الباب الثالث: حروف السؤال

رسالة الحروف

الفارابي

 البابُ الثالِث

حرُوفُ السّؤَال

الفصل السادس والعشرون   

أنواع المخاطبات  وكلّ مخاطبة وكلّ قول يخاطب به الإنسان غيره فهو إما يقتضي به شيئا مّا وإمّا يعطيه به شيئا مّا. والذي يعطي به الإنسان غيره شيئا مّا فهو قول جازم إمّا إيجاب وإمّا سلب، حمليّ أو شرطيّ، ومنه التعجّب، ومنه التمنّي، ومنه سائر الأقاويل التي تأليفها أو شكلها يدلّ على انفعال آخر مقرون به، إن كان في لسان من الألسنة تأليف أو بِنْيَة لقول يُدَلّ به على انفعال مقرون به. وقوم من الناس يمارون في التعجّب والتمنّي. فبعضهم يجعلها نوعا آخر من الأقاويل سوى الجازم، وبعضهم يجعلها من الجازم ويجعل ما قُرن به وما يُخبَر به في تأليفه أو في شكله جهة من الجهات . والقول الذي يٌقتضى به شيء مّا فهو يُقتضى به إما قول مّا وإمّا فعل شيء مّا. والذي يُقتضى به فعل شيء مّا فمنه نداء، ومنه تضرّع، وطِلْبَة، وإذْن، ومَنْع، ومنه حَثّ، وكَفّ، وأمْر، ونَهْي.  فإنّ النداء يُقتضى به أوّلا من الذي نوُدي الإقبال بسمعه وذهنه على الذي ناداه منتظرا لما يخاطبه به بعد النداء. وهو نفسه لفظة مفردة قُرن بها حرف النداء. وإنّما يكون حرفا من الحروف المصوَّتة التي يمكن أن يُمَدّ الصوت بها إذا احتيج به إلى ذلك لبعد المنادى أو لثقل في سمعه أو لشغل نفسه بما يُذهله عن المنادي. فقوّته قوّة قول تامّ يُقتضى به من الذي نودي الإصغاء بسمعه وذهنه، ثمّ الإقبال وِجْهَة الذي ناداه الذي هو في المشهور دليل على الإصغاء التامّ. والنداء يتقدّم بالزمان كلّ ما سواه من أنواع المخاطبة.  ثمّ يردّ بعده النوع الذي هو مقصود الإنسان من المخاطبات من اقتضاء أو إعطاء. والقول الذي يُعطى به شيء مّا قد يبتدئبه الإنسان ابتداء من غير أن يكون قد اقتضاه ذلك آخرُ، وقد يكون يُقتضى عن اقتضاء لهسبق. فالذي يكون عن اقتضاء له سابق هو جواب. والمقول المقتضى بيّن أنّه إنّما يكون من الإنسان الذي اقتضاه بنطق مّا، والنطق بالقول هو فعل مّا، واقتضاء النطق إنّما يكون بأحد تلك الأقاويل الأخر التي تقتضي فعلا. والقول غير النطق به. فإنّ القول مركَّب من ألفاظ، والنطق والتكلّم هو استعماله تلك الألفاظ والأقاويل وإظهارها باللسان والتصويت بها ملتمسا الدلالة بها على ما في ضميره. فالنطق فعل مّا، واقتضاء النطق هو اقتضاء فعل مّا، وهو داخل تحت أحد تلك الأخر. فاقتضاء النطق بالقول غير اقتضاء القول، وإن كان يلزم كلّ واحد منهما عن الآخر، فاقتضاء القول هو السؤال، واقتضاء النطق هو شيء آخر، غير أنّه قوّته في كثير من الأوقات قوّة سؤال عن الشيء. ولذلك صار قولنا " تكلَّم يا وزّان بكذا وكذا " و " أعْلِمْني وأخْبِرْني عن كذا وكذا " قوّته قوّة السؤال عن الشيء. وكلّ مخاطبة يُقتضى بها شيء مّا فلها جواب. فجواب النداء إقبال أو إعراض، وجواب التضرّع والطِلْبة بذل أو منع، وجواب الأمر والنهي وما شاكله طاعة أو معصية، وجواب السؤال عن الشيء إيجاب أو سلب - وهما جميعا قول جازم. والمخاطبة التي يُعطى بها الإنسان شيئا المبتدأ بها لا عن اقتضاء لها هو أيضا قول جازم.   والمخاطبة العلميّة يُقتضى بها علم شيء أو يفاد بها علم شيء مّا. وهي بضربين من الأقاويل، إمّا السؤال عن الشيء، وإمّا القول الجازم وإمّا جواب عن السؤال وإمّا ابتداء. والعلم الذي يُقتضى أن يقال إمّا أن يُعتقَد شيء مّا ويُتصوَّر ويقام معناه في النفس، وإمّا أن يُعتقَد وجوده، أو وجوده وسبب وجوده. وليس ههنا علم آخر غير هذه الثلاثة.  وحروف السؤال كثيرة: " ما " و " أيّ " و " هل " و " لِمَ " و " كيف " و " كم " و " أين " و " متى ". وهذه وجلّ الألفاظ قد تُستعمَل دالّة على معانيها التي للدلالة عليها وُضعت منذ أوّل ما وُضعت، وتُستعمَل على معان أخر على اتّساع ومجازا واستعارة، واستعمالها مجازا واستعارة هو بعد أن تُستعمَل دالّة على معانيها التي لها وُضعت من أوّل ما وُضعت.  والخطابة والشعر فإنّ الألفاظ تُستعمَل فيهما بالنوعين جميعا. وأمّا الفلسفة والجدل والسوفسطائيّة فلا تُستعمَل فيها إلاّ على المعاني الأولى التي لأجلها وُضعت أوّلا. وما استُعمل في السوفسطائيّة من الاستعارة والمجاز فإنّما يُستعمَل ليُوهم فيها أنّها استُعملت على ما استُعملت عليه على انّها إنّما وُضعت عليها من أوّل الأمر. ولا يُستعمَل المستعار في السوفسطائيّة على أنّه مستعار بلعلى أنّه في الوضع الأوّل، وإنّما يُستعمَل المستعار فيها إذن بالعرض، ولذلك يُستعمَل عند الخطابة بها. وما استُعمل منها في الجدل فإنّما يُستعمَل منها الشيء اليسير لزينة الكلام عند السؤال والجواب، لا على أنّه جدليّ بذاته وأولى، لكن على أنّه خطبيّ استُعمل منه شيء مّا للحاجة إليه في وقت مّا، على مثال ما يجوز لإنسان مّا أن يتمثّل ببيت من الشعر عندما يخطب أو عندما يعلّم أو عندما يجادل، لا على أنّه بذاته وأوْلى من تلك الصناعة، بل بالعرض وثانيا. والفلسفة فلا يُستعمَل في شيء منها لفظ إلاّ على المعنى الذي لأجله وُضع أوّلا، لا على معناه الذي له استُعير أو تُجُوِّز به وسومح في العبارة به عنه.  ونحن إذا تأمّلنا ما تدلّ عليه الألفاظ المشهورة فإنّما نتأمّل الأمكنة التي فيها يُستعمَل شيء شيء منها عند مخاطبة بعضنا بعضا في الدلالة على المعاني المشهورة التي للدلالة عليها أوّلا وُضعت تلك الألفاظ. فإذا أخذنا منها الأسماء المنقولة إلى المعاني الفلسفيّة فإنّا إنّما نأخذ معانيها التي للدلالة عليها أوّلا نُقلت لا التي استُعملت بعد نقلهم إيّاها استعارة ومجازا واتّساعا لتعلّق كثير من المعاني وشبهها بالمعاني الفلسفيّة التي إليها أوّلا كانت نُقلت. فإنّه قد عرض ذلك لكثير من الألفاظ المشهورة التي كانت أوّلا دالّة على معان عامّيّة، ثمّ نُقلت فجُعلت مع ذلك لمعان فلسفيّة، ثمّ أخذها قوم من الخطباء والشعراء وسائر الناس فاستعملوها على معان أخر تشبه تلك الفلسفيّة أو تتعلّق بها ضربا من التعلّق على جهة الاستعارة والتجوّز والمسامحة.

الفصل السابع والعشرون: 

