باب الألف

أبى الحقين العذرة

 

الاباية: الامتناع. يقال: أبى الشيء يأباه ويأبيه إباء وإباءة بكسر أولهما، إذا كرهه. والحقين: اللبن المحقون في السقاء. تقول: حقنت اللبن في السقاء إذا صببته فيه وجعلت حليبه على رائبه. واسم السقاء: المحقن على مثال منبر. واسم اللبن: الحقين. قال زهير يصف الخيل:

 

ويرجعها إذا نحن إنقلبنا ... نسيف البقل واللبن الحقين

 

يقول إنّه يرجعها إلى ما كانت عليه من السمن ما تنسفه من البقل وتأكله، وما نسقيها من اللبن المحقون. والعذرة: العذر. قال النابغة يخاطب النعمان:

 

ها إن ذي عذرة إلاّ تكن نفعت ... فان صاحبها مشارك النكد

 

و معنى المثل أن العذر باطل مع وجود اللبن. وسيأتي شيء من هذا في قولهم: أهون مظلوم سقاء مروب، إن شاء الله تعالى

 

أتى الأبد، على لبد.

 

الإتيان: المجيء. يقال: أتاه أتيا وإتيانه وإتيانا وأتيا، كما يقال مأتى ومأتاه، إذا جاءه؛ وأتى فلان هذا الأمر إذا فعله؛ وأتى الدهر على فلان إذا أهلكه، وهو المقصود هنا. والأبد بفتحتين: الدهر. يقال : أبد أبيد، كما يقال : دهر داهر. ولبد: بضم ففتح آخر نسور لقمان بن عاد وبهلاكه هلك لقمان، وقصته مشهورة، وتلخيصها: إنّ عادا لمّا بعث الله إليهم نبيهم هودا، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم، كذبوه وعتوا واستكبروا ولم يأمنوا، فاحتبس عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا فأوفدوا وفدا إلى البيت الحرام يستسقون لهم، فيهم لقمان بن عاد، ورأسهم رجل يقال له قيل. فانطلق الوفد حتى أتوا على معاوية بن بكر فنزلوا عليه وهو خارج الحرم، وهم أخواله وأصهاره. فمكثوا عنده شهرا يكرمهم، يشربون الخمر وتغنيهم قينتان له يقال لهما الجرادتان. فلما طال مقامهم عنده تذكر ما نزل بقومهم من البلاء، فشق عليه مقامهم وتركهم ما بعثهم فيه قومهم وقال : هلك أصهاري وأخوالي، والله ما أدري ما أصنعإن أمرتهم بالخروج ظنوا بي إني ضاق بي مقامهم عندي فقال شعرا وأعطاه الجرادتين وأمرها أن تغنياهم به، وهو:

 

ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يصبحنا غماما

 

فيسقي أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما

 

وإنّ الوحش تأتيهم جهارا ... فلا تخشى لعادي سهاما

 

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما

 

فقبح وفدكم من وفد قوم ... و لا لقوا التحية والسلاما

 

فأما غناهم بالشعر قال بعضهم لبعض: إنّما بعثكم قومكم لمّا نزل بهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لهم. وفيهم رجل يقال له يزيد بن سعد أو مرثد بن سعد ممن آمن بهود. فقال لهم: والله لا تسقون حتى تطيعوا نبيكموأظهر حينئذ إيمانه وقال في ذلك شعرا، فلم يجيبوه إلى ما قال، وقالوا لمعاوية بن بكر: احبس عنا يزيد لا يدخل معنا مكة وهو على دين هود. فانطلقوا حتى دخلوا مكة، وخرج يزيد وراءهم، فأدركهم قبل أن يدعوا بشيء، فقال: اللهم لا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد، فقام قيل وقال: اللهم إن كان هود صادقا فاسقنا فقد هلكنافإنشاء الله تعالى سحائب ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء، ونودي من السحاب. يا قيل، اختر لنفسك ولقومكقال : قد اخترت السوداء لأنها اكثر السحاب ماء. فنودي: اخترت رمادا رمددا، لا يبقي من آل عاد أحدا. فساق الله السحابة السوداء بما فيها من النقمة إلى عاد، وأرسلها عليهم سبع ليال وثمانية أيام، فلم تدع منهم أحدا إلاّ هلك. واعتزل هود عليه السلام ومن معه إلى حديقة، فكانوا لا يصيبهم منها إلاّ نسيم يلين الجلود وتلذه الأنفس. وكان الوفد لمّا دعوا بمكة خيروا فأختار قيل أن يصيبه ما أصاب قومه فاقتلعته الريح فأهلكته. وسأل لقمان أن يعمر فخير بين عمر سبع بعرات سمر، من أظب عفر، في جبل وعر، لا يمسها القطر، وبين سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر. فأختار النسور. فكان يأخذ فرخ النسر حين يخرج من البيضة، فيغذيه حتى إذا هلك أخذ آخر، حتى بقي السابع وهو لبد. فكان يغذيه حتى هرم ولم يستطع النهوض، فأيقن حينئذ لقمان بالموت، فهلكا جميعا. وذكرت الشعراء هذا النسر في أشعارها كثيرا، قال النابغة:

 

أمست خلاء وأمس أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد

 

و سيأتي تتمة الكلام عليه في حرف الحاء، إن شاء الله تعالى .

 

ويضرب هذا المثل عند التأسي والاعتبار، والتعزي والاستبصار. وهو من الأمثال الحكيمة.

 

أتتك بحائنٍ رجلاه.

 

الإتيان: التقدم. والحائن: الهالك. ويقال حان الرجل يحين حينا كباع بيعاً إذا هلك، فهو حائن. واحنه الله: أهلكه.

 

ويضرب هذا المثل فيمن سعى إلى مضرته وطلب هلاكه وجرى إلى حتفه. وقال عبيد بن الأبرص. وسببه أن المنذر بن ماء السماء أو النعمان على خلاف بينهم، كان قسم دهره يومين: يوم نعيم ويوم بؤس. فكان كل من يلقيه في يوم النعيم اجزل صلته، ومن لقيه يوم البؤس قتله. فبينما هو في أيام بؤسه إذ طلع عليه العبيد بن الأبرص. فقال له الملك: ألا كان الذبح لغيرك فقال عبيد: أتتك بحائنٍ رجلاه: قال الملك: أو اجل بلغ أناه، ثم قال له: أنشدني يا عبيد، فقد كان يعجبنا شعرك. فقال عبيد: حال الجريض، دون القريض، ويبلغ الحزام الطبيين. قال: أنشدني:

 

أقفر من أهله محلوب ... فالقطبيات فالذنوب

 

و هو من شعر عبيد. فقال عبيد:

 

أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد

 

فقال: أنشدني هبلتك أمكقال: المنايا على الحوايا. فقال بعض القوم: أنشد الملك هبلتك أمكفقال: لايرحل رحلك من ليس معك.

وقال له آخر: ما اشد جزعك على الموتفقال:

 

لا غرو من عيشة نافده ... و هل غير ما ميتةٍ واحدة

 

فابلغ بني وأعمامهم ... بأن المنايا هي الراصدة

 

فلا تجزعوا لحمام دنا ... فللموت ما تلد الوالدة

 

فقال له الملك: لا بد من الموت ولو لقيني أبي في هذا اليوم لم أجد بداً من أن اذبحه. فأما إذ كنت لها وكانت لك فأختر مني ثلاث خصال: من الأكحل، وإنّ شئت من الأبجل،و إنّ شئت من الوريد. فقال عبيد: ثلاث خصال مقادها شر مقاد، وحاديها شر محاد، ولا خير فيها لمرتاد، فإن كنت لا محالة فاعلاً فأستقي الخمر حتى إذا ذهلت لها ذواهلي، وماتت لها مفاصلي فشأنك وما تريدفسقاه، فلما أخذت فيه الحميا وقرب الذبح أنشد يقول:

 

وخيرني ذو البؤس يوم بؤسه ... ثلاثاً أرى في كلها الموت قد برق

 

كما خيرت عاد من الدهر مرة ... سحائب ما فيها لذي خيرة أنق

 

سحائب ريح لم توكل ببلدةٍ ... فتتركها إلاّ كما ليلة الطلق

 

فأمر به فذبح. وفي هذه القصة أمثال يأتي شرح كل منها في محله إن شاء الله تعالى. ولمّا دخل عبد الله بن زياد الكوفة، وسمع به مسلم بن عقيل بن أبي طالب، تحول إلى هانئ بن عروه المرادي، فوضع أبن زياد الرصد على مسلم حتى علم بموضعه، فبعث محمّد بن الأشعث إلى هانئ فجاءه به من هناك. فلما نظر إليه أبن زياد قال: أتتك بحائن رجلاهثم قال:

 

أريد حياته ويريد قتلي ... عذريك من خليلك من مراد

 

و القصة مشهورة في قتل الحسين رضي الله عنه، وسنلم ببقايا بعد إنّ شاء الله تعالى.


أتيته صكة عمي

 

الإتيان مر والصك: الضرب الشديد. والصكك: اضطراب الركبتين والعرقوبين.


يقال: صكَّ، يصكُّ، صككّا، كما يقال مل، مللا. فهو أصك ومصك. واصطك أيضاً اصطكاكا وعمي: بتشديد الياء على مثال سمي، اسم رجل من العمالقة كان أغار على قوم ظهراً فصكهم واستأصلهم، وبقي مثالاً لكل من جاء ذلك الوقت، وهو الهاجرة وشدة الحر. وقيل هو رجل كان يفتي في الحجم، فجاء في ركب، ونزلوا منزلاً في يوم حار. فقال لهم: من جاءت عليه الساعة من غد وهو حرام، بقي حرام إلى قابل فوثبوا حتى وافوا البيت من مسيرة ليلتين جادين. وقيل عمي اسم للحر بعينه. وقيل المراد به الظبي، لأنّه يصدر في الهواجر فيصطك بما يستقبله كاصطكاكا الأعمى، فصغر الأعمى تصغير الترخيم، فيه عمي، كما قالوا في تصغير أدرد، وأسود،و أزهر: دريد، وسويد، وزهير.


أتتهم فالية الأفاعي.

 

الإتيان مر. وفالية الأفاعي: خنفساء رقطاء. قال العبدي في شاعر من بني حميس:

 

ألا ينهى سراة بني حميسٍ ... شويعرها فويلية الأفاعي

 

فصغرها كما صغر الشاعر تحقيراً له. وهذه الخنفساء تألف العقارب والحيات في جحرها؛ فإذا خرجت أو رؤيت في موضع علم إنّ هناك العقارب والحيات، فيضرب المثل لأول شر ينظر بعده شر منه.

 

يأتيك كل غد بما فيه.

 

الغد معروف، واصله غدو، ثم خفف بحذف لامه، وقد يؤتى به على أصله قال لبيد.

 

وما الناس إلاّ كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وغدوا بلاقع

 

و هذا المثل من أمثالهم المشهورة يعنون به: " المقادير كلها في علم الله تعالى قد قدرت، والأحداث بأصنافها قد فصلت وقسطت، وكل ما هو واقع منها فهو لا محالة كائن، وما قضي أن يبرز منها فهو بارز حتى يعاين، فكل غد فهو يأتيك بما فيه من خير وشر، ويسر وعسر، وفرح وترح.


إحدى حظيات لقمان

 

الإحدى: تأنيث الأحد بمعنى الواحد. والحظية تصغير حظوة، بفتح الحاء المهملة وسكون الظاء المشالة، وهي سهم صغير قدر ذراع. وفي الصحاح إنّه إذا لم يكن فيه نصل فهو حظية بالتصغير. وتطلق الحظوة أيضاً على كل قضيب تابت في أصل شجرة. ولقمان: هو أبن عاد. وحظياته: سهامه ومراميه. يضرب بمن عرف بالشرارة ثم جاءت منه هنة صالحة. وذكروا في أصل ذلك أن لقمان تزوج امرأة كانت طلقها رجل يقال له عمرو، فكانت تكثر أن تقول: لا فتى إلاّ عمروفإذا سمع منها لقمان ذلك اغتاظ فقال: والله لأقتلن عمرافنهته المرأة عن ذلك وقالت له:و الله لأن تعرضت له ليقتلنكفذهب لقمان حتى صعد سمرة عند مستقى عمرو لإبله، واتخذ فيها عشا، وترصد عمرا ليصيب منه غرة. فإذا بعمرو أورد إبله، فتجرد وأكب على البئر يسقي إبله فرماه لقمان من فوقه بسهم وأصاب ظهره. فقال عمرو: حس إحدى لقمان، فانتزعه ورفع رأسه إلى السمرة فإذا لقمان، فقال له: أنزل فنزل فأراد قتله فتبسم لقمان فقال: أضاحك أنت قال: والله ما أضحك إلى من نفسي، أما إني قد نهيت عما ترى قال: ومن نهاك قال: فلانة. قال : فإن وهبتك لها لتعلمنها بذلك، قال: نعمفخلى سبيله. فأتاها لقمان فقال: لا فتى إلاّ عمرو، فقلت: لقد لقيته، قال نعم، لقد كان كذا وكذا وأراد قتلي ثم وهبني لك، فقالت لا فتى إلاّ عمرو، قال: صدقت.

 

الأخذ سلجان، والقضاء ليان

 

الأخذ: التناول. تقول: أخذت الشيء أخذا، وتقول خذ يا فلان بحذف فاء الكلمة. وأصله أ أخذ، فلما استثقل الجمع بين الهمزتين حذفتا، ولم تبدل الثانية حرف مد ولو ادخل على الفعل الواو أو الفاء. وكذا الأمر من أكل وأمر؛ إلاّ أن الآخر إذا دخل عليه العاطف جاز رد فائه. والسلجان: الابتلاع يقال سلج اللقمة بالكسر يسلجها سَلجانا وسَلَجانا إذا ابتلعها. والسلجان بكسرتين مشدد اللام: الحلقوم. وطعام سليج وسَلَجلج وسُلَجلج: طيب، يُتسلج، أي يبتلع. واستعمل حسان رضي الله عنه السلجج في السيف الماضي الذي يقطع الضريبة بسهولة، حيث قال يوم بدر:

 

زين الندى معاود يوم الوغى ... ضرب الكمأة بكل ابيض سلجج

 

و لويت أمري عنه لين وليانا: طويته، ولويته بدينه ليا وليانا بكسرهما: مطلته. وفي الخير: لي الواجديحل عرضه. وقال ذو الرمة:

 

تريدن لياني وأنت ملية ... و احسن يا ذات الوشاح التقاضيا

 

و قضاء الدين والحق معروف. ومعنى المثل إن الأخذ سهل ينساه في الحلق بسهولة، والقضاء بخلاف ذلك. فإذا اخذ الرجل الدين أكله غير مبال؛ فإذا حان القضاء تصعب الأمر وتلوى. وقد يقال في هذا المثل أيضاً: الأكل سلجان، والقضاء ليان، ولا فرق بين الأكل والأخذ في المقصد، فالمعنى واحد.

 

الأخذ سريط، والقضاء ضريط

 

الأخذ مرّ. والسريط الاستراط. يقال: سرط اللقمة يسرطها، كذلك يدخل، وسرطها يسرطها، كفهم يفهم، سرطا إذا ابتلعها. والمسرط بكسر الميم وفتحها الحلقوم. والضراط معروف. يقال: ضرط بالكسر يضرط ضرطا، وضريطا ككتف، وضريطا وضراطا بالضم إذا فعل ذلك. وأضرطه وضرطه تضريطا: عمل به ما يضرط منه؛ وأضرط به: عمل بفيه كالضراط وهزئ به ومعنى المثل أنه يأخذ ألين فيسترطه ويبتلعه سهلا؛ فإذا طالبه صاحبه بالقضاء أضرط به كما في الذي قبله. ويقال هنا سريط وضريط، بضم أولهما وتشديد الراء؛ وسريطى وضريطى كذلك مع الألف المقصورة؛ وسريط وضريط وسريطى وضريطى على مثل خليفى؛ وسريطاء وضريطاء، مضمومتين مخففتين، والكل واحد. وقد يقال: الأخذ سريط، والعطاء ضريط ولا فرق بين القضاء والعطاء فالمعنى واحد.

 

اتخذ فلان حمارا للحاجات

 

الاتخاذ التصيير. والحاجات: جمع حاجة؛ وتجمع أيضاً على حاج وحوج وحوائج، وهذا الأخير على خلاف القياس، كأنه جمع حائجة. وكان بعض اللغويين ينكره ويقول إنّه مولد. وقال آخرون هو عربي وإن كان خلاف القياس، وأنشدوا:

 

نهار المرء مثل حين يثضي ... حوائجه من الليل الطويل

 

يضرب هذا المثل فيمن يمتهن في الأمور كالحمار.

 

أخذ الليل جملاً

 

الاتخاذ مر، والليل معروف، وكذا الجمل من الإبل. يضرب هذا المثل لمن سرى الليل اجمع، إما لأنه بات ساريا مستيقضا عارفا بجميع ما مر عليه من أجزاء الليل كان مصاحبا لليل حقيقة، غير تارك له ولا غافل عنه بالنوم، ولا مفارق له كمصاحبة الراكب لراحلته، وأما لأنه صار الليل له سببا في وصوله إلى مأربه وبلوغه حين سراة، كما أن الجمل يكون سببا في وصول إلى مطلبه حين يركبه؛ وإما لأن الدلجة تعين على السير وتقطع المسافة البعيدة كما في الحديث فأشبهت الجمل لأن أقوى على السير، وأبقى على الأير، وأقطع للفلوات، وأنجح في بلوغ الحاجات. قال حبيب:


جعل الدجى جملا وودع راضيا ... بالهون يتخذ القعود قعودا

 

و يحكى أن عبد الله بن سعيد لمّا افتتح أفريقية وقتل ملكها جرجير، بعث بالفتح إلى عثمان رضي الله عنه مع عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. فلما بلغ أبن الزبير قام في الناس خطيبا فقال: الحمد لله الذي ألف بيننا بعد الفرقة، وجعلنا متحابين بعد البغضة، الحمد لله الذي لا تجحد نعماؤه، ولا يزول ملكه؛ له الحمد كما حمد نفسه وكما هو أهله؛ ابتعث محمّدا صلى الله عليه وسلم فاختاره بعلمه وائتمنه على وحيه؛ فاختار له من الناس أعوانا قذف في قلوبهم تصديقه فآمنوا به وعزروه ووقروه ونصروه وجاهدوا في الله حق جهاده، فأستشهد الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح، والبيع الرابح، وبقي منهم من بقي لا تأخذهم في الله لومة لائم، أيّها الناس - رحمكم الله - إذا خرجنا للوجه الذي قد علمتم، فكنا مع خير وال ولي فمحمد، وقسم فعدل، لم تفقد من بر أمير المؤمنين شيئا. كان يسر بنا البريدين يخفض بنا في الظهائر، ويتخذ الليل جملا. يعجل الرحل من المنزل القفر، ويطيل اللباث في المنزل المخصب الرحب. فلم نزل على احسن حالة يتعرفها قوم من ربهم حتى انتهى إلى أفريقية فنزل منا بحيث يسمع صهيل الخيل، ورعاء الإبل، وقعقعة السلاح، فأقام أياما يجم كراعه ويصلح سلاحه، ثم دعاهم إلى الإسلام والدخول فيه، فبعدوا منه، وسألهم الجزية عن صغار والصلح، فكانت هذه ابعد، فأقام فيهم ثلاث عشرة ليلة يتأنى بهم وتختلف رسله إليهم. فلما يئس منهم قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فأكثر الصلاة عليه، ثم ذكر فضل الجهاد وما لصاحبه إذا صبر واحتسب. ثم ناهد لعدوه فقاتلهم اشد القتال يومه ذلك ، وصبر الفريقان جميعا وكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة، وأستشهد الله رجالا من المسلمين، فبتنا وباتوا، للمسلمين بالقرآن دوي كدوي النحل، وبات المشركون في ملاهيهم وخمورهم، فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التي كنا عليها بالأمس، وزحف بعضنا إلى بعض فأفرغ الله علينا الصبر، ثم أنزل علينا النصر. ففتحناها من آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، فبلغ فيها الخمس خمسين مائة ألف دينار. وتركت المسلمين قد قرت أعنهم وقد أغناهم التفل ووسعهم الحق وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين وإلى المسلمين، أبشره وإياهم بما فتح الله من البلاد وأذل من الشرك، فاحمد الله على آلائه، وما أحل بأعدائه، من بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين. وزعموا أنه لمّا فرغ من الخطبة نهض إليه أبه الزبير فقبل بين عينيه وقال له: يا بني، إذا نكحت امرأة فأنكحها على شبه أبيها أو أخيها تأتك بأحدهما، والله ما زلت تنطق بلسن أبي بكر الصديق حتى صمت.

