باب الوصل والحجز

عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل

ابن البناء المراكشي

عبد الواحد بن علي التميمي المراكشي، محيي الدين المولود عام 581 هـ -1185م، والمتوفي عام 647 هـ- 1250م

باب الوصل والحجز

اعلم أن الموصول في الوجود توصل كلمته في الخط كما توصل حروف الكلمة الواحدة والمفصول معنى في الوجود يفصل في الخط كما تفصل كلمة عن كلمة.

فمن ذلك: (إِنّما) بكسر الهمزة. كله موصول إلا حرف واحد. (إنّ ما توعَدونَ لآت) فصل حرف التوكيد لأن حرف "ما" يقع على مفصل فمنه خير موعود به لأهل الخير، ومنه شر موعود به لأهل الشر فمعنى "ما" مفصول في الوجود والعلم.

ومن ذلك (إِنّما) بفتح الهمزة كلها موصول إلا حرفان.

(وَأَنّ ما يَدعونَ مِن دونِهِ هُوَ الباطِل)، (وَأَنّ ما يَدعونَ مِن دونِهِ الباطِل) وقع الفصل عن حرف التوكيد إذ ليس لدعوى غير الله فعل في الوجود إنما وصلها في العدم والنفي.

ويدلك عليه قوله تعالى عن المؤمن: (لا جَرمَ أَنّما تدعونَنَي إِليهِ لَيسَ لَهُ دَعووَةٌ في الدُنيا وَلا في الآَخِرَة).

فوصل أنما في النفي وفصل في الإثبات لانفصاله عن دعوة الحق.

ومن ذلك (كُلَما) كله موصول إلا ثلاثة أحرف: أحدها في النساء (كُلُ ما رُدوا إِلى الفِتنَةِ اُركسوا فيها).

فما ردوا إليه ليس شيئا واحدا في الوجود بل أنواع مختلفة في الوجود وصفة ردهم ليست واحدة بل متنوعة فانفصل ما لأنه لعموم شيء مفصل في الوجود.

وفي سورة إبراهيم: (وآتاكُم مِن كُلِ ما سَأَلتُمُوه) فحرف ما وقع على أنواع مفصلة في الوجود.

وفي قد أفلح: (كُلّ ما جاءَ أُمَةٌ رَسُولُها كَذّبوه).

والأمم مختلفة في الوجود فحرف "ما" وقع على تفاصيل موجودة ففصل: وهذا على خلاف حال الحرف الذي قال فيه تعالى: (كُلّما جاءَهُم رَسولٌ بِما لا تَهوى أَنفُسُهُم فَريقاً كَذبوا وَفَريقاً يَقتلون) فإن هؤلاء هم بنو إسرائيل أمة واحدة. يدلك عليه قوله تعالى: (فَلِمَ تَقتُلونَ أَنبِياءَ اللَهِ مِن قَبلُ إِن كُنتُم مُؤمِنين) والحاضرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يباشروا قتل الأنبياء من قبل إنما باشره آباؤهم، لكن مذهبهم في ذلك واحد ورأيهم فيه سواء. فحرف "ما" إنما شمل تفاصيل الزمان. وهو تفصيل لا مفصل له في الوجود إلا بالعرض والتوهم، لا بالحس. فوصلت كل لإتصال الأزمنة في الوجود وتلازم أفرادها المتوهمة.

وكذلك: (كُلَما رُزِِقوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ رِزقاً قالوا) هذا موصول لأن حرف "ما" جاء لتعميم الأزمنة. ولا تفصيل فيها في الوجود. وما رزقوا هو غير مختلف لقوله تعالى: (وَأَتَوا بِهِ مُتَشابِهاً) ومن ذلك: (أَينَما) موصول حيث تكون "ما" غير مختلفة الأقسام في الفعل الذي بعدها مثل: (أَينَما يُوجّهِه) (فَأَينَما تُولَوا). (أَينَما ثُقِفوا أُخِذوا)، (أَينَما تَكونوا يُدرككمُ المَوت).

فهذه كلها لم تخرج عن الأين الملكي، وهو متصل حسا ولم يختلف فيه الفعل الذي مع "ما".

