باب ما جاء في طعام أهل النار و شرابهم و لباسهم التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة

 

باب ما جاء في طعام أهل النار و شرابهم و لباسهم

قال الله تعالى : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار و قال سرابيلهم من قطران و قال : إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون و قال : لا يذوقون فيها برداً أي نوماً . و لا شراباً * إلا حميماً و غساقاً * جزاء و فاقاً و قال : و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقاً و قال عز من قائل تسقى من عين آنية * ليس لهم طعام إلا من ضريع و قال فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين . قال الهروي : معناه من صديد أهل النار ، و ما ينغسل و يسيل من أبدانهم .

قلت : و هو الغساق أيضاً . و ذكر ابن المبارك : أخبرنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم و أبي رزين في قوله تعالى هذا فليذوقوه حميم و غساق قالا : ما يسيل من صديدهم ، و قيل الغساق : القيح الغلظ المنتن .

و ذكر ابن وهب ، عن عبد الله بن عمر ، قال الغساق : القيح الغلظ ، لو أن قطرة منه تهراق في المغرب أنتنت أهل المشرق و لو أنها تهراق في المشرق أنتنت أهل المغرب و قيل : الغساق الذي لا يستطيع من شدة برده ، و هو الزمهرير .

و قال كعب : الغساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة فستنفع ، و يؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة فيسقط جلده و لحمه عن العظام ، فيجر لحمه في كعبيه كما يجر الرجل ثوبه . و قوله جزاء وفاقاً أي وافق أعمالهم الخبيثة .

و اختلف في الضريع فقيل : هو النبت ينبت في الربيع ، فإذا كان في الصيف يبس ، و اسمه إذا كان عليه ورقة شبرق ، و إذا تساقط ورقه فهو الضريع ، فالإبل تأكله أخضر ، فإذا يبس لم تذقه ، و قيل : هو حجارة ، و قيل الزقوم واد في جهنم .

و قال المفسرون : إن شجرة الزقوم أصلها في الباب السادس و أنها تحيا بلهب النار كما تحيا الشجرة ببرد الماء ، فلا بد لأهل النار من أن يتحدر إليها من كان فوقها فيأكلون منها .

و قال أبو عمران الجوني في قوله تعالى إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون قال بلغنا أن ابن آدم لا ينهش منها نهشة إلا نهشت منه مثلها . و المهل ما كان ذائباً من الفضة و النحاس ، و قيل المهل عكر الزيت الشديد السواد ، و قوله تعالى يغلي في البطون * كغلي الحميم يعني الماء الشديد الحر .

باب منه و ما جاء أن أهل النار يجوعون و يعطشون و في دعائهم و إجابتهم

قال الله تعالى : و نادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الآية .

البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال : لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله في أربع ، فإذا كان في الخامسة لا يتكلمون بعدها أبداً ، يقولون : ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل .

قال : فيجيبهم الله تعالى ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم ، و إن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير .

ثم يقولون : ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون فيجيبهم الله تعالى: فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم ، و ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون .

ثم يقولون : ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل ، فيجيبهم الله تعالى أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال .

ثم يقولون : ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل فيجيبهم الله تعالى : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير .

ثم يقولون : ربنا غلبت علينا شقوتنا و كنا قوماً ضالين فيجيبهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون فلا يتكلمون بعدها أبداً .

و خرجه ابن المبارك بأطول من هذا فقال : أخبرنا الحكم بن عمر بن ليلى ، حدثني عامر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : بلغني ـ أو ذكر لي ـ أن أهل النار استغاثوا بالخزنة ، فقال الله تعالى : و قال الذين في النار لخزنة جهنم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب ، فسألوا يوماً واحداً يخفف عنهم فيه العذاب فردت عليهم الخزنة : أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ؟ .

فيقولون : بلى ، فردت عليهم الخزنة : فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال .

قال : فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا مالكاً ـ و هو عليهم . و له مجلس في وسطها و جسور تمر عليهم ملائكة العذاب ، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها ـ فقالوا : يا مالك ليقض علينا ربك .

قال : اسألوا الموت ، فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة .

قال : و السنة ستون و ثلاثمائة يوم ، و الشهر ثلاثون يوماً ، و اليوم كألف سنة مما تعدون .

ثم لحظ إليهم بعد الثمانين فقال : إنكم ماكثون .

فلما سمعوا منه ما سمعوا و أيسوا مما قبله ، قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء إنه قد نزل بكم من البلاء و العذاب ما قد ترون ، فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا ، فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا فطال صبرهم ، ثم جزعوا فنادوا : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص أي من منجى .

قال : فقام إبليس عند ذلك فقال : إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم إلى قوله : ما أنا بمصرخكم يقول : بمغن عنكم شيئاً و ما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل .

قال : فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم ، قال فنادوا لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إلى قوله : فهل إلى خروج من سبيل .

قال : فرد عليهم ذلك بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم ، و إن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير .

قال : فهذه واحدة : فنادوا الثانية فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون .

قال : فيرد عليهم و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها .

يقول : لو شئت لهديت الناس جميعاً فلم يختلف منهم أحد و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين * فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم و ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون .

قال : فهذه اثنتان ، فنادوا الثالثة : ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل .

فيرد عليهم : أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * و سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلى قوله تعالى : الجبال .

قال : فهذه الثلاثة قال : ثم نادوا الرابعة : ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل.

قال فيجيبهم : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير .

ثم مكث عنهم ما شاء الله . ثم ناداهم : ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ؟ .

قال : فلما سمعوا صوته قالوا : الآن يرضى ربنا ، فقالوا عند ذلك : ربنا غلبت علينا شقوتنا ـ أي : الكتاب الذي كتب علينا ـ و كنا قوماً ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فقال عند ذلك : اخسؤوا فيها ولا تكلمون فانقطع عند ذلك الرجاء و الدعاء و أقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجه بعض و أطبقت عليهم .

