المقدمة

زهر الأكم في الأمثال والحكم

اليوسي

الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي 1040 - 1102 هــ 1630 - 1691 م

اليوسي

1040 - 1102 هــ

فقيه مالكي أديب، ينعت بغزالي عصره.

من بني (يوسي) بالمغرب الاقصى. تعلم بالزواية الدلائية، وتنقل في الامصار.فأخذ عن علماء سجلماسة ودرعة وسوس ومراكش ودكالة، واستقر بفاس مدرسا، واشتهر، حتى قال العياشي (صاحب الرحلة) فيه: من فاته الحسن البصري يصحبه فليصحب الحسن اليوسى يكفيه

وحج، وعاد إلى بادية المغرب فمات في قبيلته، ودفن في (تمزرنت) بمزدغة.

من كتبه "المحاضرات في الأدب" ، و "منح الملك الوهاب فيما استشكله بعض الأصحاب من السنة والكتاب" و"قانون أحكام العلم" و"زهر الاكم في الأمثال والحكم"و"حاشية على شرح السنوسي" في التوحيد، و (ديوان شعر) ، و (فهرسة) لشيوخه، و "القصيدة الدالية" وشرحها المسمى (نيل الأماني من شرح التهاني) وله (الكوكب الساطع في شرح جمع الجوامع) للسبكي، لم يكمله، قال صاحب الصفوة: لو كمل هذا الشرح لاغنى عن جميع الشروح.

وصف الكتاب

من الكتب الجيدة التي ألفها أبو علي اليوسي والتي تدل على سعة علمه وغزير معرفته. لم يتمه اليوسي لأنه توفي قبل إنهائه. يشتمل الكتاب في تصميمه كما اختطه له صاحبه على 66 باباً مقسمة إلى سمطين كبيرين. فالسمط الأول جعله خاصا بالأمثال وما يلحق بها. أما السمط الثاني فكرسه للحكم وما يدور في فلكها.

ويبدو لنا هذا في العنوان: وهر الأكم في الأمثال والحكم. كتب اليوسي مقدمة الكتاب وخاتمته، الشيء الذي يبين أن فكرة الكتاب كانت واضحة لديه. ولم ينجز من الكتاب غير أربعة عشر باباً من السمط الأول.

يبرز لنا هذا الكتاب بجلاء قيمة اليوسي المعرفية، ومكانته العلمية

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه

 

سبحان الله المتعالي عن الأشباه والأمثال، والحمد لله ذي الفضل العظيم والكرم المنثال، ولا إله إلا الله المتوحد بالكبرياء والأثال، والله اكبر أن يتطاول إلى سميّ جلاله خيالٌ أو مثال. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، نحمده على ما أسدى من جزيل الرغائب، وأجدى من جميل المواهب، وسنّى من جليل المآرب، وأسنى من كميل المراتب، وأولى من الجميل العميم. ونشكره على أفئدة بنور الأيمان هداها، والسنة أطال في شأو البيان مداها، وبصائر أسام سرحها إلى مراتع العبر وحداها، وانتجع بها مواقع غيث الفكر وجداها؛ حتى أصبحت نشوى من كؤوس العرفان تهيم، وتجلوا بلوامع التبيان كل ليل بهيم، ونصلّي على نبيه محمّد المختار المقتعد حقا ذروة الكمال والفخار، والمرتدي برداء الجلال والإكبار، والمبتعث من أطيب عنصر وأكرم نجار، في حسب حسيب وشرف قديم. الذي أنار بطلعته الغراء علم المهتدين، وسمك بعزته القعساء منار الدين، وثل بشرعته البضاء عروش الجاحدين والحائدين، واستأصل بشوكته الشوكاء شأفة العادين، وجعلة صفوة الصفوة، ونخبة النخبة، وسرَّ السر، وخلاصة الخلاصة، ومصاصة المصاصة، ولباب اللباب، وخيار الخيار، وصميم الصميم. صلى الله عيه صلاة تلوح في أفق مكانته العلياء قمرا، وتفوح على طلعته الغراء عنبرا، وتنهمل في جناب مجاته الفيحاء كوثراً، وتخضل في روضتة جماله الغناء زهرا، ما هب نسيم، وذهب ذو رسيم. وعلى اله الأماثل، وأعلام الدين القويم، والصراط المستقيم، ما بدا على وجنات الورد تخجيل، من رشفات النسيم البليل، واصفر روعة وجه الأصيل، من لحظات طرف الليل الكحيل، وأسفر الصباح عن ثغر بسيم، ومنظر وسيم.

 

أما بعد، فان العلم انفس علق يقتنى، وأحلى ثمر يجتنى؛ وأعدل حجة، وأقوم حجة، وأحصن جنة، وأضوء بدر في دجنة؛ وأربح متجر مثابر عليه، وأنجع مرعى ينتجع إليه؛ وأرجى بارق يشتام، وأفضل جناب يعتام؛ وأنور نور يستضاء به في الظلومات، وامنع وزر يعتصم به في الأزمات؛ وأوثق عروة يستمسك بها ذوو البصائر، وأعظم عدة تعقد عليها الخناصير؛ وأقوى مطية تركب، وأتم سلاح يتنكب؛ وأطيب نسمة تستنشق، وأجمل محبوب يعلق؛ وأبهى زينة يتحلى بها المتحلون، وارفع منصة يتجلى عليها المتجلون.

 

فإن العلم غذاء العقل، وبه يعرف الحكم العدل؛ وإنّ الخصيصى التي بها شرف الإنسان إنّما هي العلم؛ فان المرء لو بلغ في كمال الجسم أطوريه، لا يكون أنسانا إلاّ بأصغريه:

 

لولا العقول لكان أدنى ضيعة ... أدنى إلى شرف من الإنسان

 

وما امتاز اللسن الذكي عن العييى إلاّ برجاحة الجنان، وفصاحة اللسان؛ فان الخليق للأفكار عند افتراعها المعاني الأبكار؛ والجدير للألسنة عند اقتطافها أزاهير البيان، واهتصارها أفانين التبيان، أن يتميز فيها الفائق من المائق، والسابق من السائق؛ وعند السياق في ميدانها الوثيم، أن يتجلى المجلى عن اللطيم، وعند مزاولة الغرض المعضل، أن يعرف المقرطس من المخضل. وعند انتياش مضارب الأفهام، أن يمتاز الصارم عن الكهام؛ وعند اقتباس حكمة تستشعر، أن يشرف المورى عن الأدعر؛ وعند اقتسام مزايا الفضل الفسيح، أن يفوز المعلى دون السفيح؛ وعند استفتاح المغالق، وتغشي المضائق، أن يعلم المجحم من المحجم، والهصور من الحصور. فلا جرم كان من اجل العلوم وأفخرها، وأحقها بالاعتناء به وأجدرها، علم الأدب، والتضلع من كلام العرب، إذ به تنحل عقله اللسان، وتزاح روعة الجنان. وهو لسان نبينا نخبة العالم، وصفوة ولد آدم، وكتابه الذي أخرس به مصاقع البيان، من بلغاء عدنان وقحطان، حتى عدلوا عن المجادلة إلى الطعان، وعن المعارضة إلى الادغان. صلى الله وسلم عليه وعلى آله ما لمع بارق، وطلع شارق، فهو لعمري أجل الكلام، وأشرف ما اعتورته الألسنة والأفهام، وأبها بدر يستجلى وعروس، وأسنى أثر يستبقى في ميادين الطروس. لا سيما علم أمثالها التي هي زمام كل معنى، ومناط لك مبنى، ومنار لك مرمى، ومصباح كل ظلما. وبها يرتاض كل جموح، ويصبح المنبهم ذا وضوح، وبها يعود الغائب مشهودا بل المعدوم موجودا.

 

وكان الأقدمون بهذا الفن معتنين، ولنوادره ملقنين، ومدونين، يردون مواردها، ويقتنصون شواردها؛ ويقتطفون أزهارها النضرة، ويتنسمون نسماتها العطرة؛ ويرتشفون ثغورها، ويقتبسون نورها؛ ويشيمون لمحات تلك البوارق، ويشمون بدررها صفحات المهارق. فلما طال العهد بأزمان العرب، وقضى من تناسي أيامها كل أرب، تغلبت العجمة على الألسنة والطباع، فخلت من قطينها هاتيك الرباع، وأصبحت حديثا مهجورا، كأن لم تكن شيئا مذكورا، وعادت أيامها محض أوهام، فكأنها وكأنهم أحلام، وتقلص ضافي بردها، وتكدر صافي وردها، وذهبت المعارف والعوارف، وتقلص ظلها الوارف؛ وأمست رباع الأدب قفرا، وراحت الخواطر منه صفرا.


وكانت نفس تشوقني إلى هذا الفن ومآثره، وتنازعني إلى تتبع داثره. فكنت أشتاق أن أرى في هذا موضوعا، وأصادف كتابا مجموعا، مما عني به الأقدمون، واقتفى أثرهم فيه المتأخرون. فلم يسمح بذلك الدهر العقيم، ولم يظفر بشيء منه الجد السقيم. ولما لم أذق من ذلك لملقا، ولم يزدد القلب إلاّ اشتياقا، طفقت أجول في عرصات كتب الأدب، وكل ما له ماسة بكلام العرب. ولم أزل أتتبع ظلالها، واشتف بلالها، وأرعاها قنناً ووهادا، وأنتجعها فتوحا وعهادا؛ وأحتلبها شصائص وشكارى، وأعتنقها عونا وأبكارا، حتى التقطت من ثمين جوهرها، واقتطفت من يغيع زهرها، ما يشفي العليل، وينقع الغليل، ويميس ميس الغصن المروح، ويسري في الجسوم مسرى الروح. فلما امتلأ بحمد الله من ذلك الوطاب، وعاد البلح إلى الأرطاب، هممت أن أجمع ما علق في هذا الوقت بخاطري، مما ترقى إليه نظري وناظري، في كن يؤويه، ومجموع يحويه، حذارا من النسيان، عند تطاول الزمان. فألفت هذا المجموع في الأمثال، وأود عته كل دمية وتمثال. ثم رأيت أن أضم إليها من الحكم جملة مما انتهيت إليه، ووقفت عند تطوافي عليه، وتتميما للفائدة، وتكميلا للعائدة، مع قرب ما بين النوعين جدا، كما ستقف عليه عند التعرض لهما فصلا واحدا. فجاء بحمد الله كتابا ممتعا، للآذان الصم مسمعا:

 

جمهت به والجفن مغض على القذى ... وبالخد البلبال أصبح ذا خلدِ

 

محاسن تزوي بالنسيم إذا سري ... فحيى محيا السوسن الغض والوردِ

 

وتزري بهاء بالمطير من الربى ... وبالعذب للصادي وبالكاعب الرادِ

 

لآلئ ما غواصها بمصادف ... لها صدفا في ملتفى أبحر الهندِ

 

ولا حليت يوما بها جيد غاده ... ولا فصلت بالعسجد الصرد في عقدِ

 

فرائد ما منهن إلاّ جريدة ... أعز على المرتاد في الأبلق الفردِ

 

ومع هذا فإني اعتذر لذوي النفوس الوقادة، والصيارفة النقادة، من تقصير فيه، وخلل لم يتفق تلافيه. وكيف لا يعذر ذو بال متقسم، ووبال متكسم، وشخص لا يبين لمتوسم، مكلوم بفاغر من الخطوب متبسم، يرمق العيش برضا، ويقطع بسيط الحيرة طولا وعرضا، لا يترجى مددا، إلاّ كمدا. ولا يغتيق إلاّ عبرة، ولا يعتلف إلاّ زفرة، ولا يعد إلاّ ذنوب الدهر، ولا يعد إلاّ ذنوب نهر، في فتن تحول بين المرء وقلبه، وتذهل غيلان عن حبه، ودهر حال دون القريض، بالشجى والجريض، ورد الأوج إلى الحضيض، ولم يجعل بدا من مصادقة البغيض، وأعاد الصدور أعقابا، والنواصي أذنابا، وكدر كل صفو، وأورث كل شجو، وخلف من بينه كجلد الأجرب، وزباني العقرب، لا يتجرعون إلاّ علاقم، ولا يلتمسون إلاّ أراقم؛ أما أذنابها فرعراع، وشر شعاع، وفتنه وردها قعاع، وظلمة ليس بها شعاع؛ وأما ذراها فلا تعدو رضيعا تبكي المخالص الجرب لمصابه، وتشكو الصفر والبيض يد الضياع لصفر وطابه، وخليعا يذهب دهره ما بين الرخ والرخة، والفخ والفخة، وكلا النوعين قد أنزلهما أسود العين طرفه، وتضمنتهما القمران المشتبهان في بيت طرفة.

