الباب الثاني: حدوث الألفاظ والفلسفة والملة

رسالة الحروف

الفارابي

البابُ الثاني

حُدوث الألفاظ وَالفلسفة والملّة

الفصل التاسع عشر:

   الملة والفلسفة تقال بتقديم وتأخير  ولمّا كان سبيل البراهين أن يُشعَر بها بعد هذه لزم أن تكون القوى الجدليّة والسوفسطائيّة والفلسفة المظنونة أو الفلسفة المموّهة تقدّمت بالزمان الفلسفة اليقينيّة، وهي البرهانيّة. والملّة إذا جُعلت إنسانيّة فهي متأخّرة بالزمان عن الفلسفة، وبالجملة، إذ كانت إنّما يُلتمَس بها تعليم الجمهور الأشياء النظريّة والعمليّة التي استُنبطت في الفلسفة بالوجوه التي يتأتّى لهم فهم ذلك، بإقناع أو تخييل أو بهما جميعا.  وصناعة الكلام والفقه متأخّرتان بالزمان عنها وتابعتان لها. فإن كانت الملّة تابعة لفلسفة قديمة مظنونة أو مموّهة كان الكلام والفقه التابعان لها بحسب ذلك بل دونهما، وخاصّة إذا كانت قد خلّت الأشياء ألتي أخذتها عنهما أو عن إحداهما وأبدلت مكانها خيالاتها ومثالاتها، فأخذت صناعة الكلام تلك المثالات والخيالات على أنّها هي الحقّ اليقين والتمست تصحيحها بالأقاويل. وإن اتّفق أيضا أن يكون واضع نواميس متأخّر حاكىفيما شرّعه من الأشياء النظريّة واضع نواميس متقدّما قبله كان أخذ الأمور النظريّة عن فلسفة مظنونةأو مموّهة، وأخذ المثالات والخيالات التي تَخيّل بها الأوّل ما كان أخذه عن تلك الفلسفة على أنّها هي الحقّ لا أنّها مثالات، فالتمس تخييلها أيضا بمثالات تُخيّل تلك الأشياء، فأخذ صاحب الكلام في ملّته مثالاته تلك على أنّها هي الحقّ، صار ما تنظر فيه صناعة الكلام في هذه الملّة أبعد عن الحقّ من الأولى، إذ كان إنّما تصحيح مثال مثالالشيء الذي ظُنّ حقّ أو مموَّه أنّه حقّ.  وبيّن أنّ صناعة الكلام والفقه متأخّرتان عن الملّة، والملّة متأخّرة عن الفلسفة، وأنّ القوّة الجدليّة والسوفسطائيّة تتقدّمان الفلسفة، والفلسفة الجدليّة والفلسفة السوفسطائيّة تتقدّمان الفلسفة البرهانيّة، فالفلسفة بالجملة تتقدّم الملّة على مثال ما يتقدّم بالزمان المستعمل الآلات الآلات. والجدليّة والسوفسطائيّة تتقدّمان الفلسفة على مثال تقدّم غذاء الشجرة للثمرة، أوعلى مثال ما تتقدّم زهرة الشجرة الثمرة. والملّة تتقدّم الكلام والفقه على مثال ما يتقدّم الرئيس المستعملُ للخادم الخادمَ المستعملُ للآلة الآلة.  والملّة إذ كانت إنّما تعلّم الأشياء النظريّة بالتخييل والإقناع، ولم يكن يعرف التابعون لها من طرق التعليم غير هذين، فظاهر أنّ صناعة الكلام التابعة للملّة لا تشعر بغير الأشياء المقنعة ولا تصحّح شيئا منها إلاّ بطرق وأقاويل إقناعيّة، ولا سيّما إذا قُصد إلى تصحيح مثالات الحقّ على أنّها هي الحقّ. والإقناع إنّما يكون بالمقدّمات التي هي في بادئ الرأي مؤثَرة ومشهورة، وبالضمائر والتمثيلات، وبالجملة بطرق خطبيّة، كانت أقاويل أو كانت أموراخارجة عنها. فالمتكلّم إذن يقتصر في الأشياء النظريّة التي يصحّحها على ما هو في بادئ الرأي مشترك. فهو يشاركالجمهور في هذا. لكنّه ربّما يتعقّب بادئ الرأي أيضا، لكنّه إنّما يتعقّب بادئ الرأي بشيء آخر هو أيضا بادئ الرأي. وأقصى ما يبلغ من التوثيق أن يجعل الرأي في نقضه جدليّا. فهو بهذا يفارق الجمهور بعض المفارقة. وأيضا فإنّه إنّما يجعل غرضه في حياته ما يستفاد بها. فهو أيضا يفارق الجمهور بهذا. وأيضا فإنّه لمّا كان خادما للملّة، وكانت الملّة منزلتها من الفلسفة تلك المنزلة، صار الكلام نسبته إلى الفلسفة أيضا على أنّها بوجه مّا خادمة لها أيضا بتوسّط الملّة، إذ كانت إنّما تنصر وتلتمس تصحيح ماقد صُحّح أوّلا في الفلسفة بالبراهين بما هو مشهور في بادئ الرأي عند الجميع ليحصل التعليم مشتركا للجميع. ففارق الجمهور بهذا أيضا. فلذلك ظُنّ به أنّه من الخاصّة لا من الجمهور. وينبغي أن يُعلَم أنّه أيضا من الخاصّة، لكن بالإضافة إلى أهل تلك الملّة فقط، والفيلسوف خاصّيّته بالإضافة إلى جميع الناس وإلى الأمم.  والفقيه يتشبّه بالمتعقّل. وإنّما يختلفان في مبادئ الرأي التي يستعملانها في استنباط الرأي الصواب في العمليّة الجزئيّة. وذلك أن ّ الفقيه إنّا يستعمل المبادئ مقدّمات مأخوذة منقولة عن واضع الملّة في العمليّة الجزئيّة، والمتعقّل يستعمل المبادئ مقدّمات مشهورة عند الجميع ومقدّمات حصلت له بالتجربة. فلذلك صار الفقيه من الخواصّ بالإضافة إلى ملّة مّا محدودة والمتعقّل من الخاصّة بالإضافة إلى الجميع.  فالخواصّ على الإطلاق إذن هم الفلاسفة الذين هم فلاسفة بإطلاق. وسائر مَن يُعَدّ من الخواصّ إنّما يُعَدّ منهم لأنّ فيهم شبها من الفلاسفة. من ذلك أنّ كلّ مَن قُلّد أو تقلّد رئاسة مدنيّة أو كان يصلح لأن يتقلّدها أو كان معَدّا لأن يتقلّدها يجعل نفسه من الخواصّ، إذ كان فيه شبه مّا من الفلسفة، إذ كان أحد أجزائها الصناعة الرئيسة العمليّة. ومن ذلك أنّ الحاذق من أهل كلّ صناعة عمليّة يجعل نفسه من الخواصّ لكونه أنّه قد استقصى تعقيب ما هو عند أهل الصناعة مأخوذ على الظاهر. وليس الحاذق من أهل كلّ صناعة يسمّينفسه بهذا الاسم فقط، لكنّ أهل صناعة عمليّة ربّما سمّوا أنفسهم خواصّ بالإضافة إلى مَن ليس هو من أهل تلك الصناعة، إذ كان إنّما يتكلّم وينظر في صناعته بالأشياء التي تخصّ صناعته، ومَن سواه إنّما يتكلّم وينظر فيها ببادئ الرأي وما هو مشترك عند الجميع في الصنائع كلّها. وأيضا فإنّ الأطّباء يسمّون أنفسهم أيضا من الخواصّ إمّا لأنّهم كانوا يتقلّدون تدبير المرضى المدنفين، وإمّا لأنّ صناعتهم تشارك العلم الطبيعيّ من الفلسفة، وإمّا لأنّهم يحتاجون إلى أن يستقصوا تعقيب ما هو في صناعتهم من بادئ الرأي أ كثر من سائر الصناعات للخطر والضرر الذي لا يؤمَن على الناس من أقلّ خطأ يكون منهم، وإمّا لأنّ صناعة الطبّ تستخدم صنائع كثيرة من الصنائع العمليّة مثل صناعة الطبخ والحرد وبالجملة الصنائع النافعة في صحّة الإنسان. ففي جميع هذه شبه من الفلسفة بوجه مّا. وليس ينبغي أن يسمّى أحد من هؤلاء خواصّ إلاّ على جهة الاستعارة، ويُجعَل الخواصّ أوّلا وفي الجودة على الإطلاق الفلاسفة، ثمّ الجدليّون والسوفسطائيّون، ثمّ واضعوا النواميس، ثمّ المتكلّمون والفقهاء. والعوامّ والجمهور أولئك الذين حدّدناهم، كان فيهم مَن تقلّد رئاسة مدنيّة أو كان يصلح أن يقلَّدها أم لا.