  حرف ما  فمن ذلك حرف " ما " الذي يُستعمَل في السؤال، فإنّه وما قام مقامه في سائر الألسنة إنّما وُضع أوّلا للدلالة على السؤال عن شيء مّا مفرد. وينبغي أن يتأمّل الشيء الذي عنه يسأل بهذا الحرف - وهو الذي كان يجهله فطلب بهذا الحرف علمه - وأيّ طرف من العلوم طلبه - وهو بعينه نوع العلم الذي يستفيده من الطلب - فيُحصي الأمكنة التي يُستعمَل فيها. و هذا الحرف قد يُقرَن باللفظ المفرد والذي للدلالة عليه أوّلا وضعنا اللفظ دالاّ عليه، وهو الشيء الذي جُعل ذلك اللفظ دالاّ عليه، فإنّ " الشيء " هو أعمّ ما يمكن أن نعلمه. فإذا عُلم أنّه دالّ على شيء مّا، فإنّما جُهل الشيء الذي جُعل نِدّا له، كقول القائل " ما معنى "، إذا اتّفق أن علم أنّه اسم دالّ على شيء. وقد يُقرَن بمحسوس أُدرك ما أُحسّ فيه من الأحوال أو الأعراض في الجملة، وجُهل منه شيء آخر، كقولنا " ما الذي نراه " و " ما الذي بين يديك ". وقد يُقرَن باسمٍ معقول المعنى عُرف ضربا من المعرفة، كقولنا " الإنسان ما هو "، فيُطلَب معرفته وإقامة معناه في النفس وأن تحصل ذاته معقولة بضرب أزيد ممّا عُرف به أوّلا. وينبغي أن نُحصي الأمكنة التي فيها يُستعمَل هذا الحرف سؤالا ونعرّف في كلّ واحد منها عمّاذا يُسأل وأيّ علم يُطلَب فيه.  فمنها أنّا نقول " ما هذا المرئيّ " و " ما هذا الذي بين يديك " و " ما ذاك السواد الذي نراه من بعيد " و " ما ذاك الذي كأنّه يتحرّك " وبالجملة " ما هذا المحسوس " فيُقرَن حرف " ما " بمحسوس - أيّ محسوس كان وبأيّ حاسّة أحسسناه - وبأمر مشار إليه. فالذي سبيله أن يجاب به عن مثل هذا السؤال هو بعض الكلّيّات التي هي صفات لذلك الشيء المسؤول عنه. فإنّا نقول فيه " إنّه نخلة " ونقول فيه " إنّه شجرة " و " إنّه نبات " و " إنّه جسم مّا "، فتكون هذه كلّيّات متفاضلة في العموم يليق أن يجاب بكلّ واحد منها في جواب " ما هو هذا المرئيّ ". وأيّ اثنين منها أخذته فإنّ الأخصّ منهما يسمّى نوعا والأعمّ يسمّى جنسا، لالأنّ الذي يسمّى جنسا لم يكن يجوز أن يسمّى بالنوع أو بغيره من الألفاظ، لكن وُضع وضعا أن يكون الأخصّ يسمّى نوعا والأعمّ منها يسمّى جنسا. وإذا قويس بينها فوُجد فيها شيء هو أخصّ لا أخصّ منه، وشيء هو أعمّ لا أعمّ منه، وشيء أو أشياء متوسّطة هي أخصّ من بعض وأعمّ من بعض، سُمّي الأخصّ الذي لا أخصّ منه " نوعا " بالإطلاق و " نوعا أخيرا " و " نوع الأنواع "، وسُمّي الأعمّ الذي لا أعمّ منه " جنسا " بالإطلاق و " جنسا عاليا " و " جنس الأجناس "، والذي هو أعمّ من شيء منهما وأخصّ من الآخر منهما يسمّى نوعا وجنسا - نوعا لما هو أخصّ منه وجنسا لما هو أعمّ منه - و " نوعا متوسّطا " و " جنسا متوسّطا ". وقد يجاب عن هذا السؤال بقول مؤلَّف من جنس لذلك المسؤول عنه يقيَّد بصفات ومحمولات أخر. مثل أن يقال لنا " هو شجرة تحمل الرطب " أو " هي الشجرة التي تُثمر التمر ". أو إن اتّفق أن كان المسؤول عنه حائطا فإنّه قد يجاب " إنّه حائط " أو يجاب بأنّه " جسم متصلّب ذو سُمْك مؤتلف من حجارة أو لبن أو طين أُعدّ ليحمل السقف ويصون من الرياح "، فيقوم ذلك مقام قولنا " إنّه حائط ". فإنّ الحائط هو نوع الشخص المسؤول عنه، والقول الذي أُقيم مقامه هو حدّ الحائط وهو حدّ النوع المسؤول عنه، وإنّما يكون ذلك القول أبدا مؤتلفا من حدّ النوع ومن الأشياء التي بها أو لها قوام ذلك النوع. وما يدلّ عليه حدّ النوع هو ماهيّته، والذي يدلّ عليه جزء جزء من أجزاء القول هو جزء ماهيّته.  وقد يُقرَن حرف " ما " بنوع من الأنواع عد أن فهمنا ما يدلّ عليه اسمه الذي وُضع أوّلا دالاّ عليه. فنقول " الإنسان ما هو " و " النخلة ما هي "، فيجاب عنه بجنس ذلك النوع أو حدّه. فإنّه قد يقال لنا في الإنسان " إنّه حيوان " أو " إنّه حيوان ناطق "، وفي النخلة " إنّها شجرة تحمل الرطب ". ويقال " ما العباءة "، فيقال " هي ثوب من الصوف "، فالثوب جنسه، وقولنا " ثوب من صوف " حدّه. وما يُفهَم من القول ماهيّته والأشياء التي بها قوامه وجزء ماهيّة جنسه، ثمّ ما يقيَّد به جنسه ممّا به قوامه. والذي يُردَف به جنسه، فليس يجاب به وحده في جواب " ما هو الشيء "، بل إنّما يكون جوابا عن " ما هو الشيء " متى أُردف به أو قُيّد الجنس، فإنّه في " ما هو الشيء " ينفرد جنسا ومقيَّدا بشيء آخر حينا. ولو أُردف جنسه بشيء ممّا يوجد له غير أنّه ليس به قوام ذاته ولا يعرّف ما هو ذلك الشيء أصلا، لم يكن القول حدّا، كما لو قيل في العباءة " إنّها الثوب الذي يلبسه المترهّبون وأهل الصنائع القَشِفة مثل الملاّحين والفلاّحين " لكان تعريفا للعباءة لكن لا يحدّ العباءة، ولا كان ما يدلّ عليه القول هو ماهيّة العباءة وإن كان ممّا يوصف به العباءة، بل كان صفة له لا محمولا عليه لا يعرّف ما هو بل يعرّف منه شيئا خارجا عن ذاته. وكذلك لو قيل في الإنسان " إنّه الحيوان الذي يصلح أن يتّجر ويبيع ويشتري " لكان تعريفا للإنسان لا يحدّه. والقدماء يسمّون هذا الصنف من الأقاويل المعرّفة للشيء " الرسم " ويسمّون بالجملة صفاته ومحمولاته التي لا تعرّف ما هو بل تعرّف منه شيئا خارجا عن ذاته وشيئا ليس به قوامه" أعراض " ذلك الشيء. وكلّ واحد من هذه التي يليق أن يجاب بها في جواب " ما هو الشيء " يُفهم الشيء المسؤول عنه ويُفهم معناه في النفس، ويتصوّره الإنسان به ويحصل له في النفس معقول مّا. غير أنّ جنس الشيء يصوّره في النفس ويُفهمه بوجه يعمّه وغيرَه، ونوعه يُفهمه بوجه أخصّ من جنسه. وجنسه كلّما كان أبعد وأعمّ كان تفهيمه للشيء وتصويره له في النفس بوجه أعمّ وأبعد عنه. وحدّه يصيّره معقولا ويُفهمه بأجزائه التي بها قوامه. فإنّ النوع المسؤول إذا عُقل بما يدلّ عليه اسمه فإنّما يُعقَل الشيء مجمَلا غير ملخَّص بأجزائه التي بها قوامه. وإذا عُقل بما يدلّ عليه حدّه فقد عقل ملخَّصا بالأشياء التي قوامه بها، وذلك هو أ كمل ما يُعقَل به الشيء الذي يمكن أن يُعقَل على هذه الأنحاء. ورسمه أيضا يُفهم الشيء ملخَّصا بصفاته التي ليس بها قوام الشيء وبالتي هي خارجة عن ذات الشيء، وهي أعراضه. وأنقص ما يُفهَم به الشيء هو أن يُفهَم بأبعد أجناسه أو أن يُفهَم بأبعد محمولاته عن ماهيّته أو جزء ماهيّته. وأ كمل ما يُفهَم به الشيء هو حدّه. والأشياء الخارجة عن ذاته وصفاتُه التي لا تُفهَم ماهو والتي ليس بها قوام ذاته - وهي أعراضه - بعضها أقرب إلى ذاته وبعضها أبعد عن ذاته. مثل أن يقال في النخلة " إنّها الشجرة التي تكتسي الليف والتي تورق الخوص " أو " التي أغصانها سعف " أو " التي تكون في البلدان الحارّة "، فإنّ بعض هذه أبعد عن ذاتها وبعضها أقرب إلى ذاتها، وكلّ ذلك يُفهم الشيء ويصوّره في النفس - بعضها أ كمل وبعضها أنقص - لكن بما هي غريبة عن ذاته.  وقد يُقرَن حرف " ما " بلفظ مفرد عُلم أنّه دالّ على شيء مّا، غير أنّه لم يُعلَم النوع والجنس الذي هو دالّ عليه أوّلا، وإنّما يُلتمَس به تفهم معنى النوع الذي يدلّ عليه ذلك اللفظ وتصوّره وإقامته في النفس. فإن كان السائل عرف ذلك النوع وتصوّره باسم له آخر وعلم المجيب له ذلك، عرّفه. وإن لم يكن تصوّر معنى ذلك النوع أصلا ولاكان رأى شيئا من أشخاصه - كما يلحق كثيرا من الأمم أن لا يرى أحد منهم فيلا أصلا ولا جملا - اضطرّ المسؤول عند ذلك إلى أن يعرّفه بقول مشتمل على صفات يؤلَّف بعضها إلى بعض إلى أن تجتمع من جملة ما يؤلّفه صورة ذلك المسؤول عنه في نفس السائل، فيحصل في نفسه معنى مّا مركَّب عن صفات يُقرَن بعضها ببعض ويُفهم معنى الاسم ملخَّصا بأجزائه. غير أنّه قد يتّفق أن يكون ما تصوّره في نفسه من ذلك وفهمه عن الاسم معنى غير معلوم هل هو موجود أم لا، مثل ما لو لُخّص معنى الفيل عند مَن لم يشاهدهلأمكن أن لا يقع له التصديق بوجوده ولا يدري هل ما هو كذا وبهذه الصفات موجود أم لا. وقد يتّفق أن يكون ذلك قولا يُفهم ويُلخّص شيئا يمكن أن يُتصوَّر ولكن يكون غير موجود، مثل تماثيل الحمّامات التي يصوّرها المصوّرون، فإنّها معان تقوم صورها في النفس لكنّها غير موجودة. فتكون الأقاويل التي تُركَّب للدلالة عليها تدلّ على أشياء غير موجودة، ويكون كثير من هذا الصنف أقاويل تدلّ ما لا يُدرى هل هي موجودة أم لا. وأمثال هذه فليست حدودا إلاّ على جهة المسامحة والتجوّز، بل تُسمّى " الأقاويل التي تشرح الأسماء ". ولذلك تُستعمَل هذه الأقاويل في مبادئ الفحص عن الأمور المفردة في المطلوبات وعن الأمور التي يكفي في وجود قياساتها ما يُفهَم عن أسمائها منذ أوّل الأمر، وفي إبطال الأشياء التي ظنّ قوم من الناس أنّها موجودة - مثل الخلاء، فإنّه يجب أن يُفهَم ما معنى هذه اللفظةعند مَن يعتقد وجود الخلاء. وكذلك إذا فحص الإنسان هل القوّة المدبّرة في الدماغ أو لا، فإنّه ينبغي أن يلخّص بالقول ما معنى القوّة المدبّرة. وإذا فحصنا هل العالم كريّ الكلّ، فينبغي أن نلخّص القول ما معنى العالم. فإنّ هذه كلّها أقاويل تشرح الأسماء قد تُسمّى على التجوّز والاتّساع في العبارة حدودا. وإنّما يُلتمَس بهذه الأقاويل تحصيل معاني تلك الألفاظ متصوَّرة بأجزائها التي إذا أُلّفت حصل منها معنى معقول ملخَّص مشروح بأجزائه التي يصير بها معقولا متصوَّرا في النفس فقط. فتكون تلك الأجزاء بها قوامه من حيث هو معقول أو متصوَّر في النفس، إذ بها قوامه في النفس. فإذا تبيّن بعد ذلك أنّ المعنى المدلول عليه بذلك الاسم موجود، وأنّ تلك الأشياء التي بها قوامه معقولا في النفس أيضا بأعيانها خارج النفس، عاد ذلك الذي كان قولا يشرح المعنى فصار حدّا، إذ كانت تلك ماهيّته. وإن تبيّن أنّ ذلك غير موجود بقيت تلك الأجزاء التي بها قوامه في النفس فقط ولم يكن ما دلّ عليه ذلك القول ماهيّة شيء أصلا. وتلك الأشياء التي بها قوام الشيء من خارج النفس متى أُخذت من حيث هي معقولة ومن حيث هي معقول ذلك الشيء قيل فيه إنّه ماذا هو الشيء، ومتى أُخذت من حيث هي قوام ذلك الشيء من خارج قيل فيه إنّه بماذا هو الشيء.  وقد يُستعمَل حرف " ما " في مثل قولنا " ما ذلك الحيوان الذي يكون في الهند " و " ما النبات الذي يكون بلاد اليمن " و " ما الحجر الذي قيل إنّه ببلاد تهامة ". ومن هذا الصنف قولنا " ما لَكَ " و " ما حال زيد " و " ما خبر فلان " و " ما المال الذي عندك " و " ما الحيوان الذي ملكته ". فإنّ هذه كلّها أيضا يقترن فيها حرف " ما " بجنس الشيء، وذلك متى عُرف الشيء بجنسه ولم يُعرَف النوع الخصّ الذي هو منسوب إلى الذي أُخذ منسوبا إليه، فإنّه إنّما يكون إذا جُهل النوع ولم يُتصوَّر، وعُرف بجنسه الذي يعمّه وغيرَه، والتُمس أن يُتصوَّر ذات ذلك النوع خاصّة. فإنّ قولك " ما مالُك " يُعنى به ما النوع الذي تملك من المال. وكذلك " ما حالك "، فإنّه عُرف أنّ له نوعا من أنواع الحال ولم يُفهَم ذاته ولم يُتصوَّر فقيل " ما النوع الذي هو لك من أنواع الحال "، وكذلك " ما ذلك النبات الذي يكون باليمن " يُعنى به ما النوع الذي يكون خاصّة من أنواع النبات.  فهذه أربعة أمكنة يُستعمَل فيها حرف " ما " على جهة السؤال. ويعمّها كلّها أنّه يُطلَب بها معرفة ذات الشيء المسؤول عنه وأن يُتصوَّر ذاته وأن يُعقَل ذاته معقولة. ويعمّها أنّها كلّها ليس يمكن أن يُسأل عنها إلاّ وقد عُرف المسؤول عنه وتُصُوِّر مقدارا مّا من التصوّر أو عُقل إلى مقدار مّا، ويُلتمَس فيه أن يُعقَل أ كمل من ذلك المقدار وأن يُتصوَّر بمقدار أزيد من ذلك التصوّر من ذلك المحسوس المسؤول عنه بحرف " ما ". فإنّه إذا عُقل وتُصُوِّر أنّه " شيء " وأنّه " أسود " وأنّه " متحرّك " فقد تُصُوِّر بأبعد ما يمكن ان يُتصوَّر به الشيء وأنقصه. فإنّ " الشيء " هو أبعد ما يمكن أن يُتصوَّر به " الأسود "، وأنّه " أسود " فإنّه أبعد عرض يمكن أن يُتصوَّر به " المتحرّك " . وأنّه " متحرّك " فإنّه أيضا عرض بعيد من ذات المسؤول عنه. فإنّ القائل " ما ذلك المتحرّك " يسأل عن ذلك الشيء الذي يراه متحرّكا أو أسود. على أن معنى المتحرّك غير معنى ذلك الذي علامته في أبصارنا أنّه متحرّك. وقد يُسأل في مثل هذا المكان " ما الحيوان الذي نراه " و " ما الجسم الذي نلمسه "، فيكون مثل قولنا " ما ذلك الشيء الذي نراه " - غير أنّ " الشيء " هو أعمّ من " الحيوان " و " الحيوان " أخصّ من " الشيء " - فإنّ هذه كلّها إنّما تُصوّر الشيء بجنسه فقط. و مَن جهل ذلك المرئيّ فإمّا أن يجاب بنوعه من حيث يدلّ عليه اسمه أو من حيث يدلّ عليه حدّه. فالمسؤول عنه بحرف " ما " في هذين هو معروف لا محالة حين ما يُسأل عنه معرفةً أنقص، إمّا بجنسه الأبعد جدّا أو بجنسه الأقرب، أو ما يقوم في العموم مقام جنسه الأبعد أو بحال له خارج عن ذاته، مثل أنّه " متحرّك " أو أنّه " أسود " أو غير ذلك من أعراضه. وكذلك النوع المسؤول عنه، فإنّه عرف وتصوّر وعقل ما يدلّ عليه اسمه، وهو التصوّر المجمَل. و يكون عرف ذلك النوع بعلامة له ليست هي ذاته ولا جزء ذاته بل بعرض له لازم، فظنّ أنّ تلك الصفة أو الصفات التي عرفه بها هي التي إذا عُقلت تكون ذاته معقولة. مثل أن يكون " الإنسان" عنده معقول بشكل جسمه؛ ثمّ يرى أنّ الإنسان يتكلّم ويروّي ويعقل ويحوزالصنائع لا لشكل جسمه - إذ كان بعد أن يموت يكون شكل جسمه على حاله - ويرى أنّ تصوّره له بصفته هذه ليست كافية في أن يعقل ذاته، فيسأل حينئذ عنه " ما هو " فيلتمس بسؤاله أن يعقل ذاته، إذ كان ليس يرى أنّه عقل ذاته أو ذاته على التمام إذا عقل منه شكل جسمه. وكذلك في شيء شيء من سائر الأنواع إذا كان يعقل ما يدلّ عليه اسمه بعلامة أو صفة إذا تُعُقِّبت يتبيّن أنّها ليست هي كافية في أن تحصل ذاته بها معقولة، سأل حينئذ " ما هو ذلك النوع " فيجاب إمّا بجنسه وإمّا بحدّه فإذا أُجيب بما هو له حدّ لم يبقى بعدها لسؤال " ما هو " موضع أصلا. وكذلك متى جهل معنى لفظةما فسأل عنه ب"ماهو". فقد عرف أنّه " شيء " وتصوّره بأعمّ ما يمكن أن يُتصوَّر به الشيء ولم يكن تصوّره بصورته التي تخصّه، وهو نوع ذلك الشيء. فإذا أُجيب عنه باسم له آخر وبقول يُشرَح به معنى ذلك الاسم فقد بلغ ما التمسه. وكذلك " ما حالك يا فلان " و " ما حالك يا زيد " فإنّه مثل قولك " ما ذلك الحيوان الذي نراه ". فإنّه يكون قد عرف في كلّ هذا جنس ذلك الشيء وجهل نوعه. فإنّه إنّما يسأل عن نوع الحال التي هي حاله وعن نوع الحيوان الذي نراه.  