، فيقول الله تعالى : لك رجاؤك فيدخلان الجنة برحمته

قال : أبو عيسى إسناد هذا الحديث ضعيف لأنه عن رشدين بن سعد ، ورشدين بن ضعيف عن ابن أنعم الإفريقي ، و الإفريقي ضعيف عند أهل الحديث .

و عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله تعالى : أخرجوا من النار من ذكرني يوماً أو خافني في مقام حديث غريب .

و ذكر أبو نعيم الحافظ عن إسحاق بن سويد قال : صحبت مسلم بن يسار عاماً إلى مكة فلم أسمعه يتكلم بكلمة حتى بلغنا ذات عرق قال : ثم حدثنا قال : بلغني أنه يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول : انظروا في حسناته فينظر في حسناته فلا يوجد له حسنة فيقول : انظروا في سيئاته فتوجد له سيئات كثيرة ، فيؤمر كثيرة ، فيؤمر به إلى النار فيذهب إلى النار و هو يلتفت ، فيقول : رده إلي ، لم تلتفت ؟ فيقول : أي رب لم يكن هذا ظني ، أورجائي فيك ـ شك إبراهيم ـ فيقول : صدقت ، فيؤمر به إلى الجنة .

قلت : و هذا الحديث رفعه ابن المبارك قال : أخبرنا رشدين بن سعد قال : حدثني أبو هانىء الخولاني عن عمرو بن مالك أن فضالة بن عبيد ، و عبادة بن الصامت رضي الله عنهما حدثاه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا كان يوم القيامة و فرغ الله من قضاء الخلق ، فيبقى رجلان فيؤمر بهما إلى النار فيلتفت أحدهما فيقول الجبار تبارك و تعالى و ردوه فيردوه فيقال له : لم التفت ؟ فيقول : كنت أرجو أن تدخلني الجنة فيؤمر به إلى الجنة، قال : فيقول: لقد أعطاني ربي حتى إني لو أطعمت أهل الجنة ما نقص ذلك مما عندي شيئاً ، قالا : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ذكره يرى السرور في وجهه.

قال المؤلف : و في هذا المعنى خبر الرجل الذي ترفع له شجرة بعد أخرى حتى يخرج من النار إلى أن يدخل الجنة. خرجه مسلم في الصحيح و سيأتي .

باب منه و في أول ما يقول الله تعالى للمؤمنين و في أول ما يقولون له

أبو داود الطيالسي قال : حدثنا عبد الله المبارك قال : حدثني يحيى بن أيوب عن عبيد الله زحر ، عن خالد بن أبي عمران ، عن أبي عياش ، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن شئتم أنبأتكم بأول ما يقول الله عز وجل للمؤمنين يوم القيامة و بأول ما يقولون له ؟ قالوا : نعم يا رسول الله . قال : فإن الله تعالى يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي ؟ فيقولون : نعم يا ربنا قال : و ما محملكم على ذلك ؟ قال : فيقولون : عفوك و رحمتك و رضوانك ، فيقول : فإني قد أوجبت لكم رحمتي .

باب منه

ذكر أبو نعيم الحافظ قال : حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن زيد بن أسلم أن رجلاً كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة و يشدد على نفسه و يقنط الناس من رحمة الله ثم مات قال : إي رب مالي عندك ؟ قال : النار . قال : فأين عبادتي و اجتهادي ؟ قيل له : إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدنيا و أنا أقنطك من رحمتي .

و قال مقاتل : قال علي بن أبي طالب كرم الله و جهه : الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله تعالى و لم يرخص لهم في معاصي الله عز و جل .

باب حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات

مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات . خرجه البخاري أيضاً و الترمذي و قال : حديث صحيح غريب .

و خرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لما خلق الله الجنة أرسل جبريل إلى الجنة فقال : انظر إليها و إلى ما أعددت لأهلها فيها . قال فجاءها و نظر إليها و إلى ما أعد الله لأهلها فيها قال : فرجع إليه و قال : و عزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها . قال : فأمر بها فحفت بالمكاره فقال : فأرجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها . قال : فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه فقال : و عزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد . قال اذهب إلى النار فانظر إليها و إلى ما أعددت لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضاً فرجع إليه فقال : و عزتك لقد خفت ألا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات ، فقال ارجع إليها فرجع إليها فقال : و عزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها .

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .

فصل : المكاره : كل ما يشق على النفس و يصعب عليها عمله كالطهارة في السبرات و غيرها من أعمال الطاعات، و الصبر على المصائب ، و جميع المكروهات . و الشهوات : كل ما يوافق النفس و يلائمها و تدعو إليه و يوافقها . و أصل الحفاف الدائر بالشيء المحيط به الذي لا يتوصل إليه بعد أن يتحظى ، فمثل صلى الله عليه و سلم المكاره و الشهوات بذلك، فالجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره و الصبر عليها ، و النار لا ينجو منها إلا بترك الشهوات و فطام النفس عنها .

و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مثل طريق الجنة و طريق النار بتمثيل آخر فقال : طريق الجنة حزن بربوة ، و طريق النار سهل بسهوة ذكره صاحب الشهاب .

و الحزن : هو الطريق الوعر المسلك . و الربوة : هو المكان المرتفع و أراد به أعلى ما يكون من الروابي . و السهوة : بالسين المهملة هو الموضع السهل الذي لا غلط فيه و لا وعورة .

و قال القاضي أو بكر بن العربي في سراج المريدين له و معنى قوله عليه السلام : حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات أي جعلت على حافاتها و هي جوانبها و يتوهم الناس أنه ضرب فيها المثل فجعله في جوانبها من الخارج ، و لو كان ذلك ما كان مثلاً صحيحاً و إنما هي من داخل و هذه صورتها :

الجنة النار

الصبر الألم الجاه المال النساء

المكاره الغزو

و عن هذا قال ابن مسعود : حفت الجنة بالمكاره ، و النار حفت بالشهوات فمن اطلع الحجاب فقد واقع ما وراء ، و كل من تصورها من خارج فقد ضل عن معنى الحديث و عن حقيقة الحال . فإن قيل : فقد حجبت النار بالشهوات . قلنا : المعنى واحد لأن الأعمى عن التقوى : الذي أخذت سمعه و بصره الشهوات يراها و لا يرى النار التي هي فيها ، و إن كانت باستيلاء الجهالة و رين الغفلة على قلبه كالطائر يرى الحبة في داخل الفخ و هي محجوبة عنه و لا يرى الفخ لغلبة شهوة الحبة على قلبه و تعلق باله بها ، و جهله بما جعلت فيه و حجبت.

باب احتجاج الجنة و النار و صفة أهلهما

البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم احتجت الجنة و النار فقالت هذه : يدخلني الجبارون و المتكبرون . و قالت هذه : يدخلني الضعفاء و المساكين ، فقال الله لهذه : أنت عذابي أعذب بك من أشاء. و قال لهذه : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ، و لكل واحدة منكما ملؤها . خرجه مسلم و الترمذي و قال : هذا حديث حسن صحيح.

فصل : قال الحاكم أو عبد الله في علوم الحديث : سئل محمد خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه و سلم تحاجت النار و الجنة فقالت هذه : يدخلني الضعفاء من الضعيف قال الذي يبرىء نفسه من الحول و القوة . يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة .

قال المؤلف : و مثل هذا لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع ، و الله أعلم

و أما المساكين : فالمراد بهم المتواضعون و هم المشار إليهم في قوله عليه السلام : اللهم أحييني مسكيناً و أمتني مسكيناً و احشرني في زمرة المساكين . و لقد أحسن من قال :

إذا أردت شريف الناس كلهم فانظر إلى ملك في زي مسكين

ذاك الذي عظمت في الله رغبته و ذاك يصلح للدنيا و للدين

و معنى تحاجت الجنة و النار أي حاجت كل واحدة صاحبتها و خاصمتها و سيأتي بيانه عند قوله عليه السلام : اشتكت النار إلى ربها .

باب منه في صفة أهل الجنة و أهل النار و في شرار الناس من هم ؟

مسلم عن عياض بن عمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوماً في خطبته : أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق ، و رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى و مسلم ، و عفيف ضعيف متضعف ذو عيال .

قال : و أهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً و لا مالاً ، و الخائن الذي لا يخفى له طمع و إن دق إلا خانة ، و رجل لا يصبح و لا يمسي إلا و هو يخادعك عن أهلك و مالك ، و ذكر البخل والكذب و الشنظير الفحاش .

و عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبر قسمه ، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر . و في رواية : زنيم متكبر . خرجه ابن ماجه أيضاً .

أبو داود عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يدخل الجنة الجواظ و لا الجعظري قال : الجواظ : الغليظ الفظ .

ابن ماجه عن ابن عمران قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله رسول الله لا يعذب من عباده إلا المارد المتمرد الذي تمرد على الله و أبى أن يقول لا إله إلا الله .

و عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يدخل النار إلا شقي . قيل يا رسول الله و من الشقي؟ قال : من لم يعمل لله بطاعته و لم يترك له معصية .

و عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أهل الجنة من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس خيراً و هو يسمع ، و أهل النار من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس شراً و هو يسمع .

مسلم عن أنس قال : مر بجنازة فأثني عليها خيراً فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم و جبت و جبت و جبت ، و مر بجنازة فأثنى عليها شراً فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: و جبت و جبت و جبت . فقال عمر : فداك أبي و أمي مر بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت : وجبت وجبت وجبت ، و مر بجنازة فأثني عليها شراً فقلت : وجبت وجبت وجبت ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ، و من أثنيتم عليه شراً وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض قالها ثلاثاً .

و قالت عائشة رضي الله عنها : الجنة دار الأسخياء ، و النار دار البخلاء .

و قال زيد بن أسلم : أمرك الله تعالى أن تكون كريماً فيدخلك الجنة ، و نهاك أن تكون بخيلاً فيدخلك النار .

و ذكر أبو نعيم الحافظ من حديث محمد بن كعب القرظي ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، و من أحب أن يكون اكرم الناس فليتق الله ، و من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا : نعم يا رسول الله . قال : من أكل وحده و منع رفده و جلد عبده ، أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : من يبغض الناس و يبغضونه. قال : أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا : نعم يا رسول الله . قال : من لا يقيل عثرة و لا يقبل معذرة و لا يغفرذنباً . قال : أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : من لا يرجى خيره ، و لا يؤمن شره ، إن عيسى بن مريم قائم في بني إسرائيل خطيباً فقال : يا بني أسرائيل لا تتكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها و لا تمنعوها أهلها فتظلموها و قال : مرة فتظلموهم و لا تظلموا ظالماً . و لا تكافئوا طالماً فيبطل فضلكم عند ربكم يا بني إسرائيل الأمر ثلاث : أمر بين رشده فاتبعوه ، و أمر بين غيه فاجتنبوه ، و أمر اختلف فيه فردوه إلى الله عز وجل .

قال أبو نعيم و هذا الحديث لا يحفظ بهذا السياق عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس .

فصل : قوله : ذو سلطان مقسط و ما بعده مرفوع على أنها صفات لذو و هي بمعن صاحب. و المقسط : العادل ، و المتصدق : المعطي الصدقات ، و الموفق : المسدد لفعل الخيرات . و رفيق القلب : لينه عند التذكرة و الموعظة ، و يصلح أن يكون بمعنى الشفيق .

و قوله : ضعيف متضعف يعني ضعيف في أمور الدنيا قوي في أمر دينه كما قال عليه السلام: المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف و في كل خير الحديث خرجه مسلم.

أما من كان ضعيفاً في أمور دينه لا يعني بها فمذموم ، و ذلك من صفات أهل النار كما قال : و أهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له أي لا عقل له و من لا عقل له ينفك به عن المفاسد و لا ينزجر به عنها ، فحسبك به ضعفاً و خسارة في الدين و قد قيل في الزبير : إنه المال و ليس بشيء ، لأن النبي صلى الله عليه و سلم فسر ذلك بقوله الذين هم فيكم تبع لا يتبعون أهلاً و لامالاً .

قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه : فيعني بذلك أن هؤلاء ضعفاء العقول فلا يسعون في تحصيل مصلحة دنيوية و لا فضيلة نفسية و لا دينية ، بل يهملون أنفسهم إهمال الأنعام ولا يبالون بما يثبون عليه من الحلال و الحرام ، و هذه الأوصاف الخبيثة الذاتية هي أوصاف هذه الطائفة المسماة بالقلندرية .

و قد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير راوي الحديث : و الله لقد أدركتهم في الجاهلية و إن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدتهم يطاولها ، و يخفى بمعنى يظهر و هو من الأضداد.