ويفصل "أين" حيث تكون "ما" مختلفىة الأقسام في الوصف الذي بعدها مثل: (أَينَ ما كُنتُم تَعبُدونَ) (وَهُوَ مَعَكُم أَينَ ما كُنتُم)، (أَينَ ما ثُقِفوا إلا بِحَبلٍ مِنَ اللَهِ وَحَبلٍ مَنَ الناس).

فهذه وأمثالها أينات بعضها ملكي، وبعضها ملكوتي، وبعضها غير معلوم فهو مفصول في الوجود.

 ومن ذلك: (بِئسَما) موصول ثلاثة أحرف: اثنان في البقرة: (بِئسَما اِشتَروا بِهِ أَنفُسَهُم)، (بِئسَما يَأمُرُكُم بِهِ إِيمانُكُم إِن كُنتُم مُؤمِنين) وفي الأعراف: (بِئسَما خَلَفتموني مِن بَعدي) فحرف "ما" ليس فيه تفصيل لأنه معنى واحد في الوجود من جهة كونه باطلا مذموما. فهو على خلاف حال ما في العقود: (وَتَرى كَثيراً مِنهُم يُسارِعونَ في الإثمِ والعُدوان وَأَكلِهِمُ السُحت لَبِئسَ ما كانوا يَعملون) فحرف ما "مشتمل" على الأقسام الثلاثة المذكورة قبله.

وكذلك: (لَبِئسَ ما قَدّمَت لَهُم أَنفُسُهُم) حرف "ما" مفصول لأنه يشمل ما بعده من الأقسامز ومن ذلك: (يَوم هُم عَلى النارِ يُفتَنونَ)، (يَوم هُم بارِزون) حرنفان فصل الضمير فيهما لأنه مبتدأ. وأضيف اليوم إلى الجملة المنفصلة عنه.

(وَيومَهُمُ الذي فيهِ يُصعَقون) و (يَومَهُم الذي يوعَدون) وصل الضمير لأنه مفرد فهو جزء الكلمة المركبة من اليوم المضاف والضمير المضاف إليه.

ومن ذلك: (في ما) محجوز في أحد عشر حرفا.

أحدها في البقرة: (في ما فَعَلنَ في أَنفُسِهنّ مِن مَعروف) حرف "ما" يقع على حرف واحد من أنواع تنفصل بها المعروف في الوجود على البدلية أو على الجمع. يدل على ذلك تنكير المعروف ودخول حرف التبعيض عليه. فهو جنس مقسم. وحرف "ما" واقع على كل واحد منها على البدلية أو على الجمع كما ذكر.

وأما قوله تعالى: (فَلا جُناحَ عَلَيكُم فيما فَعَلَنَ في أَنفُسِهِنّ بالمَعروف) فهذا موصول لأن "ما" واقعة على شيء واحد غير مفصل. يدلك عليه وصفه بالمعروف و المعرفة.

وكذلك: (في ما اِشتَهَت أَنفُسُهُم خالِدون) هو مفصول لأن شهوات النفوس مختلفة مفصلة في الوجود. وكذلك فتدبر في سائرها. فافهم.

ومن ذلك: (لَكَي لا) موصول في ثلاثة أحرف وسائرها منفصل. وإنّما توصل حيث يكون حرف النفي دخل على معنى كلي فيوصل لأن نفي الكل نفي لجميع جزئياته. فعلة نفيه هي علة نفي أجزائه. وليس للكلي المنفي أفراد في الوجود و إنما ذلك فيه بالتوهم الكاذب والخيال الشعري وتفصيل حيث يكون حرف النفي دخل على جزئي. فإن نفي الجزئي لا يفهم منه نفي الكلي فلا تكون علته علته.

ففي الحج: (لِكَيلاَ يَعلَم مِن بَعدِ عِلمٍ شيئاً).

وفي الأحزاب: (لِكَيلا يَكونَ عَلَيكَ حَرَج).

وفي الحديد: (لِكيلا تَأسوا).

فهذه هي الموصولة وهي على خلاف حال: (لِكي لا يَعلمَ بعدَ عِلمٍ شَيئاً) في النحل لأن الظرف في هذا خاص الاعتبار. وهو في الأول عام الإعتبار لدخول حرف "من" عليه وهذه مثل قوله تعالى عن أهل الجنة: (إِنّا كُنا قَبلُ في أَهلِنا مُشفِقين) اختص المظروف بقبل في الدنيا فيها كانوا مشفقين خاصة.