 

أخذهم ما قدم وما حدث:

 

الأخذ مر. وقدم الشيء بالضم فهو قديم: ضد الحادث؛ بالفتح يحدث، كنصر ينصر، فهو حادث. فإذا قرن حدث بقدم كما في هذا المثل ضمت دال حدث للمزاوجة كما قيل: لا دريت ولا تليت، وأرجعن ما زورات غير ما جورات والقياس في الأول تلوت، وفي الثاني موزورات؛ وكما قيل: هناني الطعام ومراني، والقياس أمراني؛ وكذا يقال في غير المزاوجة بالهمز؛ وكما قال صلى الله عليه وسلم في دعائه: اللهم رب السماوات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، والقياس: ومن أضلوا، فعبر بما والنون للمزاوجة.

 

يضرب هذا المثل لمن يستولي عليه الهم، وكأنهم يريدون انه اجتمع عليه قديمه وحديثه، والله أعلم.

 

خذ من جذع ما أعطاك:

 

الأخذ مر وجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة اسم رجل، وهو جذع بن عمرو الغساني. وكانت غسان تؤدي إلى ملك سليح، وهي قبيلة باليمن، دينارين من كل رجل. وكان قابض ذلك سبطة بن المنذر السليحي. فجاء مرة يسأل الدينارين، فدخل جذع منزله وأشتمل بسيفه وخرج فضرب به سبطة حتى برد وقال له: خذ من جذع ما أعطاكوقيل إنّه أعطى بعض الملوك سيفه رهنا فلم يأخذ، فضربه حتى قتله، وقال ذلك ، فذهب مثلا يضرب في اغتنام ما يجود به البخيل.


خذ من الرضفة ما عليها:

 

الرضفة، بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة: واحدة الرضف، وهي حجارة محماة يوغر عليها اللبن ويشوى عليها. وهذا المثل من معنى الذي قبله، والله أعلم.

 

خذه ولو بقرطي مارية:

 

القرط، بضم فسكون: ما يعلق في شحمة الأذن من الحلي، والجمع قرطة ، يقال درج ودرجة؛ وقراط كما يقال رمح ورماح. وقرطت الجارية تقريطا: ألبستها إياه، فتقرطت هي . قال أعرابي يخاطب امرأته:


قرطك الله على العينين ... عقاربا سودا وأرقمين

 

ومارية، بالراء المخففة على وزن صاحبة: امرأة من غسان. وهي مارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة بن عوف بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو المعروف بمزيقياء بن عامر. وكان لها قرطان كان فيهما مائتا دينار. وقيل جوهر قوم بأربعين ألف دينار. وقيل كان فيهما درتان كبيضتي الحمامة لم ير الناس مثلهما. فأهدتهما إلى الكعبة، فضرب بهما المثل. وقيل: خذه ولو بقرطي مارية، أي على كل حال. ومارية هذه هي الواقعة في قول حسان رضي الله عنه:


للهِ درُ عصابةٍ نادمتهم ... يوما بجلق في الزمانِ الأولِ

 

أولاد جفنه حول قبر أبيهمُ ... قبر أبن ماريةَ الكريم المفضلِ

 

و ابنها المذكور هو الحارث الأعرج أبن الحارث الأكبر بن أبي شمر. وأولاده يزيد بن الحارث وابنه عمرو، وهو الذي مدحه النابغة الذبياني بقوله في قصيدته البائة المعروفة:

 

عليَّ لعمرو نعمة بعد نعمةٍ ... لوالده ليس بذلتِ عقاربِ

 

حلفتُ يمينا غير ذي مثنويةٍ ... و لا علمَ إلاّ حسنُ ظنٍّ بصاحبِ

 

لئن كان للقبرينِ قبر بجلقةِ ... و فبرٍ بصيداء الذي عند حاربِ

 

وللحارثِ الجفني سيدِ قومهِ ... ليلتمسن بالجيشِ دارَ المحاربِ

 

وثقتُ له بالنصر إذ قيل قد غزا ... كتائبُ من غسانَ غيرُ أشائبِ

 

بنو عمه دنيا وعمرو بن عامرِ ... أولئك قومٌ بأسهم غيرُ كاذبِ

 

و لشعر خسان قصة ظريفة مع جبلة بن الأيهم ستذكر في باب الأعيان إن شاء الله تعالى. وقيل هي مارية بنت ظالم، وقيل هي أم ولد جفنة، والله اعلم. وقد عرف مضرب المثل مما مر.

 

آخر البز على القلوص:

 

الآخر بالمد وكسر الخاء: ضد الأول؛ والبز: أمتعة البزاز من الثياب، والبز أيضاً: السلاح؛ والقلوص من النوق؛ الفتية بمنزلة الشابة من النساء. وهذا المثل قاله الزبان الذهلي، وكان ابنه عمرو بن الزبان بينه وبين قوم ترة، فذهب عمرو يوما هو وأخوته لأمر فرآهم خوعتة الغفلي، فدل عليهم أصحابه، فأتوهم وهم قعود يتغذون. فقال لهم عمرو: لا تشبوا الحرب بيننا وبينكمفقالوا: كلابل نقتلك ونقتل أخوتك قال: فإن كنتم فاعلين، فأطلقوا هؤلاء الذين لم يلتبسوا بالحروب، فإنَ ورائهم طالبا أطلب مني، يعني أباهم، فقتلوهم وجعلوا رؤوسهم في مخلاة وعلقوها في عنق ناقة لهم يقال لها الدهيم. فجاءت الناقة والزبان جالس أمام بيته فبركت، فقامت الجارية فجست المخلاة فقالت: أصاب بنوك بيض النعام فأدخلت يدها فأخرجت رأس عمرو ثم رؤوس أخوته. فأخذها الزبان وغسلها ووضعها على ترس فقال: آخر البز على القلوص، فذهبت مثلا، أي آخر عهدي بهم فلا ألقاهم بعدها. ثم شب الحرب بينه وبين بني عقيلة حتى أبادهم، فقالت العرب: أشئم من خوتعة، وأشئم من الديهم، وأثقل من حمل الديهم. وسنأتي هذه الأمثال كلها في مواضعها إن شاء الله تعالى. وكان هذا المثل هو الذي أشار إليه حبيب بقوله:

 

وهرجاما بطست به فقلنا ... خيارُ البز جاء على القعودِ

 

آخر أقلها شربا.

 

الآخر تقدم. والأقل: ضد الأكثر. والشرب، بكسر الشين المعجمة: الحظ من الماء. وأصل هذا المثل في الإبل، فإن أواخرها وردا ترد وقد نزف الحوض ولم يبق فيه إلاّ قليل من الماء، فيكون ما تناله من الماء شيئا قليلا، فيضرب المثل لمن كان كذلك في الأمور والحظوظ كلها.


أخوك أم الذئب

 

الأخ معروف، وكذلك الذئب. والأخ والذئب على طرفي نقيض، فإنَ الأخ شأنه الوفاق والإيناس والإعانة والإحسان، والذئب شأنه الأذية والمعاداة. فيضرب المثل عند سؤالك أحدا أهو صديق أم عدو، وهو مثل مشهور.

 

أخوك البكري ولا تأمنه

 

هذا المثل مشهور وقديم، يضرب في استعمال الحذر وسوء الظن، ورد في الخبر عن عبد الله بن عمرو بن الفوعاء الخزاعي عن أبيه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بعد الفتح، فقال: التمس صاحبا. قال: فجائني عمرو بن أمية الضمري، وهو أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناف، فقال: بلغني أنك تريد الخروج وتاتمس صاحبا. فقال: قلت أجلقال: فأنا لك صاحب. قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد وجدت صاحبا. قال. فقال: من قلت: عمرو بن أمية الضمري. قال: إذا هبطت بلاد قومه فأحذره فإنه قد قال القائل: أخوك البكري ولا تأمنهفخرجنا حتى إذا كنت بالأبواء قال: إني أريد حاجة إلى قومي بودان فالبث لي، قلت راشد. فلما ولى ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فشددت على بعيري وأوضعته حتى كنت بالأصفار إذا هو يعرضني في رهط. قال: وأوضعت فسبقته. فلما رأني فته انصرفوا، وجاءني فقال: كانت لي إلى قومي حاجة. قال. قلت: أجلومضينا حتى مكة، فدفعت المال إلى أبي سفيان. انتهى. والبكري صفة أخوك، والخبر محذوف تقديره " أو مخوف " أو نحو ذلك والمعنى إنّه أخوك شقيقك وأنت تحذره ولا تأمنه، فكيف بغيره والبكري، إن كان نسبته إلى القبيلة، فهو بفتح الباء الموحدة. واستظهر بعضهم أن يكون يكسرها وكأنه يرى أنه من بكر الأولاد. يقال: امرأة بكر للتي ولدت بطنا واحدا، وبكرها ولدها الأول. والذكر والأنثى فيه سواء قال:


يا بكر بكرين ويا خلب الكبد ... أصبحتَ مني كذراعٍ من عضد

 

و هو بكسر الباء، وإلا إنّه يوصف به، ولا يحتاج إلى ياء النسبة. وعلى الاحتمال الأول يصح أن يكون البكري هو الخبر، ولا تقدير.

 

إذا دخلتَ أرض الحُصيبِ فهرول

 

الدخول معروف، كذلك الأرض. والحصيب، بالحاء والصاد المهملتين مصغرا: موضع باليمن. والهرولة: الإسراع، أو بين المشي والجري. والحصيب فاقت نساؤه حسنا وجمالا، وأحسب لذلك أمر بالهرولة عند دخوله حذرا من فتنتهن. فإنَ كان الأمر كذلك، حسن أن يضرب المثل فيما يشبه ذلك من الحذر وطلب السلامة، والله اعلم.

 

 

إذا رغب الملك عن العدل، رغبت الرعية عن الطاعة.

 

هذا المثل مصنوع فيما يظهر، وهو ظاهر المعنى، وسيأتي في الحكم بسط هذا المعنى واستيفاؤه من كلام الحكماء، إن شاء الله تعالى.

 

إذا ارجحن شاصياً فارفع يداً:

 

يقال ارجحن ارجحنانا إذا مال. وشصا بصر الرجل يشصو شصواً: ارتفع، واشصاه صاحيه: رفعه. أي : إذا مال ساقطا، ورفع رجليه، فارفع يدك عنه ولا تضربه والمعنى: إذا خضع لك فاكفف عنه وارفق به، لأن القدرة تذهب الحفيظة.

 

إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبحٌ.

 

السماع معروف والسرى على وزن هدى. يقال: سرى يسري سُرى، ومسرى، وسرية، وأسرى إذا مشى عامة الليل. والقين: الحداد وجمعه أقيان. والقين أيضاً: العبد، وجمعه قيان والصباح: الدخول في الصباح.

 

يضرب هذا المثل في الكذب والإخلاف حيث يعرف كذب الرجل فيرد صدقه. وأصله أن قينا كان باليمن، فكان إذا كسد في موضع أخبرهم إنّه سيخرج غدا ثم لا يخرج، فضربوا به المثل. وسيأتي تمام القصة في حرف الدال، إن شاء الله تعالى.

 

إذا اشتريت فاذكر السوق.

 

ألفاظه ظاهرة. وهو من أمثال العرب المشهورة. يريدون به أنك إذا اشتريت سلعة فاذكر الصحة واطلبها، وتبصر العيوب وتجنبها، فانك ستحتاج فيما اشتريته إلى إنّ تقينه في السوق يوما لبيعه إن احتجت إلى ثمنه. فتذكر ذلك اليوم فانك إن اشتريت جيدا بعت جيدا. وفي معناه قول العامة اليوم: كما تشتري تبيع.

 

إذا طلبت الباطل أنجح بك.

 

الباطل معروف: والنجاح والنجح: الظفر بالحاجة. يقال: نجحت حاجته وأنجح هو: صار ذا نجح. ويقال: أنجح بك إذا غلبك؛ فإذا غلبته فقد أنجحت به. وكانت الفتاة من العرب تزوجت شيخا، فكان يقعد لينتعل فتقول: يا حبذا المنتعلون قياما، فسمعها يوما فحاول أن ينتعل قائما فضرط، فقالت: إذا طلبت الباطل أنجح بك، أي ظفر بك ولم تظفر أنت بشيء، فسار مثلا يضرب عند الظلم في أداء الباطل.


إذا عز أخوك فهن.

 

العز خلاف الذل؛ يقال: عز الرجل يعز إذا قوى وامتنع بعد ذلة؛ وعز علي أن تفعل كذا، وعز علي هذا الأمر: أي أشتد. وهن يروى بضم الهاء وكسرها: فالضم من هان يهون هوانا إذا ذل وخضع. ومعنى المثل عليه إذا عز أخوك، أي عظم وتقوى فاخضع له أنت تسلم من شره. والكسر من هان يهون إذا لأن. والمعنى: إذا أشتد أخوك وتصعب، فلن أنت. هكذا ذكر بعض الناس، وهو صحيح من جهة المعنى؛ لكن ما ذكر من كسر الهاء، إنّها يصح إن وجدت مادة هذا يقال ن. والمعروف في اللغة إنّها هو مادة هذا ون؛ إلاّ إنّه إذا أريد الذلة والخضوع، قيل الهون بضم الهاء، والهونة؛ وإذا أريد الين والسكينة، قيل: الهون بفتح الهاء. قال تعالى: )و الذين يمشونَ على الأرضِ همنا(. ويقال رجل هيِّن وهين كميت وميِّت، وليس يائيا بل واويا، فوقع القلب: ويقال: هون الله الأمر، إذا سهله. ومما يوافق المعنى الأول قول أبن أحمر:

 

وقوارع من الأيام لولا ... سبيلهم لراحت عنك حينا

 

دببت لها الضراء وقلت أبغي ... إذا عز أبن عمك أن تهونا

 

وهو محتمل للمعنى الثاني أيضاً. ومن الضريح في الثاني قول الآخر:

 

بنيَّ إذا ما سمك الذلَّ قادرٌ ... عزيزٌ فلن فاللين أولى وأحرزُ

 

ولا تسم في كل الأمور تعززاً ... فقد يورثُ الذلَّ الطويلَ التعززُ

 

و المثل للهذيل بن هبير. وسببه إنّه أغار على ضبة فغنم وأقبل بالغنائم. فقال أصحابه: أقسمها بيننا. فقال: أخاف أن يدرككم الطلب، فأبوا. فعند ذلك قال: إذا عز أخوك فهن، ونزل فقسمها.

 

إذا لم تستحي فاصنع ما شئت.

 

الاستحياء الانقباض والحشمة؛ يقال: حيي منه بالكسر يحيى حياء بالمد، واستحيى، وهو حيي كغني:

 

ذو حياء؛ وقد يقال: استحى يستحي. قال الشاعر:

 

تقول يا شيخ أما تستحي ... في شربك الخمر على المكبر

 

و هذا الكلام يتمثل به، وليس من الأمثال. وفي الخبر: مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. وفسر بمعنيين: أحدهما ظاهر، وهو المشهور: إذا لم تستحي من العيب ولم تخش عارا ولا لوما مما تفعل، فافعل ما تحدثك به نفسك، حسنا أمثال لا. ولفظه أمر، ومعناها الخبر على وجه التوبيخ والتهديد، كأنه قيل: إذا لم يكن فيك حياء، فأنت صانع ما شئت من خير وشر. وفيه إشعار بأن الرادع للإنسان عن السوء هو الحياء؛ فإذا انخلع عنه كان كالمأمور بارتكاب كل محذور، وتعاطي كل قبيح وسيئة، كما قال الحماسي:

 

إذا لم تخش عاقبة الليالي ... و لم تستحي فاصنع ما تشاءُ

 

فلا والله ما في العيش خيرٌ ... و لا الدنيا إذا ذهبَ الحياءُ

 

و قال أبو دلف العجلي:

 

إذا لم تصن عرضاً ولم تخش خالقاً ... و تستحي مخلوفاً فما شئت فاصنعِ

 

و قد أكثر الشعراء من هذا النحو.

 

ثانيهما أن يحمل الأمر على بابه، أي إذا كنت في فعلك آمنا أن تستحي لجريك على اسنن وليس من الأفعال التي يستحي منها، فافعل؛ وإلاّ فلا. وهذا قانون كلي، وهو مثل ما في الحكمة: إياك وما يعتذر منه.


إذا نزل بك الشر فاقعد.

 

هذا مثال مشهور معناه: إذا رأيت شرا مقبلا، وهولا حاصلا، وفتنة ثائرة، فتربص وتأن، واحلم ولا تسارع، ولا تستهدف ولا تستشرف. وفي الحديث في ذكر الفتنة: من يستشرف لهل تستشرفه.


إذا نزل القضاء عمي البصر:

 

هذا يتمثل به أيضاً. والمعنى أن ما قضى الله تعالى فهو كائن، وما قدره فهو واقع، لا ينجي منه الحذر، ولا نظر البصير. يحكى أن نافعا سأل أبن عباس - رضي الله عنه - فقال له: سليمان عليه السلام، مع ما خوله الله تعالى من الملك، كيف عني بالهدهد مع صغره يعني حيث تفقد الطير فسأل عن الهدهد وقال: لأعذبنه أو ليأتيني بسلطان مبين. فقال أبن عباس: إنه احتاج إلى الماء والهدهد كانت له الأرض كالزجاج فقال نافع: قف يا وقافكيف يبصر الماء من تحت الأرض، ولا يرى الفخ إذا عطي له بقد إصبع من التراب فقال أبن عباس: إذا نزل القضاء عمي البصر. وقال أبو عمر الزاهد في هذا المعنى:

 

إذا أراد الله أمراً بأمرءٍ ... و كان ذا عقلٍ ورأيٍ وبصر

 

وحيلةٍ يفعلها في دفع ما ... يأتي بهِ محتومُ أسبابِ القدر

 

غطى عليهِ سمعهُ وعقلهُ ... وسلهُ من ذهنه سلَّ الشَّعر

 

حتى إذا نفذَ فيه حكمهُ ... ردَّ عليه عقلهُ ليعتبر

 

و هو معنى ما في الحديث: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب عقول الرجال الحديث.


إذا لم تغلب فاخلب.

 

الخلابة: الخداع، والمثل ظاهر المعنى.

 

مأرب لا حفاوة:

 

المأرب الحاجة، والجمع مآرب وفي التنزيل: ولي فيه مآرب أخرى. وكذا المأربة مثلث الراء. والحفاوة: الاهتمام والاهتبال بالشيء، يقال. حفيت بالرجل بالكسر، فأنا به حفي، إي اهتممت به وبالغت في الألطاف به والسؤال عن حاله. قال تعالى : (سأستغفرُ لك ربيَ إنهُ كانَ بي حفيا). وقال الحماسي:


فلما أتينا السفح من بطن حائلِ ... بحيثُ تناصى طلحها وسيالها

 

دعوا لنزارٍ وانتمينا لطيئ ... كأسدِ الشرى إقدامه ونزالها

 

فلما التقينا بيَّن السيفُ بيننا ... لسائلهِ عنَّا حفيَّ سؤالها

 

يضرب هذا المثل للرجل يتملقك لا رغبة فيك ولا اهتماما بأمرك، ولطن لغرض يطلبه منك وحاجة ينالها عنك. ومأرب يصح أن يكون مبتدأ يقدر خبره، أي بك مأرب لا حفاوة، وأن يكون خبرا يقدم مبتدؤه، أي باعثك وحاملك على الدنو مني والتملق لي مأرب لا حفاوة. فإن قلت: هل يصح أن ينصب أو يقال إنه مرفوع عن منصوب في الأصل، كما قيل في: سلام وحنان، وصبر جميل قلت: لو كان منصوبا لكان معناه تقصد أو ترتاد مأربا، وحينئذ لا يحسن العطف بهذا التقدير في حفاوة كما لا يخفى، ويحتاج إلى تقدير آخر كأنه قيل ترتاد مأربا ولا تحفي حفاوة، وفيه بعض التكلف، وإن كان يمكن تقدير فعل أعم كالملابسة.