واستعمال السؤال ليس إنّما يكون عند مخاطبة الإنسان الآخر، لكن عندما يروّي الإنسان فيما بينه وبين نفسه أيضا. فإنّه قد يسأل نفسه وهو نفسُه يُجيب عن شيء شيء من هذه فيما بينه وبين نفسه. وليس يلتمس أن يستفيد من تلقاء نفسه إلاّ ذلك العلم الذي كان يؤمل أن يستفيده من غيره إذا سأله عنه.  وكلّ إنسان إنّما يُجيب في الموضع الذي يمون سبيل الجواب فيه بالنوع أو بالجنس أو بالحدّ بالذي هو عنده نوع أو بالذي هو عنده جنس أو بالذي هو عنده حدّ. فإنّ النوع قد يكون نوعا على أنه يحاكي النوع من غير أن يكون نوعا فيأخذ الآخذ المحاكي للنوع أو للجنس أو للحدّ على أنّه في الحقيقة كذلك على مثال ما يأخذه الشعر، أو نوعاهو ببادئ الرأي نوع، أو نوعايتموّه أنّه نوع، أو نوعاهو في المشهور أنّه نوع، أو نوعاتبرهن أنّه نوع. وكذلك كلّ واحد من الباقين. وكلّ إنسان إنّما يُجيب في الموضع الذي سبيله أن يُجيب فيه بالجنس بالجنس الذي هو عنده جنس من الجهة التي بها صحّ عنده أنّه جنس، وفي الموضع الذي سبيله أن يُجيب فيه بالنوع إنّما يُجيب بالنوع الذي هو عنده نوع من الجهة التي بها صحّ عنده أنّه نوع، وفي الموضع الذي سبيله أن يُجيب فيه بالحدّ إنّما يُجيب بالقول الذي هو عنده حدّ من الجهة التي صحّ عنده بها أنّه حدّ. والجهات التي بها يصحَّح الشيء أنّه كذا وليس كذا تلك الجهات الخمس.  والذي هو بالمحاكاة جنس يأخذه كثير من الناس جنسا لأشياء كثيرة، مثل الظلمة والنور، فإنّ قوما يزعمون أنّ المادّة ظلمة مّا وأنّ العقل نور مّا وأنّ الملائكة أنوار. فإنّه لا يمتنع أن يكون شيء مّا عرضا في أمر، فيُظَنّ إمّا ببادئ الرأي وإمّا بتموّه الشيء به أنّه نوع له، حتّى إذا تُعُقِّب بالطرق البرهانيّة يتبيّن أنّه عرض له لا نوع له. وكذلك قد يكون القول رسما للشيء فيُظَنّ بهاتين الجهتين أنّه حدّ له، حتّى إذا تُعُقِّب بالطرق البرهانيّة يتبيّن أنّه ليس بحدّ له.  فلذلك متى صادفتَ ما قد يتبيّن عندك أنّه عرض لشيء مّا قد استعمله الجمهور أو بعض أهل الصنائع في الجواب عن " ما هو الشيء " فليس ينبغي أن تظنّ أنّ العرض عند الجمهور أو عندنا حدّ يُستعمَل في الجواب عن " ما هو الشيء "، لكن ينبغي أن تعلم أنّ ذلك إذا استعملتَه في الجواب عن " ما هو الشيء " استعملتَه على أنّه علامة للذات التي سبيلها أن تكون هي التي سُئل عنها بحرف " ما هو ". لا على أنّ ذلك العرض أو العلامة إذا عُقلت تكون ذاته قد عُقلت. لكن كثيراً مّا قد يعجز الإنسان عن أن يجد محمولا للمسؤول عنه إذا عّقل تكون قد عّقلت ذاته، فيُجيب بما قد علم أنّه ليس ذاته ليجعله علامة للشيء الذي إذا عُقل تكون قد عُقلت ذاته، فتكون قوّة جوابه " إنّ الذي ينبغي أن يكون هو الجواب عمّا سألتَ عنه هو أمر لا أعرفُه نفسَه ولا بأسمه ولكن أمر يوجد له نوع كذا من العرض أو يوصف بكذا من الأعراض " أو " إنّه أمر يخصهُ أنّه يوصف بعرض كذا " أو " إنّه أمر علامته كذا "،وهو نوع العرض الذي أخذه في الجواب عن " ما هو ذلك الشيء ". فعلى هذه الجهة يصلح أن يجاب بالذي هو عرض - وهو يعرف أنّه عرض - في جواب " ما هو الشيء "،و كان الذي يجاب به رسما أو عرضا مفردا. غير أنّ الرسم الذي إذا كان إنّما أُردفت الأعراض فيه بجنسه كان أقرب إلى الحدّ من أن يكون مأخوذا دون الجنس.  ولا يمتنع أن يكون أمرا مّا محمولا على شيء مّا ويليق أن يجاب به في جواب " ما هو " في ذلك الشيء، وهولا صفة لشي ءمّا آخر ولا يليق أن يجاب به في جواب " ما هو " في ذلك الشيء الآخر. فيكون جنسا أو نوعا أو حدّااو حد لشيء مّا هو عرض لشيء آخر. فيكون معرّفا لذات شيء مّا أو ماهيّته أو جزء ماهيّته، ومعرّفا من شيء آخر ما هو خارج عن ذاته وماهيّته. ولا يمتنع أيضا أن يكون أمر مّا يليق أن يجاب به في جواب " ما هو " في شيء مّا، ولا يكون محمولا على شيء آخر بجهة أخرى بل كلّ ما حُمل على شيء مّا فإنّه يُحمَل عليه على أنّه يليق أن يجاب به في جواب " ما هو " ذلك، ولا يكون صفة لشيء آخر أصلا. فما كان هكذا فإنّه إنّما يكون محمولا من طريق ماهو فقط من غير أن يكون محمولا على جهة أخرى، وهو المحمول بماهو على الإطلاق ومن كلّ الجهات، إذ كان ليس يُحمَل بجهة أخرى على شيء من طريق ماهو وعلى شيء آخر من طريق آخر، لا بما هو محمول بما هو على الإطلاق ولا من كلّ الجهات. والقدماء يسمّون المحمول على الشيء الذي إذا عُقل عُقل ذلك الشيء وذات ذلك الشيء " جوهر ذلك الشيء "، ويسمّون ماهيّة الشيء " جوهره "، وجزء ماهيّته " جزء جوهره "، والمعرّف لما هو الشيء " المعرّف بجوهره ". فما كان محمولا على شيء مّا بطريق ماهو وعلى شيء آخر ر بطريق ما هو يقال إنّه " جوهر لذلك الشيء " الذي إذا عُقل المحمول يكون قد عُقل و " معرّف بجوهره "، و " ليس بجوهر لذلك الشيء " الذي ليس يُحمل عليه من طريق ماهو ولا معرّفا بجوهره بل عرضا له. وما كان إنّما يُحمل أبدا على أيّ شيء ما يُحمَل بما هو ذلك الشيء، ولم يكن يُحمَل على شيء أصلا إلاّ بماهو، فإنّ ذلك المحمول بماهو بإطلاق ومن كلّ جهة، فهو جوهر كلّ شيء حُمل عليه ومعرّف بجوهر كلّ ما يُحمَل عليه، إذ ليست له جهة أخرى من الحمل إلاّ أنّه جوهر لكلّ مايُحمَل عليه. فسمّاه القدماء " الجوهر " على الإطلاق و " معرّفا للجوهر " على الإطلاق. وسمّوا تلك الأخر " جوهر البياض " و " معرّف بجوهر الحركة " وغير ذلك من التي ليست جواهر التي محمولاتها عليها لا بماهو ولا معرّفا لجواهرها. وليس يُعنى بالجوهر ههنا شيء غير المحمول على الشيء الذي إذا عُقل المحمول يكون قد عُقل الشيء نفسه. فما ليس له حَمْل على شيء إلاّ على هذه الجهة فهو الجوهر الذي على الإطلاق. وإن كان قد يوجد شيء محمول على أمر مّا لا بطريق ماهو، ولم يكن يُحما على أمر آخر بجهة ماهو أصلا بل كان حَمْله أبدا على أيّ شيء ما حُمل هو حَمْل لا بطريق ماهو، كان هو العرض على الإطلاق، وهو مقابل بالكلّيّة لما هو جوهر الإطلاق. وما كان يُحمَل بجهتين على موضوعين مختلفين فهو جوهر لأحد هذينالموضوعين وعرض للموضوع الآخر.  وليس ينبغي أن تخيّل إلى نفسك معنى الجوهر أنّه شبه شيء ثخين مكتَّل مصمَت أو صلب لأجل ما تسمعه من قوم قد اعتادوا أن يقولوا " إنه هو القائم بنفسه " و " قوامه بنفسه " وأشباه هذه العبارة التي تخيّل في الجوهر ما ليس هو الجوهرالمحمول الذي لا يُحمَل على موضوع أصلا إلاّ على طريق ماهو. فإنّ موضوعه أيضا إن كان يُحمَل على موضوع آخر دونه فليس يمكن أن يُحمَل عليه إلاّ بطريق ماهو. فإنّه إن أمكن أن يُحمَل على شيء مّا لا بطريق ماهو كان المحمول الأعمّ إذا عُقل كان معقول عرضٍ، فيكون محمولا بوجه مّا لا بماهو، وذلك غير ممكن. وموضوع موضوعه إن كان إنّما يُحمَل أيضا على موضوع فهو إنّما يُحمَل هذا الحَمْل، إلاّ أنّه لا يمضي في العمق هكذا إلى غير النهاية بل ينتهي، فإذا انتهى يكون الموضوع الأخير الذي لا يُحمَل على آخر دونه هذا الحمل أيضا على شيء آخر حملا لا على طريق طريق ماهو ذلك لا محالة. فإذن موضوعهما الأخير لا يُحمَل على شيء أصلا لا حَمْل ماهو ولا حَمْلا بغير طريق ماهو ولا يكون معرّفا لجوهر شيء غيره ولا جوهرا لغيره، لأنّه ليس إذا عُقل يكون عُقل موضوع له ولا يكون ذاتا مّا لغيره بل يكون ذاتا على الإطلاق ومحمولاته التي تُحمَل عليه من طريق ماهو ذوات له جواهر له. وإن كنّا نعني بالجوهر ذات الشيء ونفس الشيء، وكان هذا هو ذاتا لكن ليس بذات لغيره بل ذاتا لنفسه، كان جوهر بنفسه وكان هو الجوهر على الإطلاق. فإنّ معنى الجوهر ومعنى الذات ههنا واحد بعينه في العدد، ومحمولاته هي جواهر وذوات ومعرّفات لذات هذا وجوده. فيكون هذا جوهرا على اٌلإطلاق. وتلك كانت معقولات هذا كانت جواهر أيضا على الإطلاق. وتلك التي تنظر فيها العلوم، لا هذه. وهذه إذا أُخذت معقولات كانت تلك. وهذه هي التي يمكن أن يخيَّل فيها أنّها مكتَّلة ثخينة مصمَتة. و ليس ينبغي أن تُخيّل هذه في هذا الجوهر. فإنّ ما يُتخيَّل بذا وشبهه ليس هو الجوهر، بل ينبغي أن يُجعَل معنى الجوهر هو الذي حدّدناه وتُجعَل علامته التي عرّفناه بها.  والسبب في هذا التخيُّل أذهاننا وأذكارنا الصامتة، كأنّا إذا لم يدافع لَمْسَنا جسم مّا بل كان سهل الاندفاع والانحراف وهوانا لنا حين ما نرجمه، هان علينا أمر وجوده، وخاصّة إن اجتمع مع ذلك أن لايردّ شعاع أبصارنا، فإنّه يهون علينا حتّى نظنّ به أنّه غير موجود. فلذلك صرنا نقول فيما لا وجود له " إنّه هباء " و " إنّه ريح ". وكلّ ما يدافع ويقاوم مَن يرجمه وكان مع ذلك لا تنفذ فيه شعاعات أبصارنا كان هو الموجود والوثيق الوجود. فلذلك لمّا كان الحقّ هو أوثق الموجودات وجودا صاروا يتخيّلونه بما هو وثيق الوجود عندهم من الأجسام، وهو المصمَت الكثير الصلب. ولذلك اعتادوا أن يسمّوه " الحامل لكلّ شيء " كأنّه يحمل ما يحمل أثقالا تعتليه فينهض بها وهو غير محمول على شيء؛ و " الصلب " فإنّ اسم الجوهر عند الجمهور إنّما يقع على حجارة مّا من المادّة النفيسة، والحجارة بهذه الصفات التي يصير بها الجسم عندهم وثيق الوجود، فيتخيّلون فيه ماهو موجود في المشارك له في الاسم. وكلّ هذه خيالات فاسدة مغلطة عليك أن تحذرها وتصوَّر الجوهر في نفسك.  والمحمول على موضوع مّا بطريق ماهو وعلى موضوع آخر لا بطريق ماهو، إن كان موضوعه الذي يُحمَل عليه من طريق ماهو كان يُحمَل أيضا على موضوع دونه بطريق ماهو، فإنّ ذلك الموضوع يُحمَل على شيء آخر لا بطريق ماهو، لأنّه إن لم يكن كذلك كان محمولا معقول مّا ليس بعرض، فيكون جوهرا على الإطلاق، وذلك محال. وإن كان موضوع هذا الموضوع يُحمَل أيضا على شيء دونه بطريق ماهو، فإنّه يكون محمولا أيضا على شيء مّا آخر لا بطريق ماهو، إلى أن ينتهي على هذا الترتيب إلى الموضوع الذي لا يُحمَل على شيء دونه أصلا بطريق ماهو. فيبين في العميق أيضاالى أنّ ذلك الذي ينتهي في العمق لا يمكن أن يكون محمولا على شيء بطريق ماهو. فيكون ذلك عرضا بالإطلاق، إذ كان محمولا ولم يكن له حَمْل مّا على موضوع أصلا بطريق ماهو. وإن كان موضوعه الذي يُحمَل عليه لا بطريق ماهو أمرا لا يُحمَل على موضوع أصلا ولا بوجه من الوجهين، فقد تناهى في العرض وانتهى إلى الجوهر على الإطلاق. وإن كان أمرا يُحمَل على موضوع، وكان أيّ موضوع حُمل عليه حُمل عليه بطريق ماهو، فقد تناهى أيضا إلى الجوهر المحمول على جوهر آخر، الذي ينتهي في آخر الأمر إلى الموضوع الأخير. وإن كان أمرا يُحمَل على موضوع مّا بطريق ماهو، وعلى أمر آخر لا بطريق ماهو كانت الحال فيه تلك الحال بعينها إلى أن ينتهي في العمق إلى العرض الذي لا يُحمَل على شيء دونه حَمْل ماهو، بل يُحمَل لا بطريق ماهو. وليس يمكن ذلك أو تكون تلك الموضوعات موضوعات مّا إذا عُقلت يكون معقولها ذلك الأوّل، فيعود الأمر ويصير ذلك محمولا على هذه بطريق ماهو، ولا سبيل إلى ذلك. فإذن لا يمكن أن يكون ذلك موجودا لموضوع يُحمَل أصلا على شيء حَمْل ماهو. فإن كان ذلك الشيء يُحمَل لا من طريق ماهو على شيء مّا، فإنّ ذلك الشيء أيضا تكون حاله هذه في أنّه لا يمكن أن يُحمَل على شيء أصلا بحَمْل ماهو، بل إن كان ولا بدّ يُحمَل لا من طريق ماهو، إلى أن ينتهي عى هذا الترتيب إلى موضوع لا يمكن أن يُحمَل حَمْلا أصلا لا بطريق ماهو ولا حَمْلا لا بطريق ماهو. فينتهي إذن إلى الجوهر على الإطلاق. فيكون ذلك موضوعا أخيرالكلّ ما يُحمَل عليه لا من طريق ماهو ولكلّ ما يُحمَللا من طريق ماهو.  وإذا تأمّلنا المسؤول عنه بحرف " ما " على القصد الأوّل وجدناه الموضوع الأخير الذي وجدناه بالسياق القول بعضه إلى بعض. وذلك أنّا إذا قلنا " ما هذا المرئيّ " و" ما ذاك الذي نراه يتحرّك " و " الذي نراه أسود "، فإنّا نعتقد في كلّ شيء نحسّه فيه أنّه ليس يعرّف ذات المسؤول عنه. ولاأيضا نسأل عنه كما قلنا من جهة ما هو مرئيّ أومن جهة ما هو يتحرّك أو من جهة ما هو أسود، لكن إنّما نسأل على القصد الأوّل عن الشيء الذي ندرك فيه بالبصر هذه الأشياء أو أحدها. وذلك الشيء لا نعتقد فيه أنّه صفة لغيره، و إلاّ لكانت مسألتنا تكون على ذلك الذي هذا صفة له وجعلناه أيضا علامة لذلك الشيء، كما جعلنا الحركة او السواد علامة له. ولا أيضا نعتقد فيه أنّه يُحمَل من طريق ما هو على شيء أصلا. فإن كان هكذا فليس بمحسوس ولا الذي يحسّه بخطر بباله في الذي حسّ به أنّه كذلك. فإذن المسؤول عنه على القصد الأوّل هو الموضوع الأخير الذي أبانه لنا القول المنساق بعضه على إثر بعض.  والقدماء يسمّون الموضوع الأخير وكلّيّاته المحمولة عليه من طريق ما هو " الجوهر " على الإطلاق، وسائر المحمولات على الموضوع الأخير التي تُحمَل عليه لا بطريق ماهو - كانت كلّيّات أو لم تكن كلّيّات - والمحمولات على كلّيّات الموضوع الأخير لا بطريق ماهو " الأعراض "، وذلك إذا حُملتعلى الجواهر، لأنّها تُحمَل عليهالا من طريق ماهو.  فهذه هي الأشياء التي أعطانا وأفادنا تأمّلنا حرف " ما هو " المستعمَل في السؤال في جلّ الأمكنة التي لأجلها زُضع هذا الحرف. وهذا الحرف قد يُستعمَل في الإخبار ويُستعمَل استعارة ويُستعمَل مجازا. وسيُنظَر فيه أيضا في الأمكنة الأخر التي فيها يُستعمَل، وسيُنظَر فيه أيضا عند المقايسة بينه وبين سائر حروف السؤال في الأمكنة التي لأجلها وُضع هذا الحرف.

