باب ما جاء في بيان مقتل الحسين رضي الله عنه و لا رضي عن قاتله التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة

 

باب ما جاء في بيان مقتل الحسين رضي الله عنه و لا رضي عن قاتله

ذكر أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن الحافظ قال : حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل قال : حدثنا محمد بن إبراهيم الحلواني . قال ابن السكن ، و أخبرني أبو بكر محمد بن محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن زياد الحداد قالا : حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد قال : حدثنا عطاء بن مسلم ، عن أشعث بن سحيم ، عن أبيه ، عن أنس بن الحارث قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق ، فمن أدركه منكم فلينصره فقتل أنس يعني مع الحسين بن علي عليهما السلام .

أنبأناه إجازة الشيخ الفقيه القاضي أبو عامر عن أبي القاسم بن بشكوال ، عن أبي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عتاب و أبي عمران موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد ، عن أبي عمر بن عبد البر قال : حدثنا الحافظ أبو القاسم خلف بن القاسم قال : حدثنا الإمام الحافظ أبو علي بن السكن ، فذكره .

و خرج الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا عمارة بن زاذان ، حدثنا ثابت عن أنس أن ملك المطر استأذن أن يأتي النبي صلى الله عليه و سلم فأذن له ، فقال لأم سلمة : أملكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد قال : و جاء الحسين ليدخل فمنعه فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي صلى الله عليه و سلم و على منكبيه و على عاتقه قال : فقال الملك للنبي صلى الله عليه و سلم أتحبه ؟ قال : نعم . قال : أما إن أمتك ستقتله و إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه ، فضرب بيده فجاء بطينة حمراء ، فأخذتها أم سلمة فصرتها في خمارها قال ثابت : بلغنا أنها كربلاء.

و قال مصعب بن الزبير : حج الحسين خمسة و عشرين حجة ماشياً ، و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم فيه و في الحسن : إنهما سيداً شباب أهل الجنة و قال : هما ريحانتاي من الدنيا و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا رآهما هش لهما و ربما أخذهما . كما روى أبو داود أنهما دخلا المسجد و هو يخطب ، فقطع خطبته و نزل فأخذهما و صعد بهما . قال : رأيت هذين فلم أصبر و كان يقول فيهما اللهم إني أحبهما و أحب من يحبهما و قتل رحمه الله و لا رحم قاتله يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة إحدى و ستين بكربلاء بقرب موقع يقال له الطف بقرب من الكوفة .

قال أهل التواريخ : لما مات معاوية و أفضت الخلافة إلى يزيد ، و ذلك سنة ستين ـ و وردت البيعة على الوليد بن عتبة بالمدينة ليأخذ بالبيعة إلى أهلها أرسل إلى الحسين بن علي ، و إلى عبد الله بن الزبير ليلاً فأتي بهما فقال : بايعاً. فقالا : مثلنا لا يبايع سراً ، و لكن نبايع على رؤوس الناس إذ أصبحنا ، فرجعا إلى بيوتهما و خرجا من ليلتهما إلى مكة ، و ذلك ليلة الأحد بقيتا من رجب ، فأقام الحسين بمكة شعبان و رمضان و شوالاً و ذا القعدة ، و خرج يوم التروية يريد الكوفة ، فبعث عبد الله بن زياد خيلاً لمقتل الحسين ، و أمر عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فأدركه بكر بلاء ، و قيل : إن عبيد الله بن زياد كتب إلى الحر بن يزيد الرياحي أن جعجع بالحسين . قال أهل اللغة أراد أحبسه و ضيق عليه ، و الجعجع : الجعجاع الموضع الضيق من الأرض ، ثم أمده بعمرو بن سعد في أربعة آلاف ، ثم ما زال عبيد الله يزيد العساكر و يستفز الجماهير إلى أن بلغوا اثنين و عشرين ألفاً ، و أميرهم عمرو بن سعد، و وعده أن يملكه مدينة الري فباع الفاسق الرشد بالغي ، و في ذلك يقول :

أأترك ملك الري و الري منيتي و أرجع مأثوماً بقتل حسين

فضيق عليه اللعين أشد تضييق و سد بين يديه وضح الطريق إلى أن قتله يوم الجمعة . و قيل، يوم السبت العاشر من المحرم . و قال ابن عبد البر في الاستيعاب : قتل يوم الأحد لعشر مضين من المحرم بموضع من أرض الكوفة يقال له كربلاء ، و يعرف بالطف أيضاً و عليه جبة خزد كفاء و هو ابن ست و خمسين سنة . قاله نسابة قريش الزبير بن بكار ، و مولده الخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة ، و فيها كانت غزوة ذات الرقاع و فيه قصرت الصلاة ، و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم أم سلمة ، و اتفقوا على أنه قتل يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة إحدى و ستين ، و يسمى عام الحزن ، و قتل معه اثنان و ثمانون رجلاً من الصحابة مبارزة ، منهم الحر بن يزيد ، لأنه تاب و رجع مع الحسين ، ثم قتل جميع بنيه إلا علياً المسمى بعد ذلك بزين العابدين كان مريضاً أخذ أسيراً بعد قتل أبيه ، و قتل أكثر إخوة الحسين و بني أعمامه رضي الله عنهم ثم أنشأ يقول :