قال : فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه لما ذكر له أن ذلك قوله تعالى هذا يوم لا ينطقون * و لا يؤذن لهم فيعتذرون .

قال ابن المبارك : و حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : فذكره عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاص : إن أهل جهنم يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ثم يرد عليهم : إنكم ماكثون .

قال : هانت و الله دعوتهم على مالك ، و رب مالك .

قال : ثم يدعون ربهم . قال فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون .

قال فسكت عنهم قدر الدنيا مرتين . قال ثم يرد عليهم : اخسؤوا فيها ولا تكلمون .

قال : فو الله ما نبس القوم بعدها بكلمة ، و ما هو إلا الزفير و الشهيق في نار جهنم ، فشبه أصواتهم بصوت الحمير . أولها زفير و آخرها شهيق ، و معنى ما نبس ما تكلم .

قال الجوهري : يقال ما نبس بكلمة ، أي ما تكلم . و ما نبس بالتشديد أيضاً ، و قال الراجز :

إن كنت غير هلك فنبس

الترمذي عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يلقى عن أهل النار الجوع مع ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع ، لا يسمن و لا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب ، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب من حديد ، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم ، فيقولون : ادعوا خزنة جهنم ، فيقولون : أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ؟ قالوا بلى ! قالوا : فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال قال فيقولون : ادعوا مالكاً ، فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك قال فيجيبهم : إنكم ماكثون.

قال الأعمش : ثبت أن بين دعائهم و بين إجابة مالك إياهم ألف عام ، قال فيقولون ادعو ربكم، فلا أحد خير من ربكم ، قال فيقولون : ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال فيجيبهم : اخسؤوا فيها ولا تكلمون .

قال : فعند ذلك يئسوا من كل خير ، و عند ذلك يأخذون في الزفير و الحسرة و الويل . رفعه قطبة بن عبد العزيز ، عن الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن شهر ، و هو ثقة عند أهل الحديث ، و الناس يوقفونه على أبي الدرداء .

و عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى : و هم فيها كالحون قال : تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، و تسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته . و لسرادق النار أربعة جدر ، كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة، و لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا . قال : هذا حديث صحيح غريب .

و عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : كالمهل قال : كعكر الزيت ، و إذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه . قال أبو عيسى : هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ، و رشدين قد تكلم فيه من جهة حفظه .

قلت : وقع في هذا الحديث فروة وجهه و هو شاذ ، إنما يقال : فروة رأسه أي جلدته ، هذا هو المشهور عند أهل اللغة ، و كذا جاء في حديث أبي أمامة .

و عن أبي حجيزة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه ، فليست ما في جوفه حتى يمرق من قدميه و هو الصهر ، ثم يعاد كما كان . قال : هذا حديث حسن صحيح غريب .

و عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : و يسقى من ماء صديد * يتجرعه قال : يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره ، يقول الله تعالى : و سقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم و قال تعالى : و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقاً قال : هذا حديث غريب .

و عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون .

قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم ، فكيف بمن يكون طعامه ؟ قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . خرجه ابن ماجه أيضاً .

باب ما جاء في بكاء أهل النار و من أدناهم عذابا فيها

ابن المبارك قال : أخبرنا عمران بن زيد الثعلبي ، حدثنا يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول ، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون ، فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت .

خرجه ابن ماجه أيضاً . من حديث الأعمش ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود ، و لو أرسلت فيها السفن لجرت .

و في مسلم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه .

و روي عن أبي موسى الأشعري موقوفاً أنه قال : [ إن أهل النار ليبكون الدموع في النار ، حتى لو أجريت فيها السفن لجرت ، ثم إنهم يبكون الدم بعد الدموع . و لمثل ما هم فيه فليبك].

قال المؤلف رحمه الله و هو يستند من معنى ما تقدم : و في التنزيل فليضحكوا قليلاً و ليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون .

و في الترمذي من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : و الله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً و لبكيتم كثيراً ، فمن كثر بكاؤه خوفاً من الله تعالى و خشية منه ضحك كثيراً في الآخرة . قال الله تعالى مخبراً عن أهل الجنة : إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين و وصف أهل النار فقال : و إذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين قال : و كنتم و منهم تضحكون . و سيأتي بيانه .

باب ما جاء أن لكل مسلم فداء من النار من الكفار

ابن ماجه قال : أخبرنا جبارة بن المغلس ، حدثنا عبد الأعلى بن أبي المساور ، عن أبي بردة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أذن لأمة محمد صلى الله عليه و سلم في السجود فسجدوا طويلاً ، ثم يقال : ارفعوا رؤوسكم فقد جعلنا عدتكم فداءكم من النار .

حدثنا جبارة بن المغلس ، حدثنا كثير بن سليمان ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن هذه الأمة أمة مرحومة ، عذابها بأيديها ، إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين ، فيقال : هذا فداؤك من النار .

قلت : هذان الحديثان و إن كان إسنادهما ليس بالقوي ـ قال الدارقطني : جبارة بن المغلس متروك ـ فإن معناهما صحيح بدليل حديث مسلم .

عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول : هذا فكاكك من النار .

و في رواية أخرى : لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه من النار يهودياً أو نصرانياً . قال فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات : أن أباه حدثه عن رسول الله ، قال : فحلف له .

فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : هذه الأحاديث ظاهرها الإطلاق و العموم و ليس كذلك، و إنما هي في ناس مذنبين تفضل الله تعالى عليهم برحمته و مغفرته ، فأعطى كل إنسان منهم فكاكاً من النار من الكفار ، و استدلوا بحديث أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم و يضعها على اليهود و النصارى .

و خرجه مسلم عن محمد بن عمرو بن عياد بن جبلة بن أبي رواد . قال حدثنا حرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي ، عن عباس ، عن غيلان بن جرير ، عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه و سلم .