 الفصل الثامن والعشرون:  

 حرف أيّ  وحرف " أيّ " يُستعمَل أيضا سؤالا يُطلَب به علم ما يتميّز به المسؤول عنه وما ينفرد وينحاز به عمّا يشاركه في أمر مّا. فإنّه إذا فُهم أمر مّا وتُصُوِّر وعُقل بأمر يعمّه هو وغيره، لم يكتف الملتمس تفهُّمَه دون أن يفهمه ويتصوّره ويعقله بما ينحاز به هو وحده دون المشارك له في ذلك الأمر العامّ له ولغيره.  من ذلك أنّنا نستعمل هذا الحرف في السؤال عن ما تصوّرناه بما يدلّ عليه اسمه وبجنسه،والتمسنا بعد ذلك أن نتصوّره ونعقله ونفهمه في أنفسنا بما ينحاز وينفرد ويتميّز به عن كلّ ما يشاركه في ذلك الجنس، وبما إذا عرفناه كنّا عرفنا به ذلك النوع. فنقول في الإنسان مثلا " أيّ حيوان هو " والنخلة " أيّ نبات هي ". وربّما قلنا " أيّ شيء هو " فإنّ " الشيء " يجري في بادئ الرأي مجرى أعمّ الأشياء للمسؤول عنه. والنوع الذي تُصُوِّر بجنسه إمّا أن يُتصوَّر بأقرب أجناسه وإمّا بجنس أبعد من أقرب أجناسه. فإن كان إنّما يُتصوَّر بأقرب أجناسه وقُرن حرف " أيّ " بذلك - مثل أن نقول في الإنسان " أيّ حيوان هو " والنخلة " أيّ شجر هي " - فإنّناإنّما نطلب به ما ينحاز به عن سائر الأنواع القسيمة له. والجواب عنه بأحد شيئين، إمّا بما يميّزه في ذاته وتنحاز به ذاته وبشيء يكون جزء ماهيّته وإمّا بعرض خارج عن ذاته خاصّ به يؤخذ علامة له وينحاز به في المعرفة عمّا يشاركه في جنسه القريب من الأنواع القسيمة. فإنّ الشيء قد يتميّز عن الشيء في ذاته بما هو ذاته أو جزء ذاته أو بشيء به قوام ذاته - مثل تميّز الحرير عن الصوف -، وقد يتميّز ببعض أحواله كتميّز الصوف بعضه عن بعض - مثل أن يكون بعضه أحمر وبعضه أسود وبعضه أصفر. فمتى كان الجواب ما يميّز النوع المسؤول عنه عمّا سواه بشيء هو جزء ماهيّته - مثل أن يكون الجواب عن الإنسان أيّ حيوان هو " إنّه حيوان ناطق " أو " ناطق " والجواب عن النخلة أيّ شجرة هي " إنّها الشجرة التي تُثمر الرطب " - كان الذي أُجيب به حدّه، والذي قُيّد به الجنس وأُردف به هو الفصل، وهو الذي يميّزه بما هو جزء ماهيّته عمّا سواه من الأنواع القسيمة، وكان القول بأسره حدّا. وإن كان الجواب عنه بشيء ليس بجزء ماهيّته وكان خاصّا بالنوع المسؤول عنه - مثل أن يكون الجواب عن الإنسان أيّ حيوان هو " إنّه حيوان يبيع ويشتري " والجواب عن النخلة أيّ شجرة هي " إنّها الشجرة التي تورق الخوص " - كان الذي يُردَف به الجنس هو خاصّة ذلك النوع، وكان القول بأسره رسما لا حدّا، وربّما سُمّي القول بأسره خاصّة.  فقد صار الجواب الذي يجاب به ههنا بعينه الجواب الذي يجاب به في السؤال عن الإنسان بماهو، فيكون الجواب عن الإنسان إذا قيل فيه " أيّ حيوان هو " هو بعينه الجواب عن الإنسان إذا قيل فيه " ما هو ". غير أنّ حرف " ما " إنّما يُطلَب به أن يُعقَل النوع المسؤول عنه في ذاته لا بالإضافة إلى شيء آخر. وأمّا حرف " أيّ " فإنّما يُطلَب به تمييزه عن غيره. فإنّ السائل بحرف " أيّ " متى لم تضع نفسه شيئا آخر غير المسؤول عنه لم يمكنه أن يسأل هذا السؤال . والسائل بحرف " ما " ليس يحتاج إلى أن تضع نفسه شيئا آخر غير المسؤول عنه، ويعقله بالإضافة إلى نفسه وإن لم يكن هناك شيء آخر غيره. ومتى اتّفق أن يكون هناك شيء آخر غيره، فليست مسألته عنه وهو ينظر إلى ذلك الآخر ولا يقيس المسؤول عنه به. ومتى وافق أن يكون الجواب عنه بشيء يميّز المسؤول عنه عمّا سواه، فلم تكن مسألته عنه ولا طِلْبته لذلك الجواب من جهة تمييزه ذلك النوع عن غيره، بل لتعريفه معرفة كاملة فقط. فلذلك صار الجواب عن حرف " ما " هو الجواب عن حرف " أيّ " بالعرض لا بالذات ولا على القصد الأوّل. ومع ذلك فإنّ كلّ موجود فإنّ ماهيّته ليس هو إنّما تحصل له متى كان هناك غيره بل تحصل له وإن لم يكن موجود آخر غيره. وإنّما يُحتاج إلى تمييزه عن غيره متى وافق أن كان هناك غيره. فإذن تميّزه عن غيره هو عارض يعرض له.  فالسؤال بحرف " أيّ " هو سؤال عن ذات نوعٍ عرضَ له أن يتميّز بماهيّته عن سواه. والسؤال بحرف " ما " يُطلَب به ماهيّته بغير هذا العارض، بل لتحصل لنا معرفته وفهمه وتصوّره ملخَّصا بأجزائه اليت بها قوام ذاته بأسرها. فالذي سُمّي من أجزاء الماهيّة " فصلا " ليُدَلّ به على هذا العارض الذي يكون عرض له - وهو أن يكون مميّزا بينه وبين قسيمه المشارك له ولذلك - تابع أيضا، كما عرض لجنسه أن كان عامّا له ولغيره. فإذن إذا أُخذت الطبيعة التي عرض لها أن كانت مشتركة له ولغيره لم يكن بُدٌّ من أن يكون هناك فصل يميّزه في ماهيّته عن غيره المشارك له. فأن تكون هذه الطبيعة فصلا تابعا هي كما كانت الأخرى جنسا، وأن تكون تلك جنسا هي أن يشترك هذا وآخر في ماهيّته، وأن تكون هذه فصلا هي أن يتميّز هذا عن ذلك الآخر في ماهيّته. والمعرفة الكاملة وبالنوع هي بهاتين - أعني بجنسه مقرونا بفصله. فإذن حرف " ما " أحرى أن تُلتمَس به ماهيّته من حيث أجزاء ماهيّته أمور قائمة وطبائع. وحرف " أيّ " أحرى أن تُلتمَس به ماهيّته من حيث عرض لتلك لطبيعة أن كانت مشتركة. وهذه إن كانت مميّزة فإنّ تلك لو لم تكن مشتركة لم تكن هذه مميّزة. وحرف " ما " وإن كان قد يجاب عنه بما كان مشتركا للمسؤول عنه ولغيره فليس يُطلَب به على القصد الأوّل ما هو مشترك للمسؤول عنه ولغيره، بل إنّما أُلتُمس أن يُعرَف ما به قوام ذات ذلك الشيء وما به تُعقَل ذات ذلك النوع، فوافق أن كان ذلك الأمر الذي سبيله أن يجاب عنه أمرامشتركا للمسؤول عنه ولغيره، ولم يكن الطلب له من حيث هو مشترك. فلأ نه كان مشتركا احتيج إلى السؤال عن ذلك الشيء بعينه بحرف " أيّ " ليُزال الاشتراك و المشترك وليكمل العلم إذا علمنا الفصل الذي يميّزه عن المشارك له وقُيّد به الجنس. فحرف " ما " لم يُلتمَس به أخذ الأمر الذي وافق أن كان جنسا من حيث عرض له أن كان جنسا، بل كان ذلك على القصد الثاني. وحرف " أيّ " التُمس به على القضد الأوّل أن يؤخذ الأمر الذي عرض له أن كان مميَّزا من حيث له هذا العارض. ولذلك صار الجواب عن حرف " ما " ليس يكون بما هو خارج عن ذات الشيء.  وقد يُظَنّ ببادئ الرأي وبما هو مشهور أنّ الجنس هو الذي يعرّف ما هو النوع المسؤول عنه؛ وأمّا الفصل فإنّما يُحتاج إليه ليتميّز وليكون علامة لجوهر ذلك النوع تُميّزُه عن قسيمه، وأنّه ليس هو جزء ماهيّة النوع. على مثال ما يمكن أن يُظَنّ أنّ المادّة وهيولى الجسم كافية في أن يحصل الجسم به جوهرا، فإنّه إنّما هو جوهر بمادّته لا بصورته، وأنّ ماهيّته وذاته بما هو جسم أو بما هو نوع من أنواع الجسم إنّما هو بمادّته فقط، وصورته فإنّما يستفيد بها أن يميَّز بها عن غيره من التي تشاركه في مادّته. وكذلك يُظَنّ بالجنس أنّه هو الدالّ على ماهو النوع المسؤول عنه دون الفصل. فلذلك لا يُكاد يميَّز بين الرسم والحدّ. ولذلك صار لا يجاب بالفصل وحده في سؤال " ما هو " النوع المسؤول عنه بل يجاب به مقرونا بالجنس، ويجاب بالجنس وحده دون الفصل في سؤالنا عن النوع " ما هو ". وأمّا إذا تُعُقِّب يتبيّن أنّ الفصل أ كمل تعريفا بماهو النوع المسؤول عنه من الجنس، وأنّه لا بدّ من كليهما. وكلّ واحد منهما يجاب به في جواب " ما هو " النوع المسؤول عنه، إلاّ أنّ الفصل يقيَّد به الجنس. وإذا أُخذامن حيث هما طبيعتان وأُقرنا صار مجموعهما ماهو النوع المسؤول عنه، من حيث أنّ النوع أيضا طبيعة وأمر مّا معقول. وحينئذ يخيَّل أنّ الحدَّ المأخوذ منهما من حيث هما طبيعتان قائمتان معقولتان من غير أن يعرض لكلّ واحد منهما عارض يصير به ذاك جنسا وهذا فصل.فإذا تُعُقِّب تبيّن أنّ هذا حدّ الشيء بحسب المنطق وذلك حدّه بحسب الموجود، وكلاهما يؤولان في آخر الأمر إلى أن يكون الإنسان قد حصل له الموجود معقولا.  وإذا كان حرف " أيّ " عند السؤال عن النوع مقرونا بجنسه الأبعد - مثل أن يقال في الإنسان " أيّ جسم هو " أو يقال في النخلة " أيّ نبات هي " - كان الجواب عنه بفصل إذا أُردف بالجنس المقرون به حرف " أيّ " حدّا لذلك الجنس أقرب من ذلك الجنس إلى المسؤول عنه بحرف " أيّ " . فيقال مثلا في الإنسان " إنّه جسم متغذّ " ويقال في النخلة " إنّها نبات ذو ساق ". فيكون كلّ واحد من هذين وأشباههما حدّا بجنس مّا أقرب إلى المسؤول عنه من الجنس الأوّل. فيكون جوابه " نبات ذو ساق " حدّا للشجرة. و " الجسم المتغذّي " حدّ أيضا بجنس، إلاّ أنّه اتّفق أن لم يكن لهذا الجنس اسم مفرد فيؤخذ حدّه يحدّه مكان اسمه. وقد يكون الجواب عنه بجنس له أقرب من جنسه المقرون به حرف " أيّ " مدلول عليه باسم مفرد - إن كان له اسم - أو بحدّه - إن لم يكن له اسم. فيقال مثلا عند سؤالنا عن النخلة أي نبات هي " إنّها شجرة ". فيبقى في مثل هذا الجواب أيضا موضع سؤال عنه ب"أيّ "، بأن يقال مثلا " أيّ شجرة هي "، إلى أن يؤتى بفصل إذا قُرن بأقرب جنس له حصل منه حدّ النخلة وغيرها من الأنواع المسؤول عنها. فإن كان الجنس الذي أُجيب به ليس له اسم واستُعمل حدّه مكان اسمه، عُمل فيه ذلك العمل الذي كان يُعمَل به إذاكان له اسم ويعبَّر عنه باسمه. فإنّه إذا أُجيب في سؤالنا عن الإنسان أيّ جسم هو بأنّه " جسم متغذّ " قيل فيه " أيّ متغذّ هو " أو " أيّ جسم متغذّ هو " فيجاب " إنّه جسم متغذّ حسّاس " فيكون قد حصل حدّ الحيوان، وهذا الجنس له اسم. فإن أراد السائل بعد ذلك أن يسأل أيضا فله أن يقرن حرف " أيّ " باسم الحيوان فيقول " أيّ حيوان هو من الحيوان بأسره " - إذ كان الفصل الأخير إذا وُضع لزم عنه وجود الجنس الذي يقيَّد به الفصل الأخير - فيجاب " أنّه ناطق" أو " حيوان ناطق " أو " حسّاس ناطق " أو " إنّه جسم متغذّ حسّاس ناطق ". ألا ترى أنّه قد أُخذ في جواب " أيّ " ههنا شيئان، أحدهما يمكن أن يقيَّد به الجنس المقرون بحرف " أيّ " وهو الفصل - مثل المتغذّي والحسّاس - والثاني ليس يمكن أن يُقرَن به الجنس المقرون به حرف " أيّ ". فقد تبيّن أنّ جنس النوع المسؤول عنه قد يؤخذ في التمييز بينه وبين المشترك لذلك النوع من الجنس المقرون به حرف " أيّ "، وهو بعينه قد كان يؤخذ في الجواب عن " ما هو " الإنسان. غير أنّه إنّما كان يؤخذ في جواب " ما هو " ذلك النوع لا من حيث هو مميّز له بل من حيث هو معرّف له في ذاته من غير أن يحصل ببال السائل هل هناك شيء آخر مشارك له في جنس له آخر أعلى منه، بل عسى أن لا يكون ولا يُعرَف له جنس أعلى منه، ولكن وافق بالعرض أن صار ما يُسأل عنه بحرف " ما " ويجاب به في سؤال " ما " أن يُسأل عنه بحرف " أي " ويجاب به في سؤال " أيّ " على مثال ما قلناه فيما تقدّم. وقد يجاب عنه أيضا برسم النوع المسؤول، فيقوم مقام حدّه في التمييز.  وقد يُقرَن باسم معلوم أنّه دالّ على نوع تحت جنس مّا، ولا يُعرَف ذلك النوع نفسه بما هو نوع، ويُعرَف بجنسه أو أنّه شيء مّا - مثل الفيل مثلا، فيقال " الفيل أيّ حيوان هو " -، فيكون الجواب عنه إمّا باسملا يدلّ عليه عند السائل غيرَ هذا الاسم أو بحدّه أو برسمه، فيكون أيضا ملتمَس به أن يميَّز عنه عمّا يشاركه في الجنس الذي له.  وقد يُقرَن بمحسوس فيقال " هذا الذي نراه أيّ شيء هو ". فنُجيب عنه بجنسه البعيد أو القريب أو بنوعه أو بحدّ جنسه أو بحدّ نوعه أو برسم جنسه أو برسم نوعه. فإنّا نقول " إنّه حيوان " أو أنّه جسم متغذّ حسّاس ". وقد نقول فيه " إنّه الإنسان "و " إنّه الحيوان الناطق "، و " إنّه الحيوان الذي يبيع ويشتري " و " إنّه الجسم الذي يأ كل ويشرب "، فيكون هذا رسم جنسه ويكون ذلك رسم نوعه. أو نقول فيه " إنّه شيء جسمانيّ "، ثمّ نأتي بالفصول التي تنفصل بها أنواع الأشياء الجسمانيّة إلى أن تجتمع لنا من ذلك ما هو حدّ للنوع المحسوس أو ما هو رسم له. فإنّ لفظة الشيء تقوم في بادئ الرأي مقام جنس يعمّ الموجودات كلّها ممّا اتّفق في هذه الأشياء التي أُخذت أجوبة عن المحسوس المسؤول عنه " أيّ شيء هو " وممّا يليق أن يجاب به في جواب " ما هو هذا الشخص المرئيّ ". فالمعنى به يدخل في جواب السؤالين من جهتين مختلفتين على ما قلنا أوّلا.  وقد نقول في هذا المرئيّ " أيّ حيوان هو " و " أيّ جسم هو "، فيكون الجواب عنه مثل الجواب عنه لو قيل " أيّ شيء هو ". إلاّ أنّه أن أُخذ في الجواب عنه جنس له فينبغي أن يكون ذلك جنسا أقرب إليه من الجنس الذي قُرن به حرف " أيّ ". أو يجاب عنه بحدّ ذلك الجنس أو برسمه. أو يُجاب عنه بنوعه أو بحدّ نوعه أو برسم نوعه. أو تؤخذ فصول أو أعراض يقيَّد بها جنسه الذي قُرن به حرف " أيّ ". ولا نزال نؤلّف بعضه إلى بعض ونقيّد الأعمّ بالأخصّ إلى أن يجتمع من جملة ذلك ما يكون حدّ النوع.  وقد نقول أيضا " الحيوان الذي يكون باليمن أيّ حيوان هو " و " النبات الذي يكون بمصر أيّ نبات هو "، فيكون الجواب عنه بنوع ذلك النبات أو الحيوان، وبالنوع من الحيوان الذي يكون باليمن وبالنوع من النبات الذي يكون بمصر، أو بحدّ ذلك النوع، أو بحدّ رسمه، وهذا هو شبيه بما تقدّم، فإنّ معنى ما تقدّم " هذا الحيوان الذي نراه أيّ حيوان هو ".  وقد نقول " أيّ شيء حالك "، " أيّ شيء خبرك "، " أيّ شيء مالك "، و " في أيّ حال أنت " و " في أيّ بلد زيد " و " الشمس في أيّ برج هو "، و " ما ذاك البلد الذي فيه زيد " و " ما ذاك البرج الذي فيه الشمس "، فيكون الجواب عنه ههنا هو الجواب عنه هناك. ألا ترى أنّ قولنا " أيّ شيء خبرك " معناه " خبرك، أيّ شيء هو " أو " خبرك، أيّ خبر هو "، و " حالك، أيّ حال هو " و " مالُك، أيّ مال هو " و " البرج الذي فيه الشمس، أيّ برج هو "، على مثال ما نقول " الحيوان الذي في بلد كذا، أيّ حيوان هو "، و " المال الذي لك، أيّ مال هو " وكذلك " الخبر الذي لك، أيّ خبر هو ". فإنّما تُسأل عمّا يتميّز به النوع الذي لك من الأخبار عن الذي ليس لك منها، والنوع الذي لك من الحال عمّا ليس لك منه، والنوع الذي لك من المال عمّا ليس لك منه، والنوع الذي لك من أنواع الخبر عمّا ليس لك منه؛ ونوع أو شخص البلد الذي فيه زيد، ونوع البرج الذي فيه الشمس، " أيّ نوع هو ". فالجواب عنه إمّا بنوع ما قُرن به حرف " أيّ " وإمّا بحدّ ذلك النوع وإمّا برسمه. وما كان من هذه الأجوبة يليق أن يجاب به في جواب حرف " ما " من هذه بأعيانها فهو بالجهتين اللتين قلنا.  وقد نقول " زيد أيّما هو من بين هؤلاء " وتكون أنت تُشير إلى جماعة يجمعهم شيء مّا من مكان أو زمان أو حال أخرى. وإنّما يكون الجواب بشيء يتميّز به زيد المسؤول عنه عن أولئك الجماعة المشار إليهمفي ذلك الوقت خاصّة. وليس يمكن أن يُجعَل الجواب عنه شيء يمكن أن يجاب به في جواب " ما هو " المسؤول، لا بنوعه ولا بجنسه ولا بحدّ نوعه، بل بعرض معلوم في زيد عند مَن يسأل عنه، خاصٍّ به في ذلك الوقت دون باقي الجماعة. مثل أن نقول " هو ذاك الذي يناظر " أو غير ذلك من الأحوال والأعراض التي نصادفها في زيد خاصّة دون الجماعة في ذلك الوقت. وأمثال هذه الأعراض إذا استُعملت علامات يتميّز بها المسؤول عنه عن شيء مّا آخر فقط وفي وقت مّا فقط تسمّى " خواصّ " بالإضافة إلى ذلك الشيء وإلى ذلك الوقت.  ويلحق كلّ ما نسأل عنه بحرف " أيّ " أن نكون قد عرفناه بشيء يعمّه وغيره، ونلتمس أن نعرفه مع ذلك بما يخصّه ويميّزه عن غيره المشارك له في الشيء العامّ الذي عرفناه به. ونرى عند سؤالنا عن الشيء بحرف " أيّ " أنّ المعرفة الناقصة هي معرفتنا له بما يعمّه وغيره وبما يتميّز به عن غيره، والتي هي أ كمل أن نعرفه بما يخصّه دون غيره وبما يتميّز به عن غيره. فإنّ تقييدنا الجنس بالفصل ليس يُبقي الجنس مشتركا له ولغيره بل يجعلهخاصّا به، وإنّما يصيّره خاصّا به من حيث هو مقيَّد به. وأمّا عند سؤالنا بحرف " ما هو الشيء " فإنّا نرى أنّ المعرفة الناقصة هي أن نكون عرفنا المسؤول عنه بما هو خارج عن ذاته من الأعراض، ونلتمس معرفته بما هو ذاتُه أو بجزء ذاته، أو نكون عرفناهبأعمّ ما تُعرّفنا ذاتُه معرفة مجمَلة وبأبعد ما به قوام ذاته وبأبعد ما به قوامه، ونطلب معرفة ذاته بأخصّ ما تُعرّفنا ذاتُه وبأقرب ما هو ذاتُه، أو نكون عرفنا ذاته معرفة مجمَلة ونطلب منه ذاته ملخَّصة بأجزائه التي بها قوام ذاته.  وقد يُستعمَل حرف " أيّ " سؤالا في أمكنة خارجة عن هذه التي أحصيناه. وهو أن يُستعمَل سؤالا يُلتمَس به أن يُعلَم على التحصيل واحد من عِدّة محدود معلومةعلى غير التحصيل، كانت العِدّة اثنين أو أ كثر - مثل قولنا " أيّ الأمرين نختار، هذا أو هذا "، " أيّ هذه الثلاثة نختار "، " أيّ الرجلين خير، زيد أو عمر "، " أيّ الأمور آثر، اليسار أو العلم أو الرئاسة "، " العالَم أيّ هذين هو، كريّ أم غير كرىّ "، " زيد أيّ الرجلين يوجد، صالحا أو طالحا "، " الشمس في أيّ البروج الاثنين "، " عمرو - أو زيد - في أيّ البلدين هو. الشام أو العراق ". فإنّ هذه كلّها يكون السائل قد علم الواحد على غير التحصيل من كلّ عِدّة، وهو بهذه الحال على التحصيل. فإنّ ما تشتمل عليه العِدّة إذا أُقرن بكلّ واحد منها حرف إمّا دلّ على أنّ واحدا منها معلوم على غير التحصيل. فما يدلّ عليه حرف إمّا عند الخبر عنه هو الذي إذا قُرن به حرف " أيّ " كان سؤالا يُطلَب به أن يُعلَم على التحصيل ذاك الذي يدلّ عليه قبل ذلك الحرف إمّا أنّه معيَّن على غير التحصيل. فإنّه قد عُلم أنّ الشمس من البروج هي في واحد منها على غير التحصيل، والتُمس أن يُعلَم ذلك الواحد منها على التحصيل. ويكون الإنسان قد علم أنّ زيدا في واحد من هذين الموضوعين المعروفين عنده على غير التحصيل، فطلب بحرف " أيّ " أن يعلم ذلك الواحد منهماعلى التحصيل. وكذلك قد علم أنّ العالَم يوجد له أحد هذين الحالتين - إمّا كريّ وإمّا غير كريّ - على غير التحصيل، والتمس بحرف " أيّ " أن يعلم على التحصيل الواحد الذي يوجد له.  وليس يصحّ السؤال ههنا إلاّ على عِدّة محدودة، فإذا سقطت العِدّة يرجع السؤال إلى بعض ما تقدّم ممّا عُلم بجنسه وجُهل بنوع الذي هذا جنسه. مثل أنّا لو قلنا - مكان قولنا " العالَم أيّ هذين هو، كريّ أم غير كريّ " - " شكل العالَم أيّ شكل هو " ومثل أنّ لو قلنا - مكان قولنا " زيد أيّ هذين هو، صالح أو طالح " - " سيرة زيد أيّ سيرة هي " أو قلنا - مكان " أيّ الأمور الثلاثة آثر، اليسار أو العلم أو الكرامة " - " والأمر الآثر أيّ أمر هو "، لكان الجواب بما تميّز به المسؤول عنه عن غيره على مثال الجواب عن السؤال عن " هذا المحسوس أيّ حيوان هو " أو عن قولنا " الحيوان الذي باليمن أيّ حيوان هو " و " مال فلان أيّ مال هو " و " حال فلان أيّ حال هي "، وكان الجواب عن هذه كلّها إمّا بنوع ما نسأل عنه أو بحدّ ذلك النوع أو برسمه. وبكلّ هذا فإنّه يتميّز ما عنه نسأل عمّا سواه من المشارك له في الجنس الذي عنه نسأل. وجملة ما يُطلَب بحرف " أيّ " ذلك الأخير إذااستُعمل سؤالا عن شيء عُلم بما يشارك فيه غيره شيئان. أحدهما أنّ حرف " أيّ " يُطلَب به فيما عُلم بما يعمّه ويعمّ غيره أن يُعلَم بما ينحاز به وحده عن غيره. والثاني أنّ حرف " أيّ " يُطلَب به علامة خاصّة في المسؤول عنه يتميّز بها عن شيء مّا آخر فقط وفي وقت مّا فقط .  أمّا ههنا فيُستعمَل حرف " أي " سؤالا فيُطلَب في واحد من عِدّة محدودة عُلم انحيازه على غير تحصيل له أن يُعلَم انحيازه بذلك على تحصيل له. وإنّما يكون ذلك في واحد من عِدّة محدودة يُقرَن بكلّ واحد منها حرف إمّا. فإنّ حرف إمّا يميّز في عِدّة محدودة واحدا عن واحد على غير تحصيل له وتعيين، وحرف " أيّ " يُطلَب به أن يميّز في عِدّة محدودة واحدا عن واحد بتحصيل وتعيين. وإنّما يكون الواحد من عِدّة محدودة منحازا بشيء مّا على غير تعيين وتحصيل ومدلولا عليع بحرف إمّا ثمّ يُطلَب انحيازه بذلك الشيء على تعيين وتحصيل، في الأمور الممكنة. وذلك إمّا في التي هي ممكنة في وجودها وإمّا في التي هي ممكنة عندنا وفي علمنا بها. والتي هي ممكنة في وجودها هي أيضا ممكنة عندنا وفي علمنا بها. والتي هي ممكنة عندنا وفي علمنا بها قد تكون ضروريّة في وجودها، وما هو من هذه غير محصَّل عندنا فهو في وجوده محصَّل، غير أنّا نجهل نحن التحصيل منها. والممكنة في وجودها هي كثيرة من الطبيعيّات وجميع الأمور الإراديّة. فقولنا " أيّ هذين شِئْتَ " و " أيّ هذين اخْترت فافْعَلْ " إنّما هو طلب تحصيل ما هو غير محصَّل وجوده لأجل أنّه ممكن في وجوده. وقولنا " العالَم أيّ هذين هو، كريّ أم غير كريّ " هو طلب تحصيل ما هو غير محصَّل عندنا وهو في وجوده خارجعن أذهاننا يحصل على أنّه كريّ لا غير أو على أنّه غير كريّ، فإنّه في وجوده ضروريّ، وإنّما نجهل ما هو عليه ذاته. وجملة السؤال ب " أيّ " في هذه الأشياء ثلاثة. أحدها " أيّ هذين المحمولين يوجد لهذا موضوع " أو " هذا الموضوع يوجد له أيّ هذين المحمولين ". والثاني " أيّ هذين الموضوعين يوجد له هذا المحمول " أو " هذا المحمول يوجد لأيّ هذين الموضوعين ". والثالث " أيّ هذين الموضوعين يوجد له أيّ هذين المحمولين " أو " أيّ هذين المحمولين يوجد لأيّ هذين الموضوعين ". وهذه هي المطلوبات المركَّبة التي يقول أرسطوطاليس فيها إنّها تُجعَل في عِدّة، وهي بأعيانها أيضا يُسأل عنها بحرف " هل ". فالصنف الأوّل هو الذي يقال فيه " هل هذا المحمول يوجد في هذا الموضوع أم هذا المحمولُ الآخرُ " أو " هل هذا الموضوع يوجد فيه هذا المحمول أو المحمول الآخر "، والثاني هو الذي يقال فيه " هل هذا الموضوع يوجد فيه هذا المحمول أو هذا الموضوع الآخر "، والثالث " هل هذا المحمول يوجد في هذا الموضوع وذاك المحمول في ذاك الموضوع أو هذا المحمول يوجد في ذاك الموضوع وذاك المحمول يوجد في هذا الموضوع ".  وكذلك يُستعمَل حرف " أيّ " في المطلوبات التي تكون بالمقايسة، وهي التي يُطلَب فيها فَضْل أحد الأمرين على الآخر، ويُستعمَل فيها حرف " هل ". وهي ثلاثة. أحدها " أيّ هذين المحمولين يوجد أ كثر في هذا الموضوع " و " هل هذا المحمول يوجد أ كثر في هذا الموضوع أم المحمولُ الآخرُ ". والثاني " أيّ هذين الموضوعين يوجد له هذا المحمول أ كثر " و " هل هذا الموضوع يوجد له هذا المحمول أ كثر أم هذا الموضوع " و " هل هذا المحمول يوجد في هذا الموضوع أ كثر أم في هذا الموضوع ". والثالث " أيّ هذين المحمولين يوجد أ كثر لأيّ هذين الموضوعين " و " هل هذا المحمول يوجد لهذا الموضوع أ كثر أم هذا المحمول لهذا الموضوع ".