الفصل العشرون:

حدوث حروف الأمّة وألفاظها  وبيّن أنّ العوامّ والجمهور هم أسبق في الزمان من الخواصّ. والمعارف المشتركة التي هي بادئ رأي الجميع في الزمان من الصنائع العمليّة ومن المعارف التي تخصّ صناعة صناعة منها، وهذه جميعا هي المعارف العاميّة. وأوّل ما يحدثون ويكونون هؤلاء. فإنّهم يكونون في مسكن وبلد محدود، ويُفطَرون على صُوَر وخِلَق في أبدانهم محدودة، وتكون أبدانهم على كيفيّة وأمزجة محدودة، وتكون أنفسهم معَدّة ومسدّدة نحو معارف وتصوّرات وتخيّلات بمقادير محدودة في الكميّة والكيفيّة - فتكون هذه أسهل عليهم من غيرها -، وأن تنفعل انفعالات على أنحاء ومقادير محدودة الكيفيّة والكميّة - وتكون هذه أسهل عليها -، وتكون أعضائهم معدّة لأن تكون حركتها إلى جهات مّا وعلى أنحاء أسهل عليها من حركتها إلى جهات أخر وعلى أنحاء أخر.  والإنسان إذا خلا من أوّل ما يُفطَر ينهض ويتحرّك نحو الشيء الذي تكون حركته إليه أسهل عليه بالفطرة وعلى النوع الذي تكون به حركته أسهل عليه، فتنهض نفسه إلى أن يعلم أو يفكّر أو يتصوّر أو يتخيّل أو يتعقّل كلّ ما كان استعداده له بالفطرة أشدّ وأ كثر - فإنّ هذا هو الأسهل عليه - ويحرّك جسمه وأعضاءه إلى حيث تَحَرُّكه وعلى النوع الذي استعدادُه بالفطرة له أشدّ وأ كثر وأ كمل - فإنّ هذا أيضا هو الأسهل عليه. وأوّل ما يفعل شيئامن ذلك يفعل بقوّة فيه بالفطرة وبملكة طبيعيّة، لا باعتياد له سابق قبل ذلك ولا بصناعة. وإذا كرّر فِعْل شيء من نوع واحد مرارا كثيرة حدثت له ملكة اعتياديّة، إمّا خلقيّة أو صناعيّة.  وإذا احتاج أن يعرّف غيره ما في ضميره أو مقصوده استعمل الإشارة أوّلا في الدلالة على ما كان يريد ممّن يلتمس تفهيمه إذا كان مَن يلتمس تفهيمه بحيث يبصر إشارته، ثمّ استعمل بعد ذلك التصويت. وأوّل التصويتات النداء - فإنّه بهذا ينتبه مَن يلتمس تفهيمه أنّه هو المقصود بالتفهيم لا سواه - وذلك حين ما يقتصر في الدلالة على ما ضميره بالإشارة إلى المحسوسات. ثمّ من بعد ذلك يستعمل تصويتات مختلفة يدلّ بواحد واحد منها على اوحد واحد ممّا يدلّ عليه بالإشارة إليه وإلى محسوساته، فيجعل لكلّ مشار إليه محدود تصويتا مّا محدودا لا يستعمل ذلك التصويت في غيره، وكلّ واحد من كلّ واحد كذلك.  وظاهر أنّ تلك التصويتات إنّما تكون من القرع بهواء النفَس بجزء أو أجزاء من حلقه أو بشيء من أجزاء ما فيه وباطن أنفه أو شفتيه، فإنّ هذه هي الأعضاء المقروعة بهواء النفَس. والقارع أوّلا هي القوّة التي تسرّب هواء النفَس من الرئة وتجويف الحلق أوّلا فأوّلا إلى طرف الحلق الذي يلي الفم والأنف وإلى ما بين الشفتين، ثمّ اللسان يتلقّى ذلك الهواء فيضعطه إلى جزء جزء من أجزاء باطن الفم وإلى جزء جزء من أجزاء أصول الأسنان وإلى الأسنان، فيقرع به ذلك الجزءَ فيحدث من كلّ جزء يضغطه اللسان عليه ويقرعه به تصويت محدود، وينقله اللسان بالهواء من جزء إلى جزء من أجزاء أصل الفم فتحدث تصويتات متوالية كثيرة محدودة.  وظاهر أنّ اللسان إنّما يتحرّك أوّلا إلى الجزء الذي حركته إليه أسهل. فالذين هم في مسكن واحد وعلى خِلَق في أعضائهم متقاربة، تكون ألسنتهم مفطورة على أن تكون أنواع حركاتها إلى أجزاء أجزاءمن داخل الفم أنواعا واحدة بأعيانها، وتكون تلك أسهل عليها من حركاتها إلى أجزاء أجزاء أخر . ويكون أهل مسكن وبلد آخر، أذا كانت أعضاؤهم على خِلَق وأمزجة مخالفة لخِلَق أعضاء أولئك، مفطورين على أن تكون حركة ألسنتهم إلى أجزاء أجزء من داخل الفم أسهل عليهم من حركتها إلى الأجزاء التي كانت ألسنة أهل المسكن الآخر تتحرّك إليها، فتخالف حينئذ التصويتات التي يجعلونها علامات يدلّ بها بضعهم بعضا على ما في ضميره ممّا كان يُشير إليه وإلى محسوسه أوّلا. ويكون ذلك هو السبب الأوّل في اختلاف ألسنة الأمم. فإنّ تلك التصويتات الأول هي الحروف المعجمة.  ولأنّ هذه الحروف إذا جعلوها علامات أوّلا كانت محدودة العدد، لم تف بالدلالة على جميع ما يتّفق أن يكون في ضمائرهم إلى تركيب بعضها إلى بعض بموالاة حرف حرف، فتحصل في ألفاظ من حرفين أو حروف، فيستعملونها علامات أيضا لأشياء أخر. فتكون الحروف والألفاظ الأول علامات لمحسوسات يمكن أن يشار إليها ولمعقولات تستند إلى محسوسات يمكن أن يشار إليها، فإنّ كلّ معقول كلّيّ له أشخاص غير أشخاص المعقول الآخر. فتحدث تصويتات كثيرة مختلفة، بعضها علامات لمحسوسات - وهي ألقاب - وبعضها دالّة على معقولات كلّيّة لها أشخاص محسوسة. وإنّما يُفهَم من تصويت تصويت أنّه دالّ على معقول معقول متى كان تردّد تصويت واحد بعينه على شخص مشار إليه وعلى كلّ ما يشابهه في ذلك المعقول. ثمّ يُستعمَل أيضا تصويت آخر على شخص تحت معقول مّا آخر وعلى كلّ ما يشابهه في ذلك المعقول.

الفصل الحادي والعشرون: 