 

آكل من أرضة.

 

الأكل معروف. والأرضة بفتحتين والضاد المعجمة: دويبة صغيرة تأكل الخشب وفي قصة الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم أ، الله بعث عليها الأرضة فأكلت كل ما فيها من جور وظلم ز قطيعة رحم، وبقي ما كان فيها من ذكر. ويضربون المثل بالأرضة في كثرة الأكل وقوته. وينسب إلى القاضي عبد البوهاب:

 

يا أهلَ مصر رأيتُ أيديكم ... عن بسطها بالنوالِ منقبضة

 

لمّا عدمت النوال عندكم ... أكلتُ كتبي كأنني أرضة

 

آكل من سوس.

 

الأكل مر. والسوس: الدود المعروف يقع في الصوف والطعام. قال امرؤ القيس:

 

آليت حب العراقِ الدهر أطعمه ... و الحب يأكله في القريةِ السوسُ

 

يضرب به المثل أيضاً في كثرة الأكل. قيل لخالد بن صفوان: كيف ابنك فقال: سيد فتيان قومه ظرفا وأدبا. فقيل له: كم زقه قال: درهم. فقيل: أيرتفع منه ثلاثون درهما في شهر وأنت تستغل ثلاثين ألفا قال: الثلاثون أسرع في هلاك المال من السوس. ولهذا قالوا: العيال سوس المال كما سيأتي.


يأكلك الأسد ولا يأكلك الكلب.

 

هذا فيما يظهر مثل مولد يضرب عند اختيار المرء صولة العزيز وعقوبة الكبير على صولة الذليل وعقوبة الحقير، فإنَ صولة الذليل أشد على النفس كما قيل: لو ذات سوار لطمتني والمثل قد وقع في الكلام الأمير شمس الدين قراسنقر، وذلك أن شمس الدين بن السلعوس كان يكرهه. فلما حضر الملك الاشرف إلى دمشق، وبلغ قراسنقر كراهية الوزير وعمله، بادر بهدية عظيمة وتقدمة حسنة إلى الملك، وأحضر ذلك بنفسه، فقال له السلطان: لأي شيء هذا قال : بلغني أن إنّ السلعوس يعمل علي ويغير خاطر مولانا السلطان. وقد جئت أما بنفسي يأكلني السبع ولا يأكلني الكلب. وفي هذا قال الصابئ في أبي الورد البغدادي:

 

ومن عجب الأيام أنَّ صروفها ... تسوي إمرءاً مثلي بمثل أبي الوردِ

 

فيا ليتها اختارت نظيراً وأنه ... رماني بشنعاء الدواهي على عمدِ

 

فكم بين معقور الكلاب وإن نجا ... ذليلاً ز مقتولِ الصراغة الأسدِ

 

و نحو قول المثقب العبدي:

 

فإن أكُ مأكولاً فكن خير أكلِ ... و إلاّ فداركني ولمل أمزقِ

 

و يحكى أن العجير السلولي هجا قوما من بني حنيفة، فأقاموا عليه البينة عند نافع بن علقمة الكناني، فأمر به أن يقام عليه الحدّ في ملأ من الناس. فهرب العجير ليلا حتى أتى نافعا فقعد له متنكرا حتى خرج من المسجد، ثم تعلق به فقال:

 

إليك سبقنا السوط والسجنَ تحتنا ... حُبالى يسامين الظلام ولقحُ

 

إلى نافعِ لا نرتجي ما أصابنا ... تحومُ علينا السانحاتُ وتبرحُ

 

فإن أكَ مجلوداً فكن أنت جالي ... و إن أكُ مذبوحاً فكن أنت تذبحُ

 

فقال له: انج لنفسك، فإني سأرضي خصومك، فبعث إليهم وأرضاهم. وهذا المثل باق اليوم في ألسنة العوام يقولون: من أكله السبع خير ممن أكله الذئب.

 

آلف من حمام مكة.

 

يقال ألِفَ فلان كذا، بكسر اللام، يألفه إلفاً بكسر الهمزة وفتحها فهو ألف، وهي آلفة، وهم آلاف، وهن آلفات وأو ألف. والألفة بضم الهمزة: اسم من الائتلاف. إلفك بكسر الهمزة: الذي تألفه كما يقال: حب وخدن. والحمام على مثال سحاب: اسم جنس واحدة حمامة للذكر والأنثى. وقد يقال للواحد حمام، قاله في الصحاح وأنشد عليه قوله الشاعر:

 

حماما أيكة وقعا فطارا

 

وقول الآخر:

 

وذكرني الصبا بعد التنائي ... حمامةُ أيكةٍ تدعو حماما

 

قلت: والأول محتمل لأن يكون تثنية جماعتين كما قال الآخر:

 

هما سيدانا يزعمانِ وإنما ... يسوداننا إن أيسرت غنماها

 

فثنى الغنم وهو اسم جمع، وهذه التثنية لا تخص بالمفرد، بلهي جارية في أسماء الجموع، وجموع التكسير أيضا، كما علم في محله، فلا دليل فيها على المفرد. والثاني يحتملل أن يكون الحمام فيه اسم جنس، لا يقال مقابلته بالحمامة عاضد للأفراد، فهو ظاهر في المراد، لأنا نقول ذلك لو سلم أن الحمامة أريد بها الأنثى ليكون المقال ذكرا. لكنا نقول إنها للفرد من الجنس كما مر، ومقابل الفرد من حيث هو الجنس. والحمام قال في الصحاح: ذوات الأطراف من نحو الفواخت والقماري وساق حر والقطا وأشباه ذلك. قال: وهي عند العامة الدواجن فقط، وأنشد على الأول لحميد بن ثور:

 

وما هاجَ هذا الشوق إلاّ حمامةٌ ... دعت ساقَ حرٍّ ترحه وترنما

 

قال: والحمامة هاهنا قمرية قال وقال الأصمعي في قول النابغة:

 

احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراعٍ واردِ الثمدِ

 

هذه زرقاء اليمامة نظرت إلى قطا. قلت: وبه حزم شارح ديوان النابغة عن أبي حاتم، وإن هذه المرأة كانت لها قطاة. فمر بها سرب من القطا فقالت ذلك. وأراد النابغة بالحمام ذلك القطا. ومكة البلدة الحرام ووصف حمامها بالألفة لأنه محترم لا يتعرض له أحد بمكروه ولا أذى، كما قال العجاج:

 

ورب هذا البلدِ المحرمِ ... قواطناً مكة من ورقِ الحمِ

 

أي الحمام، فرخم للضرورة فلما كان آمنا كان ثابت الجأش غير نفور من الناس نفور الصيد، كما قال النابغة:


والمؤمنِ العائذاتِ الطير يمسحها ... ركبانُ مكة بين الغيل والسعدِ

 

وأراد بالعائذات هذه الطير، ولذا أتى بالطير بدلا منها، والمؤمن هو الله تعالى، وهو لفظ اسم فاعل متعد إلى مفعولين بهمزة النقل، والواو للقسم، والمفعول الثاني محذوف أي: أقسم بالله تعالى الذي أمن الطير العائذات أن تصاد أو أن تؤخذ. وقوله: يمسحها ركبان مكة، أي يمسحون عليها ولا يهجونها لألفتها لهم واستئناسها بهم. والغيل بفتح المعجمة وقيل بسكونها، والسعد أجمتان بين مكة ومنى. وقيل: الغيل بفتح الغين الماء الجاري على وجه الأرض. وهو هنا ماء يخرج من أصل أبي قبيس.


واعلم أن هذه الصيغة وهي قولنا أفعل من كذا، مستعملة في باب المثل عند أرادة منتهى التشبيه وأقصاه، كما يقال: أعز من الأبلق العقوق، وأجود من حاتم، وأعيى من باقل، ونحو ذلك. وأنما يتم ذلك ببلوغ المضروب به غاية ذلك المعنى. لكن هذا أمر إضافي موكول إلى نظر القائل واعتبره وحكم خياله. فأيهما شيء استعظم درجته ساغ له أن يضرب به المثل. ولذا يصح له أن يضرب المثل بالحمام في الألفة، وإن كان غير الحمام فيها وأحق، لكنه لم يلتفت إلى الغير فاستعظمها في الحمام إذ ليس الألفة من شأن الطير، فهي مستغربة، والاستغراب زائد الاستعظام كما قالوا: أجرأ من خاصي الأسد. وفهم مثل هذا في كل ما يرد في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.


آلف من غراب عقدة.

 

الألفة مرت، والغراب معروف، جمعه غربان واغربة. وعقدة، بضم العين المهملة، وسكون القاف: موضع. وهي أيضاً المكان المخضب الكثير الشجر أو النخل. وإنّما وصف غراب عقدة بالألفة لأنّه لا يطير لكثرة الشجر. إلاّ أن عقدة، إن جعلت مكان بعينه، لم تصرف؛ وإن جعلت اسما للمكان المخضب مطلقا صرفت. وهما جاريان هنا معا كما يقتضيه كلام القاموس، وسيأتي في قولهم: عيش لا يطير غرابه زيادة بيان لهذا المحل إن شاء الله تعالى.

 

إليك يساق الحديث.

 

السوق معروف. يقال: ساق الماشية يسوقها سوقا وسياقا وسياقة، واستقاها. ثم يستعمل السوق في الكلام والحديث، لأنّه يؤتى به كما يؤتى بالماشية. وهذا المثل يضرب عند الإساءة في السؤال والاستعجال به قبل أوانه. وله قصة مذكورة عندهم، وقد نظمه بشار وبين معناه فقال:

 

ومرتْ فقلتُ متى نلتقي ... فهشَّ اشتياقاً إليها الخبيث

 

وكادَ يمزقُ سربالهُ ... فقلتُ إليكَ يساقُ الحديث

 

و قال الآخر:

 

لا تعجبوا لسؤال ركبان الحمى ... فإليكمُ هذا الحديثُ يساقُ

 

أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك.

 

الأمر معروف. والمبكيات والمضحكيات: المورثات بكاء أو ضحكا. وكانت فتاة من العرب لها خالات وعمات. فكانت إذا زارت عماتها ألهينها، وإذا زارت خالاتها ابكينها. فقالت لأبيها: إنّ عماتي يلهينني، وخالاتي يبكينني إذ زرتهن، فقال لها أبوها: أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك، فذهبت مثلا يضرب عند الحذر والتحذير من الهوى والأمر باجتنابه.

 

والمعنى: أطع من يدلك على رشادك، ويبصرك بصلاح معاشك ومعادك، وينبهك من رقدة الغفلة والغرة، ويفطمك من مراضع الهوى المضرة، وإن كان ذلك يبكيك، ويثقل على نفسك ويؤذيك؛ ولا تطع من يأمرك بما تهوى، ويحسن لك ما يشينك في العاجلة والعقبى، وإن كان ذلك يضحكك ويلهيك، ويؤنسك ويسليك.

 

 

الأمور مخلوجة وليست بسلكى.

 

الأمور جمع أمر، وهو الشأن والحال والشيء الواقع: والخلج: الجذب والنزع؛ والمخلوجة: المجذوبة؛ والمخلوجة أيضاً : الطعنة المعوجة عن يكين وشمال؛ والسلكى، بضم الأول وألف مقصورة: الطعنة المستقيمة تلقاء الوجه. قال امرؤ القيس:

 

مطغنهم يلكى ومخلوجة ... كزك لأيمن على نابلِ

 

ثم إنهم جعلوها في الأمور، وجعلوا المخلوجة والسلكى مثلا في الأمور باعتبار اعوجاجها واستقامتها قالوا: الأمور مخلوجة وليست بسلكى، أي هي معوجة وليست بمستقيمة، وأصله في الطعن. قيل: وأوّل من نطق بهذا المثل الحارث بن عباد، وذلك أن جساس بن مرة لمّا قتل كليبا على ما سيأتي خبره، قام مهلهل بن ربيعة بثأر أخيه كليب، وكان ممن قتل بجير بن الحارث المذكور أو أخيه في قصة ستأتي.

 

وفيه يقول مهلهل:

 

وإني قد تركت بواردات ... بجيراً في دم مثل العبير

 

هتكت به بيوت بني عبادٍ ... و بعضُ الشرَّ أشفى للصدورِ

 

فلما بلغ الحارث بن عباد مقتل بجير قال : نعم القتيل قتيل أصلح الله به بين بني وائل وباء بكليبفقيل له: إن مهلهلا لمّا قتله قال له: بُؤبِشِسعِ نعل كليبفعند ذلك غضب الحارث وقال:

 

الأمور مخلوجة وليست بسلكى، وقال :

 

قربا مربط النعامةِ مني ... لقحت حربُ وائلٍ عن حيالِ

 

قربا مربط النعامة مني ... إنّ بيع الكرام بالشسعِ غالِ

 

لم أكن من جناتها علم الله ... و إني بجمرها اليوم صالِ

 

وهي قصيدة. ونهض لحرب تغلب حتى أبارهم. وفر مهلهل حتى هلك غريب الدار كما سيأتي. وقلب أبو عبيد هذا المثل فأورده هكذا: الأمر سلكى وليست بمخلوجة، والصواب العكس، كما أورده غيره وهو الذي قدمنا، لأن الأمور في قضية الحارث ليست بسلكى، وهلم جرا. وقول امرئ القيس كرك لأمين على نابل، فيه كلام يبين بعد في تشبيهات امرئ القيس إن شاء الله تعالى.

 

تأمير الأراذل، تدمير الأفاضل.

 

التأمير: تولية الإمارة: وأراذل الناس: سفلهم، والتدمير، بالدال المهملة: الإهلاك. وأفاضل الناس. خيارهم.


ومعنى المثل ظاهر، وهو فيما أظن مصنوع موجود في بعض تآليف البلغاء المصنوعة.


الأمر أشد من ذلك.

 

قد يتمثل به، وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث ذكر المحشر وأن الناس يحشرون حفاة عراة، فقيل له: وكيف ينظر بعضهم إلى بعض فقال ذلك. والحديث معروف مشهور.

 

آمن من حمام مكة.

 

الأمن ضد الخوف؛ والحمام ومكة تقدما. وأمن الحمام في مكة أنه لا يتعرض له ولا يصاد ولا يقتل. ولذلك قال النابغة:

 

والمؤمن العائذاتِ الطير يمسحها ... ركبان مكةَ بين الغيلِ والسعد

 

و قال عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي من قصيدة:

 

فسحت دموع العينِ تبكي لبلدةٍ ... بها حرمٌ أمنٌ وفيها المشاعرُ

 

وتبكي لبيتِ ليس يؤذى حمامهُ ... تطل به أمناً وفيه العصافرُ

 

وفيه وحوشٌ ليس ترامُ أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادرُ

 

و هذا الشعر قله عندما نفتهم خزاعة وأخرجتهم إلى اليمن من مك، فجعل يتذكر مكة ويحزن ويبكي لفراقها. وتقدم شيء من معنى هذا المثل.

 

أما الدَّينُ فلا دِن.

 

يتمثل به كثيرا، وهو كلام مسيلمة الحنفي الكذاب لعنه الله تعالى. وذلك أنه، لمّا غزاهم سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا. فلما اشتد القتال آخرا على مسيلمة وأصحابه بني حنيفة وعظم عليهم الأمر وأيقنوا بالهلاك والدمار قال له بعض أصحابه: أين ما كنت تعدنا يا أبا ثمامة من نصر فقال عبد ذلك: أما الدين فلا دين، ولكن قاتلوا على أحسابكم. فجعلوا يتندمون ويسبونه، وقتل في ذلك اليوم، لعنه الله. والقصة مشهورة ومعروفة في السير لا حاجة إلى سردها.

 

أنا بالقُوس، وأنت بالقرقوس، متى نجتمع

 

القوس بضم القاف: صومعة الراهب. قال الشاعر يذكر امرأة: لا ستفتنتني وذا المسحين في القوس. والقرقوس، على مثال قربوس: القاع الصلب من الأرض، وبين المكانين بون بعيد. فيضرب عند التباعد في الأمكنة أو الخلال أو الشيم، كما قيل:

 

هي الشمس مسكنها في السماء ... فعز الفؤاد عزاء جميلا

 

فلن تستطيع إليها الصعودَ ولن تستطيع إليك النزولا

 

أنا أبن بجدتها.

 

يقال بجد بالمكان يبجد بجودا إذا أقام به. والبجيد بفتح الباء الموحدة وضمها مع سكون الجيم، وبضمهما معا: أصل الشيء ودخلة الأمر وباطنه، فيقال عند فلان بجدة هذا المر أي علمه، وهو أبن بجدتها أي العالم.

 

قال أبو العلاء المعري:

 

إذا أسكت المحتجُ كل مناظرٍ ... فعند أبن نصر بجدةٌ بحّوابِ

 

و قال صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى :

 

لا لقبتني المعالي بابن بجدتها ... يومَ الفخار ولا بر التقى قسمي

 

و يقال أيضاً للدليل الهادي. ويقال أيضاً : هو عالم ببجدة أمرك وبجد أمرك، أي بداخلته. وقيل إنّما قسل: أنا أبن بجدتها، وهو أبن بجدتها من البجود وهو الإقامة، لأن المقيم بالمكان عالم به. يقال: هو أبن بجدة هذا البلد أي العالم بأمره لإقامته به. وقيل اصله من قولهم: فلان من أهل البجد أي من أهل البادية وهم العلماء باللسان على ما وضع به.

 

أنا تئق وأنت مئق فكيف نتفق

 

التئق: الممتلئ غضبا. واصله في الإناء يقال: تئق الإناء يتأق إذا امتلأ وأتأقته أنا ملأته. ويقال: التئق السريع إلى الشر. ويقال: هو الحديد قال الشاعر يصف كلبا:

 

أصمعُ الكعبينِ مهضومُ الحشا ... سرطمُ اللحيينِ معاجٌ تئقْ

 

و قال الآخر: يصف فرسا:

 

ضافي السبيبِ أسيل الخدِ مشترفٌ ... حابي الضلوعِ شديدٌ أسره تئقُ

 

و قال الأخر يصف فرساً:

 

ضافي السبيب أسيل الخد مشترف ... حابي الضلوع شديد أسره تئق

 

و المئق: الباكي يأخذ شبه الفواق عند البكاء والنشيج. يقال: مئق الرجل والصبي يأمق مأقا وماقة باتحريك وامتاق. قال رؤبة.

 

كأنما عولتها بعد التأق ... عولة ثكلي ولولت بعد المأق

 

و شأن التئق النزوع إلى الشر لغضبه، وشأن المئق ضيق الصدر عن الاحتمال، فلا يجتمعان. فيضرب للمتخالفين خلقا.

 

أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب.