وقال تعالى عنهم: (إِنا كُنّا مِن قَبلُ نَدعوهُ إِنّهُ هُوَ البَرّ الرَحيم) فهذا الظرف عام لدعائهم ذلك في الدنيا والآخرة ولم يختص المظروف ب (قبل) في الدنيا.

وكذلك: (لكي لا يَكونَ عَلى المُؤمِنينَ حَرَجٌ في أَزواج أَدعِيائِهِم إِذا قَضوا مِنهُنّ وَطَرا) فهذا المنفي هو حرج مقيد بظرفين.

وكذلك: (كي لا يكون دُولَةً بَينَ الأَغنياءِ مِنكُم) فهذا النفي هو كون (ما أفاءَ اللَهُ عَلى رَسولِهِ مِن أَهلِ القُرى) دولة بين الأغنياء من المؤمنين وهذه قيود كثيرة.

و من ذلك: (هُم) ونحوه من المضمرات توصل ولا تفصل مثل: حسبهم وعنكم لأن الضمير يدل على جملة المسمى من غير تفصيل فالإضمار حال لا صفة وجود فلا يلزمها التقسيم الوجودي إلا الوهمي الشعري. والخط إنما يرسم على العلم الحق.

ومن ذلك: "مال" أربعة أحرف محجوزة وذلك أن اللام وصلة إضافية فقطعت حيث تقطع الإضافة في الوجود.

 فأولها في سورة النساء (فَمالِ هَؤلاءِ القَوم). "هؤلاؤء القوم المشار إليهم في الآية هم الفريق الذين نافقوا من القوم الذين قيل لهم: (كُفوا أَيدِيَكُم وَأَقيموا الصَلاة) قطعوا وصل السيئة بالحسنة في الإضافة إلى الله ففرقوا بينهما كما أخبر الله سبحانه عنهم. والله قد وصل ذلك وأمر به في قوله: (قُل كُلٌ مِن عِندِ اللَه) فقطعوا في الوجود ما أمر الله به أن يوصل بقطع لام وصلهم في الخط علامة لذلك وفيه تنبيه على أن الله يقطع وصلهم بالمؤمنين وذلك في يوم الفصل. (يَومَ يَقولُ المُنافِقونَ وَالمُنافِقاتُ لِلذَينَ آَمنوا انظرونا نَقتَبِس مِن نورِكُم).

والثاني في سورة الكهف: (وَيقولونَ يا وَيلَتَنا مالِ هَذا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَلا كَبيرَةً) هؤلاء قطعوا بزعمهم وصل جعل "الموع" لهم بوصل إحصاء الكتاب وعدم مغادرته لشيء من أعمالهم في إضافتها إلى الله.

فلذلك ينكرون على الكتاب في الآخرة. ودليل ذلك ظاهر من سياق خبرهم في تلك الآيات من الكهف.

والثالث في سورة الفرقان: (وَقالوا مالِ هَذا الرَسولِ يَأكُلُ الطَعام) قطعوا وصل الرسالة بأكل الطعام. فأنكروا فقطعوا قولهم: (هَذا الرَسول) عَن اعتقادهم أنه رسول فقطع "اللام" علامة لذلك.

والرابع في المعارج: (فَمالِ الَّذَينَ كَفَروا قِبَلَكَ مُهطِعين) هؤلاء الكفار تفرقوا جماعات مختلفات كما يدل عليه قولهم: (عنِ اليَمينِ وَعَنِ الشِمالِ عَزيز). وقطعوا وصلهم في قلوبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقطع الله طمعهم في دخول الجنة. ولذلك قطعت اللام علامة عليه.

ومن ذلك: ابن أمّ في الأعراف مفصول على الأصل وفي طه: (يابنَؤُمّ) موصول. وذلك علامة تعريف لمعنى لطيف. وهو أنه لما أخذ موسى برأس أخيه اعتذر له فناداه من قرب على الأصل الظاهر في الوجوه. ولما تمادى ناداه بحرف النداء ينبهه لبعده عنه في الحال لا في المكان مؤكدا لوصلة الرحم بينهما بالرباط فلذلك وصل في الخط. ويدلك عليه نصب الميم ليجمعهما الإسم بالتعميم.

ومن ذلك ستة أحرف لا توصل بما بعدها وهي: الألف و الواو والدال والذال والراء والزاي لأنها علامات لانفصالات ونهايات. وسائر الحروف توصل في الكلمة الواحدة.