  أصل لغة الأمّة واكتمالها .  فهكذا تحدث أوّلا حروف تلك الأمّة وألفاظها الكائنة عن تلك الحروف. ويكون ذلك أوّلا ممّن اتّفق منهم. فيتّفق أن يستعمل الواحد منهم تصويتا أو لفظة في الدلالة على شيء مّا عندما يخاطب غيره فيحفظ السامع ذلك، فيستعمل السامع ذلك بعينه عندما يخاطب المنشئ الأوّل لتلك اللفظة، ويكون السامع الأوّل قد احتذى بذلك فيقع به، فيكونان قد اصطلحا وتواطئا على تلك اللفظة، فيخاطبان بها غيرهما إلى أن تشيع عند جماعة.ثمّ كلّما حدث في ضمير إنسان منهم شيء احتاج أن يُفهمه غيره ممّن يجاوره، اخترع تصويتا فدلّ صاحبَه عليه وسمعه منه فيحفظ كلّ واحد منهما ذلك وجعلاه تصويتا دالاّ على ذلك الشيء. ولا يزال، يُحدث التصويتات واحد بعد آخر ممّن اتّفق من أهل ذلك البلد، إلى أن يُحدث مَن يدبّر أمرهم ويضع بالإحداث ما يحتاجون إليه من التصويتات للأمور الباقية التي لم يتّفق لها عندهم تصويتات دالّة عليها. فيكون هو واضع لسان تلك الأمّة. فلا يزال منذ أوّل ذلك يدبّر أمرهم إلى أن توضع الألفاظ لكلّ ما يحتاجون إليه في ضروريّة أمرهم.  ويكون ذلك أوّلا لما عرفوه ببادئ الرأي المشترك وما يُحَسّ من الأمور التي هي محسوسات مشتركة من الأمور النظريّة مثل السماء والكواكب والأرض ومافيها، ثمّ لما استنبطوه عنه، ثمّ من بعد ذلك للأفعال الكائنة عن قواهم التي هي لهم بالفطرة، ثمّ للملَكات الحاصلة عن اعتياد تلك الأفعال نت أخلاق أو صنائع للأفعال الكائنة عنها بعد أن حصلت ملَكات عن اعتيادهم، ثمّمن بعد ذلك لما تحصل لهم معرفته بالتجربة أوّلا ولما يُستنبَط عمّا حصلت معرفته بالتجربة من الأمور المشتركة لهم أجمعين، ثمّ من بعد ذلك للأشياء التي تخصّ صناعة صناعة من الصنائع العمليّة من الآلات وغيرها، ثمّ لما يُستخرَج ويوجد بصناعة صناعة، إلى أن يؤتى على ما تحتاج إليه تلك الأمّة.  فإن كانت فِطَر تلك الأمّة على اعتدال وكانت أمّة مائلة إلى الذكاء والعلم طلبوا بفِطَرهم من غير أن يعتمدوا في تلك الألفاظ التي تُجعَل دالّة على المعاني محاكاة المعاني وأن يجعلوها أقرب شبها بالمعاني والموجود، ونهضت أنفسهم بفِطَرها لأن تتحرّى في تلك الألفاظ أن تنتظم بحسب انتظام المعاني على أ كثر ما تتأتّى لها في الألفاظ، فيُجتهَد في أن تُعرب أحوالها الشبه من أحوال المعاني. فإن لم يفعل ذلك مَن اتّفق منهم فعل ذلك مدبّروا أمورهم في ألفاظهم التي يشرّعونها.  فيبين منذ أوّل الأمر أنّ ههنا محسوسات مدرَكة بالحسّ، وأنّ فيها أشياء متشابهة وأشياء متباينة، وأنّ المحسوسات المتشابهة إنّما تتشابه في معنى واحد معقول تشترك فيه، وذلك يكون مشتركا لجميع ما تشابه، ويُعقَل في كلّ واحد منها ما يُعقَل في الآخر، ويسمّى هذا المعقول المحمول على كثير " الكلّيّ " و" المعنى العامّ ". وأمّا المحسوس نفسه، فكلّ معنى كان واحدا ولم يكن صفة مشتركة لأشياء كثيرة ولم يكن يشابهه شيء أصلا، فيسمّى الأشخاص والأعيان؛ والكلّيّات كلّها فتسمّى الأجناس والأنواع. فالألفاظ إذن بعضها ألفاظ دالّة على أجناس وأنواع وبالجملة الكلّيّات، ومنها دالّة على الأعيان والأشخاص. والمعاني تتفاضل في العموم والخصوص. فإذا طلبوا تشبيه الألفاظ بالمعاني جعلوا العبارة عن معنى واحد يعمّ أشياء مّا كثيرة بلفظ واحد بعينه يعمّ تلك الأشياء الكثيرة، وتكون للمعاني المتفاضلة في العموم والخصوص ألفاظ متفاضلة في العموم والخصوص، وللمعاني المتباينة ألفاظ متباينة. وكما أنّ في المعاني معاني تبقى واحدة بعينها تتبدّل عليها أعراض تتعاقب عليها، كذلك تُجعَل في الألفاظ حروف راتبة وحروف كأنّها أعراض متبدّلة على لفظ واحد بعينه، كلّ حرف يتبدّل لعرض يتبدّل. فإذا كان المعنى الواحد يثبت وتتبدّل عليه أعراض متعاقبة، جُعلت العبارة بلفظ واحد يثبت ويتبدّل عليها حرف حرف، وكلّ حرف منها دالّ على تغيير تغيير. وإذا كانت المعاني متشابهة بعرض أو حال مّا تشترك فيها، جُعلت العبارة عنها بألفاظ متشابهة الأشكال ومتشابهة بالأواخر والأوائل، وجُعلت أواخرها كلّها أوأوائلها حرفاواحدافجُعل دالاّ على ذلك العرض. وهكذا يُطلَب النظام في الألفاظ تحريّا لأن تكون العبارة عن معان بألفاظ شبيهة بتلك المعاني.  ويبلغ من الاجتهاد في طلب النظام وشبه الألفاظ بالمعاني إلى أن تُجعَل اللفظةالواحدة دالّة على معان متباينة الذوات متى تشابهت بشيء مّا غير ذلك وعلى أدائها وإن كان بعيدا جدّا، فتحدث الألفاظ المشكّكة.  ثمّ يبين لنا شبه الألفاظ بالمعاني، ونحاكي بالألفاظ المعاني التي ليست تكون بها العبارة، فيُطلَب أن يُجعَل في الألفاظ ألفاظ تعمّ أشياء كثيرة من حيث هي ألفاظ، كما أنّ في المعاني معاني تعمّ الأشياء كثيرة المعاني. فتحدث الألفاظ المشتركة، فتكون هذه الألفاظ المشتركة من غير أن يدلّ كلّ واحد منها على معنى مشترك. وكذلك يُجعَل في الألفاظ ألفاظ متباينة من حيث هي ألفاظ فقط، كما أنّ المعاني معاني متباينة. فتحصل ألفاظ مترادفة.  ويُجرى ذلك بعينه في تركيب الألفاظ، فيحصل تركيب الألفاظ شبيها بتركيب المعاني المركَّبة التي تدلّ عليها تلك الألفاظ المركَّبة، ويُجعَل في الألفاظ لمركَّبة أشياء ترتبط بهاالألفاظ بعضها إلى بعض متى كانت الألفاظ دالّة على معان مركَّبة ترتبط بعضها ببعض. ويُتحرّى أن يُجعَل ترتيب الألفاظ مساويا لترتيب المعاني في النفس.  فإذا استقرّت الألفاظ على المعاني التي جُعلت علامات لها فصار واحد واحد لواحد واحد وكثير لواحد أو واحد لكثير، وصارت راتبة على التي جُعلت دالّة على ذواتها، صار الناس بعد ذلك إلى النسخ والتجوّز في العبارة بالألفاظ، فعُبّر بالمعنى بغير اسمه الذي جُعل له أوّلا وجُعل الاسم الذي كان لمعنى مّا راتبا له دالاّ على ذاته عبارة عن شيء آخر كان له به تعلّق ولو كان يسيرا إما لشبه بعيد وإمّا لغير ذلك، من غير أن يُجعَل ذلك راتبا للثاني دالاّ على ذاته. فيحدث حينئذ الاستعارات والمجازات والتحرّد بلفظ معنى مّا عن التصريح بلفظ المعنى الذي يتلوه متى كان الثاني يُفهَم منالأوّل، وبألفاظ معان كثيرة يصرَّح بألفاظها عن التصريح بألفاظ معان أخر إذا كان سبيلها أن تُقرَن بالمعاني الأول متى كانت تُفهَم الأخيرة مع فهم الأولى، والتوسّع في العبارة بتكثير الألفاظ وتبديل بعضها ببعض وترتيبها وتحسينها. فيبتدئ حين ذلك في أن تحدث الخطبيّة أوّلا ثمّ الشعريّة قليلا قليلا.  فينشأ مَن نشأ فيهم على اعتيادهم النطق بحروفهم وألفاظهم الكائنة عنها وأقاويلهم المؤلَّفة عن ألفاظهم من حيث لا يتعدّون اعتيادهم ومن غير أن يُنطَق عن شيء إلاّ ممّا تعوّدوا استعمالها. ويمكّن ذلك اعتيادهم لها في أنفسهم وعلى ألسنتهم حتّى لا يعرفوا غيرها، حتّى تحفوا ألسنتهم عن كلّ لفظ سواها وعن كلّ تشكيل لتلك الألفاظ غير التشكيل الذي تمكّن فيهم وعن كلّ ترتيب للأقاويل سوى ما اعتادوه. وهذه التي تمكّنت على ألسنتهم وفي أنفسهم بالعادة على ماأخذوه ممّن سلف منهم، وأولئك أيضا عن مَن سلف، وأولئك أيضا عن مَن وضعها لهم أوّلا. بإكمال التي وضعها لهم أولئك. فهذاهو الفصيح والصواب من ألفاظهم، وتلك الألفاظ هي لغة تلك الأمّة، وما خالف ذلك فهو الأعجم والخطأ من ألفاظهم.