يا عين إبكي بعبرة و عويل و اندبي ـ إن ندبت ، آل الرسول

سبعة كلهم لصلب علي قد أصيبوا و تسعة لعقيل

قال جعفر الصادق : وجد بالحسين ثلاث و ثلاثون طعنة بالسيف ، و أربع و ثلاثون ضربة ، و اختلفوا فيمن قتله . فقال يحيى بن معين : أهل الكوفة يقولون : إن الذي قتل الحسين عمرو بن سعد . قال ابن عبد البر : إنما نسب قتل الحسين إلى عمرو بن سعد ، لأنه كان الأمير على الخيل التي أخرجها عبيد الله بن زياد إلى قتال الحسين . و أمر عليهم عمرو بن سعد و وعده أن يوليه الري إن ظفر بالحسين و قتله ، و كان في تلك الخيل و الله أعلم قوم من مصر و من اليمين و في شعر سليمان بن فتنة الخزاعي و قيل : إنها لأبي الرميح الخزاعي ما يدل على الاشتراك في دم الحسين ، و قيل : قتله سنان بن أبي سنان النخعي و قال مصعب النسابة الثقة : قتل الحسين بن علي سنان بن أبي سنان النخعي ، و هو جد شريك القاضي و يصدق ذلك قول الشاعر :

و أي رزية عدلت حسيناً غداة تبيده كفا سنان

و قال خليفة بن خياط : الذي ولي قتل الحسين شمر بن ذي الجوشن و أمير الجيش عمرو بن سعد ، و كان شمر أبرص و أجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحي من حمير حز رأسه و أتى به عبيد الله بن زياد و قال :

أوقر ركابي فضة ذهباً أني قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أما و أبا و خيرهم ـ إذ ينسبون ـ نسباً

هذه رواية أبي عمر بن عبد البر في الاستيعاب و قال غيره : تولى حمل الرأس بشر بن مالك الكندي و دخل به على ابن زياد و هو يقول :

أوقر ركابي فضة ذهباً إن قتلت الملك المحجبا

و خيرهم إذ يذكرون النسبا قتلت خير الناس أما و أباً

في أرض نجد و حرا و يثربا

فغضب ابن زياد من قوله و قال : إذا عملت أنه كذلك فلم قتلته ؟ و الله لا نلت مني خيراً أبداً و لألحقنك به ثم قدمه فضرب عنقه .

و في هذه الرواية اختلاف ، و قد قيل إن يزيد بن معاوية هو الذي قتل القاتل .

و قال الإمام أحمد بن حنبل : قال عبد الرحمن بن مهدي : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم نصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه و يتتبعه فيها . قال قلت يا رسول الله ما هذا ؟ قال: دم الحسين و أصحابه لم أزل أتبعه منذ اليوم . قال عمار : فحفظنا ذلك اليوم فوجدناه قتل ذلك اليوم و هذا سند صحيح لا مطعن في ، و ساق القوم حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم كما تساق الأسرى حتى إذا بلغوا بهم الكوفة خرج الناس فجعلوا ينظرون إليهم ، و في الأسارى علي بن حسين و كان شديد المرض قد جمعت يداه إلى عنقه ، و زينب بنت علي و بنت فاطمة الزهراء ، و أختها أم كلثوم ، و فاطمة و سكينة بنت الحسين ، و ساق الظلمة و الفسقة معهم رؤوس القتلة .

روى قطر عن منذر الثوري ، عن محمد بن الحنفية قال : قتل مع الحسين سبعة عشر رجلاً كلهم من ولد فاطمة عليها الصلاة و السلام .

و ذكر أبو عمر بن عبد البر عن الحسن البصري قال : أصيب مع الحسين بن علي ستة عشر رجلاً من أهل بيته ما على وجه الأرض لهم يومئذ شبيه . و قيل : إنه قتل مع الحسين من ولده و أخوته و أهل بيته ثلاثة و عشرون رجلاً.

و في صحيح البخاري في المناقب عن أنس بن مالك : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين ، فجعل في طست فجعل ينكت و قال في حسنة شيئاً فقال أنس : كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه و سلم و كان مخضوباً بالوسمة . يقال: نكت في الأرض إذا أثر فيها ، و نكت بالحصباء إذا ضرب بها ، و كان الفاسق يؤثر في رأسه المكرم بالقضيب ، و أمد عبيد الله بن زياد من قور الرأس حتى ينصب في الرمح ، فتحاماه أكثر الناس ، فقام رجل يقال له طارق بن المبارك بل هو ابن المشؤوم الملعون المذموم فقوره و نصبه بباب دار عبيد الله ،و نادى في الناس و جمعهم في المسجد الجامع و خطب الناس خطبة لا يحل ذكرها ، ثم دعا بزياد ابن حر بن قيس الجعفي فسلم إليه رأس الحسين و رؤوس أخوته و بنيه و أهل بيته و أصحابه، و دعي بعلى بن الحسين فحمله و حمل عماته و أخواته إلى يزيد على محامل بغير وطاء ، و الناس يخرجون إلى لقائهم في كل بلد و منزل ، حتى قدموا دمشق و دخلوا من باب توما و أقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي ، ثم وضع الرأس المكرم بين يدي يزيد فأمر أن يجعل في طست من ذهب و جعل ينظر إليه و يقول هذه الأبيات :

صبرنا و كان الصبر منا عزيمة و أسيافنا يقطعن كفا و معصما

نعلق هاماً من رجال أعزة علينا و هم كانوا أعق و أظلما

ثم تكلم بكلام قبيح و أمر بالرأس أن تصلب بالشام ، و لما صلبت أخفى خالد بن عفران شخصه من أصحابه ، و هو من أفاضل التابعين فطلبوه شهراً حتى وجدوه فسألوه عن عزلته فقال : ألا ترون ما نزل بنا :

جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد متزملاً بدمائه تزميلاً

و كأنما بك يا ابن بنت محمد قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشانا و لم يترقبوا في قلتك التنزيل و التأويلا