قالوا : و ما معنى فيغفرها لهم ؟ أي : يسقط المؤاخذة عنهم بها حتى كأنهم لم يذنبوا .

و معنى قوله : ويضعها على اليهود النصارى أنه يضاعف عليهم عذاب ذنوبهم

، حتى يكون عذابهم بقدر جرمهم و جرم ومذنبي المسلمين ، لو أخذوا بذلك ، لأنه تعالى يأخذ أحداً بذنب أحد ، كما قال تعالى : و لا تزر وازرة وزر أخرى و له سبحانه أن يضاعف لمن يشاء العذاب ، و يخفف عمن يشاء بحكم إرادته و مشيئته . إذ لا نسأل عن فعله .

قالوا و قوله في الرواية الأخرى : لا يموت رجل مسلم إلا أدخل مكانه يهودياً أو نصرانياً ، فمعنى ذلك أن المسلم المذنب لما كان يستحق مكاناً من النار بسبب ذنوبه ، و عفا الله عنه و بقي مكانه خالياً منه ، أضاف الله تعالى ذلك المكان إلى يهودي أو نصراني ليعذب فيه زيادة على تعذيب مكانه الذي يستحقه بحسب كفره ، و يشهد لهذا قوله عليه السلام في حديث أنس للمؤمن الذي يثبت عند السؤال في القبر فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار ، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة .

قلت : قد جاءت أحاديث دالة على أن لكل مسلم مذنباً كان أو غير مذنب . منزلين : منزلاً من الجنة . و منزلاً من النار ، و ذلك هو معنى قوله تعالى أولئك هم الوارثون أي يرث المؤمنون منازل الكفار ، و يجعل الكفار في منازلهم في النار على ما يأتي بيانه ، و هو مقتضى حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن العبد إذا وضع في قبره الحديث و قد تقدم . إلا أن هذه الوراثة تختلف . فمنهم من يرث و لا حساب ، و منهم من يرث بحسابه و بمناقشته و بعد الخروج من النار ، حسب ما تقدم من أحوال الناس . و الله أعلم .

و قد يحتمل أن يسمى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصولها دون غيرهم . و هو مقتضى قوله تعالى : قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء .

باب في قوله تعالى و تقول هل من مزيد

مسلم عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تزال جهنم يلقى فيها و تقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض ، و تقول : قط قط . و عزتك و كرمك . و لا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً . فيسكنهم فضل الجنة .

و في رواية أخرى من حديث أبي هريرة . فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله فتقول : قط قط . فهنالك تمتلئ و يزوي بعضها إلى بعض ، فلا يظلم الله خلقاً من خلقه أحداً، و أما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقاً .

فصل : للعلماء في قول النار : [ هل من مزيد ؟ ] تأويلان . أحدهما : وعدها ليملأنها فقال : أوفيتك ؟ فقالت : و هل من مسلك ؟ أي : قد امتلأت ، كما قال :

امتلأ الحوض و قال : قطني مهلاً رويداً قد ملأت بطني

و هذا تفسير مجاهد و غيره ، و هو ظاهر الحديث الثاني : زدني ، تقول ذلك غيظاً على أهلها و حنقاً عليهم ، كما قال تكاد تميز من الغيظ أي تنشق ، و يبين بعضها من بعض .

و قوله حتى يضع فيها قدمه ـ و في رواية أخرى . حتى يضع عليها ، و في آخرى رجله و لم يذكر فيها و لا عليها ـ فمعناه عبارة عمن تأخر دخوله في النار من أهلها ، و هم جماعات كثيرة لأن أهل النار يلقون فيها فوجاً فوجاً ، كما قال الله تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير .

و يؤيده أيضاً قوله في الحديث : لا يزال يلقى فيها . فالخرنة تنظر أولئك المتأخرين إذ قد علموهم بأسمائهم و أوصافهم ، كما روي عن ابن مسعود أنه قال : ما في النار بيت و لا سلسلة و لا مقمع و لا تابوت إلا و عليه اسم صاحبه ، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه و صفته ، فإذا استوفى كل واحد ما أمر به و ما ينتظره و لم يبق منهم أحد قالت الخزنة : قط قط ، أي حسبنا حسبنا اكتفينا اكتفينا ، و حينئذ تنزوي جهنم على ما من فيها و تنطبق ، إذ لم يبق أحد ينتظر فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل و القدم ، لا أن الله جسم من الأجسام ، تعالى الله عما يقول الظالمون و الجاحدون علوا كبيراً .

و العرب تعبر عن جماعة و الجراد بالرجل ، فتقول جاءنا رجل من جراد و رجل من الناس، أي جماعة منهم و الجمع : أرجل .

و يشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث : و لا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقاً فيسكنهم فصل الجنة ، و في الحديث تأويلات أتينا عليها في الأسماء و الصفات أشبهها ما ذكرناه . و في التنزيل أن لهم قدم صدق عند ربهم قال ابن عباس : المعنى منزل صدق، و قال الطبري : معنى قدم صدق عند ربهم عمل صالح . و قيل : هو السابقة الحسنة ، فدل على أن القدم ليس حقيقة في الجارحة ، و الله الموفق .

قال ابن فورك و قال بعضهم: القدم خلق من خلق الله يخلقه يوم القيامة فيسميه قدماً ، و يضيفه إليه من طريق الفعل يضعه في النار فتمتلئ النار منه ، و الله أعلم .

قلت : و هذا نحو مما قلناه في الرجل . قال الشاعر :

فمر بنا رجل من الناس و انزوى إليهم من الحي اليماني أرجل

قبائل من لخم و عك و حمير على ابني نزار بالعداوة أحفل

و قال آخر :

يرى الناس أفواجاً إلى باب داره كأنهم رجلاً دباً و جراد

فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى و يوم رقاب بوكرت بحصاد

الدبا : الجراد قبل أن يطير ، و الله أعلم .