 

وكان الأدب وسائر العلوم قديما إنّما يحيي غراسها، ويسني مراسها، ويطيب أنفاسها، ويحبب نفاسها الفضل، الهام والعدل الحام. فأما اليوم فلا ندى يستثمر الإبداع، ولا انتصاف يتلافى الانصداع. فأي علم يترجى، ممن زوال الروع عنده منتهى الرجا قنوع من الغنيمة بالإياب، ومن الايراب، بنفاضة الجراب، ومن الشراب، بلمحة السراب. وكيف يمكن لمثلي أن يجمع بين كلمتين، فضلا عن فصلين لكن لمّا لم يكن التجرع عند حلول الأقدار، من شيم الأحرار، قبضت على أحر من الجمر، وتجلد على ما بي من ضمر، وتثنيت الضلوع على أذاها، وأغيضت الجفون عل قذاها. فجمعت هذه الأحرف على حين لم يبق من العلم إلاّ رسمه، ومن التحقيق إلاّ اسمه، من غير كبير عدة أعتمد عليها وأرجع عند المعوصات إليها، ولا وجود مصنف في هذا الفن أهتدي بمناره، وأستضيء بضوء نهاره، وإنما أقتدحت الفكر السادر، فاقترحت نوادر، جمعتها من كل أوب، وحدرتها من كل صوب، ولا أكاد مع ذلك أجد مثلا منه متكلما عليه، ومنبها فيه على ما يحتاج إليه؛ وإنّما يذكرها مجردا، فألتقطه مفردا. ثم أتحمل أعباء شرح ألفاظه ومعانيه، وأتكلف من دواوين العرب ومن بعدهم إحضار شواهده ومبانيه. فكنت في ذلك شبه الواضع وإن سبقت، والمخترع وإن نقلت. وأضفت إلى ذلك من نفائس النوادر دررا، ومن نكت الفوائد غررا. وجمعت فيه من شعر الأقدمين والمحدثين عيونا، وقضيت من غريبه ديونا، وما ذكرت شعرا إلاّ اخترته، ولا ألممت بمنزع إلاّ حررته، ولا دفعت إلى مبهم إلاّ أوضحته، ولا افتتحت بابا إلاّ أتممته، مع جملة وافرة من علم اللغة، تكون للمقتصر علية كفاية وبلغة، لولا أنني رمت بذل على تقتير، وإنباضا بلا توتير. فان جاء وفق الغرض، وقضى الحق المفترض، فلله تعالى المنة، ومنه الحول والمنة؛ وإن اتفق خلل، وفرط زلل، فمن نفسي الغبية، وجهالتي الربية، وفطنتي الخامدة، وقريحتي الجامدة. فإنّ مثلي ليس يكون أهلا للتعلم فضلا عن التعليم:

 

ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيمُ

 

ولمّا تم ما أرته بحمد ذي المن والفضل، وبرز من القوة إلى الفعل، سميته زهر الأكم، في الأمثال والحكم. وجعلته سمطين: السمط الأمل في الأمثال وما يلتحق بها، وفيه مقدمة، وخاتمة، وأربعة وثلاثين بابا تسعة وعشرون منها في الأمثال العربية وما يلتحق بها على حروف المعجم، الباب الوفي ثلاثين في الأمثال التركيبية، الحادي والثلاثين في الأعيان، الثاني والثلاثين في الأمثال القرآنية، الثالث والثلاثون في الأمثال الحديثية، الرابع والثلاثون في التشبيهات الشعرية.

 

السمط الثاني في الحكم وما يلتحق بها، وفيه اثنان وثلاثون بابا: تسعة وعشرون في الحكم على حروف المعجم؛ الباب الوفي ثلاثين في حكم مجموعة، والحادي والثلاثون في النوادر، والثاني والثلاثون في الأوليات. فكان مجموع ذلك ستّة وستين بابا. والله أسأل أن يجعله عنده ذخيرة وحسنة، وأن يجعلنا من الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا ممن أدلى بحبل الغرور حتى حان، وسقط العشاء به على سرحان، وأعوذ بوجهه الكريم ممن إذا رأى قبيحا فار بطره، فشمت بالمساوي وأشمت؛ وإذا رأى جميلا ثار حسده، فصمت عن المحاسن وأصمت. وأعوذ به من إطراء المداجن، ومغث المشاجن، وأعوذ به ممن يتعرف الحق بالرجال، أو يحدد فضل الله بالآجال، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

 

السمط الأول

 

الأمثال وما يلتحق بها

 

المقدمة

الكلام في المقدمة وفيه أربعة فصول:

 

الفصل الأول: معنى المثل والحكمة

 

أما الأول وهو المثل بفتحتين يرد على ثلاثة أضرب:

 

الأول: الشبه، يقال: " هذا مثل ذلك " أي شبهة؛ ويقال أيضاً: " هو مثله بكسر فسكون، ومثيله، كما يقال شبه وشبيه " فإذا قيل: " هو مثيله، وهم أميثالهم بالتصغير " فقد أريد إنّ المشبه حقير، كما أن هذا حقير. ومن هذا قولهم: مسترد لمثيله، أي مثله يطلب ويشرح عليه. ومنه الأمثال من الناس وهو الأفضل، لأن معناه الأشبه بالأفضل والأقرب إلى الخير، وأماثل القوم خيارهم. قال تعالى: )إذ يقول أمثالهم طريقه. ويذهبا بطريقتكم المثلى( أي هي أشبه بالحق والفضيلة، وهي تأنيث أمثل - وتقول: مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به تمثيلا وتمثالا بفتح التاء، كالتسيار والتطوف. وأما التمثال بالكسر فالصورة، جمعها تماثيل. يقال : مثله له صورة له حتى كأنه ينظر إليه. وتمثل تصور. قال تعالى: )فتمثل لها بشراً سوياً.( وتماثل الشيئان: تشابها. ومثل الشيء: مقداره. وقوامه: مثلت بفلان مثلة، ومثلت به تمثيلا: أي نكلت به وأوقعت به عقوبة، من هذا ، لان معناه أنّه جعله مثلا يرتدع به الغير.


الضرب الثاني: الصفة. قال تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون) أي صفتها ونحو هذا ، وهو كثير في القرآن. وقال تعالى: (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى) أي لهم الصفات الذميمة وله الصفات العلى. ويقال في هذا المعنى أيضاً: مثال .

 

الضرب الثالث: القول السائر المشبه مضربه بمورده، وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال في القرآن. قال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس) الآية. وعلى هذا شاع إطلاق اسم المثل إذا أطلق.

 

وقال الراغب: الذي يقال على وجهين بمعنى المثل ، نحو شَبه وشِبه، ونِقض ونَقض، قال بعضهم: وقد يعبر بها عن وصف الشيء، نحو قوله تعالى )مثل الجنة( الآية. والثاني عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من معاني، أي معنى كان، وهو اعم والألفاظ الموضوعة للمشابهة. وذلك أن الند يقال فيما شاركه في جوهرية؛ والشكل يقال فيما شاركه في المساحة؛ والشبه يقال فيما يشاركه الكيفية فقط؛ والمساوي يقال فيما يشاركه الكمية فقط. والمثل عام في جميع ذلك. ولهذا إنما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال: )ليس كمثله شيء( انتهى. وقد ذكر غيره أن المماثلة هي المساواة من كل وجه، والمشابهة في اكثر الوجوه. والمناظرة هي المساواة من كل في شيء من الوجوه ولو في واحد، فيكون كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة أعم مما قبله. وكل ذلك مخالف لمّا في متون اللغة من تفسير المثل بالشبه، والعكس كما أوردنه قبل، ومخالف الظاهر صنيع البلغاء في باب التشبيه، حيث قسموا أوجه الشبه إلى ما يرجع إلى الشكل، وما يرجع إلى المقدار، وما يرجع إلى الكيفية، وغير ذلك ، وسموا كل ذلك تشبيها وهو من الشبه، والأمر في هذا قريب. إذا عرفت هذا فأعلم إنّ مقصودنا من المثل بالذات في هذا الكتاب هو ثالث الأقسام السابقة وهو المثل السائر.


وللناس في تعريفه عبارات. فقيل ما مر من إنّه القول السائر المشبه مضربه بمورده؛ وقيل هو قول مركب مشهور شبه مضربه بمورده، وهما بمعنى. فقيد السائر والمشهور يخرج ما لم يشتهر ويسر من الأقوال كلها. وقيل تشبيه المضرب أي المحل الذي ضرب فيه الآن بالمورد أي المحل الذي ورد فيه أولا يخرج ما اشتهر ولم يقع فيه هذا التشبيه ككثير من الحكم والأوامر والنواهي الشرعية مثلا. وقيل المثل هو الحجة، وهو صحيح لأنه يحتج به كما سيتبين في فائدته.

وقال المرزوقي: المثل جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلها بذاتها، تتسم بالقبول وتشتهر بالتداول، فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من غير تغير يلحقها في لفظها ، وعما يوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني. ولذلك تضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها، وأستجيز من الحذف ومضارع ضرورات الشعر فيها ما يستجاز في سائر الكلام.
وقال الراغب: المثل عبارة عن قول في شيء يشبهه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره، نحو قولهم: " الصيف ضيعت اللبن " فان هذا القول يشبه قولك: " أهملت وقت الإمكان أمرك. " قلت: وتلخيص القول في هذا المقام أن المثل هو قول يرد أولا لسبب خاص، ثم يتعداه إلى أشباهه فيستعمل فيها شائعا ذائعا على وجه تشبيهها بالمورد الأول؛ غير إنّ الاستعمال على وجهين:

 

أحدهما أن يكون على وجه التشبيه الصريح، سواء صرح بالأداة كقولهم: " كمجير أم عامر. " وقولهم: " كالحادي وليس له بعير. " أو لم يصرح كقولهم: " تركته ترك الصبي ظله. " وهو كثير.


الثاني إنّ لا يكون وجه التشبيه الصريح كقولهم: " الصيف ضيعت اللبن. " ؛ وقولهم: " هان علي الأملس ما لاقى الدبر " ونحو ذلك، وهو اكثر من الأول.

أما الوجه الأول فهو تشبيه من التشبيهات، إلى إنّه سار وذاع في بابه فعد مثلا سائرا لمّا عرفت من أن التشبيه كله تمثيل. ومن ثم تجد قدماء اللغويين وأهل العربية يطلقون المثل على المجاز، ويقيدون ما كان سائرا منه بالمثل السائر أو بأنه من أمثال العرب ليفهم ذلك .

 

وأما الوجه الثاني فهو في مورده لا تشبيه فيه، ولكن يستعمل في مضاربه على وجه تشبيهها بالمورد من غير تصريح " بالتشبيه " ، بل على أن يستعار اللفظ المستعمل في المورد الأول للشيء الشبيه بذلك. فقول القائل أولا للمرأة التي طلقها: " الصيف ضيعت اللبن " لا يريد تشبيها أصلا؛ وإنّما أراد انك فرطت في اللبن وتسببت في ضياعه عند زمن الصيف، إذ كنت تطلبين فراقي. ثم انك اليوم إذا رأيت أحد 3 فرط في حاجة زمن إمكانها، ثم جعل يطلبها ثم أدبرت، ساغ لك أن لك أن تشبه هيئته بهيئة من ترك اللبن أو محله في وقت، ثم جعل يطلبه في وقت آخر، فتقول له لأجل هذه المشابهة: " الصيف ضيعت اللبن " أي حالتك هذه حالة التي قيل لها: " الصيف ضيعت اللبن " ولأجل هذا المعنى وهذا التقدير، تنقل لفظ المثل كما قيل أولا من غير تغيير، حتى انك في هذا المثل بعينه تكسر التاء في ضيعت وإن كنت تخاطب ذكرا. وهكذا سائر الأمثال، وهذا يسمى عند الأدباء استعارة تمثيلية، ويسمى التمثيل على سبيل الاستعارة، وهي إحدى قسمي الاستعارة التصريحية التي هي أن تشبه شيئاً بشيء، ثم تنقل لفظ المشبه به وتطلق على المشبه لأجله هذا التشبيه إطلاقا كأنه وضع له من غير تصريح بالتشبيه لا بالمشبه به على وجه يشعر بالتشبيه؛ غير أن لفظ المشبه به قد يكون فردا كلفظ الأسد الذي تنقله من السبع الموضوع هو له أوّلاً إلى الرجل الشبيه به في الجرأة. وقد يكون مركبا كلفظ " الصيف ضيعت اللبن " الذي تنقله من هيئة من ضيع اللبن إلى هيئة من ضيع حاجة من الحوائج. وهي الاستعارة في التركيب والتمثيل على سبيل الاستعارة. والأمثال الداخلة في الوجه الثاني كلها من هذا النمط. وقد سمعت تقدير ذلك وعرفت وجه عدم تغييرها، إذ كما أن الفرد إذا نقل على وجه الاستعارة لا سبيل إلى تغييره، كذلك المركب.

 

فان قيل: فقد ظهر في الوجه الثاني أن للمثل مورد 3 ومضربا، وإنّ الثاني يشبه بالأول؛ وأما في الوجه الأول فإنما ذلك مجرد تشبيه سائر يشترك فيه الناس كلهم، فأنى يكون به مورد خاص وقي معناه نحو قولهم: " اعز من مخ البعوض " و " اكفر من حمار " ونحو ذلك وهو كثير، فكيف يعقل في هذا كله ما ذكر في تعريف المثل من تشبيه المضرب بالمورد حتى يشمله التعريف قلنا: لا يلزم من كونه تشبيها أن لا يسبق إليه ناطق " ينطق به أوّلاً في شيء من الأشياء، بل لا مرية من إنّه لابد من أن يقدم إليه أحد " ينطق به بادئ بدء كما تقول:إنّ قولهم كحاطب ليل أوّل من قاله اكثم بن صيفي، وقولهم: امنع من عقاب الجو أوّل من قاله عدي بن نصر اللخمي في الزباء وهكذا غيرهما، سواء علمنا نحن ذلك أم لا، لأن هذا شأن الوجه الثاني أيضاً. قاله الأول في شيء كان ذاك مورده فتشبه به مضاربه، ولا فرق في أن التشبيه في هذا صريح دون القسم الثاني. وها هنا نظر في أمرين: أحدهما أنا قد بينا في الوجه الثاني وهو التمثيل على سبيل الاستعارة أن التشبيه فيه وقع بين هيئتين، وعلى ذلك قررها علماء البيان. ونحن ها هنا إذا قلنا مثلا فيمن أحسن إلى من لا يشكر أو يضر: هو كمجير أم عامر، فظاهر اللفظ أنه تشبيه هذا الشخص بذاك الشخص، لا الصورة بالصورة، وإن كان يصح أن يقال:المراد أن حالة هذا الشخص كحالة المجير على تقدير المضاف؛ لكنا في غنى عن هذا التقدير.