و يكبرون بأن قتلت و إنما قتلوا بك التكبير و التهليلا

و اختلف الناس في موضع الرأس المكرم ؟ و أين حمل من البلاد ؟ فذكر الحافظ أبو العلاء الهمداني أن يزيد حين قدم عليه رأس الحسين بعث به إلى المدينة ، فأقدم إليه عدة من موالي بني هاشم و ضم إليهم عدة من موالي أبي سفيان ، ثم بعث بث الحسين و بقي من أهله معهم و جهزهم بكل شيء و لم يدع لهم حاجة المدينة إلا أمر بها ، و بعث برأس الحسين عليه السلام إلى عمرو بن سعيد العاص ، و هو إذ ذلك علمله على المدينة فقال عمرو وددت أنه لم يبعث به إلي . ثم أمر عمرو بن سعيد بن العاص برأس الحسين عليه السلام فكفن و دفن بالبقيع عند قبر أمه فاطمة عليها الصلاة و السلام . و هذا أصح ما قيل في ذلك ، و لذلك قال الزبير بن بكار الرأس حمل إلى المدينة و الزبير أعلم أهل النسب و أفضل العلماء لهذا السبب قال : حدثني بذلك محمد بن حسن المخزومي النسابة .

و الإمامية تقول إن الرأس أعيد إلى الجثة بكربلاء بعد أربعين يوماً من المقتل و هو يوم معروف عندهم يسمون الزيارة فيه زيارة الأربعين ، و ما ذكر أنه في عسقلان في مشهد هناك أو بالقاهرة فشيء باطل لا يصح و لا يثبت ، و قد قتل الله قاتله صبراً و لقي حزناً و ذعراً و جعل رأسه الذي اجتمع فيه العيب و الذم في الموضع الذي جعل فيه رأس الحسين ، و ذلك بعد قتل الحسين بستة أعوام و بعث المختار به إلى المدينة ، فوضع بين يدي بني الحسين الكرام ، و كذلك عمرو بن سعد و أصحابه اللئام ضربت أعناقهم بالسيف و سقوا كأس الحمام و بقي الوقوف بين يدي الملك العلام في يوم يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام .

و في الترمذي : حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير قال : لما أتي برأس عبيد الله بن زياد و أصحابه نصبت في المسجد في الرحبة ، فانتهيت إليهم و هم يقولون قد جاءت فإذا هي حية قد جاءت تخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله ، فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت ، ثم قالوا : جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً .

قال العلماء : و ذلك مكافأة لفعله برأس الحسين و هي من آيات العذاب الظاهرة عليه ، ثم سلط الله عليهم المختار فقتلهم حتى أوردهم النار ، و ذلك أن الأمير مذحج بن إبراهيم بن مالك لقي عبيد الله بن زياد على خمسة فراسخ من الموصل و عبيد الله في ثلاثة و ثلاثين ألفاً، و إبراهيم في أقل من عشرين ألفاً فتطاعنوا بالرماح و تراموا بالسهام واصطفقوا بالسيوف إلى أن اختلط الظلام ، فنظر إبراهيم إلى رجل عليه بزة حسنة و درع سابغة و عمامة خز دكناء ، و ديباجة خضراء ، من فوق الدرع ، و قد أخرج يده من الديباجة و رائحة المسك تشم عليه ، و في يده صحيفة له مذهبة ، فقصده الأمير إبراهيم لا لشيء إلا لتلك الصحيفة و الفرس الذي تحته ، حتى إذا لحقه لم يلبث أن ضربه ضربة كانت فيها نفسه ، فتناول الصحيفة و غار الفرس فلم يقدر عليه و لم يبصر الناس بعضهم بعضاً من شدة الظلمة ، فتراجع أهل العراق إلى عسكرهم و الخيل لا تطأ إلا على القتلى ، فأصبح الناس و قد فقد من أهل العراق ثلاثة و سبعون رجلاً ، و قتل من أهل الشام سبعون ألفاً .

فيتعشوا منهم بسبعين ألفاً أو يزيدون قبل وقت العشاء

فلما أصبح وجد الأمير الفرس رده عليه رجل كان أخذه ، و لما علم أن الذي قتل هو عبيد الله بن زياد كبر و خر ساجداً و قال : الحمد لله الذي أجرى قتله على يدي ، فبعث به إلى المختار زيادة على سبعين ألف رأس في أولها أشد رؤوس أهل الفساد عبيد الله المنسوب إلى زياد .

قال المؤلف رحمه الله : فقلت هذا من كتاب مرج البحرين في مزايد المشرقين و المغربين للحافظ أبي الخطاب بن دحية رضي الله عنه .

فصل

ومثل صنيع عبيد الله بن زياد صنع قبله بشر بن أرطأة العامري الذي هتك الإسلام ، و سفك الدم الحرام ، و أذاق الناس الموت الزؤام ، لم يدع لرسول الله صلى الله عليه و سلم الذمام ، فقتل أهل بيته الكرام و حكم في مفارقهم الحسام ، و عجل لهم الحمام ذبح ابني عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب و هما صغيران بين يدي أمهما يمرحان ، و هما قثم و عبد الرحمن ، فوسوست أمهما و أصابها ضرب من الجان لم أشعله الثكل في قلبها من لهب النيران .

روى أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه في حديث فيه طول : كان أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله يتعوذ من شر يوم البلاء و يوم العورة في صلاة صلاها أطال قيامها و ركوعها و سجودها ، قال : فسألناه مم تعوذت و فيم دعوت؟ فقال : تعوذت من يوم البلاء و يوم العورة، فإن نساء من المسلمات ليسبين ليكشف عن سوقهن ، فأيتهن كانت أعظم ساقاً اشتريت على عظم ساقها ، فدعوت الله عز و جل أن لا يدركني هذا الزمان و لعلكما تدركانه .