 

لمّا قبض النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار إلى بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فأتاهم أبو بكر وعمر من المهاجرين - رضي الله تعالى عليهم جميعاً - فتكلم أبو بكر، والقصة مشهورة. وتكلم رجل من الأنصار، وفي رواية وهو الحباب بن المنذر فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير. والجذيل تصغير جذل بكسر الجيم وتفتح، وبالذال المجمعة الساكنة. والجذل: ما عظم من أصول الشجر أو أصل الشجر وغيرها بعد ذهاب الفرع. والجمع أجذال وجذولة. قال امروء القيس:

 

كأن على لباتها جمر مصطلي ... أصاب غضا جزلا وكف بالجذال

 

و الجذال أيضاً: عود ينصب للجربى لتحكك به، وهو المقصود هنا. ويقال: هو عود ينصب في مبرك الإبل للتحكك به لتزيل ما عليها من قراد وكل ما لزق بها فتشتفي بذلك، ويكون كالتمرغ للدابة. وقال الراجز:

 

لاقت على الماء جذيلا واتد

 

ويضرب مثلا للرجل فيقال: هو جذل محاكة وجذل حكاك. وقال الأصمعي:

 

قلت لأعرابي: ألك بنون قال: نعم، وخالقهم لم تقم على مثلهم منجبة. قلت صفهم لي. قال: جهم وما جهمينصي الوهم، ويصد الدهم، ويفري الصفوف، ويعل السيوف. قلت ثم من قال: غشمشم وما غشمشمماله مقسم، وقرنه مجرجم، جذل حكاك ومدرة لكاك. قلت: ثم من قال: عشرب وما عشربليث محرب، وسماهم مقشب؛ ذكره باهر، وخصمه عاثر؛ وفناؤه راحب، وداعيه مجاب. قلت: فصف لي نفسك. قال: ليث أبو ريابل، ركاب معاضل، عساف مجاهل؛ حمال أعباء، ناهض ببزلاء. قوله: ينضي الوهم أي يهزل الوهم، وهو الجمل الضخم من قوته؛ ويصد الدهم أي يكف الدهم، وهو العدد الكثير من العدو. ويفري الصفوف أي يشقها في القتال مقدما. ويعمل السيف أي يوردها دماء الأقران مرة ثانية من العلل في الشرب.

 

وقوله: قرنه مجرجم أي مبارزه مجرجم أي مصرع؛ وجذل حكاك أي يستشفي به في الأمور كالجذال المنصوب الذي يستشفي به الإبل الجربى والمدره: لسان القوم. واللكاك: الزحام. والليث المحرب: المغضب، وهو أشد ما يكون؛ والمقشب: المخلوط. والباهر: الغالب. واليابل جمع ريبال يهمز ولا يهمز، وهو الأسد. والمعاضل: الدواهي؛ والعساف: الركاب الطريق على غير هداية. والمجاهل: الفلوات؛ والأعباء: الأثقال؛ والبزلاء: الرأي الجيد، وهو مثل سيأتي. وأما العذيق فهو تصغير عذق، وهو بالفتح: النخلة بحملها، وبالكسر القنو منها. والمقصود هنا الأول. والمرجب: المعظم. يقال : رجبته ترجيبا: عظمته. ومنه رجب لتعظيمهم إياه. ويقال: إنّ فلان لمرجب أي عظيم. وحدث الأصمعي قال : مررت في بلاد بني عامر بحلة في غائط يطؤهم الطريق، فسمعت رجلا ينشد في ظل خيمته له ويقول :

 

أحقا عباد الله أن لست ناظراً ... إلى قرقرى يوماً وأعلامها الغبرِ

 

كأنَّ فوأدي كلما مر راكبٌ ... جناحُ غرابٍ رام نهضاً إلى وكرِ

 

إذا رحلت نحو اليمامة رفقةٌ ... دعاك الهوى واهتاج قلبكَ للذكرِ

 

فيا راكب الوجناء أبت مسلماً ... و لا زلتَ من ريبِ الحوادثِ في سترِ

 

إذا ما أتيتَ العرضَ فاهتف بجواهِ ... سقيتَ على شحطِ النوى سبلَ القطرِ

 

فانك من وادٍ إلى مرجبٍ ... وإن كنت لا تزدار إلا على عفرِ

 

قال فلما رآني مصغيا إليه أشار إلي فاستأنسني وأنزلني ووضع طعاما فقلت: أنا إلى غير هذا أحوج، قال : ماذا قلت: تنشدني ، قال : أفعل. فلما أصبت من الطعام قلت: الوعد، فأنشدني:

 

لقد طرقت أمُّ الخشيف وإنها ... إذا صرع القوم الكرى لطروقُ

 

فيا كبداً يحمى عليها وإنها ... مخافةَ هيضات النوى لخفوقُ

 

أقام فريقٌ من أناسٍ يودهم ... بذات الغضا قابي وبان فريقُ

 

لحاجة محزون يظل وقلبه ... رهين ببيضات الحجال صديقُ

 

تحمان أن هبت لهن عشيةً ... جنوبٌ وأن لاحت لهن بروقُ

 

كأن فضول الرقم حين جعلنها ... غدياً على أدمِ الجمال عذوقُ

 

وفيهن من بخت النساء ربحلةٌ ... تكادُ بها غرُ السحاب يرقُ

 

هيجانٌ فأما العصُ من أخرياتها ... فوعثٌ وأما خصرها فدقيقُ

 

فقوله: فإنك من وادٍ إلى مرجبٍ أي معظم. وقوله في القطعة الثانية:

 

كأن فضول الرقم حين جعلنها ... غديا على أدم الجمال عذوقُ

 

أي نخلات، جمع عذق وهو النخلة كما ذكرنا قبل، أو قنوانها، وهو تشبيه مشهور عند القدماء،يشبهون الحمول والبرود المرقومة فيها بالنخيل إذا أينع ثمرها فأحمر وأصفر . قال امرؤ القيس:

 

أو المكرعات من نخيل أبن يامنٍ ... دوين الصفا اللائي يلين المشقرا

 

سوامق جبارٍ أثيتٍ فروعهُ ... و عالين قنوانا من البسرِ أحمرا

 

و قال أيضاً:

 

علوانَ بأنطاكية فوق عقمةٍ ... كجرمة نخلٍ أو كجنة يثربِ

 

و الترجيب في النخل أن يجعل للنخلة دكان تعتمد عليه اة يدعم بشيء إذا كثر حملها لئلا تنكسر. ويسمى ذلك الطكان الرجبة بضم الراء. وقيل أن يغرز الشوك حولها حتى لا يوصل إليها. وقيل أن تضم قنوانها إلى سعفاتها وتشد بالخوص حتى لا ينفضها الريح فيقال: نخلة مرجبة، وعذاق مرجب. ويقال: نخلة رجيبة بتخفيف الجيم وتشديدها.

 

ليست بسنهاء ولا رجبية ... و لكن عرايا في سنة الجوائح

 

و لا يرجب من النخل إلاّ الكريمة. واعلم أن التصغير في كل من الجذيل والعذيق للتعظيم على ما اثبت الكوفيون من ورود التصغير للتعظيم كقول لبيد:

 

فويق جبيل شامخ لن تناله ... بهمته حتى تكل وتعملا

 

و قيل للتقريب كما في بني أخي. وقد تحصل في معنى الكلام بجملته إنه يقول: أنا الذي يرجع إليه في النائبات، ويستشفى بفضل رأيه في المعضلات المعوصات، كالجذيل الذي تستشفي بالاحتكاك به الإبل ؛ وأنا لي أيضاً عشيرة يحفظوني ويؤووني، وعصبة ينصروني ويمنعوني، كالنخلة الممتنعة برجبتها، الكريمة على أهلها إذ لا يرجب من النخل إلاّ الكرام كما مر. وقد علم اشتمال الكلام على مثلين وليس مثلاً واحداً؛ إلاّ إنّهما يقرن بينهما كثير. وفي مقامات البديع قوله: حتى إذا مال الكلام بنا ميله، وجر الجداك بينا ذيلة، قال أصبتم عذيقة، ووافيتم جذيلة الخ. وقيل معنى أنا جذيلها المحككك أنا صاحب رهان. والمحكك المعاود لها، كما قال الراجز: جذل رهان في ذراعيه حدب أي السير ويقال أيضاً. رجل محكك: أي مجرب للأمور بصير بخيرها وشرّها. وهو مدح في الرجال، ذم في النساء قال الحماسي:

 

لا تنكحن الدهر ما عشت أيما ... مجربة قد مل منها وملت

 

و يقال أيضاً: أنا جحيرها المأرب، وعذيقها المجرب. والجحير تصغير جحر وهو الغار؛ والمأرب المقور الململم، ومعناه واضح من الذي قبله.

 

أنا كلف، وأنت صلف، فكيف نأتلف

 

الكلف بفتحتين العشق والولوع بالشيء. يقال: كلف الرجل بكذا يكلف به بالكسر في الماضي، فهو كلف ككتف. والصلف بفتحتين: عدم الحظوة. ويقال: صلفت المرأة بالكسر إذا لم تكن لها مكانة عند زوجها ولا قدروا بغضها، فهي صلفة وهن صلائف. قال القطامي يذكر امرأة:

 

لها روضة في القلب لم ترع مثلها ... فورك ولا المستعبرات الصلائف

 

و يقال للمرأة: اصلف الله رفغك أي بغضك إلى زوجك. والصلف أيضاً التكلم بما يكرهه صاحبك، والتمدح بما ليس عندك، ومجاوزة قدر الظرف والادعاء فوق ذلك تكبرا.

 

وهذا المثل يضرب أيضاً للمتباينين في الأخلاق كالذي تقدم.

 

أنا اتلوص قبل أن أرمى.

 

التلوص بالصاد المهملة: التلوي والتقلب، والاصة: إدارة. والرمي معروف. وأعلم إنّ العقلاء من حكماء الفلاسفة والعرب وضعوا حكما كثيرة وأمثالاً جمة على ألسنة الجمادات والحيوانات والعجومات باعتبار حالها تعليما للناس وإرشاداً لهم إلى مصالحتهم معاشاً ومعاداً، وذلك من قبيل التمثيل الذي ذكرناه من قبل. وسيأتي في هذا الكتاب إنّ شاء الله كثير من هذا النوع، فكان من ذلك أن قالوا: إنّ الغراب وصى ابنه فقال له: يا بني، إذا رميت فتلوص، أي انحرف لئلا تصاب فقال: يا أبت، أنا اتلوص قبل أن أرمى يضرب في التحرز من الشيء وأخذ الحذر منه قبل كينونته.

 

أنا من هذا الأمر فالج بن خلاوة.

 

فالج بالفاء والجيم، على صيغة فاعل: اسم رجل من أشجع، وهو فالج بن خلاوة بفتح الخاء المعجمية بن سبيع بن بكر بن أشجع. وكان فالج هذا قيل له يوم الرقم إذ قتل أنيس الأسرى: انتصر أنيساً فقال: إني منه بريء. واليوم الرقم يوم من أيامهم، فقد فيه فرس عامر بن طفيل، فيقس لكل خلي من أمر متبرئ منه يقول: أنا منه فالج بن خلاوة أي أنا منه جلاء بريء بمنزلة ذلك الرجل.


أنا من هذا الأمر كحاقن الإهالة.

 

الحقن: الحبس. يقال: حقن اللبن في السقاء إذا جمعه وخلط حليبه برائبه كما مر، وحقن البول: امسكه، وحقن دمه: منعه من القتل. وكل شيء أمسكته وحبسته فقد حقنته. والإهالة: الودك، وهو اشحم أو ما أذيب منه، أو الزيت وما يؤتدم به، فيقال: أنا من هذا الأمر كحاقن الإهالة، أي عالم به خبير بحاله، لأنه لا يحقن الإهالة في السقاء إلاّ من يعلم إنّها بردت لئلا يحترق السقاء بها.


أنا النذير العريان.

 

الإنذار: الإبلاغ مع تخويف، والاسم النذر. قال تعالى: ) فكيفَ كانَ عذابي ونذر(. والنذير فعيل بمعنى مفعل أي منذر. ويكون النذير أيضاً بمعنى الإنذار، والقصد هنا الأول. والعريان معروف. ويقال: عري الرجل بالكسر يعرى عراء فهو عريان بضم العين وعار؛ وجمع العريان عريانون، وجمع العاري عراة. وهذا المثل ورد بهذا اللفظ في الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مثل قديم للعرب يقال عند الإنذار بقرب العدو مع المبالغة في الإنذار. اصله أن النذير الجاد المغوث يتعرى من ثوبه فيمسك بيده ويشير به ويلمع لتسبقه رؤية الثوب سماع صوته، وإنّما ذلك عند قرب العدو وهجومهم، فكان مثلا عند الجد والتشمير في الإنذار بكل أمر هائل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقومه: " أ رأيتم لو أخبرتكم أن بالوادي خيلاً تصبحكم أ كنتم مصدقي فقالوا: ما جربنا عليك من كذب. فقال: فأني نذير لكم بين يدي عذاب شديدً " ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.


وقال صاحب الروض في قوله تعالى: ) يا أيّها المدثرُ( إنّ وجه ارتباطه مع قوله تعالى: ) قم فأنذر( أن الإنذار من أوصافه صلى الله عليه وسلم التي وصف بها نفسه بقوله: " أنا النذير العريان " . ومعلوم أن الإنذار على هذا الشعار مخالف للتدثر بالثياب، فكان فيه من التطابق والالتئام مالا يخفى. وهو حسن ظاهر. ويقال أصل المثل في رجل من خثعم أخذه العدو وسلبوه ثيابه وقطعوا يده. فجاء قومه منذراً على تلك الحال. ويقال إنّه في يوم ذي الخلصة حمل عليه عوف بن عامر فقطع يده ويد امرأته والله اعلم.

 

أنت شَولة الناصحة

 

شَولة بفتح الشين المعجمة فسكون: أمة كانت لعدوان، وكانت رعناء حمقاء،فكانت تنصح لمواليها فتعود نصيحتها شراً عليهم ووبالاً لحمقها. فضرب بها المثل لكل ناصح أحمق يقال له:

 

 أنت شولة الناصحة،  أي بمنزلة تلك الأمة.

 

أنت صاحبة النعامة.

 

النعامة واحدة النعام المعروف. وصاحبة النعامة امرأة من العرب وجدت ذات يوم نعامة عصت بصعرور، وهو صمغة، فأخذتاها وربطتها بخمارها إلى شجرة، وقد منعتها الغصة أن تهرب. فذهبت المرأة إلى الحي فهتفت بهم وجعلت تقول: من كان يحفنا ويرفنا فليترك، أي من كان يحسن إلينا ويلطف بنا فليقطع ذلك عنا. ثم قوضت خيمتها لتحمل على النعامة. فجائت إليها فوجدتها قد ساغت وفرت فبقيت المرأة لا هي بالنعامة ظفرت، ولا بنصيبها من الناس تمسكت، فيضرب بها المثل ويقال: أنت صاحبة النعامة: أو كصاحبة النعامة عند التشنيع على من وثق بغير ثقة وأغتر بغير طائل. وفي معنى هذه القصة ما تحكي العامة اليوم في الخرافات أن رجلاً وجد أرنباً في فلاة قد نامت فجاء يشتد حتى انتهى إلى الحي فصاح بهم: إلاّ أنا قد قطعنا التذويق فيما بيننا، وهو الله تعالى يتهاداه الجيران فيما بينهم من نحو الفاكهة واللحم واللبن، وجعل يقول: قد قطعنا، حتى اسمع الناس ذلك واسمعوه مثله، فرجع فوجد الأرنب قد هبت من نومها وذهبت.

 

أنتِ غيري نغرةٌ

 

يقال: غار الرجل على امرأته يغار غيراً وغيرة بالفتح وغاراً، فهو غيورهم غير، وهو غيران وهم غيارى وغيارى، ورجل مغيار؛ وغارت المرأة تغار، فهي غيور وغيرى، وهن غيارى: والنغرة: التي تلغي من الغيرة كما تنغر القدر أي تغلي. ويقال: نغر الرجل بالكسرة إذا أعتاظ وغلي جوفه من الغيظ، فهو نغر وهي نغرة. فيقال هذا عند اشتداد الغيرة. ويحكى أن امرأة جاءت علياً كرم الله وجهه فذكرت أن زوجها يطأ جاريتها، فقال: إنّ كنت صادقة رجمناه، وإنّ كنت كاذبة جلدناك، فقالت: ردوني إلى أهلي غيري نغرة

 

قيل: وأوّل من نطق بهذا المثل عمرو بن المنذر الذي يقال له عمرو بن امامة، وهو الذي قتله مراد في قضيب، وذلك إنّ أباه المنذر بن امرئ القيس كان تزوج هند بنت الحارث أبن آكل المرار الكندي، فولدت له عمراً، وهو الذي يقال له عمرو بن هند، والمنذر بن المنذر، وملك بن المنذر، وقابوس بن المنذر، وكان ملك أصغرهم. فلما كبرت هند عند أبيهم المنذر أعجبته بنت أخيها امامة بنت سلمة بن الحارث، فطلق هنداً وتزوج امامة فولدت له امامة عمرو بن المنذر الذي يقال له عمرو بن امامة. ثم إنّ المنذر جعل الأمر من بعده لابنه عمرو بن هند، ثم لقابوس، ثم للمنذر، ولم يجعل لعمرو بن امامة شيئاً.فكان ذلك سبب وقوع الشر بينه وبين اخوته لأبيه. فتملك عمرو بن هند الخورنق والسدير، وجعل لأخيه قابوس البدو، فغضب عمرو بن امامة وذهب نحو اليمن يطلب النصرة على اخوته، وقال في ذلك يخاطب عمرو بن هند:

 

إلاّ بن أمك ما بدا ... و لك الخورنق والسدير

 

فلامنعن منابت الضمر ... إنّ إذ منع القصور

 

بكتائب تردي كما تر ... دي إلى الجيف النسور

 

أنا بني العلات تقضي ... دون شاهدنا الأمور

 

و الضمران بفتح الضاد: نبت من نبات البادية؛ والرديان: الجري يقال: ردت الخيل تردي إذا جرت؛ وأبناء العلات: أبناء أمهات شتى؛ وأبناء الأعيان: أبناء أمثال واحدة. ثم ن عمرو بن امامة لحق باليمن وتبعه ناس من قيس عيلان وغيرهم، فأتى ملكها يطلب منه جنداً ليقاتل أخاه على نصيبه من الملك. فقال له الملك: من أحببت، فأختار مراداً، فسيرهم الملك معه، فلما انتهوا معه إلى وادٍ يقال له قضيب تلاومت مرادٌ فيا بينها وقالوا: كيف تتركون أموالكم وعشائركم وبلادكم وتتبعون هذا الأنكر فقام هبيرة بن عبد يغوث ، وهو سيد مراد إذ ذاك، فتمارض وشرب ماء الرفة وهي شجرة هناك، فأصفر لونه. فبلغ عمرا أن هبير مريض، فبعث إليه طبيبا. فجاءه الطبيب وقد شرب المغرة وجعل يمجها لمّا دخل عليه الطبيب مكاويه وجعلها على بطنه، فقال له: أصبت موضع الداءوجعل يكويه حتى كشح بطنه بالنار، وهو يريه أنه لا يجد مسها، وبذلك سمي صبيرة المكشوح، فرجع الطبيب إلى عمر وقال: وجدته مريضا ورأيته لا يحس بالنار. فلما اطمئن عمرو بن أمامة صار إليه المكشوح في قومه من تلك الليلة وثار به. فلم يشعر حتى أحاطوا به، وكان عمرو تلك الليلة مع بعض حظاياه. فلما سمعت أم ولده الغسانية جلبة الخيل قالت: أبي عمرو، أتيتوقالت: سال قضيب حديدا، أو جاءتك مراد وفودا، فذهبت مثلا. فقال لها عمرو: أنتي غيري نغرة، أي أنك إنّما قلت ذلك غيرة منك علي، فذهبت مثلا. ومر به قطيع من القطا فقالت: يا عمرو أتيتلو ترك القطا لنام، فذهبت مثلا. فلما انتهوا إليه وثاروا إليه، ثار إلى سيفه فخرج عليهم وهو يقول:

 

لقد عرفت الموت قبل ذوقه ... إنّ الجبان حتفه من فوقهِ

 

كل امرئٍ مقاتل عن طوقه ... كالثور يحمي جلده بروقهِ

 

فزعموا إنّه لقيه غلام من مراد يقال له الجعيد أو تميم بن الجعيد، وقد كان عمرو قال فيه: نعم

 

وصيف الملك هذا فقال الغلام:

 

أيَّ وصيف ملك تراني ... أما تراني رابط الجنانِ

 

أفليه بالسيف إذا استفلاني ... أجيبه لبيك إذ دعاني

 

رويت منه علقاً سناني

 

ثم ضربه فقتله، فتفرق عنه الناس، ورجعت مراد إلى اليمن فاقبل الغلام الذي قتله بالغسانية وبابنيه وهما غلامان، فبلغ إلى عمرو بن هند، فقال له: أيّها الملك إني سترت عورتك، وقتلت عدوك. فقال له عمرو: إن لك لخباء أنت له أهل. اضرموا له نارا واقذفوه فيهافقال الغلام: أيّها الملك إني كريم، فليطرحني فيها كريم فإنَ أي حسبا فأمر عمرو بن هند ابنه وأبن أخيه أن يتوليا ذلك، فانطلقا به. فلما دنوا من النار مسح شراك نعله فقالا: ما دعاك إلى مسح نعلك وأنت مطروح في النار فقال:

 

أحببت أن لا أدخل النار إلا وأنا نظيف. ثم قال :

 

الخير لا يأتي به حبهُ ... و الشر لا ينفع منه الجزعُ

 

ثم قذف بنفسه وبهما معا، فاحترقوا جميعا. وفي ذلك يقول طرفة ينعى عمرو بن إمامة إلى أخيه:

 

أ عمرو بن هند ما ترى رأي معشرٍ ... أ فاتوا أبا حسان جاراً مجاورا

 

فإن مراداً قد أصابوا جريمةً ... جهاراً وأضحى جمعهم لك واترا

 

دعا دعوة إذ شكت النبل صدره ... أمامة واستعدى هناك معاشرا

 

فلو أنه نادى من الحصن عصبةً ... لألقوا عليه بالصعيدِ الشراشرا

 

ولو خطرت أبناء قرآن حوله ... لأضحى على ما كان يطلب قادرا

 

ولو شهدته تغلب بنت وائل ... لكانوا له عزاً عزيزاً وناصرا

 

ولكن دعا من قيس عيلان عصبةً ... يسوفون في أعلى الحجاز البرائرا

 

إلاّ إنّ خير الناس حياً وميتاً ... ببطن قضيبٍ عارفاً ومناكرا

 

يقسم فيهم ماله وقطينه ... فياما عليه بالمالي حواسرا

 

أنفت له على عداوةٍ بيننا ... و قلت ما قتيل بحائرا

 

قوله: أفاتوا أبا حسان، أي أهلكوه، وهو عمرو بن أمامة. وقوله: استعدي أي استنصر؛ والحصن: ثعلبة بن غكابة: والشراشر: المحبة يقال: ألقى عليه شراشره إذا أحبه؛ وأبناء قرآن من بني حنيفة أي أهل قرآن، وهي قرية باليمامة والبرائر جمع بريرة، وهي ثمر الأراك؛ ويسوفون: يشمون، ومنه المسافة، لأن الدليل ربما تحير فشم التراب ليعلم أعلى قصد هو أم على جور. يقول إنهم قوم ضعاف ليس لهم طعام ألا الأراك. ويروي: يسوفون، أي يبتلعون؛ والمآلي جمع مئلات، وهي خرقة تكون مع النائحة؛ وبحائر: اسم لمراد.