و قوله : و ذكر البخل و الكذب هكذا الرواية المشهورة بالواو الجامعة و الكذب ، و قد رواه ابن أبي جعفر عن الطبراني بأو التي للشك قاله القاضي عياض ، و لعله الصواب و به تصح القسمة ، لأنه ذكر أن أصحاب النار خمسة : الضعيف الذي وصفه و الخائن الذي و صف و الرجل المخادع الذي وصف .

قال : و ذكر البخل و الكذب ، ثم ذكر الشنظير و الفحاش فرأى هذا القائل أن الرابع هو أحد الصنفين ، و قد يحتمل لأن يكون الرابع قد جمعها على رواية واو العطف كما جمعهما في الشنظير الفحاش .

و قوله : أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق ، و رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ، و مسلم ، و عفيف متعفف ذو عيال .

قال القاضي عياض : كذا قيدناه بخفض مسلم عطفاً على ما قبله . و في رواية أخرى و مسلم عفيف بالرفع و حذف الواو شيخنا . انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله .

و العفيف : الكثير العفة و هي الانكفاف عن الفواحش و عن ما لا يليق . و المتعفف : المتكلف العفة . و الشظير : السيء الخلق و يقال شنظيرة أيضاً . قاله الجوهري و أنشد قول أعرابية :

شنظيرة زوجنيه أهلي من حمقه يحسب رأسي رجلي

كأنه لم ير أنثى قبلي

و ربما قالوا شنذيرة بالذال المعجمة لقربها من الظاء لغة أو لثغة ، و الفحاش الكثير الفحش و قيل الشنظير : هو الفحاش . قال صاحب العين : يقال شنظر بالقوم إذا شتم أعراضهم و الشنظير : الفحاش من الرجال القلق و كذلك من الإبل . و الجواظ : الجموع المنوع و منه قوله تعالى : و جمع فأوعى .

و قيل : الجواظ الكثير اللحم المختال . و قيل : هو الجافي القلب . و العتل : قيل : الجافي الشديد الخصومة . و قيل : هو الأكول الشروب الظلوم .

قال المؤلف : و يقال : إنه الفظ الغليظ الذي لا ينقاد لخبر . و الجعظري : الفظ الغليظ القصير ، و جاء في تفسيره في بعض الأحاديث هم الذين لا تصدع رؤوسهم .

قال شيخنا : و الزنيم : المعروف بالشر . و قيل : اللئيم ، و أما الزنيم المذكور في القرآن فرجل معين له زنمة كزنمة التيس . و قيل : هو الوليد و كان له زنمة تحت أذنه و قيل هو الملصق بالقوم و قيل : هم الأخنس بن شريق .

و قوله عليه السلام : من أثنيتم عليه شراً و جبت له النار يعارضه قوله عليه السلام لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا . أخرجه البخاري . و الثناء بالشر : سب . فقيل ذلك خاص بالمنافقين الذين شهدت الصحابة فيهم بما ظهر لهم ، و لذلك قال عليه السلام : و جبت به النار و المسلم لا تجب له النار و اختار هذا القول القاضي عياض .

و قيل : ذلك جائز فيمن كان يظهر الشر و يعلن به ، فيكون ذلك من باب لا غيبة لفاسق .

و قيل : إن النهي إنما هو بعد الدفن . و أما قبله فممنوع لقوله عليه السلام : لا تسبوا الأموات . فالنهي عن سب الأموات متأخر فيكون ناسخاً ، و الله أعلم .

و قوله : أنتم شهداء الله في الأرض معناه عند الفقهاء إذا أثنى عليه أهل الفضل و الصدق و العدالة لأن الفسقة قد يثنون على الفاسق فلا يدخل في الحديث ، و كذلك لو كان القائل فيه عدواً له و إن كان فاضلاً لأن شهادته في حياته لو كانت عليه كانت غير مقبولة ، و كذلك الحكم في الآخرة و الله أعلم .

و قيل إن تكرار أنتم شهداء الله في الأرض ثلاثاً إشارة إلى القرون الثلاثة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه و سلم خير الناس قرني ثم الذين يلونهم . ثم الذين يلونهم .

قلت : الأول أصح ، لأن الله تعالى مدح هذه الأمة بالفضل العدالة إلى يوم القيامة قال الله تعالى و كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس يعني في الآخرة كما تقدم فلا يشهد إلى العدول .