و ذكر أبو عمر بن عبد البر قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، أنبأنا أبو محمد إسماعيل بن محمد الحبطلي ببغداد في تاريخه الكبير ، حدثنا محمد بن مؤمن بن حماد قال : حدثنا سلمان بن شيخ قال : حدثنا محمد بن عبد الحكم ، عن عوانة قال : أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بشر بن أرطأة في جيش ، فساروا من الشام حتى قدموا المدينة و عامل المدينة يومئذ لعلي عليه السلام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ففر أبو أيوب و لحق بعلي رضي الله عنهما . و دخل بشر المدينة فصعد منبرها فقال: أين شيخي الذي عهدته هنا بالأمس يعني عثمان بن عفان ، ثم قال يا أهل المدينة : و الله لولا ما عهدته إلى معاوية ما تركت فيها محتلماً إلا قتلته ، ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية ، و أرسل إلى بني سلمة فقال ما لكم عند أمان و لا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله ، فأخبر جابر فانطلق حتى جاء الشام فأتى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم فقال لها : ماذا ترين فإني خشيت أن أقتل و هذه بيعة ضلالة ، فقالت : أرى أن تبايع و قد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع فأتى جابر بشراً فبايعه لمعاوية ، و هدم بشر دوراً بالمدينة ، ثم انطلق حتى أتى مكة و بها أبو موسى الأشعري ، فخاف أبو موسى . على نفسه أن يقتله فهرب فقيل ذلك لبشر ، فقال : ما كنت لأقتله و قد خلع علياً . . و لم يطلبه و كتب أبو موسى إلى اليمن أن خيلاً مبعوثة من عند معاوية تقتل من الناس من أبى أن يقر بالحكومة ، ثم مضى بشر إلى اليمن و عامل اليمن لعلي رضي الله عنه عبيد الله بن العباس ، فلما بلغه أمر بشر فر إلى الكوفة و استخلف على المدينة عبيد الله بن عبد مدان الحارثي ، فأتى بشر فقتله و قتل ابنه ، و لقي ثقل عبيد الله بن العباس و فيه ابنان صغيران لعبيد الله بن عباس فقتلهما و رجع إلى الشام .

و ذكر أبو عمرو الشيباني قال : لما وجه معاوية بشر بن أرطاة لقتل شيعة علي رضي الله عنه سار إلى أن أتى المدينة ، فقتل ابني عبيد الله بن العباس ، و فر أهل المدينة حتى دخلوا الحرة حرة بني سليم ، و هذه الخرجة التي ذكر أبو عمرو الشيباني أغار بشر على همدان فقتل و سبى نساءهم ، فكن أول نساء سبين في الإسلام و قتل أحياء من بني سعد . و قد اختلفوا كما ترى في أي موضع قتل الصغيرين من أهل البيت هل في المدينة أو في مكة أو في اليمن ، لأنه دخل هذه البلاد و أكثر فيها الفساد و أظهر لعلي رضي الله عنه العناد ، و أفرط في بعضه و زاد و سلط على أهل البيت الكريم الأجناد ، فقتل و سبى و أباد و لم يبق إلا أن يخد الأخاديد و يعد الأوتاد ، و كان معاوية قد بعثه في سنة أربعين إلى اليمن و عليها عبيد الله ابن العباس أخو عبد الله بن العباس ، ففر عبيد الله و أقام بشر باليمن و باع دينه ببخس من الثمن فأخاف السبيل و رعى المرعى الوبيل ، و باع المسلمات و هتك المحرمات ، فبعث علي رضي الله عنه في طلبة حارثة بن قدامة السعدي ، فهرب بشر إلى الشام ، و قد ألبس بذميم أفعاله ثياب العار و الذمام و بقي الوقوف بين يدي الملك العلام يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام و رجع الشريف أبو عبد الله محمد إلى بلاد اليمن ، فلم يزل والياً عليهم حتى قتل علي رضي الله عنه . و يقال : إن بشر بن أطأرة لم يسمع من النبي صلى الله عليه و سلم حرفاً لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض و هو صغير فلا تصح له صحبة . قاله الإمام أحمد بن حنبل و يحيى بن معين و غيرهما ، و قال آخرون : خوف في آخر عمره . قال يحيى بن معين : و كان الرجل سوء . قال المؤلف رحمه الله : كذا ذكره الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه الله .

و قد ذكر أبو داود ، عن جنادة ، عن ابن أبي أمية قال : كنا مع بشر بن أطأرة في البحر فأتى بشارق يقال له منصور و قد سرق بختية ، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تقطع الأيدي في الغزو و لولا ذلك لقطعته .

قال أبو محمد عبد الحق : بشر هذا يقال ولد في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و كانت له أخبار سوء في جانب علي و أصحابه ، و هو الذي ذبح طفلين لعبيد الله بن العباس ، ففقدت أمهما عقلها و هامت على وجهها ، فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل الله عمره و يذهب عقله ، كان كذلك ، قال ابن دحية : و لما ذبح الصغيرين و فقدت أمهما عقلهما كانت تقف في الموسم تشعر شعراً يبكي العيون و يهيج بلابل الأحزان و العيون و هو هذا :

هامن أحس بإبني اللذين هما كالدرتين تسطا عنهما الصدف

يقال تسطعت العصاة إذا صارت فلقاً ، قاله في المجمل و غيره .

هامس أحس بإنبي اللذين هما سمعي و عقلي فقلبي اليوم مختطف

حدثت بشراً و ما صدقت ما زعموا من قولهم و من الإفك الذي اقترف

أحنى على و دجي إبني مرهف مشحوذة وكذاك الإثم يقترف

 باب ما جاء أن اللسان في الفتنة أشد من وقع السيف

أبو داود عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ستكون تستطف قتلاها في النار . اللسان فيها أشد من وقع السيف خرجه الترمذي و قال في حديث غريب ، و سمعت محمد بن إسماعيل يقول : لا يعرف لزياد بن سمين كوشى عن عبد الله بن عمر غير هذا الحديث الواحد .