باب ذكر آخر من يخرج من النار و آخر من يدخل الجنة و في تعيينه و تعيين قبيلته و اسمه

مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها ، و آخر أهل النار دخولاً الجنة ، رجل يخرج من النار حبواً فيقول الله تعالى . اذهب فادخل الجنة فيأتيها ، فيخيل إليه أنها ملأى ، فيقول يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله : اذهب فادخل الجنة ، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى ، فيرجع فيقول : يا رب وجدتها ملأى ، فيقول : اذهب فادخل الجنة ، فإن لك مثل الدنيا و عشرة أمثالها أو أن لك عشرة أمثال الدنيا ، قال فيقول . أتسخر بي ؟ أو أتضحك بي و أنت الملك ؟ قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحك حتى بدت نواجذه ، قال : فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة .

و عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : آخر من يدخل الجنة رجل ، فهو يمشي مرة، و يكبو مرة ، و تسفعه النار مرة ، فإذا جاوزها التفت إليها ، فقال : تبارك الذي نجاني منك ، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين و الآخرين ، فترفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها و أشرب من مائها ، فيقول الله تعالى: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول : لا يا رب ! و يعاهد أن لا يسأله غيرها ، و ربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه منها فيستظل بظلها و يشرب من مائها . ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى ، فيقول : أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها و أستظل بظلها ، لا أسألك غيرها ، فيقول : يا ابن آدم : لعلي إن أديتك منها تسألني غيرها ؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها ، و ربه يعذره ، لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها ، فإذا منها ترفع له شجرة عند باب الجنة أحسن من الأوليين ، فيقول مثله . فيدنيه منها ، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة ، فيقول : أي رب أدخلينها . فيقول : يا ابن آدم ما يصريني منك ؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا و مثلها معها ؟ فيقول : أي رب أتستهزئ بي ، و أنت رب العالمين ؟ فضحك ابن سمعود فقال : ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا مم تضحك ؟ قال : هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقالوا : مم تضحك يا رسول الله ؟ قال : من ضحك رب العالمين ، فيقول : إني لا أستهزئ منك و لكني على ما أشاء قادر .

و قال ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم : آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة ، يقال له جهينة ، تقول أهل الجنة : عند جهينة الخبر اليقين . ذكره الميانشي أبو حفص عمر ابن عبد المجيد القرشي في كتاب الاختيار له في الملح من الأخبار و الآثار .

و رواه أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب ، من حديث عبد الملك بن الحكم قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة ، فيقول أهل الجنة : عند جهينة الخبر اليقين سلوه . هل بقي من الخلائق أحد ؟ و رواه الدراقطني أيضاً في كتاب رواه مالك ، ذكره السهيلي . و قد قيل : إن اسمه هناد ، و الله أعلم .

فصل : قوله : أتستهزئ مني ؟ ـ و في رواية : أتسخر ؟ ـ و الهزوء ، و السخرية بمعنى واحد ، و فيه تأويلان .

أحدهما : أنه صدر منه هذا القول عند غلبة الفرح عليه و استخفافه إياه ، كما غلط الذي قال : [ اللهم أنت عبدي و أنا ربك ] خرجه مسلم .

الثاني : أن يكون معناه : أتجازيني على ما كان مني في الدنيا من قلة احتفالي بأعمالي ، و عدم مبالاتي بها ؟ فيكون هذا على وجه المقابلة ، كما قال الله تعالى مخبراً عن المنافقين إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم أي ينتقم منهم و يجازيهم على استهزائهم ، و الاستهزاء في اللغة : الانتقام . قال الشاعر :

قد استهزءوا منهم بألفي مدجج سراتهم وسط الضحاضح جثم

و مثله : و مكروا و مكر الله الآية . و هو كثير ، و سيأتي لبيان الاستهزاء من الله مزيد بيان ، و الضحك من الله تعالى راجع إلى معنى الرضى عن العبد . فاعلم ذلك .

باب منه و ما جاء في خروج الموحدين من النار و ذكر الرجل الذي ينادي : يا حنان يا منان ، و بيان قوله تعالى : إنها عليهم مؤصدة . في عمد ممددة ، و في أحوال أهل النار

خرج الطبراني أبو القاسم ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا محمد بن عباد المكي ، حدثنا حاتم بن إسماعيل بن بسام الصيرفي ، عن يزيد الفقير ، عن رجل ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن ناساً من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ، ثم يعيرهم أهل الشرك ، فيقولون : ما نرى ما كنتم تخالفوننا فيه من تصديقكم و إيمانكم نفعكم ، فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين .

و روى أبو ظلال ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن عبداً في جهنم ينادي ألف سنة: يا حنان يا منان ، فيقول الله تعالى لجبريل : إئت عبدي فلاناً ، فينطلق جبريل عليه السلام فيرى أهل النار منكبين على وجوههم ، قال فيرجع فيقول : يا رب لم أره ، فيقول الله تعالى : إنه في مكان كذا و كذا ، قال : فيأتيه فيجيء به ، فيقول له: يا عبدي ، كيف وجدت مكانك و مقيلك ؟ قال : فيقول : شر مكان ، و شر مقيل ، قال فيقول : ردوا عبدي ، قال فيقول : يا رب ما كنت أرجو أن تردني إذا أخرجتني منها . فيقول الله تعالى : دعوا عبدي .

و أبو ظلال هذا اسمه هلال بن أبي مالك القسملي يعد في البصريين .

و عن سعيد بن جبير قال : إن في النار لرجلاً ـ أظنه في شعب من شعابها ينادي مقدار ألف عام يا حنان يا منان ، فيقول رب العزة لجبريل : يا جبريل أخرج عبدي من النار ، فيأتيها فيجدها مطبقة فيرجع فيقول : يا رب إنها عليهم موصدة ، فيقول : يا جبريل ، ارجع ففكها فاخرج عبدي من النار ، فيفكها فيخرج مثل الخيال فيطرحه على ساحل الجنة حتى ينبت الله له شعراً و لحماً و دماً ، ذكره أبو نعيم .