 الفصل الثاني والعشرون: 

  حدوث الصنائع العامّيّة  وبيّن أنّ المعاني المعقولة عند هؤلاء هي كلّها خطبيّة، إذ كانت كلّها ببادئ الرأي. والمقدّمات عندهم وألفاظهم وأقاويلهم كلّها أوّلاخطبيّة. فالخطبيّة هي السابقة أوّلا. وعلى طول الزمان تحدث حوادث تُحْوجهم فيها إلى خُطَب وأجزاء خُطَب.ولا تزال تنشأ قليلا قليلا إلى أن تحدث فيهم أوّلا من الصنائع القياسيّة صناعة الخطابة. ويبتدئ مع نشئها أو بعد نشئها استعمال مثالات المعاني وخيالاتها مفهمة لها أو بدلا منها،فتحدث المعاني الشعريّة. ولا يزالينمو ذلك قليلا قليلا إلى أن يحدث الشعر قليلا قليلا،فتحصل فيهم من الصنائع القياسيّة صناعة الشعر لما في فطرة الإنسان من تحرّي الترتيب والنظام في كلّ شيء. فإنّ أوزان الألفاظ هي لها رتبة وحسن تأليف ونظام بالإضافة إلى زمان النطق. فتحصل أيضا على طول الزمان صناعة الشعر. فتحصل فيهم من الصنائع القياسيّة هاتان الصناعتان - و هما العامّتان - منالصنائع القياسيّة. .  فينشغلون أيضافي الخُطَب والأشعار حتّى يقتصّوابهما الأخبار عن الأمور السابقة والحاضرة التي يحتاجون إليها. فيحدث فيهم رواة الخُطَب و رواة الأشعار وحفّاظ الأخبار التي اقتُصّت بها. فيكونون هؤلاءهم فصحاء تلك الأمّة وبلغاؤهم، ويكونون همحكماء تلك الأمّة أوّلا ومدبّروهم والمرجوع إليهم في لسان تلك الأمّة. وهؤلاء أيضاهم الذين يركّبون لتلك الأمّة ألفاظا كانت غير مركَّبة قبل ذلك، و يجعلونها مرادفة للألفاظ المشهورة، ويُمنعون في ذلك ويُكثرون منها، فتحصل ألفاظ غريبة يتعارفها هؤلاء ويتعلّمها بعضهم عن بعض ويأخذها غابرهم عن سالفهم . وأيضا فإنّهم مع ذلك يعمدون إلى الأشياء التي لم تكن اتّفقتلها تسمية من الأمور الداخلة تحت جنس أو نوع. فربّما شعروا بأعراض فيصيّرون لها أسماء. وكذلك الأشياء التي لم يكن يُحتاج إليها ضرورة فلم يكن اتّفق لها أسماء لأجل ذلك، فإنّهم يركّبون لها أسماء ، والباقون من تلك الأمّة سواهم لا يعرفون تلك الأسماء، فيكون جميع ذلك من الغريب.فهؤلاء هم الذين يتأمّلون ألفاظ هذه الأمّة ويُصلحون المختلّ منها. وينظرون إلى ما كانالنطق به عسيرا في أوّل ما وُضع فيسهّلونه؛ وإلى ما كان بشع المسموع فيجعلونه لذيذ المسموع؛ وإلى ما عرض فيه عسر النطق عن التركيبات الذي لم يكن الأوّلون يشعرون به ولا عرض في زمانهم فيعرفونه أو يشعرون فيه بشاعة المسموع، فيحتالون في الأمرين جميعا حتّى يسهّلوا ذلك ويجعلوا هذا لذيذا في السمع. وينظرون إلى أصناف التركيبات الممكنة في ألفاظهم والترتيبات فيها ويتأمّلون أيّها أ كمل دلالة على تركيب المعاني في النفس وترتيبها، فيتحرّون تلك وينبّهون عليها، ويتركون الباقية فلا يستعملونها إلاّ عند ضرورة تدعو إلى ذلك. فتصير عندها ألفاظ تلك الأمّة أفصح ممّا كانت، فتتكمّل عند ذلك لغتهمولسانهم.ثمّ يأخذ الناشئ هذه الأشياء عن السالف على الأحوال التي سمعها من السالف، وينشؤُ عليها ويتعوّدها مع مَن نشّأه، إلى أن تتمكّن فيه تمكّنا يحفو به أن يكون ناطقا لغير الأفصح من ألفاظهم. ويحفظ الغابر منهم ما قد عمل به الماضي منالخُطَب والأشعار وما فيها من الأخبار والآداب.  ولا يزالون يتداولون الحفظإلى أن يكثر عليهمما يلتمسون حفظه ويعسرفيُحْوجهم ذلك إلى الفكر فيما يسهّلونه به على أنفسهم فتُستنبَط الكتابة. وتكون في أوّل أمرها مختلطة إلى أن تصلح قليلا قليلا على طول الزمان ويحاكى بها الألفاظ وتُشبَّه بها وتُقرَّب منها أ كثر ما يمكن، على ما فعلوا قديما بالألفاظ بأن قرّبوها في الشبه من المعاني ما أمكنهم من التقريب. فيدوّنون بها في الكتب ما عسر حفظه عليهم وما لا يؤمَن بأن يُنسى على طول الزمان وما يلتمسون إبقاءها على مَن بعدهم وما يلتمسون تعليمها وتفهيمها مَن هو ناء عنهم في بلد أو مسكن آخر. .  ثمّ من بعد ذلك يُرى أنيُحدَث صناعة علم اللسان قليلا قليلا بأن يتشوّق إنسان إلى أن يحفظ ألفاظهم المفردة الدالّة بعد أن يحفظ الأشعار والخُطَب والأقاويل المركَّبة، فيتحرّى أن يفردها بعد التركيب، أو أراد التقاطها بالسماع من جماعتهم ومن المشهورين باستعمال الأفصح من ألفاظهم وفي مخاطباته كلّها وممّن قد عنى بحفظ خُطَبهم وأشعارهم وأخبارهم أو ممّن سمع منهم، فيسمعها من واحد واحد منهم في زمان طويل، ويكتب ما يسمعه منهم ويحفظه.  وقد يجب لذلك أن يعلم مَن الذين ينبغي أن يؤخذ عنهم لسان تلك الأمّة. فنقول إنّه ينبغي أن يؤخذ عن الذين تمكّنت عادتهم لهم على طول الزمان في ألسنتهم وأنفسهم تمكّنا يحصَّنون به عن تخيّل حروف سوى حروفهم والنطق بها، وعن تحصيل ألفاظ سوى المركَّبة عن حروفهم وعن الناطق بها ممّن لم يسمع غير لسانهم ولغتهم أو ممّن سمعها وجفا ذهنه عن تخيّلها ولسانه عن النطق بها. وأمّا مَن كان لسانه مطاوعا على النطق بأيّ حرف شاء ممّا هو خارج عن حروفهم وبأيّ لفظ شاء من الألفاظ المركَّبة عن حروف غير حروفهم وبأيّ قول شاء من الأقاويل المركَّبة من ألفاظ سوى ألفاظهم فإنّه لا يؤمَن أن يجري على لسانه ما هو خارج عن عاداتهم الممكَّنة الأولى فيعوَّد ما قد جرى على لسانه فتصير عبارته خارجة عن عبارة الأمّة ويكون خطأ ولحنا وغير فصيح. فإن كان مع ذلك قد خالط غيرهم من الأمم وسمع ألسنتهم أو نطق بها كانالخطأ منه أقرب وأحرى، ولم يؤمَن بما يوجد جاريا في عادته أنّه لغير تلك الأمّة التي هو منهم. وكذلك الذين كانوا يحصَّنون عن النطق وعن تحصيل حروف سائر الأمم وألفاظهم - إذ كانوا يحصَّنون عمّا لم يكن عُوّدوه أوّلا من مخالفة أشكال ألفاظهم وإعرابها - إذا كثرت مخالطتهم لسائر الأمم وسماعهم بحروفهم وألفاظهم، لم يؤمَن عليه أن تتغيّر عادته الأولى ويتمكّن فيه ما يسمعه منهم فيصير بحيث لا يوثق بما يُسمع منه. ولمّا كان سكان البرّيّة في بيوت الشَعر أو الصوف والخيام والأحسية من كلّ أمّة أجفى وأبعد من أن يتركوا ما قد تمكّن بالعادة فيهم وأحرى أن يحصّنوا أنفسهم عن تخيّل حروف سائر الأمم وألفاظهم وألسنتهم عن النطق بها وأحرى أن لا يخالطهم غيرهم