الفصل التاسع والعشرون:  

 حرف كيف  وعلى هذا المثال ننظر في حرف " كيف "، فنأخذ الأمكنة التي يُستعمَل فيها هذا الحرف سؤالا ونتأمّل أيّ أمر هي وماذا يُطلَب به في موضع موضع من المواضع التي يُستعمَل فيها هذا الحرف سؤالا.  منها أنّا قد نقرنه بشيء مفرد وما يجري مجرى المفرد من المركَّبات التي تركيبها تركيب اشتراط وتقييد. فنقول " كيف فلان في جسمه " فيقال لنا " صحيح " أو " مريض " و " قويّ " أو " ضعيف "، ونقول " كيف هو في سيرته " فيقال " جيّد " أو " رديء "، و " كيف هو في خُلقه " فيقال " ذَعِر " أو " وادع "، و " كيف هو في صناعته " فيقال " حاذق " أو " غير حاذق "، و " كيف هو فيما يعانيه في حياته " فيقال لنا " " هو عَطِل " أو " ذو صناعة ". فيكون المطلوب بحرف " كيف " في هذه الأمكنة كلّها أموراخارجة عن ماهيّة المسؤول عنه بحرف " كيف " والتي يجاب بها فيها كذلك أيضا.  ونقول " كيف بنى الحائط " و " كيف أشاده " و " كيف صاغ الخاتم " و " كيف نسج الديباج "، ونقول أيضا " كيف نسْج فلان الديباج " و " كيف صياغة زيد الخاتم "، فنقرنه بجزئيّات تلك، فيكون الجواب عن هذه الجزئيّات المقرون بها حرف " كيف " على حسب ما في بادئ الرأي المشهور. وأوّل هذه عند السامع وما كان على حسب أشهر ما عنده أن يقول " جيّد " أو " رديء " أو يقول " سريع " أو " بطيء ". وأمّا إذا قُرن بنوع صياغة الخاتم وبنوع نساجة الديباج وبنوع بناء الحائط فإنّ الجواب عنه بحسب الأسبق إلى ذهن السامع وبحسب بادئ الرأي عند الجميع هو أن توصف للسائل الأجزاء التي بها تلتئم صيغة ذلك الشيء وتركيب تلك الأجزاء شيئا شيئا وترتيبها واحدابعد الآخر، إلى أن يؤتى على جميع ما يحصل به ذلك الشيء بالفعل مفروغا منه. فهذا الجواب أسبق إلى لسان المجيب من أن يقول - عندما يُسأل " كيف يُبنى الحائط " أو " كيف يُنسج الديباج " - " سريعا " أو " بطيئا "، " جيّدا " أو " رديّا ". وأمّا في الجزئيّات إذا سُئل " كيف ينسج فلان الديباج " أو " كيف يبني هذا البنّاء الحائط " فالأسبق إلى لسانه أن يقول " جيّد " أو " رديء "، " سريع " أو " بطيء "، دون أن يقتصّ أجزاءه و دون أن يصف ترتيب أجزاء عمله وصيغته. وأمّا إذا كان المسؤول عنه نوع البناء والنساجة فإنّ الذي يليق في بادئ الرأي المشهور عند الجميع أن يجاب به، أن توصف وتُقتَصّ الأجزاء التي منها يلتئم الديباج، ويوصف تركيبها وترتيب شيء شيء منها على إثر شيء شيء، وما تُستعمَل من الآلات في تقريب شيء شيء منها إلى شيء شيء أو تبعيد شيء شيء عن شيء شيء، إلى أن يحصل الجسم المصوغ مفروغا منه. وهذا ليس شيئا إلاّ اقتصاص ما به قوام ذلك المصوغ شيئا شيئا والإخبار عن انضمام شيء منه إلى شيء، إلى أن يحصل المصوغ. فما هذا الذي أقتُصّ وأُخبر به إلاّ ماهيّة تكوّنه ثمّ ماهيّته هو.  ولمّا كانت ماهيّة كثير من الأجسام المصوغة هو تركيب أجزائها وترتيبها فقط، وماهيّة كثير منها تربيعها وتدويرها، وبالجملة أن تحصل بشكل مّا في مادّة يليق بها أن يصدر عن ذلك الشكل الفعل أو المنفعة المطلوبة بذلك الجسم الذي ماهيّته بذلك الشكل - مثل ماهيّة السيف، فإنّهاشكله وأنّه من حديد، فإنّه لو كان من شمع لما حصل عنه الفعل المطلوب به، فماهيّته إذن شكله في مادّة مّا محصَّلة معاونة للشكل في الفعل الكائن عن ذلك الجسم، وكذلك السرير والباب والثوب وغير ذلك من الأجسام المصوغة - صار هذا الحرف كلّما قُرن بنوع صيغة ذلك الجسم - وقد تكون مادّته وقد تكون صيغة مّا في مادّته - الملائمة له مثل تركيب أو ترتيب أو شكل مّا من الأشكال، فإنّ الأسبق إلى لسان المجيب عند هذا السؤال أن يقتصّ ترتيب تلك الأجزاء أو الموادّ إلى أن يحصل شكله الذي هو خاصّ به، لا أن يقتصر على أجزائه ومادّته، بل يكون غرضه اقتصاص ما به يلتئم شكلهأو ترتيبه الذي هو صيغته وبه يحصل بالفعل. فإذن إنّما يُجيب عند القصد الأوّل بما يلتئم به ذلك الجسم وتلك صيغته، إلاّ أنّ صيغته تلك - ترتيبا كانت أو شكلا من الأشكال - ليس يمكن أن تكون ماهيّة ذلك الجسم دون أن تكون في مادّته ملائمة محدودة. فلذك احتاج أن يقتصّ أمر مادّته ليحصل من ذلك علم ماهيّته التي هي صيغته، وصيغته هي ترتيب أو تركيب أو شكل مّا من الأشكال. فإذا كان كذلك فإنّما يكون السؤال بحرف " كيف " على القصد الأوّل عن ماهيّة الشيء التي هي فيع كالصيغة والهيئة، لا التي هي كالمادّة. والمادّة يجاب بها على القصد الثاني وعلى أنّه كالآلة والمعرّف للهيئة والمعين على وجودها وعلى الفعل الكائن عنها.  ثمّ ليس هذا إنّما يُستعمَل فقط في السؤال عن الأجسام الصناعيّة لكن في كثير من الطبيعيّات، كقولنا " كيف انكساف القمر " و " كيف ينكسف القمر "، فليس يكون الجواب عن ذلك أنّه " سريع " أو " بطيء "، أو " قليل " أو " كثير "، أو أنّه " أسود " أو أنّه " أغبر "، بل الجواب الأسبق إلى لسان المجيب وذهنه أن يقول ما عنده ممّا به يلتئم الكسوف - مثل أنه " ينقلب وجهه الآخر الذي لا ضوء فيه " ومثل أنّه " يدخل في طريقه إلى وادٍ في السماء غابر " أو أنّه " يُربَق إلى مكان في السماء مظلم " أو " يقوم الشيطان في وجهه " أو أنه يُحجَب بالأرض عن الشمس فلا يقع عليه ضوؤها ". فأيّ شيء ما أُخذ في الجواب فهو ماهيّة انكسافه عند الذي يُجيب.  وكذلك إذا كان السؤال بحرف " كيف " عن نوع نوع - مثل ما لو سألنا فقلنا " الجمل كيف هو " و " الزرافة كيف هي " - لكان الذي يليق أن يجاب به أن توصف لنا أجزاؤه التي بها التئامه وترتيب تلك الأجزاء أو أشكالها إلى أن تجتمع لنا من تلك الجملة ذلك الجسم بالفعل. وليس ذلك شيئا غير خِلْقته. وما ذلك في المشهور عند الجمهور سوى ماهيّته. فإنّهم إنّما يرون أنّ ماهيّات الأجسام والحيوانات كلّها خِلَق في كلّ واحد منها. فإنّ الصِيَغ والخِلَق اليت هي ماهيّة نوع نوع هي التي عنها نسأل بحرف " كيف " في نوع نوع. وأمّا في أشخاص نوع نوع من هذه فإنّ التي إيّاها نطلب بحرف " كيف " فيها أشياء أخر خارجة عن ماهيّاتها. فلذلك قال أرسطوطاليس في كتاب " المقولات ": " وأُسمّي باكيفيّة تلك التي بها يقال في الأشخاص كيف هي ". إذ كان ليس قصده هناك أن يُحصي الكيفيّات التي هي ماهيّات الأنواع، وهي التي بها يقال في نوع نوع " كيف هو ".  والماهيّة التي هي صِيَغ وخِلَق فهي التي بها شعائر الأنواع، وهي الأسبق إلى المعارف أوّلا، وبها تتميّز الأنواع عندنا بعضها عن بعض. والماهيّة التي هي صيغة فينبغي أن تؤخذ على ما عند إنسان إنسان من الجهة التي صحّ بها عنده أنّها ماهيّته. فإنّ الذي هو عند إنسان مّا ماهيّة شيء قد يمكن أن يكون عند كلّ إنسان جنسا. فإنّ كلّ إنسان إذا أجاب عن أمثال هذا السؤال بشيء فإنّما يُجيب بالذي هو عنده ماهيّة ذلك الشيء الذي عنه يُسأل. وليس كلّ ما يعتقد فيه أنّه ماهيّته هو ماهيّته، بل ماهيّته التي هو بها بالفعل. والتي ماهيّات نوع نوع ليست هي التي عنها يُسأل بحرف " كيف" في شخص شخص. وهذه كلّها تسمّى كيفيّات. وتلك الكيفيّات ذاتيّة، وهذه كيفيّات غير ذاتيّة.  والمطلوب بحرف " كيف " في الذاتيّة والمطلوب فيه بحرف " ما " والمطلوب فيه بحرف " أيّ " يكون شيئا واحدا بعينه. فإنّ قولنا " كيف انكساف القمر " و " ما هو انكساف القمر " و " أيّ شيء هو انكساف القمر " يُطلَب بها كلّها شيء واحد. فإنّ الجواب عن " كيف انكساف القمر " هو أنّه " يحتجب بالأرض عن الشمس "، والجواب عن " أيّ شيء هو انكساف القمر " هو هذا بعينه، و كذلك الجواب عن " ما هو انكساف القمر ". غير أنّه من حيث يجاب به في جواب " أيّ شيء هو " إنّما يؤخذ مميَّزا بينه وبين غيره في ما به وجوده وقوامه. ومن حيث هو في جواب " كيف هو " إنّما تؤخذ ماهيّته التي هي صيغته بالإضافة إلى ذاته لا من حيث هو مميّز له عن غيره، على مثال ما عليه الأمر في الطلوب بحرف " ما ". وأمّا حرف " ما " فإنّ المطلوب به ماهيّته التي هي جنسه، كانت تلك من جهة مادّته أو من جهة صورته أو منهما. فلذلك صار يليق عند السؤال بحرف " ما " أن يجاب بجنس ذلك النوع المطلوب بما هو، ولا يليق أن يجاب بجنسه إذا قيل فيه " كيف هو ". ويفارقان حرف " ما " فيما عدا هذه فإنّ الذي يُسأل عنه بحرف كيف في شخص شخص قد يليق أن يُطلب بحرف " أيّ " ويليق أن يجاب به في جواب " أيّ " - مثل أن نقول " زيد أيّما هو " فيقال " هو ذاك المصفَرّ "، ويقال " كيف زيد في لونه " فيقال " هو مصفَرّ " - غير أنّ الجواب بهذا الشيء الواحد في السؤالين ليس بجهة واحدة بل إنّما يؤخذ في جواب " أيّ شيء " من حيث أُخذ مميَّزا بينه وبين غيره، ويجاب به في جواب " كيف " ليُعرَف به حال في نفسه لا بالإضافة إلى آخر غيره. ثمّ إنّ الجواب عن السؤال في شخص شخص بحرف " أيّ " قد يكون بأيّ شيء ما اتّفق ممّا يمكن أن يميّز بين المسؤل عنه وبين غيره. فإنّا إذا قلنا " أيّما هو زيد " فقد بُقال لنا " هو ذاك الذي يتكلّم " أو " ذاك الذي عن يمينك " أو " ذاك الطويل " أو " ذاك الذي كان يناظر منذ ساعة ". وليس شيء من هذه يجاب به عن سؤالنا " كيف زيد ". والتي يجاب بها في السؤال عن شخص شخص " كيف هو " هي الكيفيّات التي أحصاها أرسطوطاليس في كتاب " المقولات " وجعلها أربعة أجناس.  وقد نقول " كيف وجود هذا المحمول في هذا الموضوع " نعني به أسالب هو أم موجب، وهو يشارك في هذا الحرف " هل ". ونعني به أيضا هل وجوده له وثيق غير مفارق في بعض الأوقات، فإنّ جهات القضايا قد يقال إنّها كيفيّات وجود محمولها لموضوعاتها. وقد نقول " كيف صارت السماء كريّة " و " كيف رأيتَ واعتقدتَ وقلتَ إنّ السماء كريّة "، نطلب به الأشياء التي إذا أُلّفت حصل بها أنّالسماء كريّة أو صحّ بها اعتقادنا أنّها كريّة. وهو شبيه بقولنا " كيف ينمو النامي " و " كيف يُبنى الحائط "، فإنّه كما يجاب في تلك باقتصاص الأشياء التي إذا رُتّبت وأُلّفت التأم منها الحائط والنبات، أو البناء والنامي، كذلك يجاب ههنا بأن تُذكَر وتُقتَصّ الأشياء التي إذا رُتّبت وأُلّفت التأم عنها بأن يصحّ ويُعتقَد أنّها كريّة أو يقال إنّها كريّة، وذلك أن يُذكَر القياس أو البرهان الذي عنه يلزم ويصحّ أنّ السماء كريّة، وهو أيضا ماهيّة القياس التي بها يُلتمَس صواب الاعتقاد أنّ السماء كريّة، وهو طلب السبب في أن صارت السماء كريّة وطلب الذي به صحّ عنده أو الذي به علم أنّها كريّة. والسبب الذي به يصحّ ويُعلَم ذلك هو القياس والبرهان. ويفارق سؤال " هل " أنّ هذا السؤال - وهو سؤال " كيف صارت السماء كريّة " - إنّما هو السؤال عمّا علم السائل أنّه قد استقر عند المسؤول أو تحصّل من أنّ السماء كريّة. وسؤال " هل " إنّما يكون فيما لم يعلم السائل أنّه استقرّ عند المسؤول أحد النقيضين على التحصيل.

الفصل الثلاثون:  

 حرف هل  حرف " هل " هو حرف سؤال إنّما يُقرَن أبدا في المشهور وبادئ الرأي بقضيّتين متقابلتين بينهما أحد حروف الانفصال وهي أو وأم وإمّا وما قام مقامها - على أيّ ضرب كان تقابلهما - كقولنا " هل زيد قائم أو ليس بقائم "، " هل السماء كريّة أو ليست بكريّة "، " هل زيد قائم أو قاعد "، " هل هو أعمى أو بصير "، " هل زيد ابن لعمرو أو ابن عمر ". وربّما أُضمرت إحدى المتقابلتين وصُرّح بالواحدة منهما فقط، كقولنا " هل تظنّان زيدا نجيبا "، " هل ههنا فرس "، " هل في هذا الدار إنسان ". وربّما لم يُصرّح بأحد جزأي القضيّة، إمّا الموضوع منهما - كقولنا " هل زيد " - وإمّا المحمول - كقولنا " هل يأتينا " و " هل يتكلّم ". وإنّما أُضمر ما أُضمر في الأمكنة التي يعلم السامع ما أضمره القائل، فيكون ما علمه منه مضافافي ضميريهما إلى ما صُرّح بلفظه، فالتأم منهما ما سبيله أن يُقرَن به هذا الحرف. فإن كان المضمَر أحد جزأي القضيّة، تمّت القضيّة من الجزء المصرَّح به ومن الجزء الذي في ضميريهما غير مصرَّحبلفظه. وإن كان المضمَر إحدى المتقابلتين، فالمتقايلتان إنّما تلتئمان بالتي صُرّح بها وبالتي فُهمت من ضمير القائل.  وحرف " هل " إنّما يُقرَن بمتقابلتين عُلم أنّ إحداهما لا على التحصيل صادقة أو معروف بها عند المجيب، ويُطلَب به أن تُعلَم تلك الواحدة منهما على التحصيل. فإنّه يُطلَب أيّهما على التحصيل هي المصادقة أو المعروف بها عند المجيب. فالجواب عن هذا السؤال هو بإحدى المتقابلتين على التحصيل إذا كان السائل قد صرّح بهما جميعا. وأمّا إذا أضمر إحداهما، فللمجيب إمّا أن يُجيب بالمصرَّح وإمّا بالمضمَر. وكذلك إذا كان إنّما يصرَّح بأحد جزأي قضيّة واحدة فقط، فإنّ له أن يُجيب بإحدى المتقابلتين على التحصيل اللذين أضمرهما السائل.  وهذا الحرف هو يُستعمَل في السؤال عمّا ليس يدري السائل بأيّهما يُجيب وعن ما لا يبالي السائل بأيّهما أجاب المجيب. وقد يُستعمَل فيما يدري السائل بأيّهما يُجيب المجيب ولكن يلتمس به إظهاراعتراف المجيب عند نفسه أو عند باقي الناس الحضور. وأمّا إذا كان السؤال سؤال مَن إنّما يريد أن يتسلّم إحدى المتقابلتين دون الأخرى، فإنّه يستعمل فيه حرف " أليس " ويقرنه بالذي يلتمس تسلّمه فقط، وليس يجوز أن يذكر معه مقابله - وذلك في مثل قولنا " أليس الإنسان حيوانا "، " أليس الإنسان بطائر " - وللمجيب عن هذا السؤال أن يُجيب أيضا بالذي سأل عنه السائل إذا أراد المجيب أن يُجيب بحسب ما وضع السائل في نفسه، وأن يُجيب بمقابله الذي لم يسأل عنه إذا أراد أن يكذّب السائل فيما وضعه عند نفسه، كما أنّه لو لم يُجب ولا بواحد من المتقابلتين بل أجاب بشيء آخر كان ذلك تكذيبا لظنّ السائل أنّ المجيب لا بدّ من أن يُجيب بأحدهما ضرورة.  وحرف الألف - أعني الألف التي تُستعمَل في الاستفهام - تقوم مقام " هل "، كقولنا " أزيدُ قائم أم ليس بقائم "، " أوَ يقوم زيد أم ليس يقوم زيد ". وربّما كان السؤال عن هذا لا بحرف يُقرَن بالمسؤول عنه أصلا، كقولنا " زيد يمشي أو لا يمشي ".  وأمّا " نعم " و " لا " فإنّهما لا يُستعمَلان وحدهما جوابا عن السؤال الذي صُرّح فيه بالنقيضين معا - فإنّا إذا قلنا " هل زيد قائم أو ليس بقائم " لم يجز أن يكون الجواب لا " نعم " وحدها ولا " لا " وحدها -بل السؤال الذي إنّما صُرّح فيه بأحدهما، مثل قولنا " هل زيد بقائم "، " أزيد قائم "، فإنّ المجيب إذا قال " نعم " يكون قد أجاب بالمقابل الذي صُرّح به، وإذا قال " لا " يكون قد أجاب بالسلب الذي هو مقابل الإيجاب الذي صُرّح به. وإذا كان الذي صُرّح به في السؤال عنه هو السلب - كقولنا " هل زيد ليس بقائم" - فإنّ المجيب إن قال " نعم " يكون قد أعطى السلب الذي صرّح به السائل في سؤاله، وإن قال " لا " يكون قد أعطى سلب هذا السلب ويكون قوّة ذلك قوّة الإيجاب. وقد يكون قوّته إعطاء للسلب - كقولنا " هل صحيح أنّ الإنسان ليس بطائر " - فإنّ المجيب متى قال " نعم " يكون قد أعطى السلب نفسه، وإن قال " لا " لم يكن ذلك إلاّ الجواب بمقابل السلب. وأمّا السؤال الذي يُقصَد به تسليم أحد المتقابلين فقط - كقولنا " أليس الإنسان بحيوان " - فإنّ المجيب متى قال " نعم " احتمل ذلك تسليم السلب وتسليم الإيجاب، وإن قال " بلى " لم يكن إلاّ تسليم الإيجاب، فإن قال " لا " كان تسليم السلب. وقولنا " أليس الإنسان ليس بطائر " فأيّ شيء من هذه الثلاثة أجاب به احتمل المتقابلين. فلذلك كلّ موضع كان استعمال كلّ واحد من هذه الثلاثة مفردا وحده على حياله يحتمل إعطاء المتقابلين فيه فينبغي أن نُزيد على الحرف الذي نستعمله منها المقابل الذي هو مزمَع به تسليمه. ولذلك لمّا كان السائل إذا صرّح بالمتقابلين جميعا فأجاب المجيب بحرف نعم وحده أو بحرف لا وحده احتمل الجواب كلا المتقابلين حتّى لا يُدرى أيّ المتقابلين أعطى المجيب في الجواب عند استعمال أحد هذين الحرفين وحده، استُعملا حيث لا يوقع اللبس وهو يصرّح فيه بالإيجاب وحده دون السلب، فإنّه إن قال " نعم " يكون لا محالة قد أجاب بالإيجاب وإن قال " لا " يكون قد أجاب بالسلب. وكذلك إذا استُعملا جوابا للأمر فإنّ حرف نعم طاعة وحرف لا معصية، وإن استُعملا جوابا للنهي لم يتبيّن هل هو طاعة أو معصية، فإن قال " بلى " كان لا محالة. وكذلك إذا استُعملا تلقيّا لقضيّة حمليّة نطق بها قائل مخبرا فإنّها إذا كانت موجبة فتلقّاها السامع بحرف نعم كان تلقّيا بالقبول والتصديق وإن تلقّاها بحرف لا كان تلقّيا بالردّ والتكذيب، وإذا كانت سالبة لم يتبيّن بواحد منهما هل هو تكذيب أو تصديق، ولكن ينبغي أن يُتلقّى بأن يقال " بلى " حينئذ على مقابل السلب الذي نطق به القائل، مثل أن يقول قائل " لم يذهب زيد " فنقول " بلى "، نعني به بلى ذهب زيد.