و روى ليث عن مجاهد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : إنما الشافعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ، الحديث و قد تقدم . و فيه بعده .

قوله : و أطولهم مكثاً من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت ، و ذلك سبعة آلاف سنة .

ثم إن الله أراد أن يخرج الموحدين منها قذف في قلوب أهل الأديان فقالوا لهم : كنا و أنتم و آباؤنا جميعاً في الدينا ، فآمنتم و كفرنا و صدقتم و كذبنا ، و أقررتم و جحدنا ، فما أغنى ذلك عنكم ، نحن و أنتم اليوم فيها سواء ، تعذبون كما نعذب ، و تخلدون فيها كما نخلد ، فيغضب الله عند ذلك غضباً شديداً لم يغضب مثله من شيء فيما مضى ، و لا يغضب من شيء فيما بقي ، فيخرج أهل التوحيد منها إلى عين بين الجنة و النار و الصراط يقال لها : نهر الحياة ، فيرش عليهم من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، فما يلي الظل منها أخضر ، و ما يلي الشمس منها أصفر ، ثم يدخلون الجنة فيكتب على جباههم : هؤلاء عتقاء الله من النار ، إلا رجلاً واحداً يمكث فيها ألف سنة ، ثم ينادي : يا حنان يا منان ، فيبعث الله إليه ملكاً فيخوض في النار في طلبه سبعين عاماً لا يقدر عليه ، ثم يرجع فيقول : إنك أمرتني أن أخرج عبدك فلاناً من النار منذ سبعين عاماً فلم أقدر عليه ، فيقول الله تعالى : انطلق فهو في وادي كذا تحت صخرة فأخرجه ، فيذهب فيخرجه منها فيدخله الجنة .

ثم أن الجهنميين يطلبون من الله تعالى أن يمحو عنهم ذلك الاسم ، فيبعث الله ملكاً فيمحوه عن جباههم .

ثم أن يقال لأهل الجنة و من دخلها من الجهنميين : اطلعوا إلى أهل النار فيطلعون إليهم فيرى الرجل أباه و يرى جاره و صديقه ، و يرى العبد مولاه ، ثم إن الله تعالى يبعث إليهم الملائكة بأطباق من نار ، و مسامير من نار ، و عمد من نار : فتطلق عليهم بتلك الأطباق ، و تشد بتلك المسامير ، و تمد بتلك العمد فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح و لا يخرج منه غم و ينساهم الرحمن على عرشه ، و يتشاغل أهل الجنة بنعيمهم ، و لا يستغيثون بعدها أبداً ، و ينقطع ، فيكون كلامهم زفيراً و شهيقاً ، فذلك قوله تعالى إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة . و قال ابن مسعود : في عمد أي بعمد ، و كذا في مصحفه إنها عليهم مؤصدة بعمد.

و خرج أبو نعيم الحافظ ، عن زاذان قال : سمعت كعب الأحبار يقول : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد ، فنزلت الملائكة فصاروا صفوفاً ، فيقول الله لجبريل : إئت بجهنم ، فيجيء بها تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرة زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ، ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا جثاً على ركبتيه ، ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر و تذهب العقول فيفزع كل امرئ إلى عمله ، حتى إن إبراهيم الخليل يقول : بخلتي لا أسألك إلا نفسي ، و يقول موسى : بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي و يقول عيسى : بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي ، لا أسألك مريم التي ولدتني ، و محمد صلى الله عليه و سلم يقول : أمتي أمتي ، لا أسألك اليوم نفسي ، إنما أسألك أمتي .

قال : فيجيبه الجليل جل جلاله : إن أوليائي من أمتك لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ، فوعزتي و جلالي لأقرن عينك في أمتك . ثم يقف الملائكة بين يدي الله تعالى ينتظرون ما يؤمرون به ، فيقول لهم تعالى و تقدس : معاشر الزنابية ، انطلقوا بالمصرين من أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلى النار ، فقد اشتد غضبي عليهم بتهاونهم بأمري في دار الدنيا ، و استخفافهم بحقي و انتهاكهم حرمي ، يستخفون من الناس و يبارزونني مع كرامتي لهم و تفضيلي إياهم على الأمم ، و لم يعرفوا فضلي و عظيم نعمتي ، فعندها تأخذ الزبانية بلحى الرجال و ذوائب النساء فينطلق بهم إلى النار ، و ما من عبد يساق إلى النار ، من غير هذه الأمة ، إلا مسود وجهه ، قد وضعت الأنكال في رجليه و الأغلال في عنقه ، إلا من كان من هذه الأمة ، فإنهم يساقون بألوانهم ، فإذا وردوا على مالك قال لهم : معاشر الأشقياء ، من أي أمة أنتم ؟ فما ورد علي أحسن وجوها منكم ! فيقولون : يا مالك ، نحن من أمة القرآن ، فيقول لهم : يا معشر الأشقياء ، أو ليس القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم ؟ .

قال : فيرفعون أصواتهم بالنحيب و البكاء ، فيقولون : وامحمداه ! وامحمداه ! وامحمداه ! اشفع لمن أمر به إلى النار من أمتك .