من الأمم للتوحّش والجفاء الذي فيهم، وكان سكان المدن والقرى وبيوت المدر منهم أطبع وكانت نفوسهم أشدّ انقيادا لتفهّم ما لم يتعوّدوه ولتصوّره وتخيّله وألسنتهم للنطق بما لم يتعوّدوه، كان الأفضل أن تؤخذ لغات الأمّة عن سكان البراري منهم متى كانت الأمم فيهم هاتان الطائفتان. ويُتحرّى منهم مَن كان في أواسط بلادهم. فإنّ مَن كان في الأطراف منهم أن يخالطوا مجاوريهم من الأمم فتختلط لغاتهم بلغات أولئك، وأن يتخيّلوا عجمة مَن يجاورهم. فإنّهم إذا عاملوهم احتاج أولئك أن يتكلّموا بلغة غريبة عن ألسنتهم، فلا تطاوعهم على كثير من حروف هؤلاء، فيلتجئوا إلى أن يعبّروا بما يتأتّى لهم ويتركوا ما يعسر عليهم. فتكون ألفاظهم عسيرةقبيحة وتوجد فيها لكنة وعجمة مأخوذة من لغات أولئك. فإذا كثر سماع هؤلاء ممّن جاورهم من هذه الأمم للخطأ وتعوّدوا أن يفهموه على أنّه من الصواب لم يؤمَن تغيّر عادتهم، فلذلك ليس ينبغي أن تؤخذ عنهم اللغة. ومَن لم يكن فيهم سكّان البراري أُخذت عن أوسطهم مسكنا.  وأنت تتبيّن ذلك متى تأمّلت أمر العرب في هذه الأشياء. فإنّ فيهم سكّان البراري وفيهم سكّان الأمصار. وأ كثر ما تشاغلوا بذلك من سنة تسعين إلى سنة مائتين. وكان الذي تولّى ذلك من بين أمصارهم أهل الكوفة والبصرة في أرض العراق. فتعلّموا لغتهم والفصيح منها من سكّان البراري منهم دون أهل الحضر، ثمّ من سكّان البراري مَن كان في أوسط بلادهم ومن أشدّهم توحشّا وجفاء وأبعدهم إذعانا وانقيادا، وهم قَيس وتَميم وأسَد وطَيّ ثمّ هُذَيل، فإن هؤلاء هم مُعظَم مَن نُقل عنه لسان العرب. والباقون فلم يؤخذ عنهم شيء لأنّهم كانوا في أطراف بلادهم مخالطين لغيرهم من الأمم مطبوعين على سرعة انقياد ألسنتهم لألفاظ سائر الأمم المطيفة بهم من الحبشة والهند والفرس والسريانيّين وأهل الشام وأهل مصر.  فتؤخذ ألفاظهم المفردة أوّلا إلى أن يؤتى عليها، الغريب والمشهور منها، فيُحفَظ أو يُكتَب، ثمّ ألفاظهم المركَّبةكلّها من الأشعار والخُطَب. ثمّ من بعد ذلك يحدث للناظر فيها تأمّل ما كان منها متشابها في المفردة منها وعند التركيب، وتؤخذ أصناف المتشابهات منها وبماذا تتشابه في صنف صنف منها وما الذي يلحق كلّ صنف منها. فيحدث لها عند ذلك في النفس كلّيّات وقوانين كلّيّة. فيحتاج فيما حدث في النفس من كلّيّات الألفاظ وقوانين الألفاظ إلى ألفاظ يعبّر بها عن تلك الكلّيّات والقوانين حتّى يُمكن تعليمها وتعلّمها. فيعمل عند ذلك أحد شيئين: إمّا أن يخترع ويركّب من حروفهم ألفاظا لم يُنطَق بها أصلا قبل ذلك، وإمّا أن ينقل إليها ألفاظامن ألفاظهم التي كانوا يستعملونها قبل ذلك في الدلالة على معان أخر غيرها إمّا كيف اتّفق لا لأجل شيء وإمّا لأجل شيء مّا. وكلّ ذلك ممكن شائع، لكن الأجود أن تسمّى القوانين بأسماء أقرب المعاني شبها بالقوانين، بأن ينظر أيّ معنى من المعاني الأول يوجد أقرب شبها بقانون من قوانين الألفاظ فيسمّى ذلك الكلّيّ وذلك القانون باسم ذلك المعنى، حتّى يؤتى من هذا المثال على تسمية جميع تلك الكلّيّات والقوانين بأسماء أشباهها من المعاني الأول التي كانت عندهم أسماء.  فيصيّرون عند ذلك لسانهم ولغتهم بصورة صناعة يمكن أن تُتعلَّم وتُعلَم بقول، وحتّى يمكن أن تُعطى عِلَل كلّ ما يقولون. كذلك خطوطهم التي بها يكتبون ألفاظهم، إذا كانت فيها كلّيّات وقوانين أُخذت كلّها فالتُمس حتّى تصير يُنطَق عنها ويمكن أن تُعلَّم وتُتعلَّم بقول. فتصير الألفاظ التي يعبَّر بها حينئذ عن تلك القوانين الألفاظ التي في الوضع الثاني، والألفاظ الأول هي الألفاظ التي في الوضع الأوّل، فالألفاظ التي في الوضع الثاني منقولة عن المعاني التي كانت تدلّ عليها.  فتحصل عندهم خمس صنائع: صناعة الخطابة، وصناعة الشعر، والقوّة على حفظ أخبارهم وأشعارهم وروايتها، وصناعة علم لسانهم، وصناعة الكتابة. فالخطابة جودة إقناع الجمهور في الأشياء التي يزاولها الجمهور وبمقدار المعارف التي لهم وبمقدّمات هي في بادئ الرأي مؤثَرة عند الجمهور وبالألفاظ التي هي في الوضع الأوّل على الحال التي اعتاد الجمهور استعمالها. والصناعة الشعريّة تُخيّل بالقوّة في هذه الأشياء بأعيانها. وصناعة علم اللسان إنّما تشتمل على الألفاظ التي هي في الوضع الأوّل دالّة على تلك المعاني بأعيانها.   فالمعتنون بها فالمعتنون بها يُعدّون إذن مع الجمهور، إذ كان ليس معاني ولا واحد منهم بصناعته هي من الأمور النظريّة ولا شيئا من الصناعة التي هي رئيسة الصنائع على الإطلاق. وقد لا يمتنع أن يكون رؤساء وصنائع رئيسة - وهي الصنائع التي بها يتأتّى تدبير أمورهم - وهي إمّا صناعة تحفظ عليهم صنائعهم التي يزاولونها ليبلغ كلّ واحد ممّا يزاوله منها غرضه به ولا يعتاق عنه، وإمّا صناعة يستعملهم بها رئيسهم في صنائعهم ليبلغ بهم غرضه وما يهواه لنفسه من مال أو كرامة. ويكون منزلته منهم منزلة رئيس الفلاّحين. وذلك أنّ رئيس الفلاّحين تكون له قدرة على جودة التأتّي لأن يستعمل الفلاّحين وجودة المشورة عليهم في الفلاحة ليبلغوا غرضهم بأصناف فلاحتهم أو ليبلغ هو بأصناف فلاحتهم غرضه وما يلتمسه، فهكذا هو يُعَدّ أيضا منهم. وعلى هذا المثال يكون رئيس الجمهور ومدبّر أمورهم فيما يستعملهم فيه من الصنائع العمليّة وفيما يحفظ عليهم صنائعهم وبالجملة استعمالهم فيها لأنفسهم أو لنفسه أو لهم وله. فهو أيضا منهم، إذ كان غرضه الأقصى هو غرضهم أيضا بصناعته، إذ هي بعينها صناعتهم في الجنس والنوع، إلاّ أنّها أسمى ما في ذلك الجنس أو النوع. فإذن رؤساء الجمهور الذين يحفظون عليهم الأشياء التي هم بها جمهور ويستعملونهم في التي هم بها جمهور هم من الجمهور، إذ كان الرئيس غرضه في حفظها عليهم واستعمالهم فيها هو غرضهم، بأن يحصل له وحده وبأنيحصل لهم، فهو منهم. فإذن رؤساء الجمهور الذين هكذا هم من الجمهور أيضا. فهذه صناعة أخرى من صنائع الجمهور. وهي أيضا صناعة عامّيّة، إلاّ أنّ أصحابها والمعتنين بها يجعلون أنفسهم من الخواصّ. فإذن ملوك الجمهور هم أيضا من الجمهور.