وروي موقوفاً . و ذكره أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له . اللسان فيها كوقوع السيف أخرجه ابن ماجه أيضاً عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إياكم و الفتن فإن اللسان فيها مثل وقع السيف .

فصل

قلت : قوله [ تستنطف ] أي ترمي . مأخوذ من نطف الماء أي قطر . و النطفة الماء الصافي قل أو كثر و الجمع النطاف .أي أن هذه الفتنة تقطر قتلاها في النار أي ترميهم فيها لأقتتالهم على الدنيا و اتباع الشيطان و الهوى و قتلاها بدل من قوله العرب هذا المعنى الذي ظهر لي في هذا و لم أقف فيه على شيء لغيري و الله أعلم . قوله : اللسان فيها أشد من وقع السيف أي بالكذب عند أئمة الجور و نقل الأخبار إليهم ، فربما ينشأ عن ذلك من النهب و القتل و الجلد و المفاسد العظيمة أكثر مما ينشأ من وقوع الفتنة نفسها .

و في الصحيحين ، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار بعد ما بين المشرق و المغرب و في رواية عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي في النار أبعد ما بين المشرق و المغرب لفظ مسلم .

و قد روي أن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقى لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً فقوله : من سخط الله أي مما يسخط الله ، و ذلك بأن يكون كذبة أو بهتاناً أو بخساً أو باطلاً يضحك به الناس ، كما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ويل للذي تكلم بالكلمة من الكذب ليضحك الناس ويل له و ويل له .

و في حديث ابن مسعود [ إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الرفاهية من سخط الله ترديه بعد ما بين السماء و الأرض ] قال أبو زياد الكلابي : الرفاهية السعة في المعاش و الخصب ، و هذا أصل الرفاهية ، فأراد عبد الله بن أن يتكلم بالكلمة في تلك الرفاهية و الأتراف في دنياه مستهيناً بها لما هو فيه من النعمة ، فيسخط الله عز و جل عليه . قال أبو عبيدة و في الرفاهية لغة أخرى الرفاعية ، و ليس في هذا الحديث يقال : هو في رفاهية و رفاعية من العيش . و قوله : صماء بكاء عمياء يريد أن هذه الفتنة لا تسمع و لا تبصر فلا تقلع و لا ترتفع ، لأنها لا حواس لها فترعوى إلى الحق و أنه شبهها لاختلاطها و فتل البريء فيها و السقيم بالأعمى الأصم الأخرس الذي لا يهتدي إلى شيء فهو يخبط عشواء ، و البكم الخرس في أصل الخلقة، و الصم الطرش .

باب الأمر بالصبر عند الفتن و تسليم النفس للقتل عندها و السعيد من جنبها

أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أبا ذر قلت : لبيك رسول الله و سعديك ، و ذكر الحديث قال : كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت بالوصيف يعني القبر ، قلت الله و رسوله أعلم ، أو قال ما خار الله لي و رسوله ، قال عليك بالصبر أو قال تصبر ، ثم قال يا أبا ذر قلت لبيك و سعديك ؟ قال : كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت أحجار قد غرقت بالدم قلت : ما خار الله لي و رسوله . قال عليك بمن أنت منه قال : قلت يا رسول الله أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي ؟ قال : شاركت القوم إذا قال : قلت : فما تأمرني ؟ قال تلزم بيتك ، قال قلت فإن دخل على بيتي ؟ قال : فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك بيوء بإثمه و إثمك خرجه ابن ماجه و قال تصبر من غير شك ، و زاد بعده قال : كيف أنت وجوع يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك أو لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك .

قال : قلت الله و رسوله أعلم ما خار الله لي و رسوزله ، قال : عليك بالعفة ، ثم قال : كيف أنت و قتل يصيب الناس حتى تغرق حجارة الزيت بالدم الحديث .

و قال : فألق طرف ردائك على وجهك فيبوء بإثمه و إثمك فيكون من أصحاب النار .

و في حديث عبد الله بن مسعود حين ذكر الفتنة قال : الزم بيتك . قيل : فإن دخل على بيتي ؟ قال : فكن مثل الجمل الأورق الثقال الذي لا ينبعث إلا كرهاً و لا يمشي إلا كرهاً . ذكره أبو عبيدة قال : حدثنيه أبو النضر عن المسعودي، عن علي بن مدرك عن أبي الرواع ، عن عبد الله ، قال أبو عبيدة سمعت بعض الرواة يقول : الرواع و الوجه الرواع بضم الراء .

أبو داود قال عن المقداد بن الأسود قال : وايم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن السعيد لمن جنب الفتن و لمن ابتلى فصبر فواها .

الترمذي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه: كالقابض على الجمر قال : حديث غريب .

فصل

قوله بالوصيف الوصيف الخادم يريد أن الناس يشتغلون عن دفن موتاهم ، حتى لا يوجد فيهم من يحفر قبر الميت و يدفنه إلا أن يعطى وصيفاً أو قيمته ، و قد يكون معناه أن مواضع القبور تضيق عليهم فيبتاعون لموتاهم القبور كل قبر بوصيف ، و قوله : غرقت بالدم أي لزمت و الغروق اللزوم فيه ، و يروى غرقت و أحجار الزيت موضع المدينة .

روى الترمذي عن عمير مولى بن أبي اللحم عن أبي اللحم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستسقي و هو مقنع بكفيه يدعو .