الثاني: إنّ المشبه به هنا مثلا أو بحالته هو مجير أم عامر حقيقة أعني الشخص الذي أجارها فبقرت بطنه وهو عنصر المثل إنّما وقع بعد ذلك بانرئى شخص شبيه به فقال: هو كمجير أم عامر، ثم سار وشاع. فان جعلنا الذي صدر فيه هذا التشبيه أوّل صدوره موردا، فليس هو الذي تشبه سائر المضارب به، بل هذا المورد بعينه وكل ما بعده متشابهات بالمجير الحقيقي. وإنّ جعلنا المورد هو العنصر الأول، فهو لم يقع عليه لفظ المثل حتى ينقل منه إلى شيء آخر ويقال إنّه شبه بما ورد فيه أولا، وإنّما وقع يعده. على أن لقائل أن يقول أيضاً: يصح أن يكون الناس في مثل هذا مثلا سمعوا حديث مجير أم عامر، فجعلوا يشبهون كلهم. فمن الجائز أن يرى ذلك جماعة أو يسمعوه، ثم يشبه كل واحد على حدة من غير أن يكون لذلك سابق مخصص يتبع ويجعل مكان تشبيهه موردا. وهكذا كل ما يشبه هذا المثل . فقد علمت بهذا أن هذا الوجه مخالف للوجه الثاني، وأن في التعاريف السابقة ما فيها إلاّ على تسامح أو على أنها دائرة على وجه الثاني فقط دون الأول، وهو بعيد إلاّ أنّ يكون ثم إصلاح.

وأعلم إنّ المثل بهذا المعنى الثالث مأخوذ من المعنى الأول وهو الشبه، لأنّه تمثيل، إلاّ أنه سار. وقيل من المثال وهو المقدار كما سبق، لأنّه يجعل مقياسا لغيره، وهو راجع إلى ذلك أيضاً. وقيل إنّما سمي مثلا لأنّه ماثل لخاطر الإنسان أبدا يتأسى به ويعظ ويأمر ويزجر. والماثل: الشخص المنتصب من قولهم: طلل ماثل، أي شاخص، وقد يقال: رسم ماثل أي دارس، وهو من الأضداد. إذا عرفت هذا كله وعرفت معنى استعمال لفظ المثل في المضرب تشبيها بالمورد، فاعلم إنّ ذلك هو معنى ضرب المثل يقال : ضرب الشيء مثلا ، وضرب به، وتمثله، وتمثل به، وهو معنى قول بعضهم: ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به، وفسر المفسرون ضرب المثل الواقع في قوله تعالى : )إنَّ الله لا يستحي أ، يضربَ مثلاً( الآية، وقوله: )و تلكَ الأمثالُ نضربها للناس( الآية، بالتبيين والجعل والوصف. وفي الكشاف: ضرب المثال: اعتماده وصنعه.

وقال الراغب: الضرب: اقاع شيء على شيء. ز بتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها، كضرب الشيء باليد والعصا والسيف ونحوها، وضرب الأرض بالمطر، وضرب الدرهم اعتبارا بضربه بالمطرقة، وقيل له الطبع اعتبارا بتأثير السكة فيه. وبذلك شبه السجية فقيل لها الضريبة والطبية، والضرب في الأرض الذهاب فيها وهو ضربها بالأرجل، وضرب الفحل الناقة تشبيها بالضرب بالمطرقة، كقولك: طرقها تشبيها بالطرق بالمطرقة، وضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة.و تشبيها بضرب الخيمة قال تعالى : ( ضربتُ عليهمُ الذلةُ) أي التحفتهم الذلة التحاف الخيمة بمن ربت عليه. ومنه استغير فضربنا على آذانهم في الكهف، وضرب اللبن بعضه ببعض بالخلط، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره. قال الله تعالى : (ضرب الله مثلاً عبداً مملوكا) انتهى.

 

وقيل: ضرب المثل مأخوذ من الضريب أي المثيل له. تقول: هو ضريبه، وهما من ضرب واحد، لأنه جعل للأول مثل. وقيل: من ضرب الطين على الجدار. وقيل: من ضرب الخاتم ونحوه، لان التطبيق واقع بين المثل ومضربه كما في الخاتم على الطابع.

 

وأما الأمر الثاني وهو الحكمة فللناس في معناها أقوال عدة. واعلم أوّلاً إنّ الحكمة هي فعلة من الحكم أو الأحكام. أما الحكم فير بمعنيين: أحدهما القضاء؛ يقال: حكم الشارع أو القاضي بكذا حكم بضم فسكون؛ الثاني العلم؛ يقال : حكم حكما وحكمة. وأما الأحكام فيكون أيضاً بمعنيين: أحدهما الإتقان؛ يقال: أحكم فلان كذا إحكاما إذا أتقنه؛ الثاني المنع؛ يقال: أحكمت السفيه وحكمته أيضا أي منعته وأخذت على يده. قال جرير:

 

أ بني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... أني أخاف عليكم أن أغضبا

 

و أحكمت الفرس وحكمته جعلت له حكمة. والحكمة بفتحتين ما أحاط بحنكي الفرس وعلى أنفه من اللجام. وفيها العذران. قال زهير:

 

القائد الخيل منكوبا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا

 

و القد الجلد، والأبق شبه الكتان. ويقال: هو القنب وكانت تصنع منه الحكمات عند العرب، لأن غرضهم الشدة والشجاعة لا الزينة، إذا عرفت هذا فقيل:الحكمة هي العمل، وقيل: الإتقان، وقيل: العدل، والحلم، والنبوءة، والقرآن ،و الإنجيل. وقيل: كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح. قال عياض في قوله صلى الله عليه وسلم: الحكمة يمانية، الحكمة عند العرب كل ما يمنع من الجهل، وبذلك سمي الحاكم لمنعه الظلم ومنه الحديث: إنّ من الشعر لحكمة، أي ما يمنع من الجهل وينفع وينهى عنه، والحكم والحكمة واحد. وقد قيل ذلك في قوله: )و أتيناه الحكم صبياً( وقيل: حكمة أي عدلا يدعو إلى الخير والرشد ومحامد الأخلاق. وقيل الحكمة إصابة القول من غير نبوءة. وقيل ذلك في قوله: )اللهم علمه الحكمة.( وقيل: الحكمة العلم بالدين. وقيل: العلم بالقرآن وقيل: الخشية. وقيل: الفهم عن الله في أمره ونهيه. وهذا كله يصح في معنى قوله: الحكمة يمانية وقوله: (علمهُ الحكمةَ) لا سيما مع قوله: الفقه يمان. وقد قيل: الحكمة النبوءة. وقيل هذا في قوله: ) يؤتي الحكمة من يشاء( انتهى.


وقال أبن عطية: أختلف الناس في الحكمة في هذا الآية، فقال أبن عباس: المعرفة بالقرآن فقهه وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه. وقال قتادة: الحكمة الفقه في القرآن. وقال مجاهد: الحكمة الإصابة في القول والفعل. وقال أبن زيد، وأوه زيد أبن سالم: الحكمة العقل في الدين. وقال مالك: الحكمة المعرفة بالدين والفقه فيه والإتباع له. وروى عنه أبن القاسم إنّه قال : الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له. وقال أيضاً : الحكمة العقل في الدين والعمل. وقال الربيع: الحكمة الخشية . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " رأس كل شيء خشية الله تعالى " وقال إبراهيم: الحكمة الفهم وقال الحسن: هي الورع. انتهى. وقال النووي: الحكمة فيها أقوال كثيرة مضطربة، اقتصر كل من قائليها على مقتضى صفة الحكمة . وقد صفا لنا منها إنّها عبارة العمل المتصف بالإحكام، المشتمل على المعرفة بالله تعالى، المصحوبه بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق والعمل به، والصد عن إتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك . وقد تطلق الحكمة على القرآن. وهو مشتمل على ذلك . وقد يطلق على العلم فقط، وعلى المعرفة فقط، ونحو ذلك . انتهى. وقال بعضهم: أصح ما قيل في الحكمة إنّها وضع الشيء في موضعه ، أو الفهم في كتاب الله. انتهى. ورد الغزالي الحكمة إلى العقل. قال في كتاب نهذيب النفس من الأحياء أمهات الأخلاق وأصولها الأربعة: الحكمة ، والشجاعة، والعفة، والعدل قال: ونعني بالحكمة حال النفس بها تدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الأختيارية. وقال الراغب: الحكمة إصابة الحق بالقول والفعل. فالحكمة من الله تعالى ومعرفة الأشياء، وإجادها على غاية الإحكام؛ ومن الإنسان معرفة الموجودات، وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله )و لقد آتينا لقمان الحكمة(، ونبه على جملتها بما وصفه بها. فإذا قيل في الله حكيم، فمعناها إذا وصف به. ومن هذا الوجه قال : أليس الله بأحكم الحاكمين. وإذا وصف به القرآن،فلتضمنه معنى الحكمة ، نحو: )تلك آيات الكتاب الحكيم(. وقيل الحكيم المحكم، نحو أحكمت آياته. وكلاهما صحيح، فانه محكم ومفيد للحكم، ففيه المعنيان. انتهى.


والعبارات عنهما كثيرة، ولا حاجة إلى التطويل بها، فان مرجعها شيء واحد؛ وإنّما سبب الاختلاف كثيرة اللوازم والخواص، فعبر عنها بما حضره من خواصها. نعم، ربما يظهر من بعض العبارات السوابق إنّ الاختلاف الحقيقي كالقول بأنها إصابة القول من غير نبوءة، مع القول بأنها النبوءة، ونحوه. لكن جل ما تقدم حائم على الإصابة في الأقوال والأفعال والفهوم. وفعلها حكم بالضم؛ يقال :

 

حكم الرجل كشرف، فهو حكيم قال النمر بن تولب:

 

وأبغض بغيضكم بغضا رويدا ... إذا أنت حاولت أن تحما

 

أي أن تكون حكيما. وقال النابغة:

 

أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمدِ

 

يقول : أصب في أمري ولا تخطيء كإصابة الزرقاء في عد الحمام، ولا تقبل قول من يسعى إليك في. وقيل: الحكم بمعنى القضاء. وفعله بالفتح كما مر. والحكم أعم من الحكمة ، كما قال الراغب: فكل حكمة حكم، وليس كل حكم حكمة. قلت: وهو صحيح في الحكمة الخيرة. وقد علمت أن الحكمة تكون في الأعمال والأخلاق أيضاً كما سنبينه. فبهذا تكون أخص من وجه لا مطلقا. وتقدمت الإشارة إلى الخلاف في اشتقاق الحكمة أيضاً فقيل: من الإحكام وهو الإتقان؛ وقيل: من المنع كما مر أخذا من حكمة اللجام. وتقدم اللفظان معا وهو فائدة تقديمها لشرح المادة. والكل محتمل، والأقرب المنع. ولا يبعد أن يكون الإحكام هو الإتقان من المنع أيضاً، كأن المحكم قد منع من الاختلال والفساد، وأبع عن مظان العيب والاعتراض. وتقدم أن الحكم الذي هو القضاء هو أيضاً منع للظلم، فصارت المادة كلها من المنع، والله اعلم. فإذا تتبعنا متفرقات المعاني المقولة في الحكمة على ما مر وجمعناها من ذلك أنها تتعلق بالقلوب والجوارح من الأيدي والألسنة. أما في القلوب، فعلى معنى الإصابة في اعتقاداتها وتصورها للأشياء وفي أخلاقها من الحلم، والعفو، والعفة، والعدل، ونحو ذلك . وأما في الأيدي فعلى معنى الإصابة في أفعالها وإتقان صنائعها؛ وكذا غيرها من الأعضاء بالجري على السنن في أفعالها، وكذا القصود. وأما في الألسنة فعلى معنى الإصابة في التعبير عن المعاني بإصابة المحز وتطبيق المفصل. غير أنا نقول : لابد في هذا كله عند إطلاق لفظ الحكمة ولفظ الحكيم عند أهل كل عرف من اعتبار دقة في ذلك ، ولطافة، ونوع غرابة، وعظم فائدة، باعتبار أهل ذلك العرف، حتى يكون المعنى بالإصابة المذكورة إصابة خاصة لا مطلق الإصابة، للقطع بأنا لا نسمي اليوم من قال الله واحد ومحمّد رسوله صلى الله عليه وسلم حكيما وإن كان في غاية الإصابة؛ ولا من بنى بناء معتادا، أو صاغ صياغة معتادة. وقد نبه على هذا المعنى بعضهم في قوله صلى الله عليه وسلم الكلمة الحكمة ضالة المؤمن. فقال: المراد بالكلمة الجملة المفيدة، والحكمة التي أحكمت مبانيها بالعلم والعقل، وتدل على معنى فيه دقة، انتهى. ولأجل هذا يقال: أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد: قلوب اليونان، وألسنة العرب، وأيدي أهل الصين. وما ذلك إلاّ لاختصاص اليونان بميزة التبحر في علم الأشياء ومعرفة القوانين وإتقان البراهين، واختصاص أهل الصين بميزة عمل الصنائع العجيبة وإتقان الأعمال الغريبة؛ واختصاص العرب بمزية إبانة المعاني العجيبة، والأمثال والمواعظ المفيدة، في أشعارها وخطبها. ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ من الشعر لحكمة. ودخل العجاج على عبد الملك بن مروان فقال: يا عجاج، بلغني أنك لا تقدر على الهجاء. فقال: يا أمير المؤمنين، من قدر على تشييد الأبنية أمكنه خراب الأخبية. قال : فما يمنعك من ذلك قال: إنّ لنا عزا يمنعنا من أن نظلم، وإنّ لنا حاما يمنعنا من أن نظلم، فعلام الهجاء فقال عبد الملك: لكلماتك أشعر من الشعر؛ فأنى لك عز يمنعك من أن تنظم قال: الأدب البارع، والفهم الناصع. قال : فما الحلم الذي يمنعك من أن يظلم قال: الأدب المستطرف، والطبع التالد. قال : يا عجاج، لقد أصبحت حكيما. قال : وما يمنعني وأنا نجي أمير المؤمنين انتهى.