قال : فينادي مالك بتهدد و انتهار : يا مالك ، من أمرك بمعاتبة أهل الشقاء و محادثتهم و التوقف عن إدخالهم العذاب؟ يا مالك ، لا تسود وجوههم فقد كانوا يسجدون لي في دار الدنيا. يا مالك : لا تغلهم بالأغلال ، فقد كانوا يغتسلون من الجنابة . يا مالك ! ، لا تعذبهم بالأنكال ، فقد طافوا بيتي الحرام . يا مالك . لا تلبسهم القطران ، فقد خلعوا ثيابهم للإحرام . يا مالك ، مر النار لا تحرق ألسنتهم ، فقد كانوا يقرأون القرآن . يا مالك ، قل للنار تأخذهم على قدر أعمالهم ، فالنار أعرف بهم و بمقادير استحقاقهم من الوالدة بولدها . فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه ، و منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ، و منهم من تأخذه النار إلى سرته ، و منهم من تأخذه إلى صدره ، و منهم دون ذلك . فإذا انتقم الله عز و جل منهم على قدر كبائرهم و عتوهم و إصرارهم ، فتح بينهم و بين المشركين باباً فرأوهم في الطبق الأعلى من النار ، لا يذوقون فيها برداً و لا شراباً ، يبكون و يقولون : يا محمداه ، ارحم من أمتك الأشقياء و اشفع لهم ، فقد أكلت النار لحومهم و دماءهم و عظامهم ، ثم ينادون : يا رباه ، يا سيداه ، ارحم من لم يشرك بك في دار الدنيا ، و إن كان قد أساء و أخطأ و تعدى ، فعندها يقول المشركون : ما أغنى عنكم إيمانكم بالله و بمحمد شيئاً ، فيغضب الله تعالى لذلك ، فعندها يقول : يا جبريل انطلق فاخرج من في النار من أمة محمد ، فيخرجهم ضبائر قد امتحشوا فيلقيهم على نهر على باب الجنة يقال له نهر الحياة ، فيمكثون حتى يعودوا أنضر ما كانوا ، ثم يأمر بإدخالهم الجنة مكتوباً على جباههم : هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن من أمة محمد صلى الله عليه و سلم فيعرفون من بين أهل الجنة بذلك ، فيتضرعون إلى الله عز و جل أن يمحو عنهم تلك السمة فيمحوها الله تعالى عنهم ، فلا يعرفون بها بعد ذلك أبداً .

و ذكر أبو نعيم الحافظ عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار و كل شيطان و كل من يخاف الناس شره في الدنيا ، فيوثقون بالحديد ، ثم أمر بهم إلى النار ، ثم أوصدها عليهم ، أي أطبقها ، فلا و الله لا تستقر أقدامهم على قرارها أبداً ، لا و الله ما ينظرون إلى أديم سماء أبداً : و لا و الله لا تلتقي جفونهم على غمض نوم ، و لا و الله لا يذوقون فيها بارد شراب أبداً .

قال : ثم يقال لأهل الجنة : يا أهل الجنة افتحوا اليوم الأبواب ، فلا تخافوا شيطاناً ، و لا جباراً ، و كلوا اليوم و اشربوا بما أسلفتم في الأيام الخالية ، قال أبو عمران : إذاً هي و الله يا إخوتاه أيامكم هذه .

فصل : قوله : فيرش عليهم من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل . و جاء في حديث أبي سعيد الخدري المتقدم ، ثم يقال : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء ، و المعنى واحد . و النبات معروف و هو خروج الشيء : و الحبة بكسر الحاء بذور البقول ، و حميل السيل : ما احتمله من طين و غشاء ، فإذا اتفق أن يكون فيه حبة فإنها تنبت في يوم و ليلة ، و هي أسرع نابتة نباتاً ، فشبه النبي صلى الله عليه و سلم سرعة نبات أجسادهم بسرعة نبات تلك الحبة ، و في التنزيل : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة و تقدم الكلام في نحو ذلك الاسم .

و قوله : و أطولهم مكثاً من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت ، و ذلك سبعة آلاف سنة .

اختلف في انقضاء هذا العالم ، و في مدة الدنيا ، و أكثر المنجمون في ذلك فقال بعضهم : عمر الدنيا سبعة آلاف بعدد النجوم السيارة لكل واحد ألف سنة و قال بعضهم : بأنها إثنتا عشر ألف بعدد البروج ، لكل برج ألف سنة . و قال بعضهم : ثلاثمائة و ستون ألف سنة بعدد درجات الفلك ، لكل درجة ألف سنة.

و قوله : إلا رجلاً واحداً يمكث فيها ألف سنة ، ثم ينادي : يا حنان يا منان . الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه ، و المنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال ، سبحانه و تعالى لا إله إلا هو . روي ذلك عن علي رضي الله عنه . و قد ذكرنا في ذلك في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ، و صفاته العليا مستوفى و الحمد لله . و قد تقدم الكلام في نحو ذلك الاسم عنهم ، فلا معنى لإعادته .

و قوله : و ينساهم على عرشه ، أي يتركهم في العذاب ، كما قال نسوا الله فنسيهم أي تركوا عبادته و توحيده فتركهم . و العرش في كلام العرب له محامل كثيرة قد أتينا عليها في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى منها الملك كما قال زهير :

تداركتما عبساً و قد ثل عرشها و ذبيان إذ زلت بأقدامها النعل

و قال آخر :

بعد ابن جفنة ، و ابن هاتاك عرشـ و الحارثين يؤملون فلاحاً

و تقول العرب : ثل عرش فلان ، إذا ذهب عزه و سلطانه و ملكه ، فالمعنى و ينساهم الرحمن على عرشه ، أي : بما هو عليه من الملك و السلطان و العظمة و الجلال ، لا يعبأ بهم و لا يلتفت إليهم لما حكم به في الأزل عليهم من خلودهم في النار ، و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط .

و أجمع أهل السنة على أن أهل النار مخلدون فيها غير خارجين منها : كإبليس ، و فرعون ، و هامان ، و قارون ، و كل من كفر و تكبر و طغى ، فإن له جهنم لا يموت فيها و لا يحيا . و قد وعدهم الله عذاباً أليماً ، فقال عز و جل كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب . و أجمع أهل السنة أيضاً على أنه لا يبقى فيها مؤمن و لا يخلد إلا كافر جاحد ، فاعلم .