و ذكر عمر بن أبي شيبة في كتاب المدينة على ساكنها الصلاة و السلام قال : حدثنا محمد بن يحيى عن ابن أبي فديك قال : أدركت أحجار الزيت ثلاثة أحجار مواجهة بيت أم كلاب و هو اليوم يعرف ببيت بني أسد فعلاً الكنيس الحجارة فاندفنت قال : و حدثنا محمد بن يحيى قال : و حدثنا محمد يحيى ، قال أخبرني أبو ضمرة الليثي عن عنان عن ابن الحارث بن عبيد ، عن هلال بن طلحة الفهري أن حبيب بن سلمة الفهري كتب إليه أن كعباً سألنسي أن أكتب له إلى رجل من قومي عالم بالأرض . قال : فلما قدم كعب المدينة جاءني بكتابه ذلك ، فقال : أعالم أنت بالأرض ؟ قلت : نعم و كانت بالزوراء حجارة يضعون عليها الزياتون رواياهم فأقبلت حتى جئتها فقلت هذه أحجار الزيت ، فقال كعب لا و الله ما هذه صفتها في كتاب الله ، انطلق أمامي فإنك أهدى بالطريق مني فانطلقنا حتى جئنا بني عبد الأشهل ، فقال يا أبا هلال: إني أجد أحجار الزيت في كتاب الله تعالى ، فسأل القوم عنها و هم يومئذ متوافرون فسألهم عن أحجار الزيت ، و قال إنها ستكون بالمدبنة ملحمة عندها .

فصل

و أما حديث ابن مسعود : كن مثل الجمل الأورق ، فقال الأصمعي الأورق و هو الذي في لونه بياض إلى سواد . و منه قيل للرماد أورق و الحمامة ورقاء . ذكره الأصمعي قال : و هو أطيب الإبل لحماً و ليس بمحمود عند العرب في عمله و سيره ، و أما الثقال فهو البطيء. قال عبيد : إنما خص عبد الله الأورق من الإبل لما ذكر من ضعفه عن العمل ، ثم اشترط الثقاتل أيضاً فزاده إبطاء و ثقلاً ، فقال : كن في الفتنة مثل ذلك ، و هذا إذا دخل عليك و إنما أراد عبد الله بهذا التبثط عن الفتنة و الحركة فيها .

فصل

و أما أمره صلى الله عليه و سلم أبا ذر بلزوم البيت و تسليم النفس للقتل ، فقالت طائفة : ذلك عند جميع الفتن و غير جائز لمسلم النهوض في شيء منها . قالوا : و عليه أن يستسلم للقتل إذا أريدت نفسه و لا يدفع عنها ، و حملوا الأحاديث على ظاهرها ، و ربما احتجوا من جهة النظر بأن قالوا : إن كل فريق من المقتتلين في الفتنة فإنه يقاتل على تأويل ، و إن كان في الحقيقة خطأ فهو عند نفسه محق و غير جائز لأحد قتله و سبيله سبيل حاكم من المسلمين يقضي بقضاء مما اختلف فيه العلماء على ما يراه صواباً ، فغير جائز لغيره من الحكام نقضه إذا لم يخالف بقضائه ذلك كتاباً و لا سنة و لا جماعة ، و كذلك المقتتلون في الفتنة كل حزب منهم عند نفسه محق دون غيره مما يدعون من التأويل فغير جائز لأحد قتالهم ، و إن هم قصدوا القتلى فغير جائز دفعهم ، و قد ذكرنا من تخلف عن الفتنة و قعدوا منهم عمران بن الحصين و ابن عمر ، و قد روي عنهما و عن غيرهما منهم عبيدة السلماني أن من اعتزل الفريقين فدخل بيته فأتى يريد نفسه فعليه دفعه عن نفسه ، و إن أبى الدفع عن نفسه فغير مصيب كقوله عليه الصلاة و السلام من أريدت نفسه و ماله فقتل فهو شهيد قالوا فالواجب على كل من أريدت نفسه و ماله فقتل ظلماً دفع ذلك ما وجد إليه السبيل متأولاً كان المريد أو معتمداً للظلم .

قلت : هذا هو الصحيح من القولين إن شاء الله تعالى . و في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ، قال : فلا تعطه مالك ، قال : أرأيت إن قاتلني ، قال : قاتله قال : أرأيت إن قتلني ، قال : فأنت شهيد، قال : أرأيت إن قتلته ، قال : هو في النار .

و قال ابن المنذر : ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : من قتل دون ماله فهو شهيد و قد روينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص و دفعهم عن أنفسهم و أموالهم ، و هذا مذهب ابن عمر ، و الحسن البصري ، و قتادة و مالك ، و الشافعي، و أحمد ، و إسحاق ، و النعمان ، و قال أبو بكر : و بهذا يقول عوام أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه و ماله إذا أريد ظلماً للأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يخص وقتاً من وقت و لا حالاً دون إلا السلطان ، فإن جماعة من أهل العلم كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع نفسه و ماله إلا بالخروج على السلطان و محاربته أنه لايحاربه و لا يخرج عليه للأخبار الواردة الدالة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصبر على ما يكون منهم من الجور و الظلم ، و قد تقدم ذلك في بابه و الحمد لله .

باب ـ جعل الله في أول هذه الأمة عافيتها و في آخرها بلاءها

مسلم عن عبد الله بن عمر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه ، و منا من يتنضل ، و منا من هو في جشره إذ نادى منادي يا رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلاة جامعة ، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، و إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها و سيصيب آخرها بلاء و أمور تنكرونها و تجيء فتنة فيدفق بعضها بعضاً ، و تجي الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ثم تنكشف ، و تجيء الفتنة فيقول هذه منه ، فمن أراد أن يزحزح عن النار و يدخل الجنة فلتأته و هو يؤمن بالله و اليوم الآخر ، و ليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ، و من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده و ثمرة قلبه فليعطه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر قال ابن عبد الرحمن عبد رب الكعبة : فدنوت منه فقلت له : ناشدتك الله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأهوى إلى أذنيه و قلبه بيديه و قال : سمعته أذناي و وعاه قلبي فقلت له : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل و نقتل أنفسنا و الله عز و جل يقول : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً فسكت ساعة ثم قال : أطعه في طاعة الله و اعصه في معصية الله .