 

وستسمع أن شاء الله من كلام حكماء العرب ما تقضي منه الأرب. والكلام المذكور هو أيضاً مصداق ما مر من تعلق الحكمة بالقلوب والألسن وساير الجوارح ، والله الموفق . وقد اتضح من هذا الفرق بين المثل والحكمة ، وذلك فيما يحضر فكري الآن من ثلاثة أمور: أحدها أن الحكمة عامة في الأقوال والأفعال، والمثل خاص بالأقوال. ثانيها أن المثل وقع فيه التشبيه كما مر، دون الحكمة . ثالثها أن المقصود من المثل الاحتجاج، ومن الحكمة التنبيه والإعلام والوعظ. ويرد على الأول إنّه فرق بحسب أعمية المورد، ولا مساس له بالحقيقة. فلم يفد إلاّ أن الحكمة الفعلية تباين المثل ولا نزاع فيه، وليس بمفيد في الأقوال إذا تنوزع فيها أن شيئا منها حكمة أو مثل. على أنه قد يكون التمثيل بالفعل أيضاً كتصوير شكل المثلث لمن لا يعرفه. ومن ثم يعد من جملة الرسوم المعروفات الأشياء التعريف بالمثال. ويرد على الثاني أنه إن عنى تشبيه المضرب بالمورد حقيقة، فقد مر أن نوعا كبيرا من الأمثال لا يجري فيه ذلك على ما ينبغي؛ وإن عني مطلق التشبيه، فهو واقع في الحكم كثيرا، كقولهم: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء.على أنه قد عد من الأمثال ملا تشبيه فيه أصلا بوجه كقولهم: من قرع الباب ولجَّ ولج. وقولهم: " الرباح مع السماح " ونحو ذلك . ويرد على الثالث أن الاحتجاج صحيح في الحكم أيضاً ، بل جلها قضايا كليات وقوانين تورد بحيث يصلح في كل أمر تكون حجة فيه محذوفة إحدى مقدمتيها. فإذا قلنا: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء أمكن إنّ نقول: إن فلان فسدت بطانته، وهو المقدمة الباقية، فيعلم أن فلانا هو كمن غص بالماء. وهذا الاستدلال هو الكاشف عن الصواب والخطأ في الأنظار والعلوم ، وهو معنى الحكمة بالحقيقة؛ وإنما قلنا جل الحكم قضايا، لأن ذلك هو الصريح، وقد يكون منها غير ذلك ،كالأوامر والنواهي؛ لكنها تتخذ قضايا بحسب الزوم. فالحكم كلها تصلح للاحتجاج، وهي بصدده كالأمثال؛ على أن الأمثال ليست كلها بصدد الاحتجاج، بل هي بالأصالة للتصوير؛ وإنّما تصلح للاحتجاج عندما يراد بها التصديق من مدح، أو ذم، أو تزيين، أو إظهار رغبة في شيء أو عدم مبالاة، أو نحو ذلك على ما ستقف عليه قريبا إن شاء الله.

 

ويجاب عنها، أما أوّلا فبأن القصد الفرق بين المثل والحكمة مطلقا أعم من الموردي والحقيقي، وهذا كاف في الأول وليس مقتصر عليه حتى يعد قاصرا. وأما ثانيا فبأنها نعني تشبيها خاصا لا مطلقا، أما في الوجه الثاني من الأمثال فهو تشبيه المضرب بالمورد كما مر. وأما في الأول فلا يخفى إن لم يكن فيها ذلك على وجهه أن فيها تشبيها بعنصر خاص معين هو سبب جريان ذلك الكلام ووقوع ذلك التشبيه على ما تقدم توضيحه، وليس ذلك بمنظور في الحكم. وأما ثالثا فبأن الاحتجاج في المثل واقع بالفعل حيثما أطلق على سبيل الخصوص، والحكمة إنّما تراد عامة على وجه الصلاح للاحتجاج بها في الخصوصيات لا على الفعل، فالاحتجاج خلاف الاحتجاج. نعم، يبقى من الأمثال ما لم يقع فيه تشبيه لا صريحا ولا مقدرا. والحق أن من الأمثال ما لا يشتبه بالحكمة في ورد ولا صدر، نحو: الصيف ضيعت اللبن، ومن الحكم ما لا يشتبه بالمثل ككثير من الحكم الإنشائية، ويبقى وراء ذلك وسط يتجول فيه الفريقان كالمثل السابق. فان كثيرا منها قد يعد مثلا تارة، وحكمة تارة، ولا فرق يظهر إلاّ بالحيثية، وهي إنها إن سيقت ملاحظا فيها التشبيه فمثل؛و إن سيقت ملاحظا فيه التنبيه أو الوعظ أو إثبات قانون أو فائدة ينتفع بها الناس في معاشهم أو معادهم فحكمة. وهذا معروف بالاستقراء ، ز شاهده الذوق بعد معرفة أن مرجع الحكمة الإصابة، ومرجع المثل التشبيه كما مر، حتى إن من يضرب للناس أمثالا غريبة ينتفعون بها يصح أن يقال إنه حكيم لأنه مصيب في ذلك المثل الذي ضربه، وهكذا يقال في التمثيل الفعلي السابق. فإن من صور صورة المسدس مثلا عد منه ذلك تمثيلا من حيث التشبيه، وحكمه من الإصابة والإتقان، ولا تنافي بين الغرضين. ومن وسع نطاق هذا الاعتبار أمكنه في كل مثل وحكمة هذا المقدار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

 

الفصل الثاني

 

فائدة المثل والحكمة وفضلهما

 

أما الأول وهو المثل ، فلا يخفى على ذي ميز ولا يشتبه على ذي لب ما جعل الله تعالى فيه من الحكمة ، وأودع فيه من الفائدة، وناط به من الحاجة؛ فأن ضرب المثل يوضح المنبهم، ويفتح المغلق، وبه يصور المعنى في الذهن ويكشف المعمي عند اللبس، وبه يقع الأمر في النفس حسن موقع، وتقبله فضل قبول، وتطمئن به اطمئنانا، وبه يقع إقناع الخصم وقطع تشوف المعترض. وهذا كله معروف بالضرورة، شائع في الخاص والعام، ومتداول في العلوم كلها منقولها ومعقولها، وفي المحاورات والمخاطبات، حتى شاع من كلام عامة المتعلمين والمعلمين قولهم: " بأمثالها تعرف أو تتبين الأشياء " وسر ذلك إنّ المثل يصور المعول بصورة المحسوس ، وقد يصور المعدوم بصورة الموجود والغائب بصورة المشاهد الحاضر، فيستعين العقل على إدراك ذلك بالحواس، فيتقوى الإدراك ويتضح المدرك. وتحقيق ذلك أن العقول، وأن كانت تدرك المعلومات، لكنها غير مستقلة بنفسها غلبا في إدراك جميعها ولا جلها استقلالا صرفا لا سيما القاصر. وذلك أن العقول إنما تستقل بإدراك أوائل الضروريات التي توجد في غرائزها ولا تدري لها سبباً غير اختراع الفاعل المختار. وما سوى ذلك فالعقول فيها إما مفتقرة إلى الحواس، كالمعلومات التجريبية التي موادها محسوسة بإحدى الحواس؛ وإما مستعينة بها ضرباً من الاستعانة على طريق التمثيل والتقرير ونحوه. وذلك في غير ذلك. وقد ذهب قوم من الأوائل إلى حصر العلوم في المحسوسات وعكس آخرون، ونحن لا نقول شيئاً من ذلك، وليس هذا محل تقرير المقاتلين ولا ردهما، ولكنا نشير إلى ما نحن بصدده نوع إشارة فنقول: إنّ الإدراك، سواء قلنا إنّه يكن بالعقل وبالحواس الخمس معا، أو قلنا إنّه بالعقل فقط بواسطة الحواس، لا يخفى أن ما كان من قبل الحواس الخمس هو أظهر واسهل، ولذا شاركت فيه الحيوانات العجم والإنسان، وأن ما لم يكن من ذلك بنوع تعلق أصلا أخفى وأصعب وإسراف، وبمزية الاختصاص به كان الإنسان اشرف. فكل ما يدركه بحسب العادة الجارية استقراء، إما شيء وصل إليه من طرق الحواس، فيقع فيه بعد تأديه إليه منها نوع من التصور ونوع من التصرف بالتحليل والتركيب؛ وأما شيء يتأد إليه بالحواس، وهو إما شيء يجده عند نفسه أوّلاً كعلمه بان الموجود لا يكون معدوما، وأن الشيء الواحد لا يكون زمانا واحدا في مكانين، ونحو ذلك؛ وإما شيء يجد نظيره عنده بنوع من التشابه، أو يتأدى إليه نظيره من الحواس، كعلمنا بأن لله علما وقدرة وحلما وغضبا، لمّا علمنا في أنفسنا من علم وحلم وغضب، وإن كان الحادث خلاف قديم، لكن بينها ضرب من التشابه؛ ولولا ما علمناه بالوجدان من ذلك ما قدرنا أن نثبت نظيره في جانب الباري، كما قال تعالى: )و في أنفسكم أفلا تبصرون.( وقال صلى الله عليه وسلم: " من عرف نفسه عرف ربه " . إلاّ إن يخرق الله تعالى العادة في العقل فأنه مستعد لكل العلوم، وهكذا سائر الصفات. وكإدراكنا بحراً من الزئبق، وجبلا من الياقوت، فانه لم يتأد إلى العقل قط من الحواس لعدم وجوده ولا وجود نظيره عنده كالأول؛ ولكن تأدى إليه نظير من الحواس، وكذلك إنّه تأدى إليه البحار من الماء والجبال من الأرض؛ وهو يعلم إنّ بحر الماء مثلا متركب من القطرات المائية؛ فإذا أدرك قطرات الزئبق بمشاهدة الحواس جوز أن تتركب وتتجمع اجتماع قطرات الماء، وتصور من ذلك بحراً؛ وكذلك في أحجار الياقوت التي يراها، وما تصوره القوة الوهمية من أشياء لا حقيقة لها إنما ذلك من هذا القبيل، فإنها تستند إلى الحواس فتصور أشياء عل سبيل ما تأدى إليها منها، إلا إنها تحل ذلك حيث لا محل، كما تصور للغول أنيبا وأظفارا. فقد علم إن العقل غير واصل في العادة إلى غائب صرف من الأمور النظرية؛ وإنما مرجع إدراكه المحسوس هو أو نظيره بالحس الظاهر أو الباطن أو ما مادته ذلك. وكثيراً ما يقع له الغلط في البابين لاشتباه الوهم أو لاشتباه الحس حتى فر الفارون إلى حصر العلوم في المحسوسات حذاراً من الوهم والالتباس الوقع بسببه، وفر الآخرون إلى حصرها في المعقولات حذاراً من اشتباه الحس، وهما النوعان المذكوران أنفا، وقد بين ذلك في محله. والحق حصول العلم من الجانبين، إلا أن الإنسان في مبدأ فطرته ليس عنده غالباً إلا العقل الهيولائي الغريزي، وهو في إدراكاته الفعلية شبيه بالبهيمة من حيث إنّه إنما يدرك غالب الأمور المحسوسة، فلا يزال يربو عقله وينمو إدراكه، وكلما ازداد النفس من ألفة المحسوسات والاستئناس بها والركون إليها أزيد من ذلك وأكثر، وكأنها هي السابقة وهي أظهر. فإذا كمل إدراكه شيئاً ما بحيث أدرك الضروريات وأستعد للنظريات وصار له عقل بالملكة، كانت النفس إذ ذلك محيطة بعظم المحسوسات، قوية الأستاناس بها، متمكنة من الألفة بها. فأن كان صاحبها مع ذلك من العوام التاركين للعلوم والمعارف، وهم الأكثر، فقد اندفع في المحسوسات وأهمل عقله الخاص بنفسه في مألوفاتها، وصار شبيها بالبهائم في إنّه لا يدرك إلاّ هذه المحسوسات التي تدركها؛ وإنما يفوقها بضرب من التصرف ضعيف فيها. فمتى ذكر لهذا شيء مما وراء ما يشاهد ولم يكن من الضروريات الأوائل الحاصلة له وما أشبهها، احتاج غالبا إلى إنّ يضرب له مثل بشيء مما يشاهد، ويصور له بصورته إما فهما وأما اطمئنانا واستئناسا. وإنّ كان من الخواص الخائصين في العلوم وإدراك المعقولات، فقد علمت مما مر إنّ العقل عادة إنّما يدرك بنفسه الضروريات، وما سوى ذلك إنما يدركه بواسطة تأديه أو تأدى نظيره إليه من الحواس الظاهرة أو الباطنة. ومع ذلك، فالمتأدى إليه إنّما هو أمر جزئي بالضرورة، فمتى حاول جنسا من ذلك لم يكن الجنس بنفسه من حيث إنّه جنس متأديا بشيء منها، فأحتاج إلى أن يمثل بصورة من ذلك الجنس فيدركها لأنها هي التي كانت تتأدى إليه ليقيس عليها غيرها، وبذلك يمكنه أن يدرك القاعدة والقانون، وهو الذي نعني بالجنس في هذا المحل حيث أدرك مادته إلاّ إنّ يكون له من لطف الإدراك وقوة الذكاء ما يستحضر به تلك الصور وينتزع منها مراده من غير أن يصور منها شيء مخصوص، فهذا يستغني عن التمثيل، وقليل ما هم. ومع ذلك فالنفس قد قلنا إنّها قوية الاستئناس بالمحسوسات لوضوحها وسبقها:

 

أتاني هواها بل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا

 

فإذا خيض بها في شيء من غير ذلك جمت إلى مألوفها حنين الثكلى وقالت:

 

ما الحب إلى للحبيب الأول و استصعبت ذلك وخليت دونه، فاحتيج إلى أن يصور لها ذلك بصورة شيء مما كانت تألفه لتستأنس به وتطمئن. والاستئناس بالمألوف مركوز في جلية النفوس، حتى إنّه ورد في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا زج به في النور وفارقه جبريل أسمعه الله تعالى كلام صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه تأنيسا له به في ذلك المقام الهائل وهذه حكمة ربانية تعجز العقول عن الإحاطة بها وحدها، فكيف بملكوت السماوات والأرض فتبارك الله أحسن الخالقينثم إنّه كلما عرف الإنسان ضربا من العلوم ومارسه ألفته نفسه واستأنست به ؛ فإذا ارتحل عنه إلى منزلة أخرى حنت النفس إلى الأولى المألوفة أيضاً، فاحتيج إلى أن يضرب لها مثل بشيء مما ألفه أو نظيره لتستأنس به ونطمئن إليه حتى لا يختص التمثيل بالمحسوسات الصرفة، وهكذا أبدا. فقد تبين بهذه الكلمات الاحتجاج إلى التمثيل ووجه الاحتجاج، وإنّه لا غنى عنه لعام ولا خاص؛ غير أن الاحتجاج قد يكون ضروريا، وذلك عند العجز عن الوصول إلى المطلوب بدونه، وقد يكون تحسينيا، وذلك عند الاحتياج إلى الاستعانة به والاستئناس والاطمئنان . هذا الأصل، وقد يكون الاحتياج لأغراض آخر ستأتي.

 

هذا ما ألهمني الله تعالى في هذا المقام على سبيل الإجمال، وأما بسطه كل البسط فلا يسعه الوقت، وفيما ذكرناه كفاية، إذ ليس من الغرض الإكثار إذا فهم المقصود وأدرك المراد. فقد ظهر بهذا عظم فائدة التمثيل، وبذلك تبين فضله. وقد ضرب الله تعالى الحكيم في القرآن ضروبا من الأمثال للخلق، وقال تعالى: )إنَّ اللهَ لا يستحيي أن يضربَ مثلاً ما بعوضة فما فوقها( الآية. وقال تعالى: ) وتلك الأمثالُ نضربها للناسِ( الآية فعدها منة على الناس لمّا فيها من عظيم الفوائد. وقال تعالى: )و سكنتم في مساكن الذينَ ظلموا أنفسهم وتبينَ لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال( إشارة إلى أنه لا إلتباس ولا إشكال بعد ضرب المثل ومع ذلك لم يعتبروا. وضرب النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال الكثيرة للناس، وسيأتي من جميع ذلك ما فيه غنية في محله أن شاء الله تعالى. ولم يزل إلى الآن المدرسون وشيوخ التعليم والتربية يضربون الأمثال في كل أمر، وكذا غيرهم. وكتب عمر رضي الله عنه إلى الأنصار: علموا أولادكم العوم والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وما حسن من الشعر. فهذا حض على تعلم الأمثال خصوصا السائرة، فإنها أقطع للنزاع والشغب، وحض على تعلم الشعر. ولمّا بعث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رسله إلى رستم صاحب جيوش فارس أيام القادسية فرجعوا، وبعث أليه آخرين يدعونه إلى الإسلام أو الجزية، قال لهم رستم: إني قد كلمت منكم نفرا، ولو أنهم فهموا عني لرجوت أن تفهموا، والأمثال أوضح من كثير من الكلام؛ وسأضرب لكم مثلكم: إنكم كنتم في بلاء وجهد وجوع، فأتيتم بلادنا فلم نمنعكم، فلما أكلتم طعامنا وشربتم شرابنا وأظلكم ظلنا وصفتم ذلك لقومكم فأتيتم بهم. فمثلكم في ذلك ومثلنا كمثل رجل له كرم فرأى فيه ثعلبا فقال: وما ثعلب فانطلق الثعلب إلى ذلك الكرم، فلما اجتمعت عليه سد عليه صاحب الكرم مدخلها فقتلها. وقال لهم أيضاً: مثلكم كمثل جرذان ألفت جرة فيها حب وفي الحرة ثقب، فدخل الأول فأقام فيها، وجعلت الأخر تنقل وتخرج وتكلمه في الخروج فيأبى عليها، حتى إذا انتهى سمن الذي في الجرة فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله، ضاق عليه المخرج فلم يقدر على الخروج منها، فشكا الغلق إلى أصحابه وسألهم المخرج فقالوا: لست بخارج حتى تعود إلى حالتك الأولى. فكف وجوع نفسه وبقي في الجرة حتى أتاه صاحبها فقتله. وقال لهم أيضاً : لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب ما خلاكم يا معشر العربترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع. ومثلكم في هذا مثل الذباب إذا رأى العسل طار وقال: " من يوصيني إليه وله درهمان حتى يدخلنه لا ينهنهه أحد " إلا عصاه. فلما دخله غرق ونشب وقال يخرجني وله أربعة دراهم. وضرب لهم امثلاً أخرى على هذا النمط، فلما فرغ تكلم سعد رضي الله عنهم بما جاءوا به من الأعذار والإنذار. ثم قالوا: وإما ما ضربتم لنا من الأمثال فإنكم ضربتم للرجال وللأمور الجسام وللجد والهزل. ولكنا سنضرب لكم مثلكم: إنّ مثلكم مثل رجل غرس أرضا واختار لها الشجر والحب، وأجرى لها الأنهار، وزينها بالقصور، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها، ويقيمون على جناتها. فخلفه الفلاحون في القصور بما لا يحب، وفي الجنان بمثل ذلك، فأطال نظرتهم. فلما لم يستجيبوا من تلقاء أنفسهم استعتبهم فكابروه، فدعا إليهم غيرهم فأخرجهم منها؛ فان ذهبوا عنها تخطفهم الناس،و إن أقاموا صاروا خولا لهم يملكونهم ويسومونهم الخسف أبداً.

 

ولمّا عظم أمر المسلمين وولي يزدجرد على فارس، وهاله أمر المسلمين، بعث إلى رستم المتقدم ذكره فقال له: انك أنت اليوم رجل أهل فارس، وقد رأيت ما نزل يهم؛ وإني أريد أن أوجهك في هذا الوجه فأنت لها. فأظهر له رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه. فقال له الملك: قد أحببت أن انظر فيما لديك لأعلم ما عندك؛ فصف لي العرب وفعلهم، وصف لي العجم وما يقولون عنهم، فقال له رستم: صفة الذباب صادفت غرة من رعاء فأفسدت فقال: ليس كذلك، إنّما سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على ذلك فلم تصب، فأفهم عني إنّما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مراقب عند جبل تأوي في ذراه الطيور تبيت في أوكارها. فلما أصبحت الطير أبصرت العقاب ترقبها فخافتها فلم تنهض وطمعت العقاب فلم ترم، وجعلت كلما شد منها طائر انقضت عليه العقاب فاختطفته حتى أفنتها. فلو نهضت بجميعها نهضة واحدة لنجت واشد شيء يكون في ذلك أن تنجوا كلها إلاّ واحداً. فهذا مثلهم ومثل الأعاجم، فأعمل على قدر ذلك.

 

وكان لبعض الملوك وزيران أحدهما كان يأمر ببذل الأموال لاجتلاب قلوب الرجال، ويقول انهم أنفع وأعود من المال. فقام الآخر ونهاه عن ذلك وقال : أمسك مالك فهو خير لك ، متى كان عندك المال واحتجت إلى الرجال وجدتهم. فقال له الملك لابد لهذا من آيه؛ فمثل أي مثلا يتضح به ما ذكرته، فان الأمثال بها تنكشف الأشياء ، فقال الوزير: علي بإناء عسل . فجيء به فقال: خمروه. ثم قال للملك: هل ترى هنا من نحل قال : لا فأتى بإناء العسل، فلم يلبث أن جاءت النحل من كل أوب. فقال: هكذا الرجال على المالفقام الوزي الآخر وقال : خمروا الإناء إلى الليل. فلما كان الظلام أخرج الإناء ، فما تحركت نحلة أصلا ولا وقعت عليه. وهذا تشبه قصة الهررة والشمع، وستأتيك قريبا في الأمثال، وتتبع الحكايات يخرج عن العرض؛ وإنّما ذكرنا ما تقدم تنبيها على شدة اعتناء الناس بالتمثيل وعظم فائدته. وكان الحكماء الأولون مثلوا الدنيا بطائر رأسه المشرق وجناحاه اليمن والشام وذنبه المغرب، فبينوا بهذا المثل دناءة المغرب وخسته، لأن أخس ما في الطائر ذنبه. فلما خرج اليونان إلى الجزيرة واستخرجوا فيها المياه وغرسوا الأشجار وبنوا القصور حتى عادت الجزيرة احسن ما يكون قالوا: رجع الطائر طاووسا لشرف ذنب الطاووس. ومن ما جعل الله تعالى فيما يراه النائم من أمثلة الأشياء ، قضى العجب من حكمة الله تعالى وما أودعه في عالم المثال، وهو بحر عميق ليس من غرضنا ولسنا من رجال الخوض فيه، وما ذكرناه في الأمثال من حيث هي وستأتيك زيادة في الأمثال الشعرية في الفصل الذي بعد هذا إن شاء الله . وما ذكرناه أيضاً هو فائدة التمثيل الإصابة، لأن مرجع الغرض من التمثيل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، وفائدته العظمى التبيين والتوضيح كما مر. وقد يرد لأغراض أخرى غير ذلك ، كالمدح أو الذم أو التزيين أو التشبيه أو غير ذلك مما قرر في علم الأدب؛ لكن مرجع الجميع إلى الفائدة الأولى وهي التبيين والتوضيح. فإنا إذا مثلنا أحدا بالبحر قصدنا إلى مدحه بالكرم، أو بالأسد قصدنا إلى مدحه بالشجاعة. فالقصد الأصلي بيان هذا الخصوصية التي يبلغ بها هذه الدرجة المخصوصة من الجود والجرأة لأنها هي المتلبسة علينا؛ لكن قد يتناسى هذا المعنى الأصلي ويفهم أن التمثيل سيف للمدح والذم حتى كأنه لا توضيح هنالك أصلا، ومثله في النعت. وأما سوق التمثيل لبيان الامكان أو بيان المقدار فلا إشكال أنه من المعنى الأصلي وهذا كله في التمثيل من حيث هو في الجملة. وأما الأمثال السائرة التي نحن بصددها فتكون هي أيضاً في الجملة للبيان والتوضيح، لكن لمقاصد كثيرة وضروب من الأغراض لا تكاد تنحصر؛ وستتلى عليك في هذا الكتاب. وأمثال القرآن كذلك بعد دلالتها على توضيح المراد وتقريبه وتصويره للعقل تكون لمقاصد كثيرة من مدح وذم ودلالة على تفاوت في الثواب، وعلى إحباط عمل وتذكير ووعض وحث وزجر واعتبار وغير ذلك مما يسرد على سمعك فيها إن شاء الله تعالى. وكذا أمثال الحديث النبوي، وستأتي إن شاء الله تعالى، والله الموفق.