 

إن جرجر العود فزده وقراً

 

الجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته، وذلك عند تشكيه من الحمل وضجره وتضرره. قال الراجز: جرجر لمّا عضه الكلوب.

 

وقال الآخر: جرجر في حنجرة كالجب.

 

والعود: المسن من الإبل. قال أمرؤ القيس:

 

وإني زعيمٌ إن رجعت مملكاً ... بسيرٍ ترى منه الفرانق أزورا

 

على لا حبٍ لا يهتدي بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا

 

يقول إنّ هذا الطريق إذا أشمه العود من الإبل ضج من، فكيف بغيره. والزيادة معروفة. والوقر بالكسر: الحمل. ويروي: إنّ جرجر فزده ثقلا، والثقل معروف. والمعنى: إنّ ضج بعيرك وتشكى من ثقل حمله، فزده ثقلا آخر ولا تلتفت إلى ضجره.

 

يضرب عند الأمر بالإلحاح في سؤال البخيل، وهو ظاهر.

 

أن ذهب عَير فعير في الرهط.

 

الذهاب معروف. والعير بفتح العين المهملة: الحمار؛ وعير القوم: سيدهم، وهو المقصود هنا. والمعنى ظاهر.

 

الإيناس قبل الابساس

 

الإنس ضد الوحشة؛ وأنست الرجل تأنيسا، وأنسته إناسا. والأبساس عند الحلب أن يقال للناقة: بس، بس، وهو صويت للراعي يقول لها ذلك لتدر للحالب، فيقال: أبس بالناقة يبس أبساسا فهو مبس. قال الشاعر:


فلحى الله طالب الصلح منى ... ما أصاب المبس بالدهماءِ

 

و ناقة بسوس: لا تدر إلاّ على الإبساس والمعنى إنّ الناقة لا ينبغي أن يبس بها حتى تؤنس قبل ذلك ويتلطف لها، فيضرب في أن الإنسان ينبغي أن لا يكلف أمرا أو يسأل حاجة حتى يتقدم إليه بتأنيس مالي أو فعلي أو قولي. قال الشاعر:

 

ولقد رفقت فما حظيت بطائل ... لا ينفع الإبساس بالإيناس

 

ودخل العتابي على الرشيد فقال: تكلم يا عتابيفقال: الإيناس قبل الإبساسلا يمدح المرئ بأول صوابه، ولا يذم بأول خطئه لأنه بين كلام زوره، وعي حصره. أنتهى.

 

إن أعيى فزوده نوطاً.

 

الإعياء: الكلال في المشي. يقال: أعيى الماشي إعياء إذا كل، وعيى الرجل بأمره على مثال رضي، ويدغم: إذا لم يهتد بوجهه أو عجز عنه ولم يطق إحكامه. وعيي أيضاً في منطقه إذا حصر. والنوط بفتح النون وسكون الواو: جلة صغيرة يجعل فيها التمر وتعلق على البعير. قال النابغة الذبياني يصف قطاة:


حذاء مدبرة سكاء مقبلة ... للماء في النحر منها نوطة عجب

 

و أصل النوطة من النوط، وهو التعليق. يقال: نطت الشيء بالشيء، أي علقته به. والمعنى إنّ بعيرك إذا أعيى، فزد عليه تعليقا آخر. وهذا المثل هو كالذي تقدم: إن جرجر فزده ثقلا معنى ومضربا.

 

أنفك منك وإن كان أجدع.

 

الأنف معروف؛ والجدع بالدال المهملة: القطع في الأنف. تقول: جدعت الرجل فهو أجدع، وهو ذو جدع بفتحتين.

 

والمعنى أن أنفك، فلا يمكنك مفارقته ومباعدته وإنّ كان به عيب وشين. فيضرب في استعطافم صاحبك على ذوي قرابتك، وحثك إياه على وصلهم وتحمل ما بهم وأن يلمهم على شعثهم، ولا يصارمهم كما لا يصارم أنفه المتصل به.

 

قيل: وأوّل من نطق بهذا المثل قنفذ بن جعونة المازني، وذلك أن الربيع بن كعب المازني دفع إلى أخيه كميش فرسا من عتاق الخيل ليأتي به أهله. وكان كميش أحمق وأنوك. وكان عندهم رجل من بني مالك يقال له قراد بن جرم قدم عليهم ليصيب منهم غرة، وكان داهية فمكث فيهم لا يعرفون نسبه. فلما رأى كميشا ركب الفرس، ركب هو ناقته ثم عارضه فقال له: يا كميش، هلك في عانة لم تر مثلها ومعها عير من ذهب، أما الأتان فتروح بها على أهلك، فتفرح بها صدورهم، وتمتلئ قدورهم، وتشبع خصورهم، وأما العير فلا افتقار بعده. فقال كميش: فكيف لنا به فقال له قراد: أنا لك به، ليس يدرك إلاّ فرسك. قال : فدونكقال : نعموأمسك أنت على راحلتي وانتظرني في هذا المكان. وركب قراد الفرس. فلما توارى عنه أنشأ يقول:

 

ضيعت في العير ضلالا مهرك ... فسوف تأتي بالهوان أهلك

 

وقبل هذا ما خدعت الانوكا

 

وبقي كميش هناك ينتظره حتى أمسى، فانصرف إلى أهله وقال في نفسه: إن سألني أخي عن الفرس قلت له تحول ناقة فلما قدم على أخيه قال له: أين الفرس فقال: تحول ناقة. فعلم أخوه أنه قد خدع وجعل يضربه. فقال عند ذلك قنفذين جعونة له: اله عما فاتك، فإن أنفك منك وأن كان أجدعو أتى قراد أهله بالفرس وقال في ذلك :

 

رأيت كميشا نوكه لي نافع ... و لم أر نوكا قبل ذلك ينفعُ

 

وقلت له أمسك قلوص ولا ترم ... خدعا له مني وذو الكيد يخدعُ

 

فأصبح يرمي الخافقين بطرفهِ ... و اصبح تحتي ذو أفانين جرشعُ

 

و مثل هذا المثل قولهم: منك ربضك وإن كان سمارا، وسيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى.

إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً.

 

الريح معروفة جمعه رياح وأرواح. قال:

 

إذا هبت الأرواح من نحو جانبٍ ... به أهل ميّ هاج قلبي هبوبها

 

و يقال أيضاً أرياح. والإعصار بكسر الهمزة: ريح تثير غبارا يرتفع إلى السماء عمودا، أو ريح تهب بشدة في ما بين السماء والأرض. قال تعالى: (فأصابها إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت) وجمعه أعاصير.

قال الشاعر:

وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس تعفوه الأعاصيرُ

 

و قال حارثة بن بدر يرثي زيادا، وقد مات في الكوفة ودفن في الثوية:

 

صلى الإله على قبرٍ وطهره ... عند الثوية يسفي فوقه المورُ

 

زفت إليه قريش نعش سيدها ... فثم كل التقى والبر مقبورُ

 

أبا المغيرة والدنيا مفجعة ... وإنّ من غرت الدنيا لمغرورُ

 

قد كان عندك بالمعروف معرفة ... و كان عندك للنكراء تنكيرُ

 

وكنت نغشى وتعطي المال من سعة ... إن كان بيتك أضحى وهو مهجورُ

 

الناس بعدك قد خفت حلومهم ... كأنما نفخت فيها الأعاصيرُ

 

و المعنى أن كنت مثل الريح في الشدة والقوة، فقد لاقيت من هو مثل الإعصار الذي هو أشد الريح وأقواها.


يضرب للرجل يكون صلبا جلدا فيصادف من هو أقوى منه وأشد، وهو ظاهر.

 

أن كنت ذا طب فطب لعينيك

 

الطب مثلثة الطاء: علاج الجسم. والطب أيضاً: الرفق والسحر. ولفظ طب في المثل كذلك مثلث الطاء في الموضعين، والمنى ظاهر. وفي نحوه قيل:

 

يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليمُ

 

أن يكن هذا من الله يمضه.

 

يتمثل به كثيرا، وهو من كلام المصطفىصلى الله عليه وسلم قال لعائشة: أريتك أو رأيتك في المنام في سرفة من حرير فقيل لي هذه زوجك، فقلت أن يكن هذا من عند الله يمضه، أو كما قال صلى الله عليه وسلم .

 

إن لا حظية فلا ألية

 

الحظوة: المكانة كما مر يقال: حظيت المرأة عند زوجها بالكسر تحظى حظوة وحظة فهي حظية وهن حظايا ضد صلفت. والألو: التقصير يقال: إلاّ في هذا الأمر يألو ألوا وألوا وأليا، وائتلى إذا قصر فيه وابطئ فهو آل ومئتل. قال أمرؤ القيس:

 

وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا ألِ

 

يضرب هذا المثل في مداراة الناس والتودد إليهم. والمعنى انك إن أخطاتك الحظوة فيما تريد، فلا تأل جهدا ولا تزل مجتهدا متوددا للناس حتى تستدرك ما فاتك مما تطلب. وأصله في المرأة إنها إن لم تحظ عند زوجها فلا ينبغي لها أن تقصر في طلب الحظوة حتى تنالها.

 

قيل: وأصله أن رجلا كانت لا تحظى عنده امرأة فتزوج امرأة فلم تأل جهدا في أن تحظى عنده، فلم يقنعه ذلك وطلقها، فقالت ذلك أي: إن لم أحظ عنده فأني لم أقصر، فصار مثلا في كل من اجتهد في أمر ليناله وتعذر وهو لم يقصر في طلبه والسعي فيه.

واعلم إنّه يقال في المثل بالنصب والرفع بحسب تقدير المحذوف، فمن نصب فمعناه باعتبار الأصل إن لا أكن عندك أيّها البعل حظية فلا أكون ألية في الحظوة بتحسين خلقي وخلقي حتى أدركها. ومن رفع فله وجهان: أحدهما أن تكون الحظية مصدرا لا وصفا. والمعنى إن أخطأتني الحظوة عندك فلا أكون ألية في طلبها أو فلا يقع مني ألو وتقصير. الثاني أن تكون الحظية وصفا على بابها إلاّ إنّها راجعة إلى غير القائلة والمعنى: إن لا تكن لك في الناس حظية تحظى عندك فأنا لا أكون ألية في طلبها حتى أنالها منك، أو نحو هذا من التقادير آتى يصح بها المعنى، كما يجري في نحو: إن خيرا فخير، وإن سيفا فسيف. وقد قرر في النحو ما فيه من التقادير وما هو الأرجح منها وهو معروف.


إن لا أكن صنعاً فإني أعتثم.

 

الصنع: الحاذق الماهر. يقال: رجل صنيع وصنع بكسر فسكون، وصنع بفتحتين، ويروى بهما قول أبي ذؤيب:

 

وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبعُ

 

و قال حسان رضي الله عنه في الأخير:

 

اهدي لهم مدحتي قلبٌ يوازرهُ ... فيما أحب لسانُ حائك صنعُ

 

و يقول: امرأة صناع، على مثال رزان، ضد الخرقاء. قال امرؤ القيس:

 

وعينٌ كمرأة الصناع تديرها ... بمحجرها من النصيف المنقبِ

 

و العثم: الانجبار الفاسد. يقال: عثم العظم المكسور، بالتاء المثلثة المفتوحة، أي انجبر على غير أستواء؛ وعثمته إذا لازم ومتعدِ؛ وعثمت المرأة المزادة: خرزتها خرزا غير محكم؛ وأعثمتها أيضاً. فمعنى المثل: إن لم أكن حاذقا ماهرا في هذا الأمر فإني أعمل بقدر طاقتي ومعرفتي.


لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم

 

يتمثل به وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .

 

إنّ البغاث بأرضنا يستنسر

 

البغاث، مثلث الباء الموحدة في أوله بعدها غين معجمة فثاء مثلثة: طير أغبر؛ ويطلق على شرار

الطير كلها، وما لا يصيد منها. قال الشاعر:

 

إذا كر فيهم كرة افرجوا له ... فرار بغاث الطير صادفن اجدلا

 

و قال دريد أبن الصمة:

 

وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدلِ


و قال الحماسي:

 

بغاث الطير أكثرها فراخا ... و أم الصقر مقلات نزورُ


و سيأتي تمام هذا الشعر في محله. واستنسر: صار نسرا، والنسر: الطائر المعروف. وسمي نسرا

 

لأنه ينسر اللحم.

 

ومعنى المثل إنّ الضعيف من الناس إذا حل بأرضنا ووقع في جوارنا عز بنا وتقوى، كما إنّ البغاث الذي هو ضعاف الطير إذا عاد نسرا فقد تقوى. وقيل معناه، إنّ الضعيف يستضعفنا وتظهر قوته علينا، وعلى هذا إذا أريد الافتخار قيل: إنّ البغاث في أرضنا لا يستنسر.

 

ولشعر دريد المذكور قصة عجيبة رأيت أن اذكرها، وهي إنّ دريدا خرج في فوارس من قومه بني جشم بن بكر حتى إذا كانوا بواد لبني كنانة رفع لهم رجل في ناحية الوادي معه ظعينة. فلما رآه دريد قال لفارس من أصحابه: دونك فصح به: خل الظعينة وانج بنفسكفلحقه الفارس فصاح به وألح عليه، فلما أبى أن ينكف عنه ألقى زمام الراحلة وقال للظعينة:

 

سيري على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكنِ

 

إنّ أنثنائي دون قرني شائني ... أبلى بلائي واخبري وعايني

 

ثم حمل على الفارس فطعنه طعنة جعلته كأمس الدابر وأخذ فرسه وأعطاه الظعينة. فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما فعل صاحبه، فلما انتهى إليه فرآه صريعا صاح على الرجل فتصامم عنه فظن أن لم يسمع فغشيه. فالقى الرجل زمام الراحلة إلى الظعينة ورجع إليه وهو يقول:

 

خل سبيل الحرة المنيعة ... انك لاقٍ دونها ربيعه

 

في كفه خطية مطيعة ... أولا فخذها طعنة سريعه

 

والطعن مني في الوغى شريعة

 

ثم حمل عليه فصرعه. فلما أبطأ الأمر على دريد بعث فارسا ثالثا لينظر ما صنعا، فلما انتهى إليهما رآهما صريعين، ونظر إليه يقود ظعينته ويجر رمحه فقال له: خل سبيل الظعينةفقال الرجل للظعينة: اقصدي قصد البيوتثم اقبل على الفارس فقال:

 

ماذا تريد من شتيم عابس ... ألم تر الفارس بعد الفارس

 

أرداهما عامل رمح يابس

 

ثم حمل عليه فصرعه وأنكسر رمحه. ثم إنّ دريدا ارتاب وظن إنّ الفوارس قتلوا الرجل وذهبوا بالظعينة، فجاء حتى لحق بالرجل وقد دنا من الحي ، ووجد أصحابه صرعى فقال له: أيهما الرجل، إنّ مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحا، والخيل ثائرة بأصحابها. فخذ رمحي هذا، فأني منصرف إلى أصحابي فمثبطهم عنك. فرجع دريد إلى أصحابه وقال لهم: إنّ صاحب الظعينة قد حماها وقد قتل أصحابكم وأنتزع رمحي ولا مطمع لكم فيه، فانصرفوا، فقال دريد بن الصمة:

 

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامي الظعينة فارسا لم يقتلِ

 

أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمر كأنه لم يفعلِ

 

متهلهلا تبدو أسره وجهه ... مثل الحسام جاءته كف الصيقلِ

 

يزجي ظعينة ويسحب ذيله ... متوهجاً يمناه نحو المنزلِ

 

وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدلِ

 

يا ليت شعري من أبوه وأمه ... يا صاح من يكُ مثله لا يجهلِ

 

و قال صاحب الظعينة في ذلك، وهو ربيعة بن مكدم، أحد بني فراس بن كنانة:

 

إن كان ينفعك اليقين فسائلي ... عني الظعينة يوم وادي الأخرمِ

 

إذ هي لأوّل من أتاها نهبة ... لولا طعان ربيعة بن مكدمِ

 

إذ قال لي أنى الفوارس ميتة ... خل الظعينة طائعا لا تندمِ

 

فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلمِ

 

وهتكت بالرمح الطويل أهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفمِ

 

ومنحت آخر بعده جياشة ... نجلاء فارغة كشدق الأضجمِ

 

ولقد شفعتهما بآخر ثالثا ... و أبى الفرار لي الغداة تكرمي

 

ثم لم تلبث كنانة أن أغارت على بني جشم، فقتلوا وأسروا دريد بن الصمة، فأخفى نفسه. فبينما هو عندهم محبوس إذ جاءته نسوة يتهادين نحوه، فصاحت إحداهن وقالت: هلكتم وأهلتم. ماذا جر عليها قومها هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينةفألقت عليه رداءها وقالت: يا آل فراسأنا له جارة. فسألوه من هو فقال: أنا دريد بن الصمة، فمن صاحبي قالوا: ربيعة بن مكدم. قال: فما فعل قالوا: قتلته سليم، قال: فما فعلت الظعينة قالت المرأة أنا هي، وأنا امرأته. فحبسه القوم ووامروا أنفسهم. فقال بعضهم: لا ينبغي أن تكفر نعمة دريد على صاحبنا. وقال آخرون: والله لا يخرج من أيدينا إلاّ برضى المخارق الذي أسره. فلما أمست المرأة، وهي ريطة بنت جذل الطعان، رفعت عقيرتها وقالت:

 

سنجزي دريدا عن ربيعة نعمة ... و كل امرئ يجزى بما كان قدم

 

فإنَ كان خيرا كان خيرا جزاؤه ... و إنّ كان شرا كان شرا مذمما

 

سنجزيه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإعطائه الرمح الطويل المقومى

 

فقد أدركت كفاه فينا جزاءه ... و أهل بأن يجزى الذي كان أنعما

 

فلا تكفروه حق نعماه فيكم ... و لا تركبوا تلك التي تملأ الفما

 

فلو كان حيا لم يضق بثوابه ... ذراعا غنيا كان أو كان معدما

 

ففكوا دريدا من إسار مخارقٍ ... و لا تجعلوا البؤسى إلى الشر سلما

 

فلما أصبحوا وأطلقوه، فكسته وجهزته ولحق بقومه. ولم يزل كافا عن غزو بني فراس حتى هلك. قلت: وفي بني فراس هؤلاء يقول علي كرم الله وجهه مخاطبا لأهل العراق إذ تخاذلوا عنه: يا ليت لي من بني فراس واحدا بعشرة منكم صرف الدينار بالدرهم. ولربيعة المذكور قصة أخرى في حماية الظعن تأتي في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

 

إنّ البكري ليحسن السعدي البكري منسوب إلى بكر، وفي العرب بكر بن وائل، وبنو بكر بن عبد مناة، والنسب إليهم بكري، وكذال النسبة إلى أبي بكر. وفي العرب أيضاً بنو أبي بكر بن كلاب، والنسبة إليهم بكراوي. والسعدي منسوب إلى سعد، وفي العرب سعود كثيرة: سعد تميم وسعد هذيم وسعد قيس وسعد بكر، كما قال طرفة:

 

رأيت سعودا من شعوب كثيرةٍ ... فلم ترعيني مثل سعد بن مالك

 

أبر وأوفى ذمة يعقدونها ... و خيرا إذا ساوى الذرى بالحوارك

 

يريد سعد بن مالك بن ضبيعة. والحس: الرقة؛ تقول: حسست لفلان، بفتح السين وكسرها، حسا وحسا، إذا رققت له. قال القطامي:

 

أخزك الذي لا تملك الحس نفسه ... ترفض عند المحفظات الكتائف

 

و الكتائف: الأحقاد. قال كميت:

 

هل من بكى الدار راج إنّ تحس له ... أو يبكي الدار ماء العبرة الخضل

 

و في الصحاح: قال أبو الجراح العقيلي: ما رأيت عقيليا إلاّ حسست له، أي رققت.