قلت : و قد زل هنا بعض من ينتمي إلى العلم و العلماء فقال : إنه يخرج النار كل كافر و مبطل و جاحد و يدخل الجنة ، فإنه جائز في العقل أن تنقطع صفة الغضب فيعكس عليه فيقال: و كذلك جائز في العقل أن تنقطع صفة الرحمة فيلزم عليه أن يدخل الأنبياء و الأولياء النار يعذلون فيها ، و هذا فاسد مردود بوعده الحق و قوله الصدق ، قال الله تعالى في حق أهل الجنان : عطاء غير مجذوذ أي : غير مقطوع ، و قال و ما هم منها بمخرجين و قال : لهم أجر غير ممنون و قال : لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا و قال في حق الكافرين و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط و قال : فاليوم لا يخرجون منها و لا هم يستعتبون و هذا واضح ، و بالجملة فلا مدخل للمعقول فيما اقتطع أصله الإجماع و الرسول ، و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .

باب منه ـ و ذكر الرجل الذي ينادي : يا حنان يا منان ، و بيان قوله تعالى فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون . هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون

ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى : الله يستهزئ بهم قال: يقال لأهل النار و هم في النار : اخرجوا ، فتفتح لهم أبواب النار ، فإذا انتهوا إلى أبوابهم أغلقت دونهم ، فذلك قوله عز و جل الله يستهزئ بهم و يضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم ، فذلك قوله عز و جل فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون * هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون .

قال ابن المبارك و أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون قال : ذكر لنا أن كعباً كان يقول : إن الجنة و النار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له في الدنيا أطلع من بعض الكوى، قال الله سبحانه و تعالى في آية أخرى فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال : ذكر لنا أنه يطلع فيرى جماجم القوم تغلي .

أخبرنا معمر عن قتادة قال : قال بعض العلماء : لولا أن الله عز و جل عرفه إياه ما عرفه ، لقد تغير حبره و سبره، فعند ذلك يقول : تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين في النار .

و الحبر و السبر : اللون و الهيئة . من قولهم : جاءت الإبل حسنة الأحبار و الأسبار ، قاله الفراء . و قال الأصمعي: هو البهاء و الجمال و أثر النعمة ، يقال فلان حسن الحبر و السبر، إذا كان جميلاً حسن الهيئة . قال ابن أحمد :

لبسنا حبرة حتى اقتضينا لآجال و أعمار قضينا

و يقال أيضاً : فلان حسن الحبر و السبر بالفتح ، و هذا كله مصدر قولك : حبرته تحبيراً . و الأول اسم ، و تحبير الخط و الشعر و غيرهما تحسبينه و تزيينه .

باب منه

روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة ، قال : حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن المستهزئين بعباد الله في الدنيا تفتح لهم أبواب الجنة يوم القيامة يقال لهم: ادخلوا الجنة ، فإذا جاءوا أغلق الباب دونهم . و تفتح الثانية فيقال لهم : ادخلوا الجنة، فإذا جاءوا أغلق الباب دونهم : و تفتح لهم الثالثة ، فيدعون فلا يجيبون ، قال فيقول لهم الرب . أنتم المستهزئون بعبادي ؟ أنتم آخر الناس حساباً ، فيقومون حتى يغرقوا في عرقهم، فينادون : يا ربنا إما صرفتنا إلى جهنم و إما إلى رضوانك .

باب منه

و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يؤمر يوم القيامة بأناس إلى الجنة ، حتى إذا دنوا منها و استنشقوا رائحتها و نظروا إلى قصورها و إلى ما أعد الله لأهلها فيها نودوا أن أصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها ، فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون و الآخرون بمثلها ، فيقولون : يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما رأيتنا من ثوابك و ما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا ، قال : ذلك أردت بكم ، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم ، و إذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين ، تراءون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم ، هبتم الناس و لم تهابوني ، و أجللتم الناس و لم تجلوني ، و تركتم للناس و لم تتركوا لي ، فاليوم أذيقكم العذاب الأليم مع ما حرمتكم من الثواب . ذكره أبو حامد رحمه الله .

باب ما جاء في ميراث أهل الجنة منازل أهل النار

جاء في الخبر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكناً في الجنة و مسكناً في النار ، فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم و يرثون منازل الكفار ، و تجعل الكفار في منازلهم من النار .

و خرجه ابن ماجه بمعناه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما منكم من أحد إلا له منزلان : منزل في الجنة و منزل في النار ، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله ، فذلك قوله تعالى أولئك هم الوارثون إسناده صحيح .

قلت : و هذا بين في أن لكل إنسان منزلاً في الجنة و منزلاً في النار كما تقدم . و قد قال ها هنا : ما منكم ، فخاطب أصحابه الكرام المنزهين عن الذنوب العظام الموجبة للنيران رضي الله عنهم ، و سيأتي لهذا مزيد بيان في أبواب الجنان إن شاء الله تعالى.

باب ما جاء في خلود أهل الدارين و ذبح الموت على الصراط و من يذبحه

البخاري ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صار أهل الجنة إلى الجنة و أهل النار ، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة و النار ثم يذبح ، ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة لا موت ، و يا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ، و يزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم .

مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل أهل الجنة الجنة ، و أهل النار النار، يجاء يوم القيامة بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة و النار ، فيقال يا أهل الجنة : هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون و ينظرون ، فيقولون : نعم ! هذا الموت ، قال ثم يقال : يا أهل النار : هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون و ينظرون ، فيقولون : نعم ! هذا الموت ، قال فيؤمر به فيذبح ، قال ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، و يا أهل النار خلود فلا موت فيها ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر و هم في غفلة و هم لا يؤمنون و أشار بيده إلى الدنيا .

و أخرجه أبو عيسى الترمذي ، عن أبي سعيد الخدري يرفعه قال : إذا كان يوم القيامة أتى بالموت كالكبش الأملح فيوقف بين الجنة و النار فيذبح و هم ينظرون ، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة ، و لو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار . قال : هذا حديث حسن صحيح .