الفصل الحادي والثلاثون:

 السؤالات الفلسفيّة وحروفها حرف " لِمَ " هو حرف سؤال يُطلَب به سبب وجود الشيء أو سبب وجود الشيء لشيء. وهو مركَّب من اللام ومن " ما " الذي تقدّم ذكره، وكأنّه قيل " لماذا ". وهذا السؤال إنّما يكون في ما قد عُلم وجوده وصدقه أوّلا إمّا بنفسه وإمّا بالقياس. فإن كان بقياس فقد سبق وطُلبْ قياس وجوده بحرف " هل "، فسؤال " هل " يتقدّم سؤال " لِمَ " فيما كان سبيله أن ينفرد فيه سبب وجوده. وربّما كان القياس الذي يُبرهَن به وجوده يعطي مع علم وجوده سبب وجوده، وربّما أعطى وجوده فقط فيُحتاج حينئذ إلى قياس آخر يعطي بعد ذلك سبب وجوده. فالبرهان الذي يعطي اليقين بوجوده فقط يُعرَف ب"برهان الوجود "، والذي يعطي بعد ذلك سبب وجوده يسمّى " برهان لِمَ هو الشيء "، والذي يعطي علم الوجود وسبب الوجود معا يسمّى " برهان الوجود ولِمَ هو "، وهو البرهان على الإطلاق لأنّه يجتمع فيه أن يكون مطلوبا به وجوده وسبب وجوده معا، والمطلوب به فيما عدا ذلك هو مطلوب وجوده فقط.  فأصناف الحروف التي تُطلَب بها أسباب وجود الشيء وعلله على ما يظهر ثلاثة: " لماذا " وجوده، و " بماذا " وجوده، و " عن ماذا " وجوده. فأمّا حرف " ماذا " وجوده فالذي يدلّ عليه حدّ الشيء - وهو ماهيّتة ملخَّصة - وإنّما يكون بأجزاء ذاته وبالأشياء التي إذا ائتلفت تقوّمت عنها ذاته، وإنما يكون فيما ذاته منقسمة. فإذن ما هيتّه هي أحد أسباب وجوده، وهو أخصّ أسبابه. وهو أيضا داخل "بماذا " وجوده وهو فيه، فإنّه الذي به وجوده وهو فيه.فإنّ الذي به وجوده قد يكون فيه وقد يكون خارجا عنه. فإنّ الحافظ لوجوده مثل الشمس في أنّها تُبقي النهار موجودا، هي التي بها وجود النهار وهي من خارجه. ف"ماذا" وجوده و " بماذا " وجوده يجتمعان في الدلالة على سبب واحد، أشتُرط في " ماذا " وجوده أن يكون في الشيء، و " بماذا " وجوده يُطلب به الفاعل و الحافظ والماهيّة. فإنّ الأشياء التي إذا ائتلفت تقوّم بها ذات الشيء يجتمع فيها أن تكون هي معقول الشيء على التمام وأتمّ ما يُعقَل به فيما هو منقسم الماهيّة.وقد تكون تلك أحد أسباب وجوده، عقلناه نحن أو لم نعقله. فإذا أخذناه هكذا كان ذلك بالإضافة إلى الشيء نفسه فقط لا إلينا. وإذا أخذناه من حيث هو معقول ذلك الشيء فهو بإضافة ذلك الشيء إلينا، لأنّه إنّما هو معقول لنا. فحرف " ماذا " و " بماذا " هما يتّفقان في أن يكونا عبارة عن أشياء واحدة بأعيانها. إلاّ أنّ " ماذا " يدلّ عليها من حيث هي بالإضافة إلينا ومن حيث هي معقول ذلك الشيء عندنا، و " بماذا " يدلّ عليها من حيث هي بالإضافة إلى الشيء نفسه. ف"ماذا هو " إنّما يحصل على الإطلاق متى كان معقول الشيء عندنا بالأشياء التي إذا أُخذت بالإضافة إليه كانت تلك بأعيانها هي " بماذا هو " الشيء. و "عن ماذا " وجود يُطلَب به الفاعل والمادّة. و " لماذا " وجوده يُطلَب به الغرض والغاية التي لأجلها وجوده - وهي أيضا " لأجل ماذا " وجوده على حسب الأنحاء التي يقال عليها " لأجل ماذا " وجوده. وهذه الثلاثة قد يُطلَب بها في المطلوبات المركَّبة التي هي قضايا. وأمّا " ماذا هو " فلا يجوز أن يُقرَن بقضيّة أصلا بل مطلوب مفرد أبدا.  فإذن " لِمَ هو " و " ما هو " قد يجتمعان أحيانا فيكون المطلوب بهما شيئا واحدا بعينه. وإذا كان المطلوب بحرف " هل " قد ينطوي فيه أحيانا المطلوب بحرف " لِمَ "، فقد يكون أحيانا المطلوب ب " هل هو " منطويافيه " لِمَ هو " و " ما هو " جميعا. وهذا فحص طويل وعريض صعب جدّا، إلاّ أنّه يتبيّن في آخر الآخر أنّ هذا إنّما يكون في كلّ ما كان مثل قولنا " هل كسوف القمر هو انطماس ضوء القمر أم لا ". فإنّ قوما قالوا غير ذلك. فإنّه إذا أُخذ في بيان ذلك أنّه يحتجب بالأرض عن ضوء الشمس وقت المقابلة، يكون قد بُرهن على هذا الوجه - وفي مثل هذا يسوغ أن يُسأل " هل الإنسان إنسان " أو " لِمَ الإنسان إنسان " - فإنّ انطماس ضوئه هو كسوفه بعينه، وهو بعينه احتجابه عن الشمس.  والسؤال بحرف " هل " هو سؤال عامّ يُستعمَل في جميع الصنائع القياسيّة. غير أنّ السؤال به يختلف في أشكاله وفي المتقابلات التي يُقرَن بها هذا الحرف وفي أغراض السائل بما يلتمسه بحرف " هل ". فإنّ في الصنائع العلميّة إنّما يُقرَن حرف " هل " بالقولين المتضادّين، وفي الجدل يُقرَن بالمتناقضين فقط، وفي السوفسطائيّة بما يُظَنّ إنّهما في الظاهر متناقضان، وأمّا في الخطابة والشعر فإنّه يُقرَن بجميع المتقابلات وبما يُظَنّ أنّهما متقابلان من غير أن يكونا كذلك. ويصرَّح في العلوم وفي الجدل بالمتقابلين معا أو يُجعَل السؤال - وإن لم يصرَّح بالمتقابلين معا اختصارا- قوّته قوّة ما يصرَّح فيه بالمتقابلين، وأمّا في السوفسطائيّة فبما يُظَنّ في الظاهر أنّه سؤال علميّ أو جدليّ، وأمّا في الخطابة والشعر فربّما صلح أن يصرَّح فيه بالمتقابلين وربّما لم يصلح أن يصرَّح. وليس يجوز أن تكون مخاطبة جدليّة أصلا إلاّ سؤال بحرف " هل " وإلاّ جوابا عمّا يُسأل عنه بحرف " هل "، وكذلك المخاطبة السوفسطائيّة. وأمّا المخاطبة الخطبيّة والشعريّة فإنّها قد تكون ابتداء لا عن سؤال سابق، وقد تكون سؤالا بحرف " هل " وجوابا عن السؤال بحرف " هل ". وكذلك في العلوم. غير أنّ السؤال العلميّ إنّما هو يلتمس السائل أن يُخبره المسؤول من المتقابلين بالذي هو الصادق منهما فقط مقرونا بالذي يتبيّن صدقه ويفيد اليقين فيه، فإنّه سؤال ينتظم هذين.  والسؤال الجدليّ يُستعمَل في المكانين، أحدهما سؤالا يُلتمَس به تسلّم وضع يقصد السائل إبطاله والمجيب حِفْظه أو نُصرته، والثاني سؤالا يُلتمَس به تسلّم المقدّمات التي يقصدبها السائل إبطال الوضع. وكلاهما عنغير جهل. فالذي يلتمس به تسلّم الوضع فليس يلتمس أن يُخبر السؤال بالذي هو حقّ يقين من المتقابلين، بل يُخبر السائلُ المسؤولَ بحرف " هل " أن يُجيب بأيّهما شاء أو أن يُجيب من الأوضاع بما حِفْظه أو نُصْرته عليه أسهل. فربّما اختار المجيب في وقتٍ أحد المتقابلين وفي وقتٍ آخر المقابل الآخر، ويكون الاختيار إليه في ذلك، ولا يكون خارجا عن طريق الجدل إذ كان مُباحث الجدل إنّما يقصد تعقّب كلّ واحد ممّا يختاره المجيب من المتقابلات والتنقير عنه والفحص عن قياساته ونقضها في ما بينه وبين المجيب، بعد أن يكون قد ارتاض قبل ذلك في كلّ واحد من المتقابلين وإبطاله وتعقّبه والتنقير عنه والفحص عمّا يورد كلّ واحد من المتحاورين.  وليس هي صناعة تُصحّح الآراء ولا تعطي اليقين كما يفعل ذلك التعاليم وسائر علوم الفلسفة. ولو استُعملت في تصحيح الآراء لم تحصل عنها إلاّ الظنون وإنرفعت اختلافا بين أهل النظر في الأشياء الفلسفيّة، على ما كان عليه الأمر في القديم قبل أن تحصل القوانين المنطقيّة في صناعة. فإنّه ليس يُستفاد من صناعة الجدل إلاّ القدرة على الفحص والتنقير وتعقّب ما يخطر بالبال وكلّ ما يقوله قائل أو يضعه واضع من الأشياء النظريّة والعلميّة الكلّيّة، وليس نقتصر على شيء منها دون شيء. إلاّ أنّنا إنّما نحتاج له ونرى الأفضل له أن يُجعَل ارتياضه بالفعل في ذلك في مسائل بأعيانها على صفات محدودة - وقد وُضعت في كتاب " الجدل " كيف ينبغي أن تكون المسائل حتّى إذا استفاد القوّة على التنقير والفحص والتعقّب في تلك المسائل استعمل تلك القوّة في باقي المسائل. كما أنّ الذي يرتاض بالفروسيّة أوّلا إنّما يتخيّر له أوّلا من الأفراس على صفات مّا، ثمّ ينتقل إلى أفراس أخر بارتياضه، حتّى إذا استفاد القوّة على تلك الأفراس يكون قد استفاد الصناعة. فحينئذ يستعمل بقوّته تلك أيّ فرس شاء فيقوى. وإذا أراد أن يحفظ قوّة الفروسيّة على نفسه بعد أن تحصل عنده كان ارتياضه في الميادين لاستبقائها عنده على أفراس بأعيانها، لا لأ نّ الفروسيّة هي قوّة على استعمال أفراس بصفات مّا محدودة فقط يقتصر عليها فقط وإن كان ارتياضه عند تعلّمهلها وارتياضه ليحفظها على نفسه في أفراس محدودة موصوفة بصفات مّا ويقتصر عليها فقط. كذلك الجدل ارتياض في مسائل محدودة موصوفة بصفات مّا ويقتصر عليها فقط من غير أن يكون صاحبه قد وقف على الصادق من كلّ متقابلين وتعقّبه واطّرح المقابل الآخر . وما يشتمل عليه ذلك العلم فكلّها حاصلة بالفعل في ذهن الذي يتعاطاه محفوظة لديه وينطق عنها أيّ وقت شاء.  فمتى استُعمل ذلك في علم من العلوم وأُديمت فيه المراجعة والتعقّب واستُقصي إلى أن لا يبقى فيه للفحص موضع وامتُحن بقوانين البرهان اليقينيّة وحصل ما حصل منه بتصحيح قوانين البرهان، صار علما برهانيّا واستُغني فيه عن صناعة الجدل. وأنت يتبيّن لك ذلك من التعاليم، فليس يُحتاج فيها إلى الفحص، لأنّها إنّما صارت صناعة يقينيّة بعد أن فُحص عنها وتُعُقِّب إلى أن بُلغ بها اليقين، فلم يبق فيها بعد ذلك للفحص موضع، ولذلك صارت المخاطبة فيها تعليما وتعلّما. فسؤال المتعلّم للمعلّم ليس بفحص ولا تنقير ولا تعقّب لما يقوله المعلّم بل إنّما يسأله إمّا لتصوُّر وتفهُّم معنى شيء مّا في الصناعة، وإمّا للتيقّن بوجود ذلك الشيء، أو مع ذلك سبب وجوده ليحصل له البرهان على الشيء الذي عنه يسأل - فالأوّل بحرف " ما "، والثاني بحرف " هل " وما جرى مجراه، والثالث بحرف " لِمَ " وما جرى مجراه أوبحرف قوّته قوّة " هل " و " لِمَ " معا إن كان يوجد ذلك في لسان مّا. ولمّا كان التعليم على ترتيب، لم يكن لسؤال المتعلّم للمعلّم على طريق التشكيك موضع أصلا. فالمتعلّم إذ يسأل " هل كلّ مثلّث فزواياه الثلاث مساوية لقائمتين، أو مثلّث واحد كذلك " يسأل وقد تقدّمت معرفته بما قبله من الأشكال، فيُخبره المعلّم بأنّ كلّ مثلّث كذلك ويُردف ذلك بأن يتلو عليه برهانهالمؤلَّف عن مقدّمات قد تبرهنت عند المتعلّم قبل ذلك، فلا يبقى له بعد ذلك موضع لسؤال.  وأمّا العلوم التي يُحتاج في كثير من الأمور التي فيها إلى ارتياض جدليّ، فإنّ المتعلّم إذا سأل عن شيء منها " هل هو كذا أو ليس هو كذا " فإنّ المعلّم إنّما ينبغي أن يُجيبه أوّلا أنّه كذلك ويُردف ذلك بحجّة جدليّة يتبيّن عنهاذلك الشيء. ويُنتظَر من المتعلّم أن يأتي بما يُبطل ذلك الشيء ويناقض ما أورده المعلّم لا ليجادل ولكن ليستزيد من المعلّم البيان وليعلم أنّ الذي أورده ليس بكاف في إعطاء اليقين، ويقف المعلّم به على ذكاء المتعلّم وأنّه ليس يعمل في ما سمعه على بادئ الرأي ولا على حسن الظنّ بالمعلّم. فإنّ لم يفعل المتعلّم ذلك من تلقاء نفسه بصّره المعلّم موضع العناد في ذلك الشيء وموضع المعارضة في تلك الحجة، ثمّ إبطال تلك المعارضة وإبطال ذلك الإبطال. ولا يزال ينقله من إبطال إلى إثبات ومن إثبات إلى إبطال إلى أن لا يبقى هناك موضع نظر ولا فحص، ثمّ يُردف جميع ذلك بامتحانها بالطرق البرهانيّة. فحينئذ ينقطع تداول الحجج في الإثبات والإبطال ويحصل اليقين. و لا موضع ههنا أيضا للفحص. لأنّ الشيء الذي كان المتعلّم يحتاج إلى أن يفكّر في استنباط حججه يجده قد استُنبطتحججه كلّها، فيعلَّمها كلّها، ثمّ يمتحن ذلك بقوانين البرهان التي عرفها من المنطق. لأنّ المتعلّم لتلك العلوم ليس يتعلّمها على ترتيب أو يكون قد علم المنطق قبل ذلك. فإذن لا موضع في شيء من العلوم للفحص الجدل يّ إلاّ في التي يُحتاجفيها إلى ارتياض جدليّ، اللّهمّ إلاّ أن تكون الصناعة التي كان القدماء فرغوا من استنباطها بادت فاحتاج الناس إلى استئناف النظر والفحص عن الأمور أو يكون ذلك في أمّة لم تقع إليها الفلسفة مفروغا منها.  والسوفسطائيّة فهي تنحو نحو الجدل فيما تفعله. فما يفعله الجدل على الحقيقة تفعله السوفسطائيّة بتمويه ومغالطة. وهي أحرى أن لا تكون صناعة تُصحَّح بها الآراء في الأمور، فإن استعملها مستعمل حصل من الآراء في الأمور على آراء أهل الحيرة أو على مثال آراء فروطاغورس. ومخاطباتها سؤال ب"هل " وجواب عن " هل "، اللهمّ إلاّ حيث تتشبّه بالفلسفة وتقول عن ذاتها وتموّه وتوهم أنّها فلسفة.  وأمّا الخطابة فإنّ أ كثر مخاطباتها اقتصاص وابتداء وإخبار لا بسؤال ولا بجواب، و ربّما استعملت السؤال والجواب. وتستعمل جميع حروف السؤال سؤالات وفي الإخبار. أمّا حروف السؤال سوى حرف " هل " فإنّها إنّما تستعملها في السؤال على جهة الاستعارة والتجوّز وعلى جهة إبدال حرف مكان حرف - وهذا أيضا ضرب من الاستعارة والتجوّز - وتستعملها في الإخبار على الأنحاء التي سبيلها عند الجمهور أن تُستعمَل في الإخبار على ما قد بيّنّاها كلّها. وأمّا حرف " هل " فإنّها تستعمل أحيانا في السؤال على التحقيق وعلى ما للدلالة عليه وُضع أوّلا، وتستعمله أيضا في السؤال استعارة، وتستعمله أيضل في الإخبار. إلاّ أنّها إذا استعملته في السؤال على التحقيق فربّما قرنت به أحد المتقابلين. وليس إنّما يقتصر على ذلك الواحد إرادة للاختصار ويضمر الآخر ليفهمه المجيب من تلقاء نفسه، لكن لأن صناعته توجب أن لا يقاس به إلاّ ذلك الواحد فقط من غير أن تكون قوّة قوله قوّة ما قُرن به المتقابلان، بل لا ينجح قوله إذا كان على طريق السؤال إلاّ إذا كان المأخوذ في السؤال أحد المتقابلين فقط. وإذا قرن به المتقابلين فليس يقرنهما به معا إلاّ حيث لا ينجح قوله إلاّ بإهمال المتقابلين والتصريح بهما معا. ثمّ ليس يقتصر على المتناقضين ولا على القولين المتضادّين بل يستعمل سائر المتقابلات، ثمّ ليست المتقابلات التي هي في الحقيقة بل والتي هي في الظاهر وبادئ الرأي متقابلات، ثمّ التي قوّتها قوّة المتقابلات وإن لم تكن هي أنفسها متقابلات، فإنّه ربّما قرن به أحد المتقابلين ويجعل مكان المقابل الآخر شيئا لازما عنه ويأتي به مكان المقابل الآخر - ولا يكون ذلك خارجا عن صناعته - أو يكون المقابل الآخر أو الآخر استعارة فجعله مكانه.  فهذه هي السؤالات الفلسفيّة، وهذه حروفها، وهي التي تُطلَب بهاالمطلوبات الفلسفيّة، وهي " هل هو " و " لماذا هو "و" ماذا هو " و " بماذا هو " و" عن ماذا هو ". و "هل " و " لماذا " و " بماذا " و " عن ماذا " قد تُقرَن بالمفردات وبالمركَّبات. وأمّا "ماذا هو " فلا تُقرَن إلاّ بالمفردات فقط.