و قد خرج البخاري ، عن حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس قال : مر على النبي صلى الله عليه و سلم بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال و جبت ثم مر عليه بأخرى فأثنوا عليها شراً أو قال غير ذلك فقال و جبت فقيل يا رسول الله قلت لهذا و جبت و لهذا و جبت فقال : المؤمنون شهداء الله في الأرض و خرجه ابن ماجه بهذا الإسناد و قال شهادة القوم و المؤمنون شهود الله في الأرض . و في البخاري أيضاً عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة . قلنا : و ثلاثة؟ قال : و ثلاثة : فقلنا : و إثنان ؟ قال : و اثنان ، ثم لم نسأله عن الواحد قال أبو محمد عبد الحق و هذا الحديث مخصوص و الله أعلم ، و الذي قبله يعطي العموم و إن كثرت شهوده و انطلقت ألسنة المسلمين فيه بالخير و الثناء الصالح كانت له الجنة و الله أعلم .

قال المؤلف رحمه الله : و من هذا المعنى ما ذكره هناد بن السري ، أخبرنا إسحاق الرازي ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن السائب قال : مرت جنازة بعبد الله بن مسعود فقال لرجل قم فانظر من أهل الجنة هو أم من أهل النار ؟ قال الرجل : ما يدريني أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار ؟ و كيف أنظر ؟ قال : ثناء الناس عليه فإنهم شهداء الله في الأرض . قال أبو محمد : و غير مستنكر إذا أحب الله عبداً أمر أن يلقى على ألسنة المسلمين الثناء عليه و في قلوبهم المحبة له قال الله تعالى إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً .

و قال عليه السلام : إذا أحب الله عبداً قال يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه قال فيحبه جبريل ، ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه قال فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ، وذكر في البغضاء مثل ذلك و هذا حديث صحيح خرجه البخاري و مسلم . قال أبو محمد عبد الحق : و قد شوهد رجال من المسلمين علماء صالحون كثر الثناء عليهم و صرفت القلوب إليهم في حياتهم و بعد مماتهم ، و منهم من كثر المشيعون لجنازته و كثر الحاملون لها و المتشغلون بها ، و ربما كثر الله الخلق بما شاء من الجن المؤمنين أو غيرهم مما يكون في صور الناس .

ذكر قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : أخبرنا محمد يزيد الرفاعي ، قال مات عمرو بن قيس الملائي بناحية فارس فاجتمع لجنازته من الخلق ما لا يحصى ، فلما دفن نظروا فلم يروا أحداً قال الرفاعي : سمعت هذا ممن لا أحصى كثرة ، و كان سفيان الثوري يتبرك بالنظر إلى عمرو بن قيس هذا.

و لما مات أحمد بن حنبل رضي الله عنه صلى عليه من المسلمين ما لا يحصى ، فأمر المتوكل أن يمسح موضع الصلاة عليه من الأرض ، فوجد موقف ألفي ألف و ثلاثمائة ألف أونحوها ، و لما انتشر خبر موته أقبل الناس من البلاد يصلون على قبره فصل عليه ما لا يحصى ، و لما مات الأوزاعي رضي الله عنه اجتمع للصلاة عليه من الخلق ما لا يحصى و روي أنه أسلم في ذلك اليوم من أهل الذمة اليهود و النصارى نحو من ثلاثين ألفاً لما روأوا من كثرة الخلق على جنازته و لما رأوا من العجب في ذلك اليوم .

و لما مات سهل بن عبد الله التستري رحمه الله انكب الناس على جنازته و حضرها من الخلق ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، و كانت في البلد ضجة فسمع بها يهودي شيخ كبير ، فخرج فلما رأى الجنازة صاح و قال : هل ترون ما أرى ؟ قالوا : و ما ترى ؟ قال : أرى قوماً ينزلون من السماء يتمسحون بالجنازة ثم أسلم و حسن إسلامه ، و يقال : إن الكعبة لم تخل من طواف طائف يطوف بها إلا يوم مات المغيرة بن حكيم ، فإنها خلت لانحشار الناس لجنازته تبركاً بها و رغبة في الصلاة عليه .