فصل

 من ذلك في حروف الإذغام: (عَن ما نُهُوا عَنه) فرد أظهر فيه النون وقطع عن الوصل، لأنّ معنى "ما" عموم كلي تحته أنواع مفصلة في الوجود غير متساوية في حكم النهي عنها.

ومعنى "عن" المجاوزة و المجاوزة للكلي مجاوزة لكل واحد من جزئياته. ففصل علامة لذلك.

ومن: (مِن ما) ثلاثة أحرف مفصولة لا غير.

أحدها في النساء: (فمِن ما مَلَكَت أَيمانُكُم).

وفي الروم: (هَل لَكُم مِن ما مَلَكَت أَيمانُكم).

وفي المنافقين: (وَأنفِقوا من ما رَزقناكُم).

وحرف "ما" في هذه كلها مقسم في الوجود بأقسام منفصلة غير متساوية في الأحكام.

فهذه على غير حال: (مِمّا كُتِبَت أَيديهِم) فإنها وإن كانت تحتها أقسام كثيرة فهي غير مختلفة في وصفها بكتب أيديهم فهو نوع واحد يقال على معنى واحد من تلك الجهة هو في أفراده بالسوية. فافهم وتدبر القول.

وكذلك: (أَم مَن) بالحجز أربعة أحرف لا غير.

في النساء: (أَم مَن يكونُ عَلَيهِم وَكيلا).

و في التوبة: (أَم مَن أُسّس بنيانه).

وفي الصافات: (أَم مَن خَلَقنا).

وفي السجدة: (أَم مَن يَأتي آمَنا).

فهذه الأحرف الأربعة حرف "من" فيها مقسم مفصول في الوجود بأنواع مختلفة في الأحكام.

وليس كذلك غيرها مثل: (أَمَن يَمشي سَويا).

فهذا من موصول أن "من" نوع واحد من حيث يمشي على صراط مستقيم.

كذلك: (أَمّن جَعَل الأَرضَ قَراراً) لا تفاصيل تحتها في الوجود. فافهم.

وكذلك: (عَن مَن) مفصول حرفان.

في النور: (عَن مَن يَشاء).

وفي النجم: (عَن مَن تَولّى).

حرف "مَن فيهِما كلي" وحرف عن للمجاوزة.

والمجاوزة عن الكلي مجاوزة عن جميع جزئياته دون العكس. فلا وصلة بين الحرفين في الوجود، فلا يوصلان في الخط.

وكذلك: (من من) متصل كله لا ينفصل لأن من بفتح الميم جزئي بالنسبة إلى "ما" فمعناه أزيد من جهة المفهوم ومعنى "ما" أزيد من جهة العموم، والزائد من جهة "العموم" ينفصل وجودا بالحصص، والحصة منه لا ينفصل والزائد من جهة المفهوم لا يتفصل وجودا. فافهم.

 وكذلك: (وَإِن ما نُريَنّكَ بَعضَ الذي نَعِدُهُم) في سورة الرعد، فرد محجوز ظهر منه حرف الشرط في الخط، لأن الجواب "المترتب" عليه بالفاء ظاهر في مواطن الدنيا، وهو البلاغ فهذا الحرف على غير حال الحرف الآخر: (فَإِمّا نُرينّكَ) فإنه اخفي فيه حرف الشرد في الخط لأن الجواب المترتب عليه بالفاء خفي عنا. وهو الرجوع إلى الله تعالى فهذا وجه.

وله وجه آخر في الاعتبار وهو أن القضية الأولى متصلة من الشرط وجوابه. وانقسم الجواب إلى قسمين.

أحدهما المترتب بالفاء وهو البلاغ.

والثاني المعطوف عليه وهو الحساب.

وأحدهما في الدنيا والآخرة في الآخرة.

والأول ظهر لنا والثاني خفي عنا.

وهذا الإنقسام صحيح في الوجود فقد انفصلت هذه الشرطية إلى شرطيتين لانفصال جوابهما إلى قسمين متغايرين، ففصل حرف الشرط علامة لذلك.

وإذا انفصل لزم كتبه على الوقف. والشرطية الأخرى لا تنفصل بل هي واحدة لاتحاد جوابها فاتصل حرف الشرط علامة لذلك. وهاتان الشرطيتان الجواب فيهما هو من باب الوجود فاعلمه.