الفصل الثاني والثلاثون: 

  حروف السؤال في العلوم  وينبغي أن يُعلَم أنّ سبب وجود الشيء غير سبب علمنا نحن بوجوده. وكلّ برهان فهو سبب لعلمنا بوجود شيء مّا. ولا يمتنع أن توجد في البرهان أمور تكون سببا لوجود ذلك الشيء أيضا، فيجتمع فب ذلك البرهان أن يكون سببا لعلمنا بوجود الشيء وسببا مع ذلك لوجود ذلك الشيء. ومتى لم يوجد فيه أمر هو سبب لوجود الشيء كان البرهان هو سبب لعلمنا بالوجود فقط. و لمّا كان البرهان من ثلاثة حدود أحدها الأوسط والآخران هما جزءاالنتيجة، والحدّ الأوسط هو بالبرهان من سائر أجزائه وهو أوّلا السبب ثمّ البرهان بأسره، ففي البرهان الذي يجتمع فيه الأمران يكون الأمر الذي يوجد فيه حدّ أوسط هو سبب وجود الشيء الذي يُبَرهَن، وانضيافه وائتلافه مع سائر أجزاء القياس هو السبب في لزوم حصول الشيء في أذهاننا معلوما أو مظنونا.  والجواب عن " لِمَ هو الشيء " هو بأن يُذكَر السبب. والحرف الدالّ على الشيء المقرون به سبب الشيء المسؤول عنه هو حرف لأنّ وما يُقام مقامه في سائر الألسنة. فيكون الجواب عن حرف " لِمَ " هو حرف لأنّ. والبرهان كما قلنا هو سبب لعلمنا بوجود الشيء واعتقادنا وقولنا بوجوده. فلذلك متى سُئلنا " لِمَ كذا هو كذا " أمكن أن يكون سؤالا عن السبب الذي به عَلِمْنا أو اعتقدنا أو قلنا إنّه كذا. فلذلك قد يُقرَن حرف لأنّ بالبرهان بأسره، إذ كان البرهان بأسره سبب ذلك، ونقرنه بالمقدّمة الصغرى التي محمولها الحدّ الأوسط. وهذا هو السبب الذي نستعمله أ كثر ذلك، كقولنا " لِمَ نقول إنّ هذا المطروح هو بعد في الحياة " فإنّا نقول " لأنّه يتنفّس "، فقولنا " يتنفّس " هو سبب لقولنا وعِلْمنا أنّه يعيش، وليس هو السبب في أن يعيش. والخالفة التي جُعلت مع حرف لأنّ إنّما نعني بها الحدّ الآخر الذي هو الإنسان المطروح. وإذا قلنا " لأنّه يتنفّس وكلّ مَن يتنفّس فهو في الحياة " نكون قد أجبنا بالبرهان بأسره، وكان الحمل، ولم يبق في لزوم ما لزم موضع مسألة. فإنّه إذا اقتصر على قوله " أنّه يتنفّس " أمكن أن يكون فيه موضع مسألة عن صحّة اللزوم بأن يقال " لِمَ إذا كان يتنفّس فهو في الحياة "، فإذا أجبنا بأنّ " كلّ مَن يتنفّس فهو بعد في الحياة " فلا يبقى موضع مسألة عن صحّة لزوم ما لزم. فإن سأل بعد ذلك " لِمَ صار - أو لِمَ قلت - كلّ مَن يتنفّس فهو بعد في الحياة " فليس يسأل عن صحّة لزوم ما يلزم عن المقدّمتين وإنّما يسأل عن صحّة هذا المقدّمة وصدقها، ولزوم ما يلزم صحيح وإن كانت هذه المقدّمة غير معلومة. واستعمال حرف " لِمَ " في السؤال عن سبب عِلْمنا بالشيء واعتقادنا له أو قولنا به هو بنحو متأخّر، فاستعمالنا له في السؤال عن سبب وجود الشيء هو بالنحو متقدّم.  وحرف " هل " يُستعمَل في العلوم في عدّة أمكنة. أحدها مقرونا بمفرد يُطلَب وجوده، كقولنا " هل الخلاء موجود " و " هل الطبيعة موجودة ". فإنّ كلّ واحد من هذه وأشباهها هو في الحقيقة مركَّب، وهو قضيّة. فإنّ الموجود محمول في الذي يُطلَب وجوده، وهو الموضوع الذي يقال فيه " هل موجود " - ويُعنى بالموجود ههنا مطابقة ما يُتصوَّر بالذهن عن لفظه لشيء خارج النفس. فمعنى السؤال هل ما في النفس من المفهوم عن لفظه هو خارج النفس أم لا، وهذا هو هل ما في النفس منه صادق أم لا - فإنّ معنى الصدق أن يكون ما يُتصوَّر في النفس هو بعينه خارج النفس - فمعنى الوجود والصدق ههنا واحد بعينه.  وقد يُقال في ما عُلم فيه أنّ ما يُفهَم عن لفظه هو بعينه خارج النفس " هل هو موجود أم لا ". فإذا طُلب فيما عُلم أنّه موجود بالمعنى الأوّل " هل هو موجود أم لا " فإنّما نعني بهذا الطلب هل لذلك الشيء ما به قوامه وهو فيه. فإنّ وجود الشيء بعد أن يُعلَم أنّ ما يُعقَل منه بالنفس هو بعينه خارج النفس إنّما نعني به الشيء الذي به قوامه وهو فيه. فإذا أُجيب وقيل " نعم "، قيل بعد ذلك " ما وجوده " و " ماهو " - يُعنى به ما الذي به قوام ذلك الشيء - فيكون الجواب حينئذ بما يدلّ عليه حدّه لا غير. فحينئذ ننتهي بهذا الطلب فلا يبقى بعد ذلك شيء يُطلَب فيه. فيتبيّن أنّ الذي به قوامه هو أحد أسباب وجوده. ومعلوم أن قولنا " هل الشيء موجود " على الوجه الثاني إنّما نعني به هل له سبب به قوامه في ذاته. فإذا صحّ ذلك قيل فيه بعد ذلك " ما ذلك السبب "، فتكون قوّة هذا السؤال قوّة لِمَ هو موجود.  وقد نقول " هل كلّ مثلّث موجود زواياه مساوية لقائمتين " و " هل كلّ إنسان موجود حيوانا ". على أنّ ما نعني بالموجود ههنا كلمة وجوديّة يرتبط بهذا المحمول بالموضوع حتّى يصير القول قضيّة حمليّة، ونعني به هل هذه القضيّة صادقة وهل ما تركّب منها في النفس هو على ما هو عليه خارج النفس. وقد يعني قولنا " هل كذا موجود " كذا هل وجوده أنّه كذا، ونحن نعني هل كذا قوامه أو ماهيّته أنّه كذا، كقولنا " هل كلّ إنسان موجود حيوانا " أي هل كلّإنسان قوامه وماهيّته أنّه حيوان، وهذا هو هل كلّ إنسان سبب وجوده أن يوصف أنّه حيوان بحال كذا. فإذاقيل " نعم " وصُحّح ذلك يتبيّن بذلك أنّه قوام الإنسان وسبب وجوده. فيكون قد تبيّن لِمَ هو موجود إمّا بجميع أسباب وجوده أو بواحد منها.  وقد نقول " هل كذا موجود كذا " ونحن نعني هل كذا وجوده يوجب أن يوصف هكذا وأنّه كذا ونعني هل كذا ماهيّته توجب أنّه كذا أو أنّه يوصف بكذا، فيكون سبب الذي به قوام كذا هو أيضا السبب في أن يوصف أنّه كذا - كقولنا " هل كلّ مثلّث هو موجود زواياه مساوية لقائمتين " قد نعني به هل كلّ مثلّث ماهيّته توجب أن تكون زواياه مساوية لقائمتين أو هل الذي به قوام كلّ مثلّث هو السبب أيضا في أن تكون زواياه مساوية لقائمتين. فإذا قيل " نعم " وصُحّح أنّه كذلك يكون قد تبيّن السبب في أنّ زواياه مساوية لقائمتين وأنّ ذلك السبب هو السبب أيضا في قوام المثلّث.  فهذه كلّها سؤالات ثلاثة. فإنّ المطلوبات البرهانيّة التي هي في الحقيقة برهانيّة هي هذه. فهذان سؤالان عن القضيّة قد يكونان في قضيّة قد عُلم صدقها. فإنّ القضيّة قد تكون صادقة، ويُعلَم أنّ كذا هو كذا، ولكن لا يُعلَم هل الموضوع ماهيّته أنّه كذا، ولا أنّ الموضوع وجوده يوجب أن يوصف بمحمول مّا - كان ذلك المحمول ماهيّة ذلك الموضوع أو جزء ماهيّته أو شيئا به قوام ذلك الموضوع -؛ ولا أيضا تكون ماهيّة ذلك الموضوع أو جزء ماهيّته أو شيء به قوام ذلك الموضوع يوجب أن يوصف بكذا. فإنّ قولنا " الإنسان أبيض " صادق، وليس الأبيض ماهيّة الإنسان ولا جزء ماهيّته، ولا ماهيّة الإنسان توجب أن يكون أبيض، فلذلك يُحتاج إلى هذا الطلب. وقد يكون ذلك فيمالم يُعلَم صدقه، فيكون السؤال ب"هل هو " ينتظم حينئذ هذين جميعا، فيكون سؤالا برهانيّا. وأمّا إذا كان سؤالا عن الصدق أيضا، فذلك هو سؤال يشتمل على البرهان وعلى غير البرهان.  وقد يقول القائل: إذا كان معنى " موجود " إنّما يُعنى به أحد هذين فكيف يصحّ أن يقال " الإنسان موجود أبيض " فيكون صادقا. فالجواب أنَّ الشيء قد يكون موجوداكذا بالعرض وقد يكون موجودا كذا بالذات. فالإنسان موجود حيوانا بالذات لأنّ وجوده وماهيّته أنّه حيوان، والمثلّث موجود أنّ زواياه مساوية لقائمتين بالذات لأنّ وجوده وما هيّته توجب أنّ زواياه مساوية لقائمتين. وهذان هما معنيا وجود الشيء بالذات وشريطتا كلّ مطلوب علميّ.  وكلّ طلب علميّ يُقرَن بحرف " هل " هو طلب سبب الشيء الموضوع الذي عليه يُحمَل المحمول وما ذلك السبب، أو طلب سبب وجود المحمول الذي يُحمَل على موضوع مّا وما ذلك السبب، فإنّ حرف " هل " في العلوم فيما عُلم صدقه ينتظم هذين. وفيما لم يُعلَم صدقه من القضايا ينتظم الثلاثة كلّها. فالجواب الوارد يجب أن ينتظم إعطاءَ الثلاثة بأسرها فيما لم يكن عُلم صدفه قبل ذلك، وفيما كان عُلم صدقه قبل ذلك فينبغي أن ينتظم الأمرين. غير أنّه ربّما ورد الجواب فيما لم يكن عُلم صدقه بشيء يُعرَف به صدقه فقط من غير أن يعطي الأمرين الباقيين، فيبقى للمسألة " هل " التي تُطلَب بها الباقيان موضع، فإذا أُوردالم يبق بعد ذلك لسؤال" هل " موضع أصلا. وهذا العلم هو أقصى ما يُعلَم به وأ كمل، وليس فوق ذلك علم بالشيء الآخر. والفلسفة إنّما تطلب وتعطي هذا العلم في شيء شيء من الموجودات إلى أن تأتي عليها كلّها.  وكلّ صناعة من الصنائع العلميّة استُعمل فيها السؤال بحرف " هل هو " على المعنى الذي يُستعمَل في الصنائع العلميّة فإنّه ينبغي أن يُفهَم منه طلب تلك الأسباب التي تعطيها تلك الصناعة في الأشياء التي فيها تنظر.  فإنّ صناعة التعاليم إنّما تعطي في كلّ شيء تنظر فيه من بين الأسباب الماهيّة التي بها الشيء بالفعل وماذا هو الشيء، وهي التي تُطلَب بحرف " كيف " في نوع نوع. فإذا قلنا فيهذه الصناعة " هل الشيء موجود " فإنّما نطلب به بعد صدقه وجوده الذي هو به موجود بالفعل، وهو ماهيّته المأخوذة من جهة الصورة من بين ما به قوام ذلك الشيء المسؤول عنه. وكذلك إذا قلنا " هل الشيء موجود حيوانا " فإنّما نعني هل وجوده الذي هو به موجود بالفعل يوجب أن يكون كذا، فإذا قيل " نعم " قيل بعد ذلك " وما هو " و " كيف هو موجود ذلك الموجود "، فيرد الجواب حينئذ بتلك الماهيّة المطلوبة. وهذه في التعاليم خاصّة.  وأمّا في العلم الطبيعيّ فإنّه إذا كان يعطي من جهة الطبيعة والأشياء الطبيعيّة كلّ ما به قوام الشيء، الخارج منها - الفاعل والغاية - والذي هو في الشيء نفسه، كان عن كلّ ما يسأل عنه بحرف " هل هو موجود " أو " هل هو موجود كذا " إنّما يطلب فيه كلّ شيء كان به وجود ذلك الشيء من فاعل أو مادّة أو صورة أو غاية. فإنّ كلّ واحد من هذه توجد في ماهو الشيء وتستبين في ماهو الشيء، ويكون ماهو الشيء موجودا من أحد هذه أو من اثنين منها أو ثلاثة منها أو من جميعها. وكذلك في العلم المدنيّ.  وأمّا في العلم الإلهيّ فإنّه إذا كان يعطي من جهة الإله والأشياء الإلهيّة من الأسباب التي بها قوام الشيء الفاعلَ، والماهيّةَ التي بها الشيء بالفعل والغايةَ صارت المطلوبات بحرف " هل " عن ما يوجد الموضوع فيه الإله أو شيئا مّا إلهيّا هي التي بها قوام المحمول من جهة الشيء الذي أُخذ موضوعا. فيقال " هل هو موجود أو لا ". فإذا قيل " نعم " قيل " وما هو " أو " كيف هو " أو " بماذا هو " وصار المطلوب عمّا يوجد المحمول فيه الإله أو شيئا مّا إلهيّا، وهو الذي صحّ به قوام الموضوع من قِبَل المحمولات. فإذا قيل " نعم " طُلب " ما هو " أو " كيف هو " أو " أيّما هو "، فيرد الجواب فيه بأحد الثلاثة، أو جواب ينتظم جميعَها.  وقد يسأل سائل عن معنى قولنا " هل الإله موجود "، ما الذي نعني به. هل نعني به هل ما نعتقد فيه أو نعقل منه في النفس هو بعينه خارج النفس.وهل إذا عُلم أنّ معقوله في النفس هو بعينه خارج النفس يسوغ أن يُسأل عنه " هل هو موجود " على المعنى الثاني. فإنّ ذلك المعنى من معاني هذا السؤال هل الشيء له قوام بشيء وهل الشيء له وجود به قوامه وهو فيه. فإنّ هذا إنّما كان يسوغ فيما تنقسم ماهيّة وجوده وذاته وفي ما له سبب به قوامه بوجه من الوجوه. والإله يجتمع فيه أنّه لا قوام له بشيء آخر أصلا ولا سبب لوجوده، وأنّ ذاته غير منقسمة ولا بوجه من وجوه الانقسام. فإذن ليس يسوغ أن يُسأل عنه بحرف " هل " على المعنى الثاني.  ولكن قد نُجيب في ذلك أنّ قولنا فيه " هل هو موجود " على المعنى الثاني إنّما يُعنى به هل هو ذات مّا منحازة، أو هل له ذات. فإنّ الذات قد يقال عليها الموجود، ويقال له إنّه موجود. فإنّه ليس كلّ مل يُفهَم عن لفظة مّا وكان ما يُعقَل منه هو أيضا خارج النفس يمون أيضا له ذات؛ مثل معنى العدم، فإنّه معنى مفهوم، وهو خارج النفس كما هو معقول، لكن ليس هو ذاتا مّا ولا له ذات. فعلى هذا الوجه يسوغ أن يُسأل عنه " هل هو موجود " أي هل هو ذات أو هل له ذات. فإذا قيل " نعم " سُئل بعد ذلك " فما وجوده " و " ما ذاته " و " أيّ ذات هي ". وقد يسوغ فيه أن يُسأل عنه بحرف " هل " على المعنى الثاني من جهة أخرى. وهو أنّ ما هو بالقوّة ذات ليس بموجود، فإنّ الموجود المشهور هو الذي بالفعل، وأ كمل ذلك ما كان على الكمال الأخير. فيقال فيه " هل هو موجود " أي ما نعقله هل هو بالفعل وهل هو على الكمال الأخير من الوجود. فإذا قيل " نعم " قيل بعد ذلك " ما هو " و " كيف هو " و " أيّما هو ".  وينبغي أن يُعلَم أنّ الذي لا تنقسم ذاته فإنّه ينبغي أن يقال فيه أحد أمرين، إمّا أنّه موجود لا يوجد، وإمّا يقال فيه إنّ معنى وجوده هو أنّه موجود، ويكون لا فرق فيه بين أن يقال " إنّه هو وجود " و " إنّه موجود " و " إنّ له وجودا ". فإنّ وجود ما هو موجود هكذا ليس هو غير الذات التي يقال فيها " إنّها موجودة ". وما ينقسم وجوده فإنّ وجوده الذي هو به موجود غير بوجه مّا، على ما يكون جزء الكلّ غير الكلّ و جزء الجملة غير الجملة، وعلى أنّ ذلك الوجود الذي به الشيء موجود وأنّ له أيضا وجودا - أعني أنّه ينقسم وأنّ له جزءا به وجوده. فإن كان كذلك، فما الذي يقال في جزئه، أليس يقال فيه أيضا " إنّه موجود " و " له وجود "، و هل يقال ذلك فيه على أنّه منقسم أيضا. وإن كان ذلك كذلك، ننتهي عند التحليل هكذا إلى جزء وجود شيء مّا، ويكون ذلك الجزء موجودا وله وجود، ويكون غير منقسم، وإلاّ تمادى إلى غير النهاية ولم يحصل علم ماهيّة شيء أصلا. فإذا كان غير منقسم، فمعنى وجوده وأنّه موجود معنى واحد بعينه. أو أن يقال فيه " إنّه موجود ولا يوجد " أو " إنّه موجود ولا يوجد هو بوجه مّا غير ذاته بل موجود يوجد ذاته بعينها " أو " يوجد هو الموجود بعينه ".  وأيضا فإنّ الموجود على الإطلاق هو الموجود الذي لا يضاف إلى شيء أصلا. والموجود على الإطلاق هو الموجود الذي إنّما وجودهبنفسه لا بشيء آخر غيره. فيكون قولنا فيه " هل هو موجود " بهذا المعنى. فعند ذلك يكون المطلوب فيه ضدّ المطلوب في قولنا " هل الإنسان موجود ". فإنّ المطلوب بقولنا " هل الإنسان موجود " هل الإنسان له قوام بشيء مّا آخر أم لا. والمطلوب ههنا بقولنا " هل هو موجود " هل هو شيء قوامه بذاته لا بشيء غيره، وهل وجوده وجود ليس يحتاج في أن يكون به موجوداإلى شيء آخر هو بوجه مّا من الوجوه غير ذاته. أمّا قولنا " هل هو موجود عقلا " أو " موجود عالما " أو " موجود واحدا"، فإنّ معناه هل وجوده الذي به صار قوامه لا بغيره هو أنّه عقل أو أنّه عالم، وهل ذاته هو أنّه عقل. وقولنا " هل هو موجود فاعلا أو سببا لوجود غيره " يعني هل وجوده الذي هو به موجودا أو ماهيّته التي تخصّه أو له يوجب أن يكون سببا لوجود غيره أو فاعلا لغيره. فإنّ هذه كلّها مطلوبات فيه بحرف " هل ".  وأمّا سائر معاني " هل هو موجود " - وهي التي أحصيناهافيما تقدّم - فإنّها قد تسوغ فيه أيضا من أوّل ما تقع المسألة عنه. إلاّ أنّ الجوابات الواردة كلّها إنّما تكون فيه بحرف لا. والجواب الوارد في هذا الأخير إنّما يكون فسه بحرف نعم. وإنّما يكون هذا الأخير بعد أن تقدّم السؤال عنه بحرف " هل " على المعاني الأول. فإذا أُوردت جواباتها كلّها بحرف لا، كانت المسائل عنه بحرف " هل هو " على هذه المعاني الأخيرة، فترد الجوابات عنها بحرف نعم. فهذه رسوم معاني السؤال عن الإله بحرف " هل ".  وأمّا قولنا " هل الإنسان إنسان " فإنّه يكون فيما بين المحمول وبين الموضوع تباين وغيريّة بوجه ما - وإلاّ فليس يصحّ السؤال - مثل " هل ما يُعقَل من لفظ الإنسان هو الإنسان الخارج عن النفس " أو " الإنسان الكلّيّ هو الإنسان الجزئيّ " أو " الإنسان الجزئيّ يوصف بالإنسان الكلّيّ " أو " الحيوان الذي هو بحال كذا هو حيوان على الإطلاق " أو " الذي أنت تظنّه حيوانا هو في الحقيقو حيوان ". فإن كان معنى الإنسان الموضوع هو بعينه معنى الإنسان المحمول بعينه من كلّ جهاته فلا تصحّ المسألة عنه بحرف " هل ". وإن قال قائل إنّ الإنسان الموضوع هو الذي يدلّ عليه حدّه، فإنّه لا يصحّ أيضا. لأنّ الذي يدلّ عليه القول إن لم يكن عُلم أنّه محمول على الذي يدلّ عليه الاسم فليس يقال لذلك الذي يدلّ عليه القول إنّه إنسان. فلذلك لا يُحمَل عليه من حيث هو مسمّى إنسانا، إذ كان لم يصحّ بعد أنّه إنسان، بل إن يصحّ " هل الإنسان حيوان مشّاء ذو رجلين أم لا " فليس تصحّ المسألة عنه على أنّ المحمول هو أيضا إنسان، وإنّما يصحّ أنّ المحمول هو أيضا إنسان إذا صحّ أنّه محمول عليه وصحّ أنّه حدّه. أو أن يقال أنّ قولنا " هل الإنسان موجود إنسانا " يعني هل الإنسان وجوده وإنّيّته هي تلك الذات المسؤول عنها وليس له ذات غير تلك الواحدة التي أخذناها موضوعا وهي غير منقسمة الوجود، أم إنّه إنسان بوجوه أخر مثل أنّه حيوان مشّاء ذو رجلين، أي هل له وجود وماهيّة على ما يدلّ لفظه عنه فلا يمكن أن يُتصوَّر تصوّرا آخر أزيد منه ولا أنقص. فيكون ما نتصوّره إنسانا على مثال ما عليه كثير من الأمور المسؤول عنها في الشيء، يُتصوَّر حينا مجمَلا وحينا مفصَّلا، ثمّ لا يكون ممكنا أن يُعقَل إلاّ بجهة واحدة فقط. فإنّه قد يصحّ هذا السؤال على هذه الجهة أيضا. وعلى أيّ معنى ما صحّ قولنا " هل الإنسان إنسانا " صحّ فيه أن يُطلَب السبب في ذلك فيقال " لِمَ الإنسان إنسان " و " بأيّ سبب الإنسان هو إنسان " و " لماذا الإنسان إنسان " و " عمّاذا ". ويصحّ أيضا " لِمَ الإنسان إنسان " إذا عُني به لِمَ الإنسان حيوان مشّاء ذو رجلين و لِمَ الإنسان ماهيّته هذه الماهيّة. وهذا إنّما يصحّ في الشيء الذي له حدّان أحدهما سبب لوجود الآخر فيه، مثل " لِمَ صار كسوف القمر هو انطماس ضوئه " - فإنّ انطماس ضوء القمر هو الكسوف - فيقال " لأنّه يحتجب بالأرض عن الشمس "؛ فكلاهما ماهيّة الكسوف، إلاّ أنّ احتجابه بالأرض عن الشمس هو السبب في ماهيّته الأخرى. وأمّا فيما عدا ذلك فلا يصحّ فيه هذا السؤال. وقد كان هذا لا يصلح أن يُسأل عنه بحرف " هل " وقد صلح أن يُسأل عنه بحرف " لِمَ ".