و قد شوهد من جنائز الصالحين من يشيعها الطير و يسير معها حيث سارت منهم : أبو الفيض ذو النون المصري ، و أبو إبراهيم المزني صاحب الشافعي حدث بذلك الثقات : قاله أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له .

باب منه في صفة أهل الجنة و أهل النار

مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، و نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها ، و إن ريحها ليوجد من مسيرة كذا و كذا قال الحافظ ابن دحية أبو الخطاب الرواية بالياء بلا خلاف و تحكم أبو اليد الكتاني فرواه بالثناء المثلثة و هي المنتصبة و هذا خطأ منه و تصحيف . و خرجه مسلم أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير .

فصل : للعلماء في تأويل هذا الحديث و جهان :

أحدهما : أنها مثلها في الخوف و الهيبة و الطير أكثر الحيوانات خوفاً حتى قالوا أحذرمن غراب ، و قد غلب الخوف على كثير من السلف حتى انصدعت قلوبهم فماتوا .

الثاني : أنه مثلها في الضعف و الرقة كما جاء في الحديث الآخر في أهل اليمن هم أرق قلوباً و أضعف أفئدة .

قلت : و يحتمل وجهاً ثالثاً أنها مثلها خالية من كل ذنب سليمة من كل عيب لا خبرة لهم بأمور الدنيا ، كما روي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر أهل الجنة البله و هو حديث صحيح أي البله عن معاصي الله و الله أعلم .

قال الأزهري : الأبله في كلامهم على وجوه : يقولون عيش أبله إذا كان ناعماً و منه أخذ بلهنية العيش . قال بعضهم : و طالما عشت في بلهنية .

و الأبله الذي لا عقل له ، و الأبله الذي طبع على الخير و هو غافل عن الشر لا يعرفه ، و قال هذا هو المراد بالحديث .

و قال العتبي : البله هم الذين غلب عليهم سلامة الصدور و حسن الظن بالناس و أنشد :

و لقد لهوت بطفلة ميالة بلهاء تطلعني على أسرارها

يعني أنها أغراء لا دهاء فيها :

قلت : و نظير ما ذكرناه و ما قاله هؤلاء من الكتاب قوله تعالى إلا من أتى الله بقلب سليم و قوله عليه السلام و قد سئل أي الناس أفضل ؟ قال : الصادق اللسان المخموم القلب قالوا : أما الصادق اللسان فقد عرفناه أنه ذلك فما المخموم القلب ؟ قال : النقي الذي لا غل فيه و لا حسد ذكره أبو عبيده و العرب تقول خممت البيت أي كنسته و منه سميت الخمامة و هي مثل القمامة و الكناسة .

و قال بعض العلماء في البله وجهاً آخر لطيفاً و هو : أنهم سموا بذلك لقصورهم عن كمال المعرفة بحق الله تعالى و رؤية استحقاقه العبادة و إيثار طلبه و الشغف بحبه و خدمته ، و طلب رضاه الذي هو جنة الخلد إذا وقفوا بخواطرهم على الجنة و نعيمها ، و عبدوه ، و أطاعوا في نيل درجاتها و لذاتها غافلين عن مراقبة جلاله و ملاحظة كماله بعكوف همهم على نيل نعمه و أفضاله ، فهم بله أيضاً بالإضافة إلى العقلاء عن الله عز و جل ذوي الألباب المقبلة على مشاهدة عظمة الله تعالى ، المتوجهين بكليتهم إليه المشغولين به عما لديه ، و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في سياق قوله : أكثر أهل الجنة البله و عليون لأولي الألباب و في الخبر : أن طائفة من العقلاء بالله عز و جل تزفهم الملائكة إلى الجنة و الناس في الحساب ، فيقولون للملائكة : إلى أين تحملوننا ؟ فيقولون : إلى الجنة . فيقولون : إنكم لتحمولوننا إلى غير بغيتنا ، فتقول لهم الملائكة : و ما بغيتكم ؟ فيقولون : المقعد الصدق مع الحبيب ، كما أخبر : في مقعد صدق عند مليك مقتدر و لعل من هذا القبيل من يسأل الله الجنة إلا أن سؤاله إياها لا لها بل موافقة لمولاه لما علم أنه يحب أن يسأل من ثوابه و يستعاذ من عذابه فوافق مولاه

في إيثاره ، لا لحظ نفسه كما قال عليه السلام لأحد أصحابه الذي قال أما أنا فأقول في دعائي اللهم أدخلني الجنة و عافني من النار و لا أدري ما دندنتك و لا دندنه معاذ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم حولها ندندن .