 الفصل الثالث والعشرون: 

  حدوث الصنائع القياسيّة في الأمم  فإذا استُوفيت الصنائع العمليّة وسائر الصنائعالعاميّة التي ذكرناها اشتاقت النفوس بعد ذلك إلى معرفة أسباب الأمور المحسوسة في الأرض وفيما عليها وفيما حولها وإلى سائر ما يُحَسّ من السماء ويظهر،وإلى معرفة كثير من الأمور التي استنبطتها الصنائع العمليّة من الأشكال والأعداد والمناظر في المرايا والألوانوغير ذلك. فينشأ مَن يبحث عن عِلَل هذه الأشياء. ويستعمل أوّلا في الفحص عنها وفي تصحيح ما يصحّح لنفسه فيها من الآراء وفي تعليم غيره وما يصحّحه عند مراجعتهالطرق الخطبيّة لأنّها هي الطرق القياسيّة التي يشعرونبها أوّلا. فيحدث الفحص عن الأمور التعاليميّة وعن الطبيعة.  ولا يزال الناظرون فيهايستعملون الطرق الخطبيّة، فتختلف بينهم الآراء والمذاهب وتكثر مخاطبة بعضهم بعضا في الآراء التي يصحّحها كلّ واحد لنفسه ومراجعة كلّ واحد للآخر. فيحتاج كلّ واحدإذا روجع فيما يراه مراجعة معاندةأن يوثّق ما يستعمله من الطرق ويتحرّى أن يجعلها بحيث لا تعانَد أو يعسر عنادها. ولا يزالون يجتهدون ويختبرون الأوثقإلى أن يقفوا على الطرق الجدلية بعد زمان. وتتميز لهم الطرق الجدلية من الطرق السوفسطائية، إذ كانوا قبل ذلك يستعملونها غير متميزتين، إذ كانت الطرق الخطبية مشتركة لهما ومختلطة بهما،فُترفَض عند ذلك الطرق الخطبية وتُستعمل الجدلية. ولأنّ السوفسطائية في الفحص عن الآراء وفي تصحيحها.ثمّ يستقرّ في النظر في الأمور النظرية والفحص عنها وتصحيحها على الطرق الجدلية وتُطرَح السوفسطائية ولا تُستعمل إلاّ عند المحنة.  فلا تزال تُستعمَل إلى أن تكمل المخاطبات الجدليّة، فتبين بالطرق الجدليّة أنّها ليست هي كافية بعد في أن يحصل اليقين. فيحدث حينئذ الفحص عن طرق التعليم والعلم اليقين، وفي خلال ذلك يكون الناس قد وقعوا على الطرق التعاليمية وتكاد تكتملأو تكون قد قاربت الكمال، فيلوح لهم مع ذلك الفرق بين الطرق الجدليّة وبين الطرق اليقينيّةوتتميّز بعض التمييز ويميل الناس مع ذلك إلى علم الأمور المدنية، وهي الأشياء التي هي مبدؤها الإرادة والاختيار. ويفحصون عنها بالطرق الجدليّة مخلوطة بالطرق اليقينيّة وقد بُلغ بالجدليّة أكثر ما أمكن فيها من التوثيق حتى كادت تصير علميّة. ولاتزال هكذا إلى أن تصير الحال في الفلسفة إلى ما كانت عليه في زمن أفلاطون.  ثمّ يُتداوَل ذلك إلى أن يستقرّ الأمر على ما استقرّ عليه أيام أرسطوطاليس. فيتناهى النظر العلميّ وتُميَّز الطرق كلها وتكمل الفلسفة النظريّة والعامّيّة الكليّة، ولايبقى فيها موضع فحص، فتصير صناعة تُتعلم فقط،ويكون تعليمها تعليما خاصا وتعليما مشتركا للجميع. فالتعليم الخاصّ هو بالطرق البرهانيّة فقط، و المشترك الذي هو العامّ فهو بالطرق الجدليّة أو بالخطبية او بالشعريّة. غير أن الخطبيّة والشعريّة هما أحرى ان تُستعمَلا في تعليم الجمهور ماقد استقرّ الرأي فيه ويصح بالبرهان من الأشياء النظريّة والعمليّة.  ومن بعد هذه كلّها يُحتاج إلى وضع النواميس، وتعليم الجمهور ما قد استُنبط وفُرغ منه وصُحّح بالبراهين من الأمور النظريّة، وما استُنبط بقوّة التعقّل من الأمور العلميّة. وصناعة وضعالنواميس فهي بالاقتدار على جودة تخييل ماعسر على الجمهور تصوّره من المعقولات النظريّة، وعلى جودة استنباط شيء شيءمن الأفعال المدنيّة النافعة في بلوغ السعادة، و على جودةالإقناع في الأمور النظريّة والعلميّة التي سبيلها أن يعلَّمها الجمهور بجميعطرق الإقناع. فإذا وُضعت النواميس في هذين الصنفين وانضاف إليها الطرق التي بها يُقنَع ويُعلَّم ويؤدَّب الجمهور فقد حصلت الملّة التي بها عُلّم الجمهور وأُدّبوا وأُخذوا بكلّ ما ينالون به السعادة. فإذا حدث بعد ذلك قوم يتأمّلون ما تشتمل عليه الملّة،وكان فيهممَن يأخذ ما صرّح به في الملّة واضعُها من الأشياء العمليّة الجزئيّة مسلَّمة ويلتمس أن يستنبط عنها ما لم يتّفق أن يصرّح به، محتذيا بما يستنبط من ذلك حذو غرضه بما صرّح به،حدثت من ذلك صناعة الفقه. فإن رام مع ذلك قوم أن يستنبطوا من الأمور النظريّة والعمليّة الكلّيّة ما لم يصرّح به واضع الملّة أوغير ما صرّح به منها، محتذين فيها حذوه فيما صرّح به،حدثتمن ذلك صناعة مّا أخرى، وتلك صناعةالكلام. وإن اتّفق أن يكون هناك قوم يرومون إبطال ما في هذه الملّة، احتاج أهل الكلام إلى قوّة ينصرون بها تلك الملّة ويناقضون اللذين يخالفونها ويناقضون الأغاليط التي التُمس بها إبطال ما صُرّح به في الملّة، فتكمل بذلك صناعة الكلام. فتحصل صناعة هاتين القوّتين. وبيّن أنّه ليس يمكن ذلك إلاّ بالطرق المشتركة وهي الطرق الخطبيّة.  فعلى هذا الترتيب تحدث الصنائع القياسيّة في الأمم متى حدثت عن قرائحهم أنفسهم وفِطَرهم.

الفصل الرابع والعشرون: 