 

وأما الثاني وهو الحكمة، فلا يخفا أيضاً فائدتها وفضلها. وقد اثني عليها في الكتاب والسنة. قال الله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا. وقال: وآتيناه الحكمة وفصل الحطاب. وقال: وآتيناه الحكم صبيا. ونحو ذلك من الآي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : الكلمة الحكمة ضالة المؤمن. ويروى: الكلمة الحكمة ضالة كل حكيم. فإذا وجدها فهو أحق بها. وقال صلى الله عليه وسلم : كلمة من الحكمة يتعلمها الرجل خير له من الدنيا وما فيها. وغير ذلك من الأحاديث والآثار التي يطول ذكرها. وقد أطبق العقلاء على مدحها والاعتناء بها، وليس الغرض إلاّ بيان فضلها وفائدتها فقط، وكيف يحسن منا ذلك وهي عين الفائدة والفضل:

 

وكيف يصبح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل

 

وإنّما الغرض هو بيان ما هو الممدوح من مصدوق اسم الحكمة، وإذا الغلط قد وقع في مثل هذا لكثير من العقلاء من جهة شمول لفض الحكمة لأمور كثيرة بحسب كل عرف واصطلاح، بعض تلك الأمور ممدوح دون بعض، فكان كل من يحصل له شيء منها يجعله من مصدوقات الحكمة الممدوحة، فيتمدح بما انتحله ويثني عليه ويضيف ما ورد من الثناء عليها إلى نفسه. فرأينا أن نشير إلى هذا المقام بضرب من الإشارة قريب يتميز به الطيب من الخبيث وبعرف به الفائز من المغرور. وبسط ذلك يستدعي موضوعا على حدة، فلنقتصر منه على لمحة برق فنقول: قد عرفت فيها مر من تعريف الحكمة أن فيها أقوالا كثيرة مرجعها فيما أوردناه من كلام السلف ضربان: خاص وعام. فالخاص القول بأنها النبوءة والقرآن أو علم القرآن، أو الفهم أو الخشية لله تعالى أو فهم القرآن أو العمل له أو الأتباع له، أو إصابة القول من غير نبوءة ونحو هذا مما تقدم. والعام القول بأنها الإصابة في القول والفعل ونحوه. فأما إذا فسرناها باوجه الخاص وقلنا هي النبوءة، أو علم القرآن، أو العلم به، أو فهمه والاتباع له، أو الخشية، فلا خفاء في مدحها والثناء عليها في هذا المعنى وما أشبهه من كل ما يسترضي به الله تعالى ويتقرب به إليه كالعقل والعدل والحلم؛ إلاّ إنّه لابد في ذلك من تحقيق الحقيقة وحفظ الحيثية وهو تحقيق الإصابة، إذ ذلك هو الحكمة ومناط التقرب المذكور. فأما ما ينتحله المتنبئ الكاذب من النبوءة، وما ينتحله الملحد من فهم كتاب الله تعالى والبدعي من الاتباع، فكل ذلك قد يسميه صاحبه حكمة ويسمي نفسه به حكيما، وليس من الممدوح بل ذلك مذموم غاية الذم، وليس ذلك بنبوءة ولا فهم لكتاب الله إلاّ في تسميته، فقط، وكذا ما أشبه هذا وإن قلنا هي إصابة القول من غير نبوءة ونحو ذلك، فحكمه بعد. وأما إذا فسرناه بالمعنى العام، فقد علمت إنّها متناولة لجميع الإصابات في القول والأفعال والاعتقادات، ودخل في ذلك ما تقدم وغيره. ومجموع ذلك ثلاثة أقسام:

 

القسم الأول: الحكم القولية، وهي كلها محدودة من حيث ذاتها بقيد أن تكون بحكمة في نفس الأمر، وإلاّ فقد يطعن ما ليس بحكمة حكمة، إذ قد يعد من الحكمة ما دل على إيثار العاجلة على الآجلة أو اتباع الهوى، أو على العدوان والعلو في الأرض وسفك الدماء، وعلى اكتساب النبوءة برياضة النفس وطول المجاهدة وبلوغ كمال المعرفة وكمال النفس بذلك من غير تعقيد بقانون الشرع، وعلى إيثار انقطاع الناس إلى الله تعالى بالإعراض عن نبيهم وعدم الالتفات إليه أصلا، توهما أن ذلك هو اللائق بتوحيد الباري والتعبد له ونحو ذلك؛ فكل ذلك وما أشبهه هوس باطل ليس من الحكمة في ورد ولا صدر، فان الحكمة مرجعها الإصابة كما ذكرنا قبل.و من هذا النمط ما دونه حكماء الفلاسفة في العلم الإلهي من فنون الفلسفة من الهوس والأباطيل، والاعتقادات الزائغة والحجج الواهية، وكذا ما لنظرائهم من الطبيعيين وأشباههم من قرف المعتزلة وطوائف المبتدعة الضالين المضلين. وقد كان للفلاسفة في غير الإلهيات حكم تقتبس سراجا منيرا . وتورد زلالاً نميرا، فلما خاضوا في العلم الإلهي لم يهتدوا غالبا إلى الحق فيه، ولم يؤذن لهم في الدخول إلى ذلك الجناب النزيه. ومن يضلل الله فما له من هاد . ثم إنّ هذه الحكم القولية، وإن قلنا إنّها محمودة، فهي تختلف شرفا وفضلا بحسب جلالتها وما دلت عليه درجات كثيرة لا تكاد تنحصر. هذا بحسب ذاتها، وأما قائلها الذي صدرت منه فغير واجب أن يكون محمودا دائما ولا أن يعد حكيما، بل قد يكون محمودا، وذلك إذا علم ما يقول وعمل به وتخلف به ولم يكذب فعله وخلقه قوله، وقد يكون مذموما، وذلك إذا كان بخلاف ذلك بحيث يكون من علماء اللسان الثرثارين المتفيهقين، حتى إنّ المتكلمين بالحكم الشرعية من علماء الظاهر الذين تخالف أفعالهم أخلاقهم أقوالهم، ونحوهم من الوعاظ والقصاص في غاية الذم. ومن ثم قيل في ما مر : الحكمة هي الفهم في القرآن والعمل به والإتباع له. وقد تصدر الحكمة ممن هو عن مقتضاها خال وعن فضلها بمعزل. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحكمة ضالة المؤمن. كما مر. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: العلم ضالة المؤمن حيث وجده أخذه وقال : خذ الحكمة ممن سمعتموها ، فانه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير الرامي. فأشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى أنه ينبغي للعاقل أن لا يبرح متتبعا للحكمة طالبا لها، كما يطلب الرجل ضالته وينشدها؛ فان الحكمة هي ضالة العاقل لأنها غذاء عقله، فهي أكبر الحاجات وأعظم المطلوبات. وفي الحديث تأديب الطالب المتعلم وتنبيهه على أنه لا يأنف مكن أخذ الحكمة حيثما وجدها، وإنّه يقبلها من كل من سمعها منه شريفا كان أو مشروفا عالما أو جاهلا برا أو فاجرا؛ ولا يستكبر عن أحد أن يتعلم منه كان فوقه أو دونه. فان طالب الضالة إذا وجدها فهو لا محالة يأخذها ولا يلتفت إلى خسة الآتي بها ولا شرفه، وأو ترك ضالته ومطلوبه الذي كان ينشده لخسة من جاء بها كان أحمق. وقد روي أن الحجاج خطب فقال: إنّ الله تعالى أمرنا بطلب الآخرة وكفانا مؤونة الدنيا، فليته كفانا مؤونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيافقال الحسن: ضالة مؤمن عند فاسق فلنأخذها. وخطب خازم بن خزيمة فقال: إنّ يوما أسكر الكبار، وشيب الصغار، ليوم عسير ، شره مستطير. فقال سفيان الثوري: حكمة من جوف خرب، ثم أخرج ألواحا فكتبها. ولهذا ورد: أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه. وروي أن رجلا في بني إسرائيل حكيما ألف ثلاثمائة كتاب في الحكمة واشتهر فرأى إنّ له عند الله منزلة، فأوحى الله إلى نبي ذلك الوقت أن قل لفلان: ملأت الدنيا نفاقا. القسم الثاني في الحكم الفعلية بناء على إطلاق الحكمة عليه كما مر، وهي على تفصيل: فما كان منها خدمة لله تعالى وقيامها بوظائف تكاليفه كله من فعل الواجبات وأنواع القربات، فهو كله محمود. وهذا النوع إنّما يعد حكمة بحسب ما انضم من افهم في كتاب الله تعالى كما مر، فهو جزء منها. وما يرجع إلى إتقان الصنائع العجيبة والحرف المهمة، فهذا كله محمود عادة، وأما شرعا فإنما يحمد إذا كان مقربا إلى الله تعالى مباشرة أو بواسطة أو وسائط، على حكم التفصيل في سائر المباحات. ووراء هذين القسمين قسمان آخران:

 

أحدهما تدبير الذهب والفضة ومعالجة تبديل الأشياء وصناعة الاكسير، وهذا النوع هو المعروف عند كثير من الأوائل بالحكمة، وهو محمود عندهم غاية ومن اجل علومهم ، وإطلاق الحكمة عليه من حيث الإصابة والإتقان مع الغرابة واللطافة. وللمتكلمين في ذلك كلام وبحث في إنّ ذلك ممكن أمثال لا ، وفي إنّه يعد إمكانه واقع أمثال لا . فهي أربعة مباحث قررت في محلها وليس من غرضنا التعرض لها ، غير أنا نقول جريا على ما نحن بصدده: إن قلنا إن ذلك محال أو غير موجود، فالاشتغال به غير محمود لا عادة ولا شرعا، بل هو في غاية الذم لأنه تضييع للعمر بلا طائل وهوس وجنون. وإن قلنا أنه يوجد ويقع، فلا نشك بالاستقراء إنّه في غاية القلة والندور، وإنّه لا يقع عليه إلا الفرد من الناس في الدهور. وقد اعترف أهل هذا العلم إنّه اخطأ الناس طريقته ولم يعثروا على التحقيق فيه فضاع وبقي اسما بلا مسمى ، فنقول: إنّه ينبغي أن يكون مذموما على هذا الوجه أيضاً كأنه تضييع للعمر غالبا بلا طائل، وعدول عن الأسباب المنصوبة للخلق في الاكتساب إلى سبب نادر قليل الجدوى مع كثرة الاين والتعب، منبت في القلب من الحرص والطمع ما تنبته الديم في الأرض الأريضة، ولا داء على القلب شر من الحرص والطمعنعم، لو عثر على شيء صحيح منه بلا تعمل حرام ولا انجرار طمع واتخذ سببا، كان من جملة المباحات والتحق بحكم الصنائع السابقة.


ثانيهما خفة اليد والاحتيال بالشعبذة وأنواع النيروجات، فان كثيرا من هذا النوع قد يسمى حكمة أيضاً لمّا فيه من الغرابة، وهو ليس بممدوح في الجملة لا شرعا ولا عادة عند العقول السليمة. نعم، فيه تفصيل من جهة الحرمة والإباحة يطول بنا التعرف له ، وليس كلامنا بالقصد في الفقهيات.


الثالث الحكم القلبية، وهي إذا عممنا فيها وتوسعنا ضربان: ما يرجع إلى الأخلاق كالحلم والعدل والزهد والعفة والصمت ونحوها، وهذا النوع كله محمود شرعا وعادة، لأن من يطلق الحكمة في هذا الضرب أخذا مما مر إنّما يطلقها على المحمود من الأخلاق لا على مطلق الخلق حتى يدخل المذموم. وفي الحديث: الصمت حكم وقليل فاعله. وقد يذم بعض هذه الأخلاق المحمودة عند غوغاء الناس العمي البصائر، كالصمت عند المتشدقين الثرثارين والعفاف عند المجانين الفاسقين ونحو ذلك . ولا عبرة بهذا الذم، وهو في الحقيقة ذم للمذموم لا للمحمود ، إلا أنه يقع الخطأ للذام والغلط. وذلك أن الصمت مثلا ليس بمحمود دائما، بل في محل يليق به، فقد يرى الجاهل محل الصمت غير محل له، بل محلا للكلام فيذم الصمت وقصده ذم الصمت المذموم، ولو عرف أن ذلك محله ما ذمه وما يرجع إلى الاعتقادات وهو كله أيضاً محمود، لأن الحكمة هنا أيضاً إنما تطلق فيما كان علما إذ هو محل الإصابة والعلم كله في نفسه محمود، أعني وصول النفس إلى شيء ، لأن ذلك كمال النفس. وقد يعرض العلم الذم من جهة المعلوم، وللعالم الذم من جهة المخالفة عمله لعلمه وعدم جريه على موجبه كما قلنا في اللسان، أو من عدم طائل يعود به عليه مع إضاعة العمر النفيس فيه، أو من الاشتغال به عما هو أولى منه وجوبا أو ندبا أو نحو ذلك . ثم العلم يتفاوت بعد ذلك في الشرف بحسب شرف معلومة وثمرته. وهذا النوع هو الحكمة حقيقة، وكل ما تقدم من الأفعال والأقوال إنّما هو مظهرها وعنوانها عند التحقيق، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

 

الفصل الثالث:

 

فضل الشعر

 

ذكرنا في هذا الفصل شيء مما ورد في فضل الشعر، لأنا قد أوردنا في هذا الكتاب جملة وافرة من الشعر؛ فرب جاهل أو جافي الطبع أو متنسك نسكا أعجميا يذم الشعر فيسري ذمه إلى ما في الكتاب ثم إلى الكتاب، فرأينا أن ننبه على شيء من فضله، ونحن عند التحقيق في غنى عن ذلك ، بعد ذكر فضل المثل والحكمة ، لأن جل ما أوردناه في الكتاب من هذين النوعين، وما سوى ذلك إما توابع وتتمات ، وإما شواهد من كلام العرب مما اشترك في جلبها استشهادا كل ذي علم؛ ولكنا نذكر ذلك تقوية.