 

إنّ تحت طريقته لعنداوة.

 

الطريقة، بالتشديد على مثال سكين: الرخاوة واللين؛ ورجل مطروق: فيه رخاوة.

 

قال أبن احمر:

 

ولا تحلي بالمطروق إذا ما ... سرى سرى في القوم أصبح مستكينا

 

و العنداوة: الصعوبة، من العنود، وهو رد الحق والحيدودة عن الطريق، وبعير عاند يحيد عن الطريق.


والمعنى أن سكونه ورخاوته قد يكون معه احياناً عسرة وشراسة.

 

إنّ الجواد عينه فرارة.

 

الجواد: العتيق من الخيل الكثير الجري، سمي به لأنّه يجود بنفسه. والعين تطلق على الباصرة، وعلى الشخص الشيء وهو المراد هنا؛ والفرارة: أن تفتح فإذا الدابة لتعلم سنها. يقال: فرها فرا وفرارا، مثلث الفاء، إذا فتح فاها لذلك. ومن قول الحجاج: ولقد فررت عن الذكاء، وفتشت عن تجربة، أي فررت فوجدت تام السن. فإن الذكاء يطل على السن، وهو أحد ما يفسر به قول زهير:


يفضله إذا اجتهدا عليها ... تمام السن منه والذكاء

 

و منه المثل الآتي: جري المذكيات غلاب. وإلى هذا المعنى أشار أبو بكر بن دريد رحمه الله بقوله:

 

وفر عن تجربة نابي فقل ... في بازل راض الخطوب فامتطي

 

و كتب الحسن بن سهل إلى القاضي محمد بن سماعة: أما بعد فأني احتجت لبعض أموري إلى رجل جامع لخصال الخير، ذي عفة ونزاهة طعمة، قد هذبته الآداب وأحكمته التجارب، ليس بظنيت برأيه ولا بمطعون في حسبه؛ إن أؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهما من الأمور أجزأ فيه؛ له سن مع أدب ولسان، تعقده الرزانة ويسكنه الحلم، قد فرعن ذكاء وفطنة، وعض على قارحة من الكمال، تكفيه اللحظة، وترشده السكتة؛ قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها، وقام بأمورهم فحمد فيها؛ له أناة الوزراء، وصولة الأمراء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، وجواب الحكماء، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه، وحسن بيانه. دلائل الفضل عليه لاحئة، وأمارة العلم له شاهدة؛ مضطلعا بها أستنهض، مستقلا بما حمل. وقد أثرتك بطلبه، وحبوتك بارتياده، ثقة بفضل اختيارك، ومعرفة بحسن تأتيك. فكتب إليه القاضي: إني عازم أن أرغب إلى الله عز وجل حولا كاملا في ارتياد مثل هذه الصفة وأفراس الرسل الثقات في الآفاق لالتماسه. وأرجو أن يمن الله بالإجابة فأفوز لديك بقضاء حاجتك، والسلام. ويصح أن يراد بالذكاء أيضا في كل ما مر معناه الذي هو الفطنة وحدة الفوائد. وعلى كل حال فذلك مثل للكشف والاختبار، وأصله في الدواب.


ومعنى المثل المذكور أن الجواد إذا نظر إليه العارف المعرب عرفه من غير احتياج إلى فره واختباره، وكان نظره إلى عينه، أي شخصه، فرارا له، أي قائما مقام الفرار، فيقال: فلان عينه فرار لهذا المعنى.

ويضرب لكل من يدل ظاهره على باطنه لكل معانيه. قال الشاعر:

 

تعرف من عينيه نجابته ... كأنه بالذكاء مكتحل

 

و قال الراجز في صفة الذئب:

 

أطلس يخفي شخصه غباره ... في فمه شفرته وناره

هو الخبيث عينه فراره

 

إنّ الحذر لا يغني من القدر.

 

الحذر: التحرز من الشيء وهو ظاهر. والقدر: ما كتبه الله تعالى وقدره من الكائنات. ومعلوم أن ما قضى الله بوقعه فلا دافع له، وهذا من الأمثال الحكيمة. قال هانئ بن قبيصة الشيباني لقومه يحضهم يوم ذي قار وهو يوم مشهور أيامهم: يا معشر بكرهالك معذور خير من ناج فرور. إنّ الحذر لا يغني من القدر، وإنّ الصبر من أسباب الظفر. المنية ولا الدنية. استقبال الموت خير من أستدباره. الطعن في ثغر النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور. يا آل بكرقاتلوا، فما للمنايا من بدويحكى أنّ أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه كان إذا حمي وطيس الحرب انشد:

 

أي يومي من الموت افر ... يوم لا يقدر أمثال يوم قدر

 

يوم لا يقدره لا أرهبه ... و من المقدور لا ينجي الحذر

 

ثم يحمل ويغشى لظاها.

 

إنّ دون الظلمة خرط قتاد هو بر

 

إنّ الرثيئة تفثاً الغضب

 

الرثيئة: لبن مخلوط. يقال: ارتثأ اللبن بالثاء المثلثة والهمز إذا خثر؛ ورثات اللبن إذا حلبته على حامض فخثر؛ والاسم: الرثيئة والفثئ: التسكين؛ يقال: فثأت القدر بالثاء المثلثة إذا أسكنت غليانها.قال:

 

تفور علينا قدرهم فنديمها ... و نفثؤها عنا إذا حمؤها غلا

 

و قال الحماسي:

 

فنفل شوكتها ونفثأ حميها ... حتى يبوخ وحمينا لم يبردِ

 

و تقول: فثأت الرجل إذا كسرته عنك بقل أو غيره وسكنت غضبه. وفثأت الخبز، ويقال أيضاً بالتاء المثناة، وهي فعل تام في هذا المعنى غير مخصص بالنفي، كما أثبته أبن مالك وغيره. والغضب معروف، وهو حركة النفس، مبدأها إرادة الانتقام. غضب: بالكسر، يغضب، فهو غضبان. والمعنى

 

أن شرب الرثيئة كاسر للغضب مسكن له نافع.

 

يضرب في اصطناع المعروف مطلقا وفعل اليسير من البر فانه نافع.

 

وأصله أن رجلا كان غضب على قوم، وكان مع غضبة جائعا، فسقوه رثيئة، فسكن غضبه وكان عنهم. وفي الرثيئة يحكى أن عمرو بن معد يكرب قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين، أ افرام بنو مخزوم قال وما ذاك قال : تضيفت خالد بن الوليد فأتى بقوس وكعب وثور. قال : إنّ في ذلك لشبعة. قال : لي أو لك قال : لي ولك. فقال عمرو: حلا يا أمير المؤمنين فيما تقول. إني لأكل الجذع من الإبل أنتقيه عظما عظما، واشرب التبن من اللبن رثيئة وصريفا. أراد بالقوس البقية من التمر تبقى، وبالكعب القطعة من السمن، وبالثور القطعة من الأقط، وبالتبن القدح العظيم، وبالرثيئة ما صب كما مر، وبالصريف ما انصرف به عن الضرع حارا. وقوله حلا هي كلمة تقولها العرب في الأمر تكرهه بمعنى: كلا. ومنه قول الأحن بن قيس حين دخل على المصعب بن الزبير يكلمه في رجل وجد عليه، فقال مصعب: بلغني عنه الثقة، فقال الأحنف: حلا أيها الأمير، إنّ الثقة لا يبلغويروى هذا المثل: إنّ الرثيئة مما يفتأ الغضب، على إنّه موزون كشطر بيت من البسيط. وقد جعل الشنتمري في شرح الحماسة هذا المثل حديثا، وهو غريب والله اعلم.


إنَّ الرقين تغطي أفن الأفين

 

الرقون: جمع رقية، وهي الفضة؛ يقال : ورق، مسكن الراء، مثلث الواو؛ وورق، بفتح فكسر، وبفتحتين، وجمع الكل أوراق. ويقال: رقة، بحذف الفاء، كعدة. ومنه الحديث: في الرقة ربع العشرة. وجمع الرقة: رقون، وهو شاذ، لأن هذا الجمع إنّما يشيع وراء بابه في المحذوف اللام، كنين وعضين وعزين. أما المحذوف الفاء كعدة وجدة ودية فلا، غير إنّه ورد فيه ألفاظ على وجه الندرة، كرقين في جمع الرقة، ما مر؛ وازين، في جمع الازة، وهي حفرة تحفر ويستوقد فيها؛ ولدين، في جمع اللدة، وهو مساويك في السن؛ وحشين في جمع الحشة، وهي الأرض المعشبة. والتغطية: الستر. والأفن: ضعف الرأي؛ يقال : أفن الرجل، بالكسر، أفنا محركا ومسكنا. قال قيس بن عاصم المنقوي رحمه الله تعالى:

 

إني امرؤ لا يعتري حسبي ... دنس يفنده ولا أفنُ

 

من منقر في بيت مكرمة ... و الفرع ينبت حوله الغصنُ

 

و قد أفنه الله يأفنه، فهو مأفون وأفين. وقال الشاعر:

 

وقد تزدري العين الفتى وهو عاقلُ ... و يؤفن بعض القوم وهو جريمُ

 

و معنى المثل أنَّ وجدان المال يحلي المرء بحلية الكمال، ويستر ما فيه من ذميم الخصال، ويحببه إلى قلوب الرجال، حتى يروه بعين التوقير والاجلال، وإن كان من أحمق الحمقى وأجهل الجهال، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه وأحسن:

 

ربَّ حلم أضاعه عدم المال ... و جهلٍ غطى عليه النعمُ

 

و قال آخر:

 

والناس أعينهم إلى سلف الفتى ... لا يسألون عن الحجى والأولقِ

 

و قال أعرابي مر بأهله:

 

سأعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال يوما أو غنى الحدثانِ

 

فللموت خيرٌ من حياة يرى بها ... على المرء ذي العلياء مس هوانِ

 

متى يتكلم يبلغ حكم مقاله ... وإن لم يقل قالوا عديم بيانِ

 

كأن الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسان ناطقٌ بلسانِ

 

و قال أبو الطيب:

 

فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... و لا في الدنيا لمن قل مجدهُ

 

و يقال : المرء بنشبه وسيأتي في أثناء الكتاب جملة نافعة من هذا المعنى ومن ثناء الشعر على الثروة والغنى.
إنَّ السقط يحرق الحرجة.

 

السقط ما يسقط بين الزندين قبل استحكام الورى، وتثلث سيبه والإحراق والتحريق معروف. والحرجة بفتحتين: الشجر الكثير الملتف، جمعه حرج وأحراج وحراج. قال العجاج:

 

عاين حيا كالحراج نعمه ... يكن أقصى شله محرنجمه

 

و هذا المثل وقع في حكاية للأصمعي قال : بينما أنا بحمى ضربة إذ وقف عليَّ غلام من بني أسد في أطمار ما ظننته يجمع بين كلمتين. فقلت: ما اسمك قال : حريقيص. فقلت: أما كفى أهلك إن يسمونك حرقوصا حتى ضغروا اسمك فقال: إنَّ السقط يحرق الحرج. فعجبت من جوابه فقلت: أتنشدنا شيئا من أشعار قومك قال : نعم، أنشدك لمرازنا قلت: افعل. قال :

 

سكنوا شبيثا والاحص وأصبحوا ... نزلت منازلهم بنو ذيبانِ

 

وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ... حتى تقيم الخيل سوق طعانِ

 

وإذا فلان مات عن أررومةٍ ... رفعوا معاوز فقده بفلانِ

 

قال. فكادت الأرض تسوخ بي لحسن إنشاده الشعر. فأنشدت الرشيد هذه الأبيات فقال: يا أصمعي، وددت لو رأيت هذا الغلام فكنت أبلغه أعلى المراتبومعنى المثل أنَّ الأمر الصغير قد يصير إلى أعظم، والرجل المستحقر قد يغني غناء المستعظم، بل الواحد قد يقوم مقام الجم. ومن هذا قول القائل:


لا تحقرن صغيراً في تقلبه ... إنَّ البعوضة تدمي مقلة الأسدِ

 

وللشرارة نارٌ حين تضرمها ... و ربما أضرمت ناراً على بلدِ

 

و قال الآخر:

 

أرى خلل الرماد وميض نارٍ ... و يوشك أنَّ يكون لها ضرامُ

 

فإنَ النار بالزندين تورى ... و إنَّ الحربَ أولها الكلامُ

 

و قول المسكين: ولقد رأيت الشر بين الحي يبدؤه صغاره.

 

وقول أبي العلاء:

 

وقد ينمى من صغيرٍ ... و ينبت من نوى القسب اللبان

 

و قد بين هذا المعنى من قديم عدي بن زيد حيث يقول:

 

شط وصل الذي تريدين مني ... و صغير الأمور ينجي الكبيرا

 

و بعد هذا البيت:

 

إنَّ للدهر غرة فاحذرنها ... لا تبيتين قد أمنت الدهورا

 

قد ينام الفتى صحيحا فيردى ... و لقد بات آمناً مسرورا

 

أيّها المبتغي سبيل غناه ... الزم البر في الفؤاد ضميرا

 

لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

 

و وقع في شعر مرارٍ السابق شبيث والاحص وهما موضعان، والمعاوز وهي الخلفان، ويريد انهم كلما مات منهم كريم خلفه كريم يسد مسده. ومثله قول الحماسي السمؤل بن عاديا:


إذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤول لمّا قال الكرام فعول

 

و قول الحماسي الآخر:

 

وليس يهلك منا سيد أبدا ... إلاّ اجتلينا غلاما سيدا فينا

 

و قول أبي الطمحان: إذا مات منا سيد قام صاحبه ونحوه كثير في أشعارهم. والمقصود من ذلك كله أنَّ السؤدد في القوم شائع، والكرم كثير ذائع، فكلما فقد من السادات مفقود، فغيره موجود.

 

إنَّ الشفيق بسوء الظن مولع

 

الشفيق بفتحتين: الخوف وحرص الناصح على صلاح المنصوح. ويقال: أشفقت عليه شفقاً وإشفاقاً،فأنا شفيق ومشفق. قال خلف بن خليفة:

 

تهوي حياتي وأهوى موتها شفقا ... و الموت اكرم نزال على الحرام

 

و لا يقال: أشفقت عليه. وجوزه بعض اللغويين. والظن الراجح من طرفي التردد في الشيء. وقد يطلق على الاعتقاد مطلقا. والمولع بالشيء: المغرى به؛ يقال: ولع به بالكسر، ولعاً بفتحتين، وولوعاً مفتوح الأول؛ وأولعته أنا وأولع به، فهو مولع. ومعنى المثل إنَّ كان من تشفق عليه فأنت تتخوف عليه الأحداث، حتى إنَّ كل شيء ذكر أو سمع أو رئي تخشى أنَّ يكون قد وقع به، كما قال الحماسي دريد بن الصمة:

 

تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي

 

و عبد الله هو بن الصمة أخو دريد. فكان دريد لمّا سمع قول الفوارس قد صرع فارس ظنه دريد أخاه فشفق عليه. وقيل إنّه ظنه أخاه لمّا علم من إقدامه وجرأته. وسوء الظن عند الشفق أمر معروف مشاهد في الناس، ولا سيما الضعفاء من كالنساء، حتى إنّه متى ذكر هلاك في الجيش غائب أو مسافرين، كان كل من هناك من يشفق عليه يتصور ذلك الهلاك فيه شفقة، وهو أوّل ما يسبق إلى وهمه.

 

ومما يشبه هذا ما وقع لإياس بن معاوية رحمه الله: نظر إلى نسوة ثلاث، وقد فزعن من شيء، فقال: هذه بكر، وهذه ظئر وهذا ظئر، وهذه حبلى. فسئلن عن ذلك فوجد الأمر كما قال. فقيل له: بم عرفت ذلك قال: إنهن لمّا فزعن وضعت كل واحدة يدها على أهم المواضع عندها، فوضعت البكر على فرجها، والظئر على ثديها، والحبلى على بطنها. فانظر في هذه القصة كيف جعلت كل واحدة تظن الشر نازلاً بالمحل الذي لها مزيد إشفاق عليه

 

إنَّ الشقراء لم يعد شرها رجليها

 

الشقراء: فرس جمحت بصاحبها فأتت على وادٍ وهمت أنَّ تثبه، فقصرت ووقعت، فاندقت عنقها وسلم صاحبها. فسئل عنها فقال: إنَّ الشقراء لم يعد شرها رجليها، أي لم يتجاوزها إلى غيرها. ويقال فرس رمحت ابنها فقتلته. والمعنى إنَّ الشر لم يتجاوز ما كان برجلها، فيضرب في النحو هذا من الشيء النازل ولم يتعد. وكان عتبة بن جعفر بن كلاب أجار رجلا من بني أسد فقتله رجل من بني كلاب، فقال بشر بن أبي حازم الأسدي يهجو عتبة:

 

فأصبحت كالشقراء لم يعد شرها ... سنابك رجليها وعرضك أوفرُ

 

وفي الشقراء كلام آخر يأتي إن شاء الله تعالى.

 

إنَّ الشقي وافد البراجم.

 

الشقاء: العسر والشدة، يمد ويقصر. يقال: شقي الرجل بالكسر، يشقى، شقاوة بفتح الشين وكسرها، وشقا وشقاء وشقوة بالفتح والكسر أيضاً فهو شقي. والوافد: القادم؛ يقال وفد علي يفد أي قدم فهو وافد وهو وفد وأوفاد ووفود. ومن الأول قوله تعالى: (يومَ نحشرُ المتقينَ إلى الرحمنِ وفداً). والمفسرون يقولون: وافدا أي راكبا لأن الوفود سراة الناس. والبراجم: قوم من أولاد حنظلة بن مالك بن عمرو بن تميم.