الفصل الثالث والثلاثون: 

  حروف السؤال في الصنائع القياسيّة الأخرى  وأمّا صناعة الجدل فإنّها إنّما تستعمل السؤال بحرف " هل " في مكانين. أحدهما يلتمس به السائل أن يتسلّم الوضع الذي يختار المجيب وضعه ويتضمّن حفظه أو نصرته من غير أن يتحرّى في ذلك لا أن يكون صادقا و لا أن يكون كاذبا. فإنّه لا يبالي كان ذلك الذي يضعه المجيب ويتضمّن حفظه صادقا أو كاذبا، ولإنّما يتحرّى في ذلك أن يكون موجبا أو سالبا فقط. والمجيب أيضا لا يبالي أيضا كيف كان ما يضعه، فإنّه يتضمّن حفظه وإن علم أنّه كاذب. والموجب الذي يضعه ليس بموجب اضطرّه إلى اعتقاده والقول به قياس أو برهان، بل موجب أوجبه هو؛ وكذلك السالب هو شيء يسلبه هو عن شيء من غير أن يكون قياس اضطرّه إلى وضعه أو اعتقاده، بل اختار أن يتضمّن حفظه اختيارا فقط. فلذلك تُسمّى أوضاعا. ويجمع فيه السائل بين جزأيّ النقيض ويقرن بهما حرف " هل " وحرف الانفصال. والثاني يستعمله بعد ذلك في أن يتسلّم به من المجيب مقدّمات يستعملها في إبطال الوضع الذي حفظه من غير أن يبالي كيف كانت المقدّمات - صادقة أو كاذبة - بعد أن تكون مشهورة أو - إن لم تكن مشهورة - كانت مقدّمات يعترف بها المجيب، ويجمع بين المتناقضين ليفوّض إلى المجيب النظر فيما يختار تسليمه منها ليكون إذا سلّم سلّم بعد تأمّلها هل هي نافعة للسائل أو غير نافعة، ليسلّم ما يظنّ بعد تأمّلها أنّها غير نافعة للسائل في أن يناقض بها المجيب في وضعه.  وربّما لم يجمع السائل بين المتناقضين إمّا للاختصار وإمّا للإخفاء. وربّما لم يستعمل حرف " هل " ولكن يستعمل حرف التقرير - وهو " أليس " - فيما يظنّ أنّ المجيب لا يمنع من تسليمه، وذلك في المشهورات. ولكن للمجيب أن لا يسلّم ذلك الذي ظنّ السائل أنّه يسلّمه وله أن يسلّمه نقيضه. لأنّ صناعة الجدل هي الارتياض والتخرّج في وجود قياس كلّ واحد من المتناقضين وارتياض فيما ينبغي أن يُفحَص عنه وتعقّب لكلّ واحد ممّا يقال فيوضع. فلذلك لا يبالي المرتاض بصدق ما يرتاض فيه ولا كذبه. فلذلك إذا سألت " هل كذا موجود كذا " إنّما تستعمل " الموجود " رابطا للمحمول بالموضوع في الإيجاب و " غير الموجود " رابطا في السلب من غير أن تعني به شيئا آخر غير ذلك. وقولنا " هل الإنسان موجود " إنّما نعني به هل ما يُعقَل منه هو وهم صادق أو كاذب. فلذلك أدخله الإسكندر الأفروديسيّ في مطلوبات العرض، إذ كان الصدق والكذب عارضين للأمر. وقوم أدخلوه في مطلوبات الجنس وآخرون أدخلوه في مطلوبات الحدود، إذ كان قد يُفهَم من قولنا هل الإنسان موجود " هل له ماهيّة بها قوامه أم لا.  غير أنّ الجدل ليس يرتفع في معاني الموجود عن ما هو المشهور من معانيه. فلذلك ينبغي أن يُفهَم من قولنا " هل الإنسان موجود " معنى هل الإنسان أحد الموجودات التي في العالم، مثال ما يقال في السماء " إنّها موجودة" وفي الأرض " إنّها موجودة "، وهي كلّها راجعة إلى أنّها صادقة . فإنّهم إنّما يسمّون " غير الموجود " ما كان قد يُتوهَّم في النفس توهّما فقط من غير أن يكون خارج النفس. وإلى هذا المقدار يبلغ الجدل من معاني الموجود. أمّا في قولنا " هل كذا موجود كذا " فإنّمانستعمل الموجود رابطا يربط المحمول بالموضوع. وأمّا في مثل قولنا " هل الخلاء موجود " فعلى معنى هل ما يُفهَم من معاني الخلاء وهم كاذب أو هو مثال لشيء خارج النفس. أمّا عند تأمّلنا هذه الأشياء التي فيها نرتاض في الجدل عند فلسفتنا فيها لنصادف الحقّ اليقين فيها، فإنّا نأخذ المقدار الذي يفهمه الجمهور منه والذي يفهمه أهل الجدل فنتأمّله، فإن لزم عنه محال أزلنا موضع المحال منه ونكون قد وقفنا منه على شيء زائد نتأمّل ما صادقه منه. فإن لزم منه أيضا محال أو كان هناك قياس أبطله، أزلنا الموضع الذي لزم عنه المحال ونكون قد وقفنا منه على شيء آخر أيضا. ولا نزال هكذا حتّى لا يبقى فيه موضع معارضة ولا موضع يلزم منه محال. وهذا ليس بارتياض ولكن ابتداء من المعرفة الناقصة بالشيء وتدرّج في معرفته قليلا قليلا إلى أن نبلغ إلى أقصاه أو إلى أ كمل ما يمكن أن نعرف به الشيء.  وأمّا السوفسطائيّة فإنّها تستعمل السؤال بحرف " هل " في ثلاثة أمكنة. أحدها عند التشكيك السوفسطائيّ، قإنّه يسأل بالمتقابلين وبما هو في الظاهر والمغالطة متقابلين، ويلتمس إلزام المحال من كلّ واحد منهما. والثاني عندما تتشبّه بصناعة الجدل أو تغالط وتوهم أنّ صناعتها هي صناعة الارتياض. فيستعمل السؤال بحرف " هل " عند تسلّم الوضع ويستعمله أيضا عندما يلتمس تسلّم المقدّمات التي يُبطل بها على المجيب الوضع الذي تضمّن حفظه. غير أنّ ما تفعله صناعة الجدل فيما هو في الحقيقة مشهور تفعله السوفسطائيّة فيما هو في الظنّ والظاهر والتمويه أنّه مشهور من غير أن يكون في الحقيقة كذلك. والثالث عندما تتشبّه بالفلسفة وتوهم أنّها هي صناعة الفلسفة. وكلّ موضع تستعمل فيه الفلسفة فيه السؤال بحرف " هل " وتطلب به الحقّ اليقين من المطلوب بحرف " هل " فإنّ السوفسطائيّة تطلب فيه بحرف " هل " ما هو في الظنّ والتمويه والمغالطة حقّ يقين لا في الحقيقة.  وأمَا صناعة الخطابة فإنّ أ كثر مخاطباتها لا بالسؤال والجواب، وإنّما تستعمل السؤال حيث ترى أنّ السؤال انجح في اقتصاص مثل. وكذلك صناعة الشعر. وهما يقتصران من " هل هو موجود " و " هل كذا موجود كذا " على الأشهر من معاني الموجود وما هو من معانيه مفهوم في بادئ الرأي: أمّا في قولنا " هل كذا موجود كذا " فعلى أنّه رابط فقط، وأمّا في قولنا " هل كذا موجود " فعلى معنى هل هو محسوس أو هل هو ملموس وهل له أثر محسوس وهل له فعل محسوس. فإنّ معاني الموجود هي هذه كلّها عندهم. ولذلك كلّ ما كان خارجا عن هذه كلّها كان عندهم غير موجود. ولذلك صارت الأجسام التي محسوساتها قليلة أو هي أخفى بالحسّ هي عندهم في حدّ ما هو غير موجود، مثل الريح والهواء والهباء. والخطابة تستعمل حرف " هل " على ما وُضع للدلالة عليه أوّلا، وتستعمله على طريق الاستعارة. وأمّا حرف " لِمَ " وحرف " ما " فإنّها لا تستعملها في السؤال إلاّ على طريق الاستعارة فقط. وحرف " أيّ " وحرف " كيف " فربّما استعملتهما في الدلالة على معانيهما الأول. وأ كثر ما تستعملهما إنّما تستعملهما أيضا على طريق الاستعارة. وبالجملة فإنّ صناعة الخطابة تستعمل جميع هذه الحروف على طريق الاستعارة.  ونقول الآن في الأمكنة التي يقال يقال فيها هذه الحروف على طريق الاستعارة والتجوّز والمسامحة. فالتجوّز والمسامحة إنّما تُستعمَل في الصنائع التي يحتاج الإنسان فيها إلى إظهار القوّة الكاملة في غاية الكمال على استعمال الألفاظ، فيعرّف أنّ له قدرة على الإبانة عن الشيء بغير لفظه الخاصّ به لأدنى تعلّق يكون له بالذي تُجعَل العبارة عنه باللفظ الثاني، أو له قدرة على استعمال اللفظ الذي يخصّ شيئا مّا على ما له تعلّق به ولو يسيرا من التعلّق، وليُبين عن نفسه أنّ له قدرة على أخذ اتّصالات المعاني بعضها ببعض ولو الاتّصال اليسير، ويبيّن أنّ عباراته وإبانته لا تزول ولا تضعف وإن عبّر عن الشيء بغير لفظه الخاصّ بل بلفظ غيره. وأمّا الاستعارة فلأنّ فيها تخييلا وهو شعريّ.  والصناعة التي حالها هذه الحال هي صناعة الخطابة وصناعة الشعر. فلذلك ينبغي أن يُعرَف كيف تستعمل هاتان الصناعتان هذه الحروف على طريق الاستعارة والتجوّز وأين تستعمل ما تستعمل منها على معانيها الأول وكيف مستعملها. ومن المشهور عند الجميع في بادئ الرأي أنّ الشيء الذي يقال إنّه مفرط في الخسّة والقلّة والهوان، وفي كلّ شيء كان في حيّز العدم، تدلّ معاني العبارة عنه باسمه الخاصّ أنّه ليس بشيء أصلا - يريدون أنّه ليس له ذات أصلا وأنّه ليس داخلا تحت نوع ولا جنس أصلا - فإنّه لذلك مجهول الذات أصلا لا يمكّن أحدا أن يُجيب عنه ما هو. وما هو مفرد في العِظَم والكثرة والجلالة من أيّ شيء كان يقال فيه " إنّه كلّ " - يريدون أنّ له ذات كلّ ما له ذات وأنّه داخل تحت كلّ نوع. وأيضا فإنّ كلّ ما هو جليل جدّا فإنّه يفوق طباع الإنسان أن يعرف ماهو وما ذاته، وذلك بحيث لا يمكّن أحدا أن يُجيب عنه ماهو أصلا حتّى يصف ما هو أقصى ما هو به موجود أيضا. وأيضا فإنّ كلّ صناعة من الصنائع القياسيّة الخمس فيها ضرب أو ضروب من السؤال خاصّ بها، ففي الفلسفة سؤال برهانيّ وفي الجدل سؤال جدليّ وفي الفلسفة سؤال سوفسطائيّ وفي الخطابة سؤال خطبيّ وفي الشعر سؤال شعريّ. والسؤال الذي في كلّ صناعة هو على نوع ونحو وبحال مّا على غير ما هو في الأخرى. وللسؤال في كلّ صناعة أمكنة ينجح فيها وأمكنة لا ينجح فيها. فلذلك إنّما يصير ذلك السؤال نافعا وفي تلك الصناعة متى استُعمل في الأمكنة التي فيها ينجح وعلى النحو الذي ينجح. فالسؤال الجدليّ يكون بتصريح المتقابلين أو تكون قوّة ما صُرّح به قوّة المتقابلين. وكذلك في كثير من الصنائع. وأمّا السؤال الخطبيّ فمن ضروب سؤالاته أن يكون بأحد المتقابلين فقط.

تمّت رسالة الحروف للفيلسوف أبي نصر الفارابيّ.