وكذلك: (فَإِن لَم يَستَجيبوا لَكَ) في القصص ثابت النون.

وفي هود: (فإِلَّم يَستَجيبوا لَكُم) فرد بغير نون و أظهر حرف الشرط لأن جوابه المرتب عليه بالفاء هو علم متعلق بشيء بملكي ظاهر سفلي وهو اتباعهم أهواءهم. وأخفي في الثاني لأن جوابه المرتب عليه بالفاء هو علم متعلق بشيء ملكوتي خفي علوي وهو إنزال القرآن بالعلم والتوحيد.

فهذا وجه مثل الوجه الأول في الشرطيتين المتقدمتين.

إلا أن هاتين الشرطيتين الجواب فيهما هو من باب الإدراك والعلم.

وله وجه آخر في الاعتبار مثل الوجه الثاني المتقدم.

وهو أن جواب الشرطية الأولى من هاتين ينفصل في الوجود بقسمين: أحدهما اتباعهم أهواءهم، وهو جزئي له علم يخصه.

والثاني ما عطف على القسم الأول وهو: (وَمَن أَضَلُ مِِمَن اِتّبع هواهُ).

وهذا كلي وله علم يخصه فانفصل العلم بهما في الوجود إلى علمين. فإن الجزئي إذا حصل في الوجود حصل الكلي في ضمنه في الوجود، وانقسم علمنا بهما في الوجود إلى علمين صحيحين لأن علمنا "تابع" لوجود الموجودات على ما هي عليه في الوجود. فانفصل حرف الشرط. وإنما لزم دخول المعطوف في جواب هذه الشرطية لأنه نفي اشتمل عليه العلم جاء على لفظ الإستفهام وهذا الأسلوب من البيان إنما يقع في خطاب الله تعالى على معنى أن المخاطب عنده علم ذلك المنفي حاصل يستفهم عنه نفسه يخبره به إذ قد وضعه الله عندها. وجاء عليه كثير من الآيات مثل قوله تعالى: (وَمَن أصدَقُ مِنَ اللَهِ حَديثا) ويكون في ال اثبات كما يكون في النفي. قال تعالى: (هَل أَتى عَلى الإنسانِ حينٌ مِنَ الدَهرِ لَم يَكُن شيئا مَذكورا) و (فَهَل أَنتُم مُسلِمون) ومعنى ذلك أنه قد حصل لكم العلم بذلك الذي تجدونه عندكم إذا استفهمتكم بأنفسكم عنه. فإن الرب لا يستفهم خلقه عن شيء شيء جهله وإنما يستفهم بفهم يقررهم ويذكرهم أنهم قد علموا حق ذلك الشيء.

فهذا أسلوب بديع انفرد به القرآن. وهو في كلام البشر يختلف. فاعلم.

وجواب الشرطية الثانية إذا اعتبر في قوله تعالى: (وإِن لا إلهَ إِلا هو) معطوف على: (إِنّما أُنزِلَ بِعِلمِ اللَه) فيكون العلم في هذا الاعتبار يتعلق بمعلومين. لكن انفصاله بقسمين إن توهم فهو بخيال شعري من قبل النفس لم يحصل لها من جهة عين المعلوم في الوجود. لأنا لم ندرك حقيقة في الوجود إلا إيمانا وسلمنا لله علمه. فعلمنا من جهة الوجود علم واحد إسلامي بالضرورة حصل لنا الإيمان به من جهة اللزوم عن الأدلة والآثار كما ختم سبحانه الآية به. قال تعالى (فَهَل أَنتُم مُسلِمون) فافهم. وجل بسرك السفير في موارد معاني التفسير. (وَما يَستوي الأَعمى وَالبَصير).

وكذلك: (أَن لَن) كله مفصول إلا حرفين: (أَلَن نَجعَلَ لَكُم مَوعِداً) في الكهف. (أَلَنن نَجمَع عِظامَه) في القيامة. سقط النون منهما في الخط علامة على أن ما زعموا وحسبوا هو باطل في الوجود وحكم بما ليس بمعلوم نسبه للحي القيوم. فأدغم حرف توكيدهم الكاذب في حرف النفي السالب. فهو على خلاف حال قوله تعالى: (زَعَمَ الَّذَينَ كَفَروا أَن لَن يُبعَثوا).