فصل

قوله : ينتضل الانتضال الرمي بالسهام و الجشر المال من المواشي التي ترعى أمام البيوت و الديار ، يقال : مال جشر يرعى في مكانه لأنه يرجع إلى أهله . يقال : جشرنا دوابنا أي أخرجناها إلى المرعى و أصله البعد ، و منه يقال للأعزب : جشر و جشير لبعده عن النساء، و في الحديث : من ترك قراءة القرآن شهرين فقد جشره أي بعد عنه . و قوله : يدفق بعضها بعضاً أي يتلو بعضها بعضاً و ينصب بعضها على بعض . و التدفق التصبب . و هذا المعنى مبين في نفس الحديث لقوله و تجيء الفتنة ثم تنكشف و تجيء الفتنة و تزحزح أي تبعد و منه قوله تعالى و ما هو بمزحزحه من العذاب أي بمبعده ، و صفقة اليد أصلها ضرب الكف على الكف زيادة في الاستيثاق مع النطق باللسان و الالتزام بالقلب ، و في التنزيل . إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم الآية . و قوله : فاضربوا عنق الآخر قيل : المراد عنه و خلعه و ذلك قتله و موته ، و قيل : قطع رأسه و إذهاب نفسه يدل عليه قوله في الحديث الآخر : فاضربوه بالسيف كائناً ما كان ، و هو ظاهر الحديث هذا إذا كان الأول عدلاً ، و الله أعلم .

باب جواز الدعاء بالموت عند الفتن و ما جاء أن بطن الأرض خير من ظهرها

مالك ، عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يدعو فيقول : اللهم إني أسألك فعل الخيرات و ترك المنكرات و حب المساكين ، و إذا أردت الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون و قد تقدم هذا في أول الكتاب . قال ابن وهب : و حدثني مالك قال: كان أبو هريرة يلقى الرجل فيقول له : مت إن استطعت فيقول له لم ؟ قال تموت و أنت تدري على ما تموت خير لك من أن تموت و أنت لا تدري على ما تموت عليه . قال مالك : و لا أرى عمر دعا ما دعا به من الشهادة إلا خالف التحول من الفتن .

قلت : و قد جاء هذا المعنى مرفوعاً عن أبي هريرة ، روى النضر بن شميل عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ويل للعرب من شر قد اقترب موتوا إن استطعتم . و هذا غاية في التحذير من الفتن و الخوض فيها حين جعل الموت خيراً من مباشرتها .

و روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان أمراؤكم خياركم و أغيناؤكم سمحاءكم و أموركم شورى بينكم ، فظهر الأرض خير لكم من بطنها ، و إذا كان أمراؤكم شراركم و أغنياؤكم بخلاءكم و أموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح المري في حديثه غرائب لا يتابع عليها و هو رجل صالح .

البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه أخرجه مسلم ، و ابن ماجه بمعناه ، و زاد مثنى و ليس به الدين إلا البلاء .

و روى شعبة عن سلمة بن كهيل سمعت أبا الزعاء يحدث عن عبد الله قال : [ ليأتين على الناس زمان يأتي الرجل القبر فيقول يا ليتني مكان هذا . ليس به حب الله و لكن من شدة ما يرى من البلاء ] .

قلت : و كان هذا إشارة إلى أن كثرة الفتن و شدة المحن و المشقات و الأنكاد اللاحقة للإنسان في نفسه و ماله و ولده قد أذهبت الدين منه ، و من أكثر الناس أو قلة الاعتناء به من الذي يتمسك بالدين عند هجوم الفتن ، و كذلك عظم قدر العبادة في حالة الفتن حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم العبادة في الهرج كهجرة إلي و قد مضى الكلام في هذا المعنى في أول الكتاب ، و نزيده وضوحاً إنه شاء الله تعالى و الله أعلم .

باب أسباب الفتن و المحن و البلاء

أبو نعيم ، عن إدريس الخولاني ، عن عبيدة بن الجراح ، عن عمر بن الخطاب قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بلحيتي و أنا أعرف الحزن في وجهه فقال : إنا لله و إنا إليه راجعون أتاني جبريل آنفاً فقال : إنا لله و إنا إليه راجعون ، فقلت إنا لله و إنا إليه راجعون فمم ذلك يا جبريل ؟ فقال : إن أمتك مفتتنة بعدك من دهر غير كثير ، فقلت : فتنة كفر أو فتنة ضلال ؟ فقال : كل سيكون ، فقلت و من أين و أنا تارك فيهم كتاب الله ؟ قال فبكتاب الله يفتنون و ذلك من قبل أمرائهم و قرائهم يمنع الأمراء الناس الحقوق فيظلمون حقوقهم و لا يعطونها فيقتتلوا و يفتتنوا ، و يتبع القراء أهواء الأمراء الناس الحقوق فيظلمون حوققهم و لا يعطونها فيقتتلوا و يفتتنوا ، و يتبع القراء أهواء الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون . قلت : كيف يسلم من يسلم منهم ؟ قال : بالكف و الصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه و إن منعوا تركوه .

البزار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لم تظهر الفاحشة في قوم فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ، و لا نقضوا المكيال و الميزان إلا أخذوا بالسنين و شدة المؤنة و جوار السلطان ، و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، و لولا البهائم لم يمطروا ، و لم ينقضوا عهد الله و لا عهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم ، فأخذ بعض ما كان في أيديهم ، و إذا لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم أخرجه ابن ماجه أيضاً في سننه .

و ذكره أبو عمر بن عبد البر ، و أبو بكر الخطيب من حديث سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم بن يزيد قال : حدثنا مالك عن عمه أبي سهيل ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عمر أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أي المؤمنين أفضل ؟ قال : أحسنهم خلقاً قال : فأي المؤمنين أكيس ؟ قال : أكثرهم للموت ذكراً و أحسنهم له استعداداً أولئك الأكياس ثم قال يا معشر المهاجرين : لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم و ذكر الحديث .