 

اعلم أنّ الكلام العربي هو أشرف الكلام وأجله، كما وقع في الحديث:إنّ سيد الكلام العربي، وسيد الأنبياء محمد، وسيد الكتب القرآن . وفي الحديث أيضاً : القرآن عربي ، وكلام أهل الجنة عربي. واعلم أن كلام العرب نوعان: منثور ومنظوم، وكان كله في أصله نثرا. فلما احتاجت العرب إلى ذكر أيامها وأعرافها، وتخليد مكارمها ومآثرها، توهموا أعاريض الشعر وأوزانه، وجعلوه آلة لذلك وعونا على حفظ ما ذكر وإبقائه، لسهولته على الطبع وميله إليه دون المنثور. ومن ثم يقال أن ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من المنظوم، ومع ذلك لم يحفظ من المنثور عشره، ولم يضع من المنظوم عشره: فكان للشعر بهذا فضل على النثر. ومما ورد في فضله قول النبي صلى الله عليه وسلم : إن من الشعر لحكمة، وتقدم تفسير الحكمة . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً إنّه قال : إنّ من البيان لسحرا، وإنّ من الشعر لحكما، أي كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه. قيل أراد به المواعظ والأمثال التي ينتفع بها، وقد تقدم أن الحكم بمعنى الحكمة. وقيل الحكم هنا القضاء، بمعنى إنّه ينفذ أمره ويتبع ما يقضي به ويسلم له فيما حكم به كما يكون ذلك في حكم الحاكم؛ ولذلك وضع أقواما ورفع آخرين. وممن وضعهم بنو نمير، إذ هجاهم جرير، وكانوا إحدى جمرات العرب قيل ذلك ؛ وبنو العجلان، إذ هجاهم النجاشي، وكانوا قبل ذلك يفتخرون بهذه التسمية، لأن أباهم سمي بذلك لتعجيله القرى للضيف، والربيع بن زياد العبسي، إذ هجاه لبيد، وكان قبل ذلك أحد ندماء النعمان بن المنذر، وكان لا يواكل غيره إذا حضر. وممن رفعه بنو أنف الناقة، حيث مدحهم الحطيئة فقلب هذا اللقب الذي كان يخزون به مدحا وفخرا؛ وعبد العزيز بن حنتم المعروف بالمحلق، حيث مدحه الأعشى وكان قبل ذلك خاملا؛ وهرم بن سنان، حيث مدحه زهير فشرف بذلك على أخيه خارجة بن سنان، وكان خارجة قبل ذلك أنبه منه وإن كانا معا سيدين؛ وغي هؤلاء. وتفصيل هذه الوقائع يطول بنا في هذا المحل، وهي مشهورة وسيأتي كثير منها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : الشعر كلام من كلام العرب جزل تتكلم به في بواديها وتسل به الضغائن وروي عن عائشة رضي الله عنها إن النبي صلى الله عليه وسلم بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبرا ينشد عليه الشعر. وروي أن عمر رضي الله عنه مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أ رغاء كرغاء البكر فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فو الله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك، فما يغير علي ذلك ، فقال عمر: صدقتويحكى إنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:

 

خلو بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله

 

ضربا يزيل الهام عن مقيله ... و يذهل الخليل عن خليله

 

فقال له عمر رضي الله عنه : يا أبن رواحةبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر فقال صلى الله عليه وسلم : خل عنه يا عمرفلهي أسرع فيهم من وقع النبل. ولمّا هجت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان رضي الله عنه : اهجهم ومعك جبريل روح القدس فلهجائك أشد عليهم من وقع السهام، في غبش الظلاموقال عمر رضي الله عنه : من أفضل ما أعطيته العرب الأبيات يقدمها الرجل أمام حاجته فيستعطف بها الكريم ويستنزل بها اللئيم. وقال أيضاً: تعلموا الشعر، فإن فيه محاسن تبتغى ومساوئ تتقى. وكتب إلى أبي موسى الشعري : مر من قبلك يتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب. وقال معاوية رضي الله عنه : يجب على الرجل تأديب ولده والشعر أعلى مراتب الأدب وقال: رووا أولادكم الشعر واجعلوه أكبر همكم وأكثر آدابكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين، وقد أتيت بفرس ووضعت رجلي في ركابه لأفر من شدة البلاء، فما حملني على الثبات إلا ذكر أبيات عمرو بن الأطنابة:

 

أبت لي همتي وأبى بلائي ... و أخذي الحمد بالثمن الربيح

 

وإقحامي على المكروه نفسي ... و ضربي هامة البطل المشيح

 

وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي

 

لأدفع عن مآثر صالحات ... واحمي بعد عن عرض صحيح

 

و قال بعضهم: كنا عند عمار بصفين، وعنده شاعر ينشده، فقال رجل: أيقال فيكم الشعر وانتم أصحاب محمّد وأصحاب بدر فقال له عمار: إنّ شئت فاسمع، وإنّ شئت فأذهب. أنا لمّا هجانا المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا لهم كما قال لكم، فكنا نعلمه الاماء بالمدينة. وكان أبن عباس يقول: إذا قرأتم شيئا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فان الشعر ديوان العرب. وقال أيضاً : إذا أعيتكم العربية في القرآن فالتمسوها في الشعر، فانه ديوان العرب. وكان كلما سئل عن حرف من القرآن أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشد عليه شعرا. وقيل لسعيد بن المسيب إنّ قموا بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكا عجمياوسئل أبن سيرين في المسجد عن رواية الشعر في شهر رمضان إنّها تنقض الوضوء فقال:

 

نبئت إنّ فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول

 

ثم قام فأم الناس وقيل بل أنشد:

 

لق أصبحت عروس الفرزدق ناشزا ... و لو رضيت رمح أسته لاستقرت

 

وسئل ابن عباس هل الشعر من رفث القول، فأنشد:

 

وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا

 

و قال إنّما الرفث عند النساء، ثم احزم للصلاة. وكان أبو السائب المخزومي يقول أما والله لو كان الشعر محرما لوردنا الرحبة كل يوم مرارا، يعني الرحبة التي تقام فيها الحدود. وقال عبد الملك لبنيه عليكم بالأدب، فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالا، وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالا، وكانت عائشة أم المؤمنين، وأبن عباس، وعمر، رضي الله عنهم أجمعين من رواية الشعر بالمحل الذي لا يدرك، حتى حكي عن عائشة إنّها قالت: رويت للبيد أثنى عشر ألف بين خلاف ما رويت لغيره. وكذا غير هؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم وما أهل البيت النبوي إلاّ من قال الشعر، غير النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا الخلفاء الأربعة. وقد ذكر المعتنون بهذا الشأن ما ثبت عن كل منهم من الشعر؛ والتعرض لذلك يطول بنا، وليس من غرضنا نحن في هذا الكتاب إلاّ مجرد التنبيه؛ وما تقدم كاف في مدح الشعر وإباحته والرد على منكريه.

 

وقد يحتج ذامه بوله صلى الله عليه وسلم : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا. ومحل هذا الحديث عند العلماء أربعة أوجه: أحدهما أن المراد بهذا الشعر المذكور هنا الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقع في رواية: شعر هجيت به بهذه الزيادة. وروى أن أبا هريرة، لمّا روى الحديث المذكور قالت عائشة رضي الله عنها لم يحفظ، إنّما قال شعرا هجيت به. ولا شك أن هذا النوع من الشعر لو كان شطر بيت لكان كفرا، فكيف إذا أميلا الجوف فيه.


ثانيها أنه ورد لأقوام كانوا في غاية الإقبال على الشعر فجاء على وجه المبالغة زجرا لهم ليقبلوا على القرآن والذكر والعبادة.

 

ثلثهما أنه في حق من أولع به حتى شغله عن الذكر والقرآن والعبادة، لأن ذلك هو يعني الامتلاء. وأما كان الغالب عليه القرآن والكر. فليس جوفه ممتلئل.

 

رابعها أنه في الشعر المذموم دمن الممدوح، وسنبينه.

 

وقوله صلى الله عليه وسلم : أنَ من البيان لسحرا، لعلماء في هذا الحديث وجهان: أحدهما أنه ورد مورد الذم فشبهه بعمل السحر لغلبته على القلب وجليه إياها، وتزيينه الباطل وتحسينه القبيح وتقبيحه الحسن. ويكتسب به صاحبه من الإثم ما يكتسب الساحر بعمله كما قال صلى الله عليه وسلم: ولعل بعضهم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فأنما أقطع له من النار. ثانيهما أنه ورد مورد المدح بمعنى أنه تمال به القلوب، ويسترضى به الساخط، ويستنزل به الصعب. ويشهد ليس لهذا قوله في نفس الحديث: إن من الشعر لحكمة.و هذا قول أكثر أهل العلم والأدب، لأن الله تعالى مدح البيان، وهو شامل للشعر والنثر. وقال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله حاجته فأحسن في السؤال: هذا والله السحر الحلالو قضى حاجته. وأما قوله تعالى: )و الشعراءُ يتبعهمُ الغلوون( الآية، فالمراد بها المشركون المشتغلون بالاذاية للنبي صلى الله عليه وسلم وهجائه. وأما الشعراء المؤمنون كحسان وكعب وأبن رواحة وغيرهم فليسوا بداخلين. ولذلك استثناهم الله تعالى فقال: )إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وذكروا اللهَ كثيرا( أي لم يشغلهم الشعر عن الذكر، وانتصروا من بعد ما ظلموا، أي بهجوم الكفار الهاجين للنبي صلى الله عليه وسلم ظلما، كما قال الله تعالى : (لا يحب اللهُ الجهر بالسوءِ من القول إلاّ من ظُلم). الآية المذكورة هي فصل الخطاب فيما مر. نعم، قال أبن عطيه: يدخل في الآية كل مخلط بهجو أو يمدح شهوة ويقذف المحصنات ويقول الزور، كما يدخل في الاستثناء كل من كان بخلافه.

 

فقد بان بهذا فضل الشعر وأن لا باس به أصلا، غير إنّه ليس على إطلاقه وأن الشعر كله محمود ومرضي، فان هذا خطأ وغلط، بل هو على تفصيل. فما كان متضمنا للثناء على الله تعالى ، أو لمدح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو الأنبياء والملائكة وكل من يجب تعظيمه وتوقيره والثناء عليه في الدنيا والترغيب في الآخرة، فهو مندوب إليه مرغوب فيه؛ وما كان متضمنا للتنبيه والوعظ والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ونحو هذا فكذلك أيضاً؛ وما كان متضمنا للهجو وإيذاء كل من عرضه معصوم فهو حرام. ويتفاوت في القبح والشدة بحسب المؤذي، حتى ينتهي إلى الكفر كما في حق الأنبياء، وما كان خاليا عن هذين الأمرين فهو من المباح في الجملة، إلاّ أنه إن اشتمل على وصف القد والخد والمجون التي تحرك دواعي الشهوة والغواية، فهو قد يجرم وقد يكره وقد يباح بحسب حال القئل والمخاطب. وتحقيق ذلك أن الشعر كلام كالنثر، فكل ما يستقبح في النثر يستقبح في الشعر.


فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق منه فهو حسن، ز ما لم يوافق الحق فلا خير فيه. وقالصلى الله عليه وسلم : إنما الشعر كلام فمن الكلام خبيث وطيب. وقالت عائشة رضي الله عنها: الشعر كلام فيه حسن وقبيح، فخذ الحسن ودع القبيح. وقال أبن سيرين: الشعر كلام عقد بالقوافي، فما حسن في الكلام حسن في الشعر،و كذلك ما قبح منه هذا ، مع أن الشعر قد حسنت فيه أشياء لم تجسم في النثر، وذلك مما يفضله به الأدباء؛ منها الكذب الذي وقع الإجماع على حرمته فانه جائز في الشعر، إلى إنّ في المبالغة والإيغال تفصيلا مذكورا في علم الأدب. وافضل الأمور الصدق ومما قرب منه؛ ومنها تزكية الإنسان نفسه ومدحه إياها، ومدح الإنسان بحضرته، ومدح المحرمات من الخمر والنساء الأجانب ونحو ذلك، ومنها خطاب الممدوح مثلا باسمه وبكاف الخطاب مما يكون في النثر استنقاصا، ونحو هذا . وقصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه اللامية متكفلة بأكثرها، وقد أنشدها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، بل أثابه بردته فاشتراها منه معاوية بثلاثين أو عشرين ألف درهم، وبقيت يتوارثها الخلفاء ويلبسونها في الجمع والأعياد تبركا بها. وقيل إنّه أعطاه مع البردة مائة من الإبل ويحكى إنّ الأحوص قال يخاطب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذ توقف عن إعطاء الشعراء:

 

وقبلك ما أعطى هنيدة جبلة ... على الشعر كعبا من سديس وبازل

 

رسول الإله المستضاء بنوره ... عليه السلام بالضحى والاصائل

 

و بالجملة، ففي كل كلام ينطق به اللسان شعرا أو نثرا، إنشاء أو حكاية، فوائد وآفات فصلها علماء الشعر وحرروها، فمن ظفر بالفائدة وسلم عن الآفات فهو الذي ينبغي له أن يتكلم إما وجوبا أو ندبا بحسب الفائدة؛ ومن لم يظفر بالفائدة ووقع في الآفة أو توقعها فهو الذي لا ينبغي له أن يتكلم إما تحريما أو كراهة بحسب الآفة. ومن تعرضتا عنده فهو الذي ينبغي له أن يرجح أحد الجانبين وإلا كف، فإن درء المفسدة أهم، ومن عدمهما معا فهو الذي يباح له الكلام، ولذكر الله أكبر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

 

الفصل الرابع

 

الأمثال الشعرية

 

اعلم أنا لمّا ذكرنا حكم الشعر عموما كما مر، أردنا أن نردفه بما كان منه مثلا خصوصا. وهذا النوع داخل فيما للذي قبله وداخل أيضاً فيما للمثل مطلقا، وقد فرغنا قبل من شرحه وفضله؛ غير أن هذا النوع له خصوصية كلام وبيان تعلق الغرض بذكره، وجعلنا الكلام في هذا الفصل في أربعة أمور بها يتم الغرض إن شاء الله تعالى : الأول في التمثل بالشعر وما ورد فيه يقال: تمثل بالبيت إذا أنشده وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بقول طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود؛ إلى إنّه يقول ويأتيك من لم تزوده بالأخبار. ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أشد أنك رسول الله، لقوله تعالى: وما علمناه الشعر. وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين فتمثلهم بالشعر شائع ذائع لا يحصى، وهو دليل ما تقدم في الفصل قبل هذا . ومما تمثل به أبو بكر رضي الله عنه وهو على المنبر قول الغنوى:

 

جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا رجلنا في الواطئين وزلت

 

أبو أن يملونا وأو أن آمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت

 

هم أنزلونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنت

 

و أراد بذلك ما فعل بهم الأنصار من الإحسان. وأما عمر رضي الله عنه فكان لا ينزل به أمر ألا تمثل فيه بشعر، وكذا عائشة

رضي الله عنها ومما تمثلت به قول لبيد:

 

ذهب اللذين يعاش في أكنافهم ... و بقيت في خلف كجلد الأجرب

 

و رأت النبي صلى الله عليه وسلم يوما يعرق جبينه وهو في عمل، وجعل عرقه يتلألأ نورا، فقالت له: لو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعر ه فقال لها: وما يقول يا عائشة أبو كبير قالت: يقول :

 

ومبرأ من كل غير حيضة ... و فساد مرضعة وداء مغيل

 

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلهل

 

فوضع صلى الله عليه وسلم ما كان في يده وقام إليها فقبل ما بين عينيها وقال : جزاك الله يا عائشة خيرا. ما سررت بشيء كسروري بكومما تمثلت به فاطمة رضي الله عنها يوم توفي أبوها عليه الصلاة والسلام قول فاطمة

 

قد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاحِ

 

قد كنت ذات حمية ما عشت لي ... أمشي البيرار وكنت أنت جناحي

 

فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراحِ

 

وإذا دعت قمرية شجنا لها ... يوما على فنن دعوت صباحِ

 

وأغض من بصري وأعلم إنّه ... قد بان حدّ فوارسي ورماحي

 

و مما تمثل به علي كرم الله وجهه وهو على المنبر، معنفا للقوم في تقديمهم أبا موسى الأشعري في التحكيم بعد ما حذرهم منه قول دريد بن الصمة:

 

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغدِ

 

و مما تمثل به معاوية رضي الله عنه قول قيس بن زهير:

 

أظن الحلم دل علي قومي ... و قد يستجهل الرجل الحليم

 

على لمحة قبيلة يزداد بها الناظر بصيرة على ما ذكرنا في المثل الأول. ولو تتبعنا ما تمثل به الصحابة في الوقائع، والتابعون وهلم جرا لكان وحده موضوعا.