فهؤلاء لم ينسبوا ذلك الفاعل إذا ركب الفعل مما لم يسم فاعله وأقيموا فيه مقام الفاعل.

 فعدم بعثهم تصوروه من أنفسهم وحكموا به عليها توهما. فهو كاذب من حيث حكموا به على مستقبل الآخرة. فلكونه حقا بالنسبة إلى دار الدنيا الظاهرة ثبت التوكيد ظاهرا، وأبدل وأدغم في حرف النفي من حيث الفعل المستقبل الذي هو فيه كاذب.

وكذلك: (أَن لا) تثبت النون منها في عشرة أحرف. وذلك حيث ظهر في الوجود صحة توكيد القضية ولزومها.

أولها في الأعراف: (أَن لا أَقولَ عَلى اللَهِ إِلاّ الحَقّ) و (أن لا يَقولوا عَلى اللَهِ إِلا الحَق).

وآخرها في سورة القلم: (أَن لا يَدخُلَنّها اليَومَ عَلَيكُم مِسكين) فتأمل كيف صح في الوجود هذا التوكيد الأخير، فلم يدخل عليهم مسكين لكن على غير ما قصدوا وتخيلوا معه. فافهم.

وكذلك لام التعريف المدغمة في اللفظ في مثلها أو في غيرها لما أتت للتعريف وشأن المعرف أن يكون أبين وأظهر لا أخفي وأستر أظهرت في الخط ووصلت بالكلمة لأنها صارت جزءا منها من حيث هي معرفة بها هذا هو الأصل.

وقد حذفت حيث يخفى معنى الكلمة مثل "اليل" فإنه معنى ظلم لا يوضح الأشياء بل يسترها ويخفيها وكونه واحدا إما "لجزئي وإما للجنس" فأخفى حرف تعريفه مثله، فإن تعين الجزئي بالتأنيث رجع إلى الأصل.

ومثل: (الذي) و (التي) وتثنيتهما وجمعهما. فإنه مبهم في المعنى والحكم لأن واحدة للجزئي وللجنس وكثيره لثلاثة أو غيرها. ففيه ظلمة الجهل كاليل.

ومثل: (ألاّ) في الإيجاب. فإن لام التعريف دخلت على لا النافية وفيها ظلمة العدم كالليل. ففي هذه الظلمات يخفى حرف التعريف فافهم.

وكذلك": (الأيكة) نقلت حركة همزتها على لام التعريف وسقطت همزة الوصل "التحريك" اللام وحذف الألف عند الهمزة ووصل اللام فاجتمعت الكلمة فصارت (ليكة) علامة على اختصار و"تلخيص" وجمع في المعنى وذلك في حرفينز أحدهما في الشعراء، جمع فيه قصتهم مختصرة موجزة في غاية من البيان وجعلها جملة واحدة و هي آخر قصة في السورة. يدلك عليه قوله تعالى في آخرها: (إنّ في ذلك لآية) فأفرد الآية.

والحرف الثاني في ص، جمع الأمم فيها بألقابهم وجعلهم جملة واحدة وهم آخر أمة فيها ووصف الجملة. قال تعالى: (أَولِئِكَ الأحزاب). وليس الأحزاب وصفا لكل منهم، بل هو وصف لجميعهم.

وجاء بالانفصال على الأصل حرفان نظيرا هذين الحرفينز أحدهما في الحجر: (وإِن كانَ أَصحابُ الأَيكَةِ لَظالِِمين) أفردهم بالذكر والوصف.

والحرف الثاني في "ق": (وَأَصحابَ الأَيكَة). جمعوا فيه مع غيرهم ثم حكم على كل منهم "لا" على الجملة فقال تعالى: (كُلٌ كَذّبَ الرُسُلَ) فحيث يعتبر فيهم التفصيل فصل لام التعريف. وحيث يعتبر فيهم التوصيل وصل للتخفيف.

وكذلك: (لَتّخَذتَ عَلَيهِ أَجراً) حذف الألف ووصل لام التعريف لأن العمل في الجدار قد حصل في الوجود. فلزم عليه الأجر، واتصل به حكما بخلاف (لاتّخَذوكَ خَلَيلاً) ليس في وصلة "اللزوم" فافهم.