 

المثل لعمرو بن هند وهو عمرو بن المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي اللخمي بن أخت جذيمة الأبرش ملك الحيرة. وكان سبب ذلك أنَّ أخاة اسعد بن المنذر كان في بني دارم مسترضعا في حجر زرارة بن عدس الدارمي ويقال في حجر حاجب بن زرارة. فلما شب خرج يوما يتصيد فعبث كما تعبث الملوك لمّا انصرف من صيده وبه نبيذ، فرماه رجل من بني دارم بسهم فقتله. وقيل مرت به ناقة كوماء فعبث بها ورمى ضرعها، فشد عليه ربها سويد، أحد بني عبد الله بن دارم فقتله، ثم هرب فلحف بمكة وحالف قريشا. وكان زرارة بن عدس من خواص عمرو بن هند. وكان عمرو قبل ذلك قد غزا قوما من العرب ومعه زرارة فأخفق. فلما انتهى عبد رجوعه إلى جبل طيء قال له زرارة: أيّها الملكإنَّ رجوع مثلك إذا غزا بغير شيء لعظيم، وها هي طيء بجنبك. فمال عليها أبن هند فقيل وأسر. فاضطغنت طيء من ذلك على زرارة وجعلوا يتربصون به فرصة، فلما بلغهم إنَّ دارما قتلت اسعد وكتم عمرو بن هند ذلك في نفسه،قال عمرو بن ملقط الطائي ينبه عمرا للنهوض إلى أثره ويغريه بقتل زرارة:

 

من مبلغ عمرا بأن ... المرء لم يخلق صباره

 

ها إنَّ عجزة أمه ... بالسفح أسفل من أوراه

 

تسفي الرياح خلال ... كشحي هو قد سلبوا إزاره

 

فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زرارة

 

فوافى هذا الشعر عمرا وزرارة عنده. فقال له عمرو: ما يقول هذا فقال: كذب قد علمت عداوتهم أي فيك. قال: صدقتفلما أمسى زرارة، هرب ولحق بقومه. فغزاهم عمرو بن هند وحلف ليحرقن منهم مائة بأخيه. فلما نزل بأوارة، وقد نذروا به، تفرقوا عنه هربا. فتتبعهم حتى قبض تسعة منهم وحرقهم بالنار. فأراد إنَّ يكمل العدة بعجوز منهم. فلما أمرها قالت: إلاّ فتى يفدي هذه العجوز بنفسه ثم قالت: هيهاتصار الفتيان حمما. ومر وافد البراجم، فاشتم رائحة الشواء ولم يشعر بالأمر، فظن أنَّ الملك قد اتخذ طعاما. فأقبل نحوه تخب به راحلته لينال منه، حتى وقف على عمرو فقال له: من أنت قال: أبيت اللعنأنا وافد البراجم.فقال عمرو: إنَّ الشقي وافد البراجم. فذهبت مثلا. ثم أمر به فقذف في النار.


يضرب هذا المثل في الإنسان يجلب الحين على نفسه وهو من باب قولهم: بحث عن حتفه بظلفه، وسيأتي. وبهذه الواقعة سمي عمرو بن هند محرقا لتحريقه بني تميم. وقيل سمي محرقا لعتوه وفساده في الأرض فكأنه حرقها. وقيل لتحريقه نخل مللهم، وهو موضع بالبحرين ويسمى أيضاً مضطرب الحجارة لشدة وكأته. وكان جده امرء القيس أيضاً فيما يزعمون يسمى محرقا، وأباه يعني الأسود بن يعفر بقوله:

 

ماذا أؤمل بعد آل محرقٍ ... تركوا منازلهم وبعد إيادِ

 

أرض الخورنق والسدير ويارقٍ ... و القصر ذي الشرفات من سندادِ

 

جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعادِ

 

و في هذه القصة يقول الأعشى:

 

ويكون في الشوفِ الموازي ... منقراً وبني زراره

 

أبناءُ قومٍ قتلوا ... يوم القصيبة والأواره

 

فجروا على ما عاودوا ... و لكلٍّ عاداتٍ أماره

 

والعود يعصرُ ماؤه ... و لكلٍّ عيدانٍ عصاره

 

و قال جرير يعير الفرزدق:

 

أين الذين بنار عمرو حرقوا ... أم أين اسعد فيكم المسترضع

 

و قال أيضاً:

 

وأخزاكم ربي كما قد خزيتم ... و أدرك عماراً شقي البراجم

 

وبها أبلغ ليك بني تميمٍ ... بآية ما يحبون الطعاما

 

و قال آخر:

 

إذا ما مات ميتٌ من تميمٍ ... فسرك أن يعيش فجئ بزادِ

 

بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ... أو الشيء الملفف في بجادِ

 

تراه ينقب البطحاء طرا ... ليأكل رأس لقمان بن عادِ

 

ودخل بعض أذكياء بني تميم، ويقال هو الأحنف، على بعض ملوك قريش، ويقال هو معاوية رضي الله عنه، فقال له الملك: ما الشيء الملفف في البجاد قال السخينة، يا أمير المؤمنين. أراد الملك أنَّ يعيره بالطعام وأشار إلى الشعر السابق وأراد التميمي تعييره بالسخينة، وهي طعام، وكانت قريش تعير بها. ويشبه هذه القصة في تميم أيضاً ما يحكى أنَّ أعرابيا وقف على الفرزدق فقال له الفرزدق: ممن أنت فقال: من فقعس. قال: كيف تركت القنان قال : تركته يساير لصاف.


أراد الفرزدق قول الشاعر:

 

ضمن القنان لفقعس سوءاتها ... إنَّ القنان بفقعس لمعمرُ

 

و أراد الفقعسي بقوله يساير لصاف قول آخر:

 

وإذا تسرك من تميم خصلةٌ ... فلما يسوءك من تميم أكثرُ

 

وقد كنت أحسبهم أسود خفية ... فإذا لصاف تبيض فيها الحمر

 

أكلت أسيد والهجيم ودارم ... أير الحمار وخصيته العنبر

 

ذهبت فشيشة بالأباعر حولنا ... سرقا فصب على فشيشة أبجر

 

و القنان، بفتح القاف، جبل لبني أسد، وهو الواقع في قول زهير:

 

جعلن القنان عن يمين وحزنه ... و من بالقنان من محل ومحرم

 

و لصاف، بكسر اللام وبفتحها، معربا ومبنياً على الكسر، جبل لتميم، وهو الواقع في قول النابغة:

 

بمصطبحات من لصاف وثبرة ... يزرن إلالاً يسرهن التدافع

 

و نحوه ما حكى الجاحظ قال: دخل رجل من محارب على عبد الله بن يزيد الهلالي، وهو عامل على أرمينية، وقد بات بقرب غدير فيه ضفادع. فقال عبد الله: ما تركتنا أشياخ محارب ننام في هذه الليلة لشدة أصواتها. فقال المحاربي: اصلح الله الأميرإنّها أضلت برقع لها، فهي بغائه. أراد الهلالي قول الأخطل:


تنق بلا شيء شيوخ محاربٍ ... و ما خلتها كانت تريش ولا تبري

 

ضفادع في الظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر

 

و أراد المحاربي قول الشاعر:

 

لكل هلالي من اللؤم برقع ... و لأبن هلال برقع وقميص

 

و مما شبه هذا في الذكاء والفطنة ما حكي عن بعض الناس إنّه قال: قعدت على جسر بغداد، فمرت امرأة بارعة الجمال، فائقة الكمال، من الرصافة إلى الجانب الغربي. فاستقبلها شاب ذهب نحو الرصافة، فقال الشاب: رحم الله علي بن الجهم. فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري: ولم يقف واحد منهما، بل مر كلٌ لحاجته، مشرقاً ومغرباً قال: فتبعت المرأة، فقلت لها: إنَّ لم تقولي ما قلتما. فضحكت فقالت: أراد الشاب قول علي بن الجهم:

 

عيون المهى بين الرصافة والجسر ... جلب الهوى من حيث ادري ولا ادري

 

و أردت أنا قول أبي العلاء المعري:

 

فيا دارها بالحزن إنَّ مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال

 

فانصرفت وتركتها. وبعضهم ينكر في قصة عمرو بن هند التحريق، ويقول إنّه قتل تسعة وتسعين وإكمال العدة بوافد البراجم، وينشد قول الجرير: أين الذين بنار عمرو قتلوا وفي القصة اختلاف وطرق، وسنعيدها في الباء إنَّ شاء الله تعالى على وجه آخر للحاجة إليها هناك.


إنَّ العصا قرعت لذي الحلم.

 

العصا معروفة. والقرع: الضرب. والحلم: العقل. ومعنى المثل إنَّ الحليم إذا نبه انتبه. واختلف في أوّل من قرعت له العصا: فقيل عامر بن حممة، وقيل عمرو بن مالك، وقيل قيس بن خالد، وقيل عامر بن الظرب العدواني وهو الأشهر، وكان حكماً من حكام العرب. فلما كبر، قيل وأتى عليه ثلاثمائة سنة أنكر من عقلة شيئاً، وكانت له بنت حكيمة، فكان إذا قعد للناس وصاها إنَّ تقرع له المجن بالعصا إذا زل في كلامة ليرجع. قال الملتمس:

 

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... و ما علم الإنسان إلاّ ليعلما

 

و أراد بذي الحلم عامراً، وهو كنينه فيما يزعمون. وقال الحماسي الحرث بن وعلة الجرمي:

 

قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي

 

فلئن عفوت لأعفون جللاً ... و لئن سطوت لأوهنن عظمي

 

لا تأمنن قوماً ظلمتهم ... و بدأتهم بالشتم والرغم

 

إنَّ يأبروا نخلاً لغيرهم ... و الشيء تحقره وقد ينمي

 

وزعمتم أنَّ لأحلوم لنا ... إنَّ العصا قرعت لذي الحلم

 

ووطئتنا وطئا على حنقٍ ... وطء المقيد نابت الهرم

 

وتركنا لحما على وضمٍ ... لو كنت تسبقني من اللحم

 

قيل: وعامر هذا أوّل من جلس على المنبر وتكلم. وفيه يقول الأسود بن يعفر:

 

ولقد علمت لو إنَّ علمي نافعٌ ... أنَّ السبيل سبيل ذي الأعداد

 

و إليه اشار ذو الإصبع العدواني بقوله:

 

عذير الحي من عدوان ... كانوا حية الأرض

 

بغي بعضهم ظلما فلم ... يرع على بعض

 

ومنهم كانت السادات ... و الموفون بالقرض

 

ومنهم من يجيز الناس ... بالسنة والفرض

 

ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي

 

يعني عامر بن الظرب، وسيأتي له مزيد من الخبر.

 

إنَّ فلاناً باقعة.

 

الباقعة: الرجل الداهية؛ وأصله البقع في الأرض وهو الذهاب فيها وحوله بقاعها. يقال : ما أدري أين بقع أي ذهب. فالباقعة هو الذي جال بقاع الأرض وعرف خيرها وشرها فاستعمل في الداهية الذكي الذي لا يفوته شيء. ويقال الباقعة هو الطائر يرد البقاع وهي الأمكنة فيها ماء ويحيد عن المشارع والمياه المحصورة خوف أنَّ يحتال عليه فيصاد. فضرب مثلا للرجل الحذر المحتال.

 

إنّه لحبل من أحبالها

 

الحبل بكسر الحاء وتفتح الداهية من الدواهي جمعه حبول. قال كثير:

 

فلا تعجلي يا عز أنَّ تتبيني ... بنصحي أتى الواشون أم بحبولِ

 

و يقال للرجل هو حبل من أحبالها إذا كان داهية كالمثل الذي قبله أو كان قائما على المال رفيقا بسياسته.

 

إنّه لذو بزلاء.

 

البزلاء: الرأي الجيد؛ وهو إما مأخوذ من البزول يقال بزل ناب البعير إذا انشق وطلع؛ وبزلت الشيء: شققته فتبزل. فالبزلاء: الرأي الذي ينشق عن الصواب. ويقال: رجل بازل إذا احتنك، تشبيها بالبازل من الإبل. وقال الراعي:

 

من أمر ذي بدوات لا يزال له ... بزلاء يعي بها الجثامة اللبدُ

 

و أما من البزلاء وهي الداهية العظيمة. ومنه قولهم: فلان نهاض ببزلاء إذا كان مطيقا للشدائد.

 

إنّه ليسر حسوا في لرتغاء.

 

السرار ضد الإعلان؛ والحسو: الشرب؛ يقال : حسا اللبن والماء والمرق وغير ذلك إذا شربه؛ واسم ما يحسى: الحسو، مقصورا وممدودا، والحسو على مثال عدو، والحسية. ورغوة اللبن، مثلثة الراء، ورغاوته، ورغايته، بضم الراءين، ويكسران: زبدة الطافي فوقه. قال نضلة السلمي في يوم غول، وكان حقيرا دميما، وكان ذا بأس ونجدة:

 

ألم تسل الفوارس يوم غول ... بنضلة وهو موتور مشيح

 

رأوه فازدروه وهو حر ... و ينفع أهله الرجل القبيحُ

 

فشد عليهم بالسيف صلتا ... كما عض الشبا الفرس الجموحُ

 

فاطلقت غل صاحبه وأردى ... قتيلا منهم ونجا جريحُ

 

ولم يخشوا مصاليه عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريحُ

 

و الصريح: الخالص ويسمى المحض كما قال طرفة:

 

ويشرب حتى يغمر المحض قلبه ... و إن أعطيته أترك لقلبي مجثما

 

و كما قال الآخر: فقل جعل يستق في لبن محض. ويقال : ارتغى الرغوة إذا أخذها بفيه واحتساها.

 

ومعنى المثل إنّه يحسو اللبن وهو يظهر إنّه يزيل الرغوة بفيه ليصلحه لك.

 

وضرب لمن يريك إنّه يعينك وهو يجر النفع لنفسه. وكذا من يريد أمرا وهو يظهر غيره. وقيل للشعبي: إنَّ رجلا قبَّل أمَّ امرأته. فقال: يسر حسواً في ارتغاء، وقد حرمت عليه امرأته.

 

إنّه لساكن الريح.

 

مثل لرجل الوادع، وهو في الأصل إما مشبه بزمن قد سكنت ريحه وهدأت زعازعه، فورد مورد التمثيل؛ وإما مشبه بالريح الساكنة عن الاضطراب، وهو ضرب من التجريد.

 

إنّه لشرَّابٌ بأنقع.

 

الشرَّاب: الشارب بكثرة؛ والأنقع: جمع نقع بفتح فسكون وهو يطلق على الغابر ويطلق على محبس الماء المستنقع، وعلى الأرض الحرة الطين، يستنقع فيها الماء. فيضرب هذا لمن جرب المور وعاود خيرها وشرها أو للداهي المنكر.

 

قيل: واصله في الدليل وهو إنّه إذا كان بصيرا بالفلوات حذف في الطريق وعلم أين يسلك إلى الأنقع حتى يردها. والأنقع هنا: المياه المستنقعة أو محالها بحسب ما فيها من الماء. فصار مثلا لكل بصير بالأمور يصل منها إلى موارخ.

 

وقيل أصله أنَّ الطائر إذا كان حذرا منكرا لم يرد المياه التي يردها الناس مخافة الأشراك التي تنصب بحضرتها وإنّما يرد الأنقاع التي في الفلوات أي المياه المستنقعة. وحكى البكري بسنده عن رياح بن زيد قال : سألت أبن جرير عن آية وقلت إنَّ معمرا أخبرني بكذا فقال: إنَّ معمرا شرب العلم بأنقع. قال عبد الرزاق: الأنقع: الصفا الذي يصيبه الغيث فيكون هاهنا ماء وهاهنا ماء.

 

إنّه لصل أصلال.

 

الصل، بكسر الصاد المهملة: الحية الخبيثة لا تنفع فيها الرقى ولا يبل سليمها. قال الشاعر:

 

والحية الصل لا تغررك هداته ... فكم سليم وموقوذ لنكرته

 

و قال صاحب تأبط شراً يرثيه:

 

مطرق يرشح موتا كما أطرق ... أفعى ينفث السم صلُّ

 

و جمعه أصلال فضرب للرجل الداهي في الخصومات وغيرها، كأنه لحية الحيات. قال الشاعر:

 

ما ذا رزئنا به من حيةٍ ذكرٍ ... نضناضةٍ بالرزايا صلِّ أصلالِ

 

إنّه لضعيف العصا.

 

مثل لقليل الضرب للإبل. قال الراعي:

 

ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما اجدب الناس إصبعا

 

إنّه لصل إصلال.

 

مثل للداهي على نحو ما مر أنفا في الصاد، إلاّ إنّه يقال هناك: صل أصلال، بالصاد المهملة وبكسرها لا غير؛ ويقال هنا: ضل إضلال، بالضاد المعجمة المكسورة والمضمومة.


ومعناه إنّه يضل خصمه وقرنه فلا يهتدي ولا يعرف من حيث يأتيه ولا يتجه معه إلى وجه يخلصه منه. والضلال ضد الرشاد. قيل: وأصله قولهم: أرض ضل، إذا كانت تضلل أصحابها. وأما قولهم: إنّه ضل بن ضل. بكسر الضادين وضمهما، فمعناه إنّه منهمك في الضلال، أو إنّه لا يعرف له اصل، أو إنّه لا خير فيه. ويقال للباطل: ضل بتضلال. قال عمر بن شاس الأسدي:


تذكرت ليلى لات حين أذكارها ... و قد حني الأصلاب ضل بتضلال

 

و قيل في قول امرئ القيس:

 

نواعم يتبعن الهوى سبل الردى ... يقلن لأهل الحلم ضل بتضلال

 

إنّه دعاء بالضلال، أي إذا رأين أهل الحلم قل لهن: أضلكم الله، ودعون عليهم إذ لا يتبعون اللهو، وهو البين. قيل: وأنكر أبو عبيد ضم الضاد في قولهم: ضلا بتضلال، وقال: لم اسمع الضم إلاّ في ضل بن ضل.

إنّه لعض.

 

العض بكسر العين المهملة وبضاد معجمة، يضرب للرجل الداهي المنكر البليغ. قال القطامي:


أحاديث من أنباء عاد وجرهم ... يثورها العضان زيد ودغفل

 

و يروي: أحاديث من عاد وجرهم ضلة. ومعنى ضلة: لا يهتدي إليها، كما قالت السلكة أم السليك:

 

ليت شعري ضلة ... أي شيء قتلك

 

و معنى يثورها: يحركها من مكانها، ويثيرها من مظانها. ويروي: ينورها بالنون، أي يكشفها ويبين ما استتر منها من النور الكاشف للظلمة. وزيد المذكور أحد بني هلال أبن ربيعة، وكان من اعلم الناس. ودغفل من بني ذهل بن ثعلبة نسابة.

 

قيل: وأصل المثل من العض على النواجذ. يقال: عض الرجل على نواجذه إذا صبر على الأمر. قال علي كرم الله وجهه يحرض الناس يوم صفين: عضوا على النواجذ من الأضراسفإنه أنبى للسيوف على الهام. وقال الحارث بن وعلة:

 

الآن لمّا ابيض مسربتي ... و عضضت من نابي عجذم

 

و النواجذ بالذال المعجمة: أواخر الأضراس، وأحدها ناجذ. والعرب تسمي الناجذ ضرس الحلم، لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل. قال النمر بن تولب:

 

على إنّها قالت عشية زرتها ... المثل ينبت لذا حلمه بعدي

 

و رجل منجذ، أي مجرب أحكمته الأمور. قال سحيم بن وثيل:

 

أخو خمسين مجتمع اشدي ... و نجذني مداورة الشؤون

 

و قيل: إنه لعض المال، أي شديد القيام عليه، وعض سفر، أي قوي عليه، وعضاض عيش، أي صبور على الشدة، وغلق عض: لا يكاد ينفتح. والعض أيضاً: مال صغر من شجرة الشوك، كالشبرق والقتاد الأصغر؛ يقال: بلد ذو عض، وإبل عاضة: ترعاها؛ وأهلها معضون. فيصح إنَّ يكون أصل المثل من هذا أيضاً.

 

إنّه للين العصا.