قلت : خرجه أبو داود في سننه و ابن ماجه أيضاً .

فصل : قال الحافظ ابن دحية أبو الخطاب : قوله صنفان من أهل النار لم أرهما الصنف فيما ذكر عن الخليل الطائفة من كل شيء . و السوط في اللغة اسم العذاب و إن لم يكن له ثم ضرب . قال الفراء .

و قال ابن فارس في المجمل السوط من العذاب النصيب ، و السوط خلط الشيء بعضه ببعض و إنما سمي سوطاً لمخالطته و إنما أراد النبي صلى الله عليه و سلم عظم السياط و خروجها عن حد ما يجوز به الضرب في التأديب ، و هذه الصفة للسياط مشاهدة عندنا بالمغرب إلى الآن و غيره .

و قوله نساء كاسيات عاريات يعني أنهن كاسيات من الثياب عاريات من الذين لانكشافهن و إبدائهن بعض محاسنهن .

و قيل : كاسيات ثياباً رقاقاً يظهر ما خلفها و ما تحتها فهن كاسيات في الظاهر عاريات و في الحقيقة .

و قيل : كاسيات في الدنيا بأنواع الزنية من الحرام و ما لا يجوز لبسه عاريات يوم القيامة ، ثم قال عليه السلام مائلات مميلات قيل : معناه زائغات عن طاعة الله تعالى و طاعة الأزواج و ما يلزمهن من صيانة الفروج و التستر عن الأجانب و مميلات يعلمن غيرهن الدخول في مثل فعلهن .

و قيل : مائلات متبخترات في مشهين مميلات يملن رؤوسهن و أعطافهن من الخيلاء و التبختر و مميلات لقلوب الرجال إليهن لما يبدين من زينتهن و طيب رائحتهن . .

و قيل : يتمشطن الميلاء و هي مشطة البغايا ، و المميلات : اللواتي يمشطن غيرهن المشة الميلاء . قال صلى الله عليه و سلم رؤوسهن كأسنمة اليخت معناه يعظمن رؤوسهن بالخمر و المقانع و يجعلن على رؤوسهن شيئاً يمسي عندهم التازة لا عقص الشعر . و الذاوئب المباح للنساء حسب ما ثبت في الصحيح عن أم سلمة قالت قلت : يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي الحديث .

باب ما جاء في أكثر أهل الجنة و أكثر أهل النار

مسلم عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين ، و إذا أصحاب الجد محبوسون إلى أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار . و قمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء .

و من حديث ابن عباس في حديث كسوف الشمس : و رأيت النار فلم أر منظراً كاليوم قط و رأيت أكثر أهلها النساء . قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال بكفرهن ، قيل أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير و يكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك ما تكره قالت ما رأيت منك خيراً قط .

و عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أقل ساكني الجنة النساء .

فصل : قال علماؤنا : إنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى و الميل إلى عاجل زينة الدنيا لنقصان عقولهن أن تنقذن بصائرها إلى الأخرى فيضعفن عن عمل الآخرة و التأهب لها و لميلهن إلى الدنيا و التزين بها و لها ، ثم مع ذلك هن أقوى أسباب الدنيا التي تصرف الرجال عن الأخرى لما لهم فيهن من الهوى و الميل لهن ، فأكثرهن معرضات عن الآخرة بأنفسهن صارفات عنها لغيرهن سريعات الانخداع لداعيهن من المعرضين عن الدين ، عسيرات الاستجابة لمن يدعوهن إلى الأخرى و أعمالها من المقتين .

و عن كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أيها الناس لا تطيعوا للنساء أمراً و لا تأمنوهن على مال و لا تدعوهن يدبرن أمر عشير ، فإنهن إن تركن و ما يردن أفسدن الملك و عصين المالك و جدناهن لا دين لهن في خلواتهن و لا ورع لهن عند شهواتهن اللذة بهن يسيرة و الحيرة بهن كثيرة ، فأما صوالحهن ففاجرات و أما طوالحهن فعاهرات و أما المعصومات فهن المعدومات فيهن ثلاث خصال من اليهود : يتظلمن و هن ظالمات ، و يحلفن و هن كاذبات ، و يتمنعن و هن راغبات ، فاستعيذوا بالله من شرارهن و كونوا على حذر من خيارهن و السلام .