و قال عطاء الخراساني : إذا كان خمس كان خمس : إذا أكل الربا كان الخسف و الزلزلة ، و إذا جار الحكام قحط المطر ، و إذا ظهر الزنا كثر الموت ، و إذا منعت الزكاة هلكت الماشية، و إذا تعدى على أهل الذمة كانت الدولة ذكره أبو نعيم .

الترمذي عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مشت أمتي المطيطا و خدمها أبناء الملوك فارس و الروم سلط شرارها على خيارها قال : هذا حديث غريب .

ابن ماجه ، عن قيس بن أبي حازم قال : قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم و إنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه أخرجه أبو داود في سننه ، و الترمذي في جامعه .

مسلم ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا فتحت عليكم فارس و الروم أي قوم أنتم ؟ قال عبد الرحمن بن عوف : نكون كما أمر الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو غير ذلك تنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض .

و أخرج أيضاً عن عمرو بن عوف ، و هو حليف بني عامر بن لؤي ، و كان شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أبو عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها ، و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد صالح أهل البحرين و أمر عليهم العلاء بن الحضرمي ، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين ، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رآهم ثم قال : أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين قالوا أجل يا رسول الله قال : فأبشروا و أملوا ما بسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم ، و لكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم كما بسطت على من كان من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم .

و في رواية : فتلهيكم كما ألهتكم بدل فتهلككم .

و أخرج ابن ماجه عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أدع بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء أخرجه البخاري و مسلم أيضاً .

و أخرج ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من صباح إلا و ملكان يناديان ويل للرجال من النساء و ويل للنساء من الرجال .

و أخرج أيضاً عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام خطيباً و كان فيما قال : إن الدنيا خضرة حلوة و إن الله مستخفلكم فيها فناظر كيف تعملون ألا فاتقوا الله و اتقوا النساء خرجه مسلم أيضاً و قال : بدل قوله فاتقوا الله فاتقوا النار و اتقوا النساء و زاد فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء .

الترمذي ، عن كعب بن عياض قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن لكل أمة فتنة و فتنة أمتي المال . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب .

و عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من سكن البادية جفا ، و من اتبع الصيد غفل ، و من أتى أبواب السلطان افتتن قال : و في الباب عن أبي هريرة .

و هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري .

فصل

حذر الله سبحانه و تعالى عباده فتنة المال و النساء في كتابه و على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم فقال عز من قائل يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم فاحذروهم و قال تعالى : إنما أموالكم و أولادكم فتنة ثم قال سبحانه و تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم فنبه الله على ما يعتصم به من فتنة حب المال و الولد في آي ذكر الله فيها فتنة و ما كان عاصماً من فتنة المال و الولد فهو عاصم من كل الفتن و الأهواء . و قال تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ثم قال تعالى : قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات فوصف تعالى ما للمتقين عند ربهم ، ثم وصف أحوالهم بنعتهم إلى قوله و المستغفرين بالأسحار و هذا تنبيه لهم على تزهيدهم فيما زين لهم و ترغيبهم فيما هو خير منه و مثل هذا في القرآن كثير .

و المطيطاء : بضم الميم و المد : المشي بتبختر و هي مشية المتكبرين المفتخرين و هو مأخوذ من مط يمط إذا مد ، قال الجوهري : و المطيطاء بضم الميم ممدوداً التبختر و مد اليدين في المشي ، و في الحديث إذا مشت أمتي المطيطياء و خدمتهم فارس و الروم كان بأسهم بينهم و قوله : ثم ينطلقون في مساكن المهاجرين . قيل في الكلام حذف أي في مساكين المهاجرين ، و المعنى أنه إذا وقع التنافس و التحاسد و التباغض حملهم ذلك على أن يأخذ القوي على ما أفاء الله المساكين الذي لا يقدر على مدافعته ، فيمنعه عنه ظلماً و قهراً بمقتضى التنافس و التحاسد .

و قيل : ليس في الكلام حذف و أن المعنى المراد أن مساكين المهاجرين و ضعفاءهم سيفتح عليهم إذ ذاك من الدنيا حتى يكونوا أمراء بعضهم على رقاب بعض ، و هذا اختيار القاضي عياض ، و الأول اختيار شيخنا أبي العباس القرطبي قال : و هو الذي يشهد له مساق الحديث و معناه ، و ذلك أنه عليه الصلاة و السلام أخبرهم أنه يتغير بهم الحال و أنهم عنهم أو عن بعضهم أحوال غير مرضية تخالف أحوالهم التي كانوا عليها من التنافس و التباغض و انطلاقهم في مساكين المهاجرين ، فلا بد أن يكون هذا الوصف غير مرضى كالأوصاف التي قبله ، و أن تكون تلك الأوصاف المتقدمة توجيهاً ، و حينئذ يلتئم الكلام أوله و أخره و الله أعلم ، و يعضده رواية السمرقندي فيحملون بعضهم على رقاب بعض أي بالقهر و الغلبة .

باب منه و ما جاء أن الطاعة سبب الرحمة و العافية

ذكر أبو نعيم الحافظ قال : حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا المقدام بن داود ، حدثنا علي بن معبد الرقي ، حدثنا وهب بن راشد ، حدثنا مالك بن دينار عن خلاس بن عمرو ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل يقول : أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك ، و ملك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، و أن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة و الرحمة ، و إن العباد إذا عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط و النقمة فساموهم سوء العذاب ، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك ، و لكن اشغلوا أنفسكم بالذكر و التضرع إلي أكفكم ملوككم . غريب من حديث مالك مرفوعاً تفرد به علي بن معبد عن وهب ابن راشد .