 

الثاني في المثل الشعري وأقسامه. اعلم إنّ المثل معروف الحقيقة مما قدمنا فيه، وهو يكون نثرا تارة، وذلك أكثره، وقد يكون نظما. فان المثل، وإنّ كان سائرا، لكنه إذا نظم كان أسير له وأسهل على اللسان وأحسن، ثم إنّه قد يقع بيتا كاملا، وقد يقع نصف بيت أو ربعه أو نحو ذلك من الأجزاء. وسئل حماد الراوية بأي شيء فضل النابغة، فقال: إنّ النابغة إن تمثلت ببيت من شعره اكتفيت، مثل قوله:


حلفت فلم اترك لنفسك ريبة ... و ليس وراء الله للمرء مطلب

 

بل لو تمثلت بنصف بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: وليس وراء الله للمرء مطلب، بل لو تمثلت بربع بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: أي الرجال المهذب. ومن ورود المثل بيتا مستقلا قول طرفة مثلا:

 

لعمرك إنّ الموت ما أخطأ الفتى ... لك الطول المرخى وثنياه باليد

 

و قول أبي الطيب:

 

ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد

 

و هو كثير. ومن وروده نصف بيت الشطر الثاني من قول الحماسي مثلا:

 

عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق

 

و من ورده ربعا الربع الأخير من قوله:

 

ولا يواتيك فيما ناب من حدث ... إلاّ أخو ثقة فأنظر بمن تثق

 

و اعلم إنّه قد لا يتم المثل إلاّ على بيتين، كقول الأول:

 

إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة تقوى أو صديق توافقه

 

بخلت، وبعض البخل حزم وقوة ... و لم يبتذلك المال إلى حقائقه

 

و قد لا يتم إلى على اكثر، كقول بعض الأدباء:

 

لصيد اللخم في البحر ... و صيد الأسد في البر

 

وقضم الثلج في القر ... و نقل الصخر في الحر

 

وإقدام على الموت ... و تحويل إلى القبر

 

لأشهى في طلاب العز ... ممن عاش في الفقر

 

و قد يكون في البيت الواحد مثلان أو ثلاثة أو أربعة أو اكثر. فمن الأول قول امرئ القيس:

 

الله أنجح ما طلبت به ... و البر خير حقيبة الرحل

 

و من الثاني قول ضابىء بن الحارث:

 

وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... و يخطئ في الحرس الفتى ويصيب

 

ومن الثالث قول الأول:

 

فالهم فضل وطول العيش منقطع ... و الرزق منقسم وروح الله منتظر

 

و مما فيه خمسة قول بعض الأدباء:

 

خاطر تفد وأرتد تجد وأكرم تسد ... و انقد تقد وأصغر تعد الأكبرا

 

و مما فيه ستة قول أبن رشيق:

 

خذ العفو وأب الضيم واجتنب الأذى ... و أغض تسد وأرفق تنل وأسخ تحمد

 

الثالث فيما ينبغي له ويستحسن، وهو ثلاثة أشياء: أحدها أن يكون متزنا قائما بنفسه غير محتاج إلى غيره، وذلك إما أن يكون بيتا مستقلا، كقول طرفة السابق، وكقول السموأل:


إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل


و نحوه وهو كثير. وأما أن يكون جزءا من البيت مستقلا كقول الحماسي السابق، وكقول جميل بن عبد الله:

 

أرى كل عود نابتا في أرومة ... أبى منبت العيدان أن يتغيرا

 

فان الشطر الثاني مثل مستقل بالوزن والمعنى، وكذا الأول، أما إن كان جزءا محتاجا غير مستقل، كقول النابغة المذكور:

 

ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال مهذب

 

فان قوله: أي الرجال المهذب مثل، إلى إنّه محتاج في الوزن إلى ما قبله. وكذا قول الحماسي:

 

وإن أبيتم فأنا معشر أنف ... لا نطعم الخسف إنّ السم مشروب

 

فان قوله: إنّ السم مشروب مثل، وليس بمستقل، فهو كله غير مستحسن. ووجهه فيما يظهر لي ما تقدم من أن المثل إنّما نظم ليكون أيسر وأشهر. فإذا كان بيتا مستقلا حسن إنشاده من غير حشو هنالك ولا التباس؛ وإن كان شطرا تام الوزن، حسن أيضاً إنشاده وحده من غير حشو ولا فساد في النظم ولا خروج عن حكم الشعر؛ وإن كان جزءا غير تام الوزن فهو إن انشد البت المحتوى عليه كله كان ما زاد على المثل حشوا مع وقوع الالتباس تارة فيما أريد من البيت إذا لم يتعين المقصود، كما في قول النابغة: أي الرجال المهذب، فانه مثل وباقي البيت أيضاً مثل ، وقد لا يدرى أيهما المراد بعينه، وإن كانا يرجعان إلى مقصود واحد. واكثر الأبيات يصح التمثيل بها فيقع الالتباس. وإن لم ينشد البيت كله، بل اقتصر على المثل وحده صار نثرا وبطلت فائدة نظمه. أما ما لا يتم من الأمثال في بيتين أو اكثر كما مر فهو من التام الوزن دون المعنى، وهو عيب التضمين. ويتقوى العيب بكون التضمين بين مبتدأ وخبر، وفعل وفاعل، ونحو ذلك . ويسهل بكونه بين الشرط والجزاء، أو بين القسم والجواب ونحوه. وتفصيله مذكور في علم القوافي.

 

ثانيهما أن يكون سالما عن التكلف سلسا، تستلذه الأسماع ليكون أوقع له في النفس وأعون على الشيوع. فان الشعر إذا كان متكلفا كان المنثور أحسن منه. وقد يكون التكلف بالإكثار من الأمثال في البيت الواحد أو في القصيدة، فان تعاطي الجمع بين أربعة أمثال في البيت لا يخلو عن تكلف، فضلا عن الخمسة والستة، وكذا في القصيدة. ولذلك قال أبن رشيد في عمدته: وهذه الأشياء في الشعر إنّما هي نبذة تستحسن، ونكت تستطرف، مع القلة وفي الندرة؛ فأما إذا كثرت فهي دالة على الكلفة. فلا يجب للشعر أن يكون مثلا كله وحكمة، كشعر صالح بن عبد القدوس: فقد قعد به عن أصحابه وهو يقدمهم في الصناعة، لإكثاره من ذلك. وكذا لا يجب أن يكون استعارة وبديعا كشعر أبي تمام ثم قال : وإنما هرب الحذاق عن هذه الأشياء لمّا تدعو إليه من التكلف لاسيما إن كان في الطبع ايسر شيء من الضعف والتخلف. وأشد ما تكلفه الشاعر صعوبة التشبيه، لمّا يحتاج أليه من شاهد العقل، واقتضاء العيان. ولا ينبغي للشعر أن يكون أيضاً خاليا مغسولا من هذه الحلى فارغا ككثير من شعر أشجع وأشباهه.

 

ثالثها أن يكون متحرى فيه الصدق وحسن الإصابة. وهذا لا يختص بالمثل الشعري، فان المثل كله أفضله أصدقه وأحكمه وأوجزه؛ وإنّما اشترطت الوجازة احتزازا عن التكلف والإملال: فان قوة البشر غالبا قاصرة عن إيراد الأمثال الطوال من غير تكلف ولا موجب إملال؛ ومن ثم وردت في القرآن الذي هو درجة الإعجاز قصارا وطوالا، وحسنت كلها لانتفاء المانع. فمن القصار قوله تعالى: )كمثل الحمار يحمل أسفارا( ونحوه، ومن الطوال قوله تعالى: )إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناهُ من السماءِ( الآية؛ وقوله تعالى: )مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الرياح( الآية، و)الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعةٍ( الآية، ونحو ذلك وهو كثير. وكذا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقعت قصارا وطوالا وحسنت لصدورها عن المصطفى الذي هو أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم . فمن قصارها قولهصلى الله عليه وسلم : الناس كأسنان المشط، وقوله: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ونحو ذلك . ومن طوالها قوله: مثل البخيل والمنافق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد الحديث؛ وقوله: وإنّ مما ينبت الربيع لمّا يقتل حبطا أو يلم إلا أكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها الحديث وسيأتي الجميع في موضعه مستوفى مشروحا أن شاء الله تعالى.


الرابع في معنى السائر. اعلم إنّه يقال: مثل سائر، سواء كان شعرا أو غيره، وهو من السير في الأرض استعمل في ذهاب المثل وشيوعه في أسماع الناس. ويقال أيضاً : مثل شارد وشرود، وهو من شرود البعير وهو نفوره، واستعمل في شيوع المثل إذا شاع لا يستطاع رده ولا يمكن إخماده. كما لا يستطاع رد الصعب الشرود من الإبل. ولذلك قال زهير يخاطب بني الصيداء، حيث ذهب الحارث بن ورقاء بإبله وغلامه يسار :

 

فابلغ إن عرضت بهم رسولا ... بني الصيداء إن نفع الجوار

 

بأن الشعر ليس له مرد ... إذا ورد المياه به التجار

 

و قال أيضاً :

 

أولى لهم ثم أولى أن تصيبهم ... مني فواقر لا تبقي لا تبقي ولا تذر

 

وإن يعلل ركبان الحجيج بهم ... بكل قافية شنعاء تشتهر

 

قال أبن رشيق: وزعم قوم أن الشرود ما لم يكن له نظير كالشاذ والنادر. فأما قول أبي تمام، وكان إمام الصنعة ورئيسها:

 

لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس

 

حين عيب عليه قوله في أبن المعتصم:

 

إقدام عمر في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس

 

فإنه يشهد للقول الأول، لأن المثل بعمرو وحاتم مضروب قديما، وليس بمثل لا نضير له كما زعم الآخر.


خاتمة


في اصطلاح الكتاب


اعلم إني رتبت ما ذكرته من الأمثال على حروف المعجم، جاعلا الباب الأول حروف الكلمة، فان اشتمل المثل على كلمات اعتبرت أولها كلمة، ثم أوّل هذه الكلمة حرفا ثم عند سرد أمثال كل باب اعتبر هذا الترتيب أيضاً في جمعها وتقديم بعضها على بعض، والمعتبر من جميع ذلك أوّل الحروف الأصلية دون الزائدة، إلاّ أن يكون لها مسوغ يخرطها في سلك الأصلية. فان كان الحرف مما ينبني عليه التركيب كلا وما النافيتين، وفي والباء الجارتين، اعتبر أيضاً. فإذا فرغت من الأمثال ذكرت شيئا مما يجري مجرى المثل وجعلته ملتحقا به، ثم ذكرت بعض ما يحضر فكري من الأمثال الوقتية من غير تكلف ولا كبير تأمل ولا مراجعة، ثم شرعت في الشعر فذكرت ما هو من الشعر مثل أو يحسن التمثل به في أمر من الأمور من شعر المتقدمين والمتأخرين، وليس في وسع أحد اليوم استقصاؤه ولا بلوغ جله، لكن اذكر من ذلك مقدارا يكون كفاية لمبتغيه، مع التجافي عن جانبي الإخلال والإملال، فان كلا طرفي قصد الأمور ذميم، واعلم أني ربما اذكر شيئا من أمثال المولدين ومن بعدهم، أو شيئا مما يتمثل به في وقتنا من ألفاظ الحديث وغيره. ولا اقتصر على أمثال العرب ولا على ما عد مثلا بالصراحة. وإذا عثرت على ما يحسن إيراده أوردته غير مبال بقائله ولا بتصحيح السند والرواية، فان الكتاب ليس موضوعا للعزو الصرف والحكايات المجردة، بل موضوع لينتفع به الأديب ويستعين به التصرف ويتضلع منه الكاتب والشاعر وغيرهما إنّ شاء الله تعالى. ولا حرج على من لعف العسل، أن لا يسل. وهذا حين أشرع بالمقصود، مستعينا بالفتاح الخبير الودود.