و قال صلى الله عليه و سلم : ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء و سيأتي .

و قال : ما رأيت من ناقصات عقل و دين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء . و هو معنى قوله عليه السلام في الحديث المتقدم : مائلات مميلات . قال الحافظ بن دحية : تحفظوا عباد الله منهن و تجبنوا غيهن و لا تثقوا بودهن و لا عهدهن ففي نقصان عقولهن و دينهن ما يغني عن الإطناب فيهن .

باب منه

البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من يأتي . قيل : و من يأبى يا رسول الله قال : من أطاعتي دخل الجنة و من عصاني فقد أبى .

و ذكر ابن أبي الدنيا قال : حدثنا محمد بن علي ، حدثنا أبو إسحاق بن الأشعث قال : سمعت فضيل بن عياض يقول : سمعت ابن عياض يقول : يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة خلقتها فتشرف على الخلائق فيقال : هل تعرفون هذه ؟ فيقولون : نعوذ بالله من معرفة هذه ، فيقال هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها . بها قطعتم الأرحام، و بها تحاسدتم و تباغضتم و اغتررتم ، ثم تقذف في جهنم فتنادي أي رب أين أتباعي و أشياعي فيقول الله : تعالى : ألحقوا بها أتباعها و أشياعها.

باب ما جاء أن العرفاء في النار

عن أبي داود ، عن غالب القطان ، عن رجل ، عن أبيه ، عن جده الحديث . و فيه أن أباه أرسله إلى النبي صلى الله عليه و سلم و أنه قال : إن أبي شيخ كبير و هو عريف الماء و أنه يسألك أن تجعل إلالعرافة بعده فقال : إن العرافة حق و لا بد الناس من عرفاء و لكن العرفاء في النار . و في الصحيح في قصة هوازن : ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم.

فصل : قال علماؤنا : العريف هنا القيام بأمر القبيلة و المحلة يلي أمورهم و يتعرف أخبارهم و يعرف الأمير منه أحوالهم ، و قوله العرافة حق ، و يريد أن فيها مصحلة للناس ورفقاً لهم ألا تراه يقول و لا بد للناس من عرفاء ، و قوله في النار : معناه التحذير من الرئاسة و التأمر على الناس لما فيه من الفتنة . و الله أعلم .

باب منه

أبو داود الطياليسي قال : حدثنا هشام بن عباد بن أبي علي عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ويل للأمناء و ويل للعرفاء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء و الأرض و أنهم لم يلوا عملاً .

باب لا يدخل الجنة صاحب مكس و لا قاطع رحم

قال الله تعالى : و لا تقعدوا بكل صراط توعدون و تصدون عن سبيل الله من آمن به و تبغونها عوجاً نزلت في المكاسين و العشارين في قول بعض العلماء ، و قال تعالى فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله الآية .

مسلم عن جبير بن مطعم ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يدخل الجنة قاطع قال ابن أبي عمر قال سفيان يعني قاطع رحم . رواه البخاري .

أبو داود ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا يدخل الجنة صاحب مكس .

فصل : قال علماؤنا صاحب المكس هو الذي يعشر أموال الناس و يأخذ من التجار و المختلفين ما لا يجب عليهم إذا مروا به مكساً باسم العشر أو الزكاة ، و ليس هو الساعي الذي يأخذ الصدقات و الحق الواجب للفقراء ، و

قد قمنا أن التبديل إذا كان في الأعمال و ليس في العقائد صاحبه في المسيئة و إن عذب ، فإنه يخرج بالشفاعة على ما تقدم و هكذا القول في أهل الكبائر المتوعد عليها بالنار و اللعنة يخرجون بالشفاعة إذا ارتكبوها على غير وجه الاستحلال .

باب ما جاء في أول ثلاثة يدخلون الجنة و أول ثلاثة يدخلون النار

أبو بكر بن شيبة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أول ثلاثة يدخلون الجنة الشهيد ، و رجل عفيف متعفف ذو عيال ، و عبد أحسن عبادة ربه و أدى حق مواليه ، و أول ثلاثة يدخلون النار : أمير متسلط ، و ذو ثروة من مال لا يؤدي حقه ، و فقير فخور .