وذكر ابن ماجه في حديث فيه طول عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاء بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط ، فيقال يا أهل الجنة : فيطلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ، ثم يقال يا أهل النار : فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ، فيقال : هل تعرفون هذا ؟ قالوا : نعم ! هذا الموت ، قال فيؤمر به فيذبح على الصراط ، ثم يقال للفريقين كليهما : خلود فيما تجدون لا موت فيه أبداً.

خرجه الترمذي بمعناه مطولاً عن أبي هريرة أيضاً ، و فيه : فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة، و أهل النار النار أتى بالموت ملبياً فيوقف على السور الذي بين الجنة و بين النار ، ثم يقال يا أهل الجنة : فيطلعون خائفين ثم يقال : يا أهل النار : فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة ، فيقال لأهل الجنة و أهل النار : هل تعرفون هذا ؟ فيقول هؤلاء و هؤلاء : عرفناه ، هو الموت الذي وكل بنا فيضطجع فيذبح ذبحاً على السور ، ثم يقال يا أهل الجنة : خلود لا موت، و يا أهل النار خلود لا موت ، قال هذا حديث حسن صحيح.

فصل : قلت : هذه الأحاديث مع صحتها نص في خلود أهل النار فيها ، لا إلى غاية و لا إلى أمد ، مقيمين على الدوام و السرمد من غير موت و لا حياة و لا راحة و لا نجاة ، بل كما قال في كتابه الكريم و أوضح فيه من عذاب الكافرين و الذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا و لا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور * و هم يصطرخون فيها إلى قوله من نصير و قال كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها و قال فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها و قد تقدمت هذه المعاني كلها .

فمن قال : إنهم يخرخون منها و أن النار تبقى خالية ، و بجملتها خاوية على عروشها ، و أنها تفنى و تزول ، فهو خارج عن مقتضى المعقول و مخالف لما جاء به الرسول ، و ما أجمع عليه أهل السنة و الأئمة العدول .

و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم و ساءت مصيراً و إنما نخلى جهنم و هي الطبقة العليا التي فيها العصاة من أهل التوحيد ، و هي التي ينبت على شفيرها فيما يقال الجرجير ، قال فضل بن صالح المعاقري : كنا عند مالك بن أنس ذات يوم ، فقال لنا انصرفوا : فلما كان العشية رجعنا إليه ، فقال : إنما قلت لكم انصرفوا لأنه جاءني رجل يستأذن علي زعم أنه قدم من الشام في مسألة ، فقال : يا أبا عبد الله ، ما تقول في أكل الجرجير ، فإنه يتحدث عنه أنه ينبت على شفير جهنم ؟ فقلت له : لا بأس به، فقال : أستودعك الله و اقرأ عليك السلام . ذكره الخطيب أبو بكر أحمد رحمه الله

و ذكر أبو بكر البزار ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : يأتي على النار زمان تنفق الرياح أبوابها . ليس فيها أحد ، يعني من الموحودين ، هكذا رواه موقوفاً من قول عبد الله بن عمرو و ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه و سلم . و مثله لا يقال من جهة الرأي ، فهو مرفوع .

فصل : قد تقدم أن الموت معنى ، و الكلام في ذلك و في الأعمال و أنها لا تنقلب جوهراً ، بل يخلق الله أشخاصاً من ثواب الأعمال و كذلك الموت يخلق الله كبشاً يسميه الموت ، و يلقي في قلوب الفريقين أن هذا هو الموت ، و يكون ذبحه دليلاً على الخلود في الدارين .

قال الترمذي : و المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة رضي الله عنهم مثل سفيان الثوري، و مالك بن أنس ، وابن المبارك ، و ابن عيينة ، و وكيع و غيرهم . أنهم رووا هذه الأشياء و قالوا : و نروي هذه الأحاديث ، و لا يقال : كيف ؟ و هذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء و يؤمن بها و لا تفسر و لا تتوهم ؟ و لا يقال : كيف و هذا أمر أهل العلم الذي اختاروه و ذهبوا إليه .

قال المؤلف رحمه الله : و إنما يؤتى بالموت كالكبش ، و الله أعلم لما جاء أن ملك الموت أتى آدم عليه السلام في صورة كبش أملح ، قد نشر من أجنحته أربعة آلاف جناح على ما تقدم أول الكتاب في باب : [ ما جاء في صفة ذلك الموت عند قبض روح المؤمن و الكافر ] .

و في التفسير من سورة الملك عن ابن عباس و مقاتل و الكلبي في قوله الذي خلق الموت و الحياة أن الموت و الحياة جسمان ، فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء و لا يجد ريحه إلا مات ، و خلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء ، و هي التي كان جبريل و الأنبياء عليهم السلام يركبونها ، خطوط مد البصر ، فوق الحمار و دون البغل لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حيي ، و لا تطأ على شيء إلا حيي ، و هي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي ، حكاه الثعلبي و القشيري ، عن ابن عباس و الماوردي عن مقاتل و الكلبي.

و معنى يشرئبون : يرفعون رؤوسهم . و الأملح : من الكباش الذي يكون فيه بياض و سواد، و البياض أكثر . قاله الكسائي . و قال ابن الأعرابي : و هو النقي البياض .

و ذكر صاحب خلع النعلين : أن هذا الكبش المذبوح بين الجنة و النار ، أن الذي يتولى ذبحه يحيى بن زكريا عليهما السلام ، بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم ، و بأمره الأكرم . و ذكر في ذبحه كلاماً مناسباً لحياة أهل الجنة و حياة أهل النار . و ذكر صاحب كتاب العروس: أن الذي يذبحه جبريل عليه السلام ، فالله أعلم .

تم كتاب النار بحمد الله العزيز الغفار أجارنا الله منها بمنه بفضله و كرمه و لا رب غيره .