  الصلة بين الملّة والفلسفة  فإذا كانت الملّة تابعة للفلسفة التي كملت بعد أن تميّزت الصنائع القياسيّة بعضها عن بعض على الجهة والترتيب الذي اقتضينا كانت ملّة صحيحة في غاية الجودة. فأمّا إذا كانت الفلسفة لم تصر بعد برهانيّة يقينيّة في غاية الجودة، بل كانت بعد تُصحَّح آراؤها بالخطبيّة أو الجدليّة أو السوفسطائيّة، لم يمتنع أن تقع فيها كلّها أو في جلّها أو في أ كثرها آراء كلّها كاذبة لم يُشعَر بها، وكانت فلسفة مظنونة أو مموّهة. فإذا أُنشئت ملّة مّا بعد ذلك تابعة لتلك الفلسفة، وقعت فيها آراء كاذبة كثيرة. فإذا أُخذ أيضا كثير من تلك الآراء الكاذبة وأُخذت مثالاتها مكانها، على ما هو شأن الملّة فيما عسر وعسر تصوّره على الجمهور، كانت تلك أبعد الحقّ أ كثر وكانت ملّة فاسدة ولا يُشعَر فسادها. وأشدّ من تلك فسادا أن يأتي بعد ذلك واضع نواميس فلا يأخذ الآراء في ملّته من الفلسفة التي يتّفق أن تكون في زمانه بل يأخذ الآراء الموضوعة في الملّة الأولى على أنّها هي الحقّ، فيحصلها ويأخذ مثالاتها ويعلّمها الجمهور، وإن جاء بعده واضع نواميس آخر فيتبع هذا الثاني، كان أشدّ فسادا. فالملّة الصحيحة إنّما تحصل في الأمّة متى كان حصولها فيهم على الجهة الأولى، والملّة الفاسدة تحصل فيهم متى كان حصولها على الجهة الثانية. إلاّ أنّ الملّة على الجهتين إنّما تحدث بعد الفلسفة، إمّا بعد الفلسفة اليقينيّة التي هي الفلسفة في الحقيقة وأمّا بعد الفلسفة المظنونة التي يُظَنّ بها أنّها فلسفة من غير أن تكون فلسفة في الحقيقة، وذلك متى كان حدوثها فيهم عن قرائحهم وفِطَرهم ومن أنفسهم.  وأمّا إن نُقلت الملّة من أمّة كانت لها تلك الملّة إلى أمّة لم تكن لها ملّة، أو أُخذت كانت لأمّة فأُصلحت فزيد فيها أو أُنقص منها أو غُيّرت آخر فجُعلت لأمّة أخرى فأُدّبوا بها وعُلّموها ودُبّروا بها، أمكن أن تحدث الملّة فيهم قبل أن تحصل الفلسفة وقبل أن يحصل الجدل والسوفسطائيّة، والفلسفة التي لم تحدث فيهم عن قرائحهم ولكن نُقلت إليهم عن قوم آخرين كانت هذه فيهم قبل ذلك، أمكن أن تحدث فيهم بعد الملّة المنقولة إليهم.  فإذاكانت الملّة تابعة لفلسفة كاملة وكانت الأمور النظريّة التي فيها غير موضوعة فيها كما هي في الفلسفة بتلك الألفاظ التي يعبَّر بها عنها بل إنّما كانت قد أُخذت مثالاتها مكانها إمّا في كلّها أو في أ كثرها، ونُقلت تلك الملّة إلى أمّة أخرى منغير أن يعرفوا أنّها تابعة لفلسفة ولا أنّ ما فيها مثالات لأمور نظريّة صحّت في الفلسفة ببراهين يقينيّة بل سُكت عن ذلك حتّى ظنّت تلك الأمّة أنّ المثالات التي تشتمل عليها تلك الملّة هي الحقّ وأنّها هي الأمور النظريّة أنفسها، ثمّ نُقلت إليهم بعد ذلك الفلسفة التي هذه الملّة تابعة لها في الجودة، لم يؤمَن أن تضادّ تلك الملّة الفلسفة ويعاندها أهلها ويطّرحونها، ويعاند أهل ُ الفلسفة تلك الملّة ما لم يعلموا أنّ تلك الملّة مثالات لما في الفلسفة. ومتى علموا أنّها مثالات لما فيها لم يعاندوها هم ولكنّ أهل الملّة يعاندون أهل تلك الفلسفة. ولا تكون للفلسفة ولا لأهلها رئاسة على تلك الملّة ولا على أهلها بل تكون مطّرَحة وأهلها مطّرَحة، ولا يلحق الملّة كثير نصرة من الفلسفة، ولا يؤمَن أن تلحق الفلسفة وأهلها مَضرَّة عظيمة من تلك الملّة وأهلها. فلذلك ربّما اضطر أهل الفلسفة عند ذلك إلى معاندة أهل الملّة طلبا لسلامة أهل الفلسفة. ويتحرّون أن لا يعاندواالملّة نفسها بل إنّما يعاندونهم في ظنّهم أنّ الملّة مضادّةللفلسفة ويجتهدون في أن يُزيلوا عنهم هذا الظنّ بأن يلتمسوا تفهيمهم أنّ التي في ملّتهم هي مثالات.  وإذا كانت الملّة تابعة لفلسفة هي فلسفة فاسدة ثمّ نُقلت إليهم بعد ذلك الفلسفة الصحيحة البرهانيّة، كانت الفلسفة معاندة لتلك الملّة من كلّ الجهات وكانت الملّة معاندة بالكلّيّة للفلسفة. فكلّ واحدة منهما تروم إبطال الأخرى، فأيّتهما غلبت وتمكّنت في النفوس أبطلت الأخرى أو أيّتهما قهرت تلك الأمّة أبطلت عنها الأخرى.  وإذا نُقل الجدل أو السوفسطائيّة إلى أمّة لها ملّة مستقرّة ممكَّنة فيهم فإنّ كلّ واحد منهما ضارّ لتلك الملّة ويهوّنها في نفوس المعتقدين لها، إذ كانت قوّة كلّ واحدة منهما فعلها إثبات الشيء أو إبطال الشيء أو إبطال ذلك الشيء بعينه. فلذلك صار استعمال الطرق الجدليّة والسوفسطائيّة في الآراء التي تمكّنت في النفوس عن الملّة يُزيل تمكّنها ويوقع فيها شكوكاويجعلها بمنزلة مالم يصحّ بعد ويُنتظَر صحّتها، أو يُتحيَّر فيها حتّى يُظَنّ أنّها لا تصحّ هي ولا ضدّها. ولذلك صار حال واضعي النواميس ينهون عن الجدل والسوفسطائيّة ويمنعون منهما أشدّ المنع. وكذلك الملوك الذين رُتّبوا لحفظ الملّة - أيّ ملّة كانت - فإنّهم يشدّدون في منع أهلها ذينك ويحذّرونهم إيّاهما أشدّ تحذير.  فأمّا الفلسفة فإنّ قوما منهم حنوا عليها. وقوم أطلقوا فيها. وقوم منهم سكتوا عنها. وقوم منهم نهوا عنها، إمّا لأنّ تلك الأمّة ليس سبيلها أن تُعلَّم صريح الحقّ ولا الأمور النظريّة كما هي بل يكون سبيلها بحسب فِطَر أهلها أو بحسب الغرض فيها أو منها أن لا تطّلع على الحقّ نفسه بل إنّما تؤدَّب بمثالات الحقّ فقط أو كانت الأمّة أمّة سبيلها أن تؤدَّب بالأفعال والأعمال والأشياء العمليّة فقط لا بالأمور النظريّة أوبالشيء اليسير منها فقط، وإمّا لأنّ الملّة التي أتى بها كانت فاسدة جاهليّة لم يلتمس بها السعادة لهم بل يلتمس واضعها سعادة ذاته وأراد أن يستعملها فيما يسعد هو به فقط دونهم فخشى أن تقف الأمّة على فسادها وفساد ما التمس تمكينه في نفوسهم متى أطلق لهم النظر في الفلسفة.  وظاهر في كلّ ملّة كانت معاندة للفلسفة فإنّ صناعة الكلام فيها تكون معاندة للفلسفة، وأهلها يكونون معاندين لأهلها، على مقدار معاندة تلك الملّة للفلسفة.

الفصل الخامس والعشرون:

   اختراع الأسماء ونقلها  فإذا حدث ملّة في أمّة لم تكن لها ملّة قبلها ولم تكن تلك ملّة لأمّة أخرى قبلها، فإنّ الشرائع التي فيها بيّن أنّها لم تكن معلومة قبل ذلك عند تلك الأمّة، ولذلك لم تكن لها عندهم أسماء. فإذا احتاج واضع الملّة إلى أن يجعل لها أسماء فإمّا أن يخترع لها أسماء لم تكن تُعرَف عندهم قبله وإمّا أن ينقل إليها أسماء أقرب الأشياء التي لها أسماء عندهم شبها بالشرائع التي وضعها. فإن كانت لهم قبلها ملّة أخرى فربّما استعمل أسماء شرائع تلك الملّة الأولى منقولة إلى أشباهها من شرائع ملّته. فإن كانت ملّته أو بعضها منقولة عن أمّة أخرى فربّما استعمل أسماء ما نُقل من شرائعهم في الدلالة عليها بعد أن يغيّر تلك الألفاظ تغييرا تصير بها حروفُها وبِنْيَتُها حروفَ أمّته وبنيتَها ليسهل النطق بها عندهم. ولإن حدث فيهم الجدل والسوفسطائيّة واحتاج أهلها إلى أنينطقوا عن معان استنبطوها لم تكن لهاعندهم أسماء، إذ لم تكن معلومة عندهم قبل ذلك، فإمّااخترعوا لها ألفاظا من حروفهم وإمّا نقلوا إليها أسماء أقرب الأشياء شبها بها. وكذلك إن حدثت الفلسفة احتاج أهلها ضرورة إلى أن ينطقوا عن معان لم تكن عندهم معلولة قبل ذلك، فيفعلون فيها أحد ذينك.  فإن كانت الفلسفة قد انتقلت إليهم من أمّة أخرى، فإنّ على أهلها أن ينظروا إلى الألفاظ التي كانت الأمّة الأولى تعبّر بها عن معاني الفلسفة ويعرفوا عن أيّ معنى من المعاني المشتركة معرفتها عند الأمّتين هي منقولة عند الأمّة الأولى. فإذا عرفوها أخذوا من ألفاظ أمّتهم الألفاظ التي كانوا يعبّرون بها عن تلك المعاني العاميّة بأعيانها، فيجعلوها أسماء تلك المعاني من معاني الفلسفة. فإن وُجدت فيها معان نقلت إليها الأمّة الأولى أسماء معان عاميّة عندهم غير معلومة عند الأمّة الثانية وليس لها عندهم لذلك أسماء، وكانت تلك المعاني بأعيانها تشبه معان أخر عامّيّة معلومة عند الثانية ولها عندهم ألفاظ، فالأفضل أن يطّرحوا أسماءها وينظروا إلى أقرب الأشياء شبها بها من المعاني العامّيّة عندهم فيأخذوا ألفاظها ويسمّوا بها تلك المعاني الفلسفيّة. وإن وُجدت فيها معان سُمّيت عند الأولى بأسماء أقرب الأشياء العامّيّة شبها بها عندهم وعلى حسب تخيّلهم الأشياء، وكانت تلك المعاني الفلسفيّة أقرب شبها عند الأمّة الثانية على حسب تخيّلهم للأشياء بمعان عامّيّة أخرى غير تلك، فينبغي أن لا تسمّى عند الأمّة الثانية بأسمائها عند الأمّة الأولى ولا يُتكلَّم بها عند الأمّة الثانية. فإن كانت فيها معان لا توجد عند الأمّة الثانية معان عامّيّة تشبهها أصلا - على أنّ هذا لا يكاد يوجد - فإمّا أن تُخترَع لها ألفاظ من حروفهم، وإمّا أن يُشرَك بينها وبين معان أخر - كيف اتّفقت - في العبارة، وإمّا أن يعبَّر بها بألفاظ الأمّة الأولى بعد أن تُغيَّر تغييرا يسهل به على الأمّة الثانية النطق بها.ويكون هذا المعنى غريبا جدّا عند الأمّة الثانية، إذ لم يكن عندهم لا هو ولا شبهه. وإن اتّفق أن كان معنى فلسفيّ يشبه معنيين من المعاني العامّيّة، ولكلّ واحد منهما اسم عند الأمّتين، وكان أقرب شبها بأحدهما، وكانت تسميتها له باسم الذي هو أقرب شبها به، فينبغي أن يسمّى ذلك باسم ما هو أقرب شبها به.  والفلسفة الموجودة اليوم عند العرب منقولة إليهم من اليونانيّين. وقد تحرّى الذي نقلها في تسميّة المعاني التي فيها أن يسلك الطرق التي ذكرناها. ونحن نجد المسرفين والمبالغين في أن تكون العبارة عنها كلّها بالعربيّة. وقد يُشركوا بينها . منها أن يجعلوا لهذين المعنيين اسما بالعربيّة: فإنّ الأسطقس سمّوه " العنصر " وسمّوا الهيولى " العنصر " أيضا - وأمّا الأسطقس فلا يسمّى " المادّة " و" هيولى " - وربّما استعملوا " الهيولى " وربّما استعملوا " العنصر " مكان "الهيولى". غير أنّ التي تركوها على أسمائها اليونانيّة هي أشياء قليلة. فما كان من المعاني الفلسفيّة جرى أمر التسمية فيها على المذهب الأوّل فتلك المعاني يقال إنّها مأخوذة من حيث هي معان مدلول عليها بألفاظ الأمّتين. وإن كانت المعاني العامّيّة التي منها نُقلت إلى المعاني الفلسفيّة أسماؤها مشتركة لجميع الأمم كانت تلك المعاني الفلسفيّة مأخوذة من حيث تدلّ عليها ألفاظ الأمم كلّها. وما جرى أمر التسمية فيها على المذاهب الباقية فإنّها مأخوذة من حيث تدلّ عليها ألفاظ الأمّة الثانية فقط.  وينبغي أن تؤخذ المعاني الفلسفيّة إمّا غير مدلول عليها بلفظ أصلا بل من حيث هي معقولة فقط، وإمّا إن أُخذت مدلولا عليها بالألفاظ فإنّما ينبغي أن تؤخذ مدلولا عليها بألفاظ أيّ أمّة اتّفقت والاحتفاظ فيها عندما يُنطَق بها وقت التعليم لشبهها بالمعاني العامّيّة التي منها نُقلت ألفاظها. وربّما خُلطت بها وأُوهم فيها أنّها هي المعاني العامّيّة بأعيانها في العدد وأنّها مواطئة لها في ألفاظها. فلذلك رأى قوم أن لا يعبّروا عنها بألفاظ أشباهها بل رأوا أنّ الأفضل هو أن تُجعَل لها أسماء مخترَعة لك تكن قبل ذلك مستعمَلة عندهم في الدلالة على شيء أصلا، مركَّبة من حروفهم على عاداتهم في أشكال ألفاظهم. ولكنّ هذه الوجوه من الشبه لها غَناء مّا عند تعليم الوارد على الصناعة في سرعة تفهيمه لتلك المعاني متى كانت العبارة عنها بألفاظ أشباهها من المعاني التي عرفها قبل وروده على الصناعة. غير أنّه ينبغي أن يُتحرَّز من أن تصير مغلطة على مثال ما يُتحرَّز به من تغليط الأسماء التي تقال باشتراك.  والألفاظ المنقولة عن المعاني العامّيّة إلى المعاني الفلسفيّة فإنّ كثيرا منها يستعملها الجمهور مشتركة لمعان عامّيّة كثيرة وتُستعمَل في الفلسفة أيضا مشتركة لمعان كثيرة. والمعاني التي تشترك في اسم واحد منها ما هي صفة في ذلك الاسم المشترك؛ ومنها ما لها نِسَب متشابهة إلى أشياء كثيرة؛ ومنها ما يُنسَب إلى أمر واحد على الترتيب، وذلك إمّا أن تكون رتبتها من ذلك الواحد رتبة واحدة وإمّا أن تكون رتبتها منه متفاضلة بأن يكون بعضها أقرب رتبة إليه وبعضها أبعد منه. وكلّ واحد من هذين إمّا أن تسمّى هي باسمٍ واحد غير اسم الأمر الواحد الذي إليه نُسبتوإمّا أن تسمّى هي وذلك الأمر معا باسمٍ واحد بعينه. ويكون ذلك الأمر الواحد أشدّها تقدّما. وتقدّمه قد يكون في الوجود وقد يكون في المعرفة. فالذي يرتّب كلّ واحد منها إذا كان في المعرفة، وتقاس إلى الواحد الذي هو أعرف، فإذن أعرف كلّ اثنين منهما وأقربهما في المعرفة إلى ذلك الواحد الذي هو أعرفها كلّها هو أشدّهما تقدّما، ولا سيّما إذا كان مع أنّه أعرف سببا أيضا لأنيُعرَف أو عُرف به الآخر. وأحراها بذلك الاسم أو أحراها بأن يُجعَل له ذلك الاسم بإطلاق ذلك الواحد إذا كان أيضا سُمّي باسم تلك، ثمّ أولى الباقية ما كان أعرف أو كان أعرف وسببا لأن تُعرَف به الأخر، إلى أن يؤتى على جميع ما يسمّى بذلك الاسم. وعلى هذا المثال إذا كان فيها واحد هو أقدمفي الوجود أو كان مع ذلك سببا لوجود الباقية فإنّه أحقّ وأولى بذلك الاسم على الإطلاق، ثمّ كلّ ما كان أقرب في الوجود إلى ذلك الواحد، ثمّ الأقرب فالأقرب، أحقّ بذلك الاسم، ولا سيّما إذا كان أكمل اثنين منهما سببا لوجود الآخر، فإنّه أحقّ بذلك الاسم من الآخر. وقد يتّفق في كثير من الأمور أن يكون الأقدم في المعرفة هو أشد تأخّرا في الوجود والآخر منهما أشدّ تقدّما في الوجود، فيكون اسما لها واحدا لأجل تشابه نِسَبها إلى أشياء كثيرة، أو لأجل على أنّها تُنسَب إلى شيء واحد - إمّا بتساو أو بتفاضل، كان ذلك الواحد يسمّى باسمها هي أو كان يسمّى باسمٍ غير اسمها. وهذه غير المتّفقة أسماؤها وغير المتواطئة أسماؤها، وهي متوسّطة بينهما، وقد تسمّى المشكَّكة أسماؤها.