 

مثل لرقيق الحس السياسة لمّا ولي. قال الشاعر:

 

عليه شريب وادع لين العصا ... يساجلها جماته وتساجله

 

إنّه لنقاب.

 

مثل للرجل العالم الفهم الخبير بغوامض الأمور. قال أوس بن حجر:

 

كريم جواد أخو مأقط ... نقاب يحدث بالغائب

 

قيل: واصله من التنقيب في البلاد وتجريب الأمور. ونحوه قولهم في مثل آخر لمجرب الأمور: فلان قد ركب ظهر البر والبحر، وعرف حالتي الخير والشر، وذاق طعمي الحلو والمر. وقال الحكماء: لا ينال أحد الحكمة حتى ينسى الشهوات، ويجرب الفلوات، ويحالف الأسفار، وينتاب القفار، ويصل الليل باليوم، ويعتاض السهر من النوم. قالوا: النظر كالسيف، والتجارب كالمسن. وقالوا: مرآة العواقب، في يد ذي التجارب. وقال أبو تمام يصف بالتنقيب والتجريب:

 

سلي هل عمرت القفر وهي سباسب ... و غادرت ركبي من ركابي سباسبا

 

وغربت حتى لم أجد ذكر مشرق ... و شرقت حتى قد نسيت المغاربا

 

و قال أيضاً:

 

خليفة الخضر من يربع على وطن ... في بلدة فظهور العيس أواني

 

بالشام قومي وبغداد المنى وأنا ... بالرقمتين وبالفسطاط إخواني

 

أحبة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإنَّ فرقوا في الأرض جيراني

 

و قول أوس المذكور يحدث بالغائب هو من شأن النقاب. والمعنى إنّه ذو ذكاء قوي وفراسة وضن مصيب، كما قالوا: فلان المعي وقول الشاعر:

 

الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا

 

وقال الآخر:

 

بصير بأعقاب الأمور إذا التوت ... كأن له في اليوم عين على غد

 

وقال ابن الرومي:

 

كمال وإفضال وبأس ونجدة ... و ظن يريه الغيب لارجم راجم

 

وقال آخر:

 

تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى ... إلى قول قوم أنت بالغيب عالم

 

و كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من لم ينتفع بظنه، لم ينتفع بيقينه. وقال عبد الملك بن مروان: ما فرق بين عمر وعثمان إلاّ اختلاف الضن: ظن عمر فأصاب فتحفظ، وظن عثمان فأخطأ فأمهل.

 

إنّه لنكد الحظيرة.

 

النكد: لشدة والقلة؛ يقال: نكد عيش القوم إذا اشتد، ونكد ماء البئر إذا قل، وناقة نكود قليلة الدر، ورجل نكد: عسير؛ والحظيرة والحظار بالظاء المشالة: ما يجعل للماشية ويحاط بالشجر ونحوه للتأويل إليه ويمنعها من الحر والبرد، لأنها من الحظر وهو المنع.


يضرب هذا المثل للرجل القليل الخير وللبخيل مع السعة، فكأن ضيق حضيرته كناية عن ضيق خيره وقلة فضله، كما يقال في المثل الآخر من هذا المعنى: فلان ضيق العطن، وإنّما العطن مبركة الإبل عند الماء؛ لكن جعل كناية عما مر. ويقال في ضده: فلان رحب الفناء، وسابغ الذيل، وغمر الرداء، ونحو ذلك. وقال أبو القاسم بن سلام: أراه سمى أمواله حظيرة لأنّه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. وهو بعيد عن صنيع الكلام وأسلوب العرب في هذا النحو كما قررناه.


إنّه لهتر اهتار.

 

الهتر بكسر الهاء وسكون المثناة الفوقية: العجب والداهية، فيقال: فلان هتر اهتار ويضرب مثلا للرجل الداهي، كما تقدم في قولهم: صل اصلال. قال أوس بن حجر في الهتر بمعنى العجب:

 

المَّ خيال موهنا من تُماضِرا ... هُدُوَّا ولم يطرق من الليل باكرا

 

وكان إذا ما التمَّ منها بحاجةٍ ... يراجع هترا من تماضر هاترا

 

و عن أبن الأعرابي: الهُتر والهِتر، " بالضم والكسر: ذهاب العقل. وفي الصحاح: الهِتر: العجب والداهية، والهِتر " السقط من الكلام، يقال: هتر هاتر، وهو توكيد. ومنه بيت أوس المذكور عنده.

 

إنّه لواقع الطائرِ.

 

مثل للرجل الساكن الأمور. وهو في الأصل أما مشبه بالبعير يقع غليه الطائر وينزع ما عليه من القراد، فيسكن البعير استلذاذاً لذلك ولا يتحرك لئلا ينفر الطائر فيطير عنه، كما يقال في المثل الآتي: كأن على رأسه الطير؛ وأما مشبه بالطائر الواقع في سكونه على ضرب من التجريد، كما مر في ساكن الريح.

 

انك لا تجني من الشوك العنب.

 

يقال: جنى الثمرة، واجتناها، وتجناها، وكل ما يجنى من الثمر فهو جنى بالفتح والقصر وجناة؛ والشوك، بفتح الشين المعجمة، معروف؛ الواحدة: شوكة؛ وشجرة شاكة وشوكة وشائكة: ذات شوك: والعنب معروف. ومعنى المثل أنّ الشر لا تستحصل منه خيرا، والفساد لا تكتسب منه صلاحا، كما إنَّ العنب ليس بخارج من الشوك. فإذا أوقعت شرا أو ظلمت أحدا فقد غرست شوكا، ولا تحصده إلاّ شوكا. وفي الحكمة: من يزرع خير يحصد غبطة، ومن يزرع الشر يحصد الندامة. وما أحسن قول صالح بن عبد القدوس ناطما لهذا المثل بعينه:

 

إذا وترت أمرءا فأحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا

 

إنّما العدو وإنَّ أبداً مجاملة ... إذا رأى منك فرصة وثبا

 

و المثل لأكثم بن صيفي حكيم العرب.

 

إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع.

 

هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قاله للأنصار يصفهم بذلك. والفزع يكون على وجهين: أحدهما الذعر والجزع، وهو كثير الاستعمال، والأخر الاستنجاد والاستصراخ، ومنه قول سلامة بن جندل:


كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له فرع الظنابيب

 

أي: إذا أتى مستغيث كانت إغاثته الجد في نصرته. يقال: قرع ظنبوبه في هذا الأمر إذا جد فيه. والظنبوب: مقدم عظم الساق. ويشق من هذا المعنى أنَّ يكون فزع بمعنى أغاث. قال هبيرة اليربوعي، المقلب بالكلحبة:

 

فقلت لكاس الجهيما فإنما ... حللت الكثيب من زرود لأفزعا


أي لأغيث. وكأس اسم جاريته. والطمع معروف.

 

ومعنى الكلام المذكور وصف الأنصار رضي الله عنهم بالشجاعة والإقدام، وبذل النفوس في نصرة الإسلام، وتجشم المضائق في ذلك والعظائم، والتسارع إلى المكارم مع الزهد التام، ورفع الهمة عن الحطام. وهو معنى قوله: وتقلون عند الطمع، أي عند وجود الطمع في الناس لسبب من أسبابه، ويصح أنَّ يراد بالطمع المال المطموع فيه، أي: تقلون عند حضور الأموال واقتسامها وانتهابها، والقلة على بابها، أو للنفي وهو ابلغ. وناهيك بهذا الكلام مدحا وثناء، وبالأنصار رفعة وسناءًومثل هذا المعنى قول عنترة:

يخبركم من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المطعم

 

و من هذا المعنى قول المهاجرين في الأنصار: انهم يكفوننا المؤونة، ويشاركوننا في المهنا. ومن باب المشاركة في الشدة قول أبي بكر الخوارزمي:

 

أراك إذا أيسرت خيمت عندنا ... لزاما وإنَّ أعسرت زرت لماما

 

فما أنت إلاّ البدر إنَّ قل ضوءه ... أغب وإنَّ زاد الضياء أقاما

 

وأصله قول الأول:

 

فتى كان يدينه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى، ويبعده الفقر

 

و تمثل بهذا البيت علي كرم الله وجهه في طلحة حين رآه مقتولاً يوم الجمل. وورد في ضد هذه الصفة، وهو المشاركة في الرفاهية والخذلان في الشدائد أمثال كثيرة من الشعر كقول الشاعر:


إذا ما علوا قالوا: أبونا وأمنا ... و ليس لهم عالين أم ولا أب

 

و قول الآخر:

 

موالين إذا افتقروا إلينا ... و إنَّ اثروا فليس لنا موالي

 

و قول الآخر:

 

أبو راشد مولاي ماطل حقه ... فإن كانت الأخرى فمولى بني سهم

 

إنَّ لله جنوداً مِنْهَا العسل.

 

الجنود جمع جند، بضم فسكون، وهو العسكر. ويطلق عليه السلام الأعوان وعلى المدينة، يقال الشام خمسة أجناد، ويراد مدنها الخمس؛ وعلى الصنف من الخلق على حدة. والعسل معروف. وهذا الكلام وقع لمعاوية، رحمه الله، لمّا بعث عمرو بن العاصي أميراً على مصر، وفيها محمد بن أبي بكر أمير عن علي، كرم الله وجهه. فاقتتلا، فقتل محمّد بن أبي بكر واستولى عمرو على مصر. فبلغ ذلك أمير المؤمنين علياً، كرم الله وجهه، فأنفذ إلى مصر الأشتر النخعي في جيش، فزعموا إنّه لمّا سمعه معاوية دس إلى دهقان كان بالعريش أنَّ يقتل الأشتر، وجعل للدهقان أنَّ يترك له الخراج عشرين سنة. فسأل الدهقان أي الشراب احب إلى الأشتر، فقيل له العسل، فأتاه بعسل مسموم. فما استقر في جوفه إلاّ وقد تلف. فبلغ معاوية ذلك فقال: إنَّ لله جنوداً منها العسل. " و لا ادري اهو أبو عذره أم كان مسبوقا. وظاهر كلام صاحب القاموس أنَّ الجند في هذا المثل أريد به المعنى الأخير من معانيه السابقة، وليس بظاهر، إذ لا معنى لأن يقال هذا أريد به المعنى الأخير من معانيه السابقة، والقصة أنَّ لله أصنافا من الخلق منها العسل " وإنّما إنّه أعوان، ولا سيما كلامه يحكى تارة بلفظ: إن لله جندا في العسل، وبهذه العبارة رأيته في تاريخ المسعودي، والله اعلم.

 

إنَّ في المرنعة لكل قوم مقنعة.

 

يقال: رنع لون الرجل رنوعا إذا تغير وذبل؛ ورنعت الدابة الذباب: طردته؛ ورنع بالكسر يرنع: إذا لعب. والمرنعة على وزن مرحلة: السعة والدعة، وتطلق أيضاً على الروضة، وعلى الأصوات في اللعب، وعلى القطعة من الطعام ومن الشراب ومن الصيد. ويقال للحمقاء إذا أثرت: وقعت في مرنعة فعيشي، أي: وقعت في خضب. والمقنعة: الغنى، وهي من القناعة، أي: في المرنعة لكل أحد ما يقنع به ويستكفي. والمعنى ظاهر.

 

إنَّ في مض لمطمعا.

 

مض بكسر الميم وكسر الضاد المعجمة المثقلة: كلمة تستعمل بمعنى لا. قال: سألت هل وصل، فقالت: مض، وهي حكاية صوت الشفتين يكون معه نوع استهزاء، وهي مع ذلك مطمعة في الإجابة. ومن ثم قالوا: إنَّ في مض لمطمعا. ويشبه أنَّ يضرب عند التحريض على طلب الشيء وترجيه ما دامت مخائل بلوغه وإن ضعفت.

 

إنَّ الله ليؤيد هذا الدين بالرَّجل الفَاجِر.

 

هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم قاله في شأن قزمان بن الحارث لمّا أعجب المسلمين قتاله وغناؤه، ثم جرح وآلمته الجراحة، فاستعجل وقتل نفسه. وقد كان صلى الله عليه وسلم اخبرهم قبل ذلك إنّه من أهل النار: وهو معنى ما في خبر آخر: إنَّ الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم. وإنّما ذلك لآن كل من دخل في سواد المسلمين فهو قد يجاهد العدو ويدافع عن المسلمين ويقصم ظهور الكافرين، حتى يتأيد بتعزز المؤمنين، ويضعف الكفر بذل الكافرين، طلبا لإعلاء كلمة الله تعالى ، وابتغاء لمرضاته، فنفع " و انتفع. وقد يفعل ذلك لغير إعلاء كلمة الله أو يحبط العمل بوجه من الوجوه، فنفع " ولم ينتفع ولم، عياذاً بالله تعالىوما ذكره الشارع، صلوات الله وسلامه عليه، غير مختص بالجهاد، بل في كل وجه من وجوه التأييد كسياسة الأمة، والحكم بين الناس، وتعليم العلم، وقبض الأموال وتفريقها وبناء المساجد والأسوار والقناطر، ونحو ذلك مما لا ينحصر. وذلك واقع لا محالة، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم. وسيأتي تشبيه العالم غير العامل بالمصباح يضيء للناس وهو يحترق، نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أنَّ يقينا شر هذه الورطة، ويقينا شر أنفسنا وشر كل ذي شر

 

إنَّ الله لن يرفع شيئاً من الدنيا إلاّ وضعه.

 

هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قاله في شأن ناقته، وكانت لا تسبق. فجاء أعرابي على قعود فسبقها. فشق ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر. ز كل ذلك في الصحيح.

 

إنَّ الُّلهَي تفتح الَّلهي.

 

اللهي الأول بضم اللام جمع لهوة بضم اللام، وتفتح أيضاً، وهي العطية أو افضل العطايا؛ وكذا اللهية، وتطلق على الألف من الدنانير والدراهم. قال النابغة:

 

عظام اللهي أولاد عذرة إنهم ... لها ميم يستلهونها بالحناجر

 

و قال الحماسي:

 

لعمري لئن أعمرتم السجن خالداً ... و أوطأتموه وطأه المتثاقل

 

لقد كان يروي المشرفي بكفه ... و يعطي اللهي في كل حق وباطل

 

و اللهوة أيضاً ما يرمية الطاحن بيده في فم الرحى، وكان هذا هو الأصل. واللهي الثاني بفتح اللام جمع لهاة، على مثل قناة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق، والجمع بإسقاط الهاء، وقد مده الشاعر ضرورة في قوله:

 

يأكل من تمر ومن شيشاء ... ينشب في المعسل واللهاء

 

و المعنى المثل أنَّ الإحسان، وتوارد العطايا الحسان، يلطف اللسان، بالثناء والشكران. وهذا المثل وقع في كلام الكميت، وقيل له: لم صارت أشعارك في بني امية أطيب منها من بني هاشم فقال: إنَّ اللهى تفتح اللهىومن أظرف ما أتفق في هذا ما حكي شمس الدين بن خلكان أنَّ المعتمد بن عباد الأندلسي ذكر يوما قول أبي الطيب:

 

إذا ظفرت منك العيون بنظرة ... أثاب بها معيي المعطي ورازمه

 

فجعل يردده استحساناً له وفي الخضرة عبد الجليل بن وهبون، فقال ارتجلا:

 

لئن جاد شعر أبن الحسين فإنما ... تجيد العطايا ز اللهى تفتح اللهى

 

تنبأ عجبا بالقريض ولو درى ... بأنك تروي شعره لتألها

 

إنّما يجزي الفتى ليس الجمل.

 

يضرب هذا المثل في المكافأة وهو للبيد بن ربيعة في شعره يقول فيه:

 

فإذا اقترضت قرضاً فأنجزه ... إنّما يجزى الفتى ليس الجمل

 

وإذا زمت رحيلا فأرتحل ... و اعص ما يأمر توخيهم الكسل

 

واكذب النفس إذا حدثتها ... إنَّ صدق النفس يزري بالأمل

 

وهذه كلها أمثال.

 

إنّما سميت هانئاً لتهنأ.

 

التسمية معروفة. وهانئ اسم رجل، والهنأ: الإعطاء؛ يقال هنأته هنئاً إذا أعطيته ورفدته، والاسم الهنئ بالكسر، قيل: وبالفتح أيضاً، وهو العطاء ويقال: هنأه شهراً أو شهرين إذا عاله هنئا وهناءة. قال الشاعر:

 

هنأتهم حتى أعان عليهم ... سوامي السماك ذي السلاح السواجه

 

يضرب هذا المثل في الحضّ على بذل الافضال. وعن الكسائي: وسمعت إعرابياً يقول: إنّما سميت هانئا لتهنأ، أي لتعول وتكفي.

قلت: وينبغي أنَّ يضرب عند التحريض كل ذي وصف، أو لقب أو حرفة على فعل ما يوجب ذلك الوصف، أما حقيقة كان القاضي للقضاء بين الناس والمحتسب للاحتساب والمعلم للتعليم والصائغ للصياغة ونحو ذلك؛ وإما على الاشتقاق فقط كالافضال لمن اسمه فضل والحرث امن اسمه حارث والهنئ لمن اسمه هاني فإنَ ذلك هو أصل المثل. فيقال للذي تسمى بالقاضي وتأبى عن الحكم: إنّما سميت هانئا لتهنأ، أي قيل لكل قاض لتقضي بين الناس ونحو هذا.


إنّما اشتريت الغنم حذار العازبة.

 

الاشتراء والغنم معروف؛ والعزبة: الإبل، والعزوب بالزاي في الأصل: الذهاب والبعد. وعزبت الماشية، وعزب بها ربها: بعد بها في المرعى ولم ترح. ورجل عزيب: بعد عن أهله وماله. والعزيب من الإبل والشاة: ما يبعد عن أهله في المرعى. وكان لرجل إبل فباعها واشترى غنما لئلا تعزب ثم عزبت غنمه فقال: إنّما اشتريت الغنم حذار العازبة، فذهبت مثلا. ومضربه واضح من هذا.

 

إنّما القرم من الأفيل

 

.القرم بالفتح: الفحل من الإبل وكذا الأقرم: والأفيل على مثل أمير: الفصيل وأبن المخاض فما فوقه؛ والجمع إفال، على مثل جبال. قال زهير:

 

فاصبح يجري فيهم من تلادكم ... مغانم شتى من إفال مزنمٍ

 

و قال آخر:

 

فإني لا تبكي عليَّ إفالها ... إذا شبعت من روض أوطانها بقلا

 

و المعذي إنَّ الجمل إنّما يكون قرما بعد ما يكون صغيرا أفيلا. فيضرب في أنَّ الأمر الكبير ينشأ عن الأمر الصغير، على نحو مر في أنَّ السقط يحرق الحرجة، وما يأتي في قولهم: العصا من العصية، ونحوه كثير.

 

إنّما هو كبارح الأروى.

 

البارح من الظباء والطير وغيرها: ما ولاَّك مياسرة، وهو أنَّ يمر من ميمنتك إلى ميسرتك. يقال: برح الظبي ونحوه بفتح الراء، بروحا، فهو بارح؛ وعكسه: السانح. والعرب تتيمن بالسانح، وتتشائم بالبارح. وسنذكر ما في ذلك بعده إن شاء الله تعالى. والأروى بفتح الهمزة والواو مقصورا جمع أروية بضم الهمزة وكسرها مع تشديد الياء أو اسم جمع لها والأروية: أنثى الأوعال. ويضرب هذا المثل للمر النادر القليل لأن الأروى مسكنها قمم الجبال. فلا يوجد منها بارح في الدهر إلاّ نادرا ولا سانح.


إنَّ مع اليوم غدا.

 

يضرب في تنقل الحالات وتبدل الساعات. وذلك لأن الخير والشر لمّا كانا متقاربين وكان زمانهما في علم الله تعالى مقسطين مقدرين علم أنَّ الشر متى حدث في زمن فللخير زمان يقابله يحدث فيه فعبر عن هذين الزمنين باليوم والغد لمّا بين اليوم والغد من التقابل بل كالذي بين الزمنين. فإذا وقع بك شر فذلك بوم الشر وللخير زمان يترقب هو عند ذلك اليوم فتقول تسليا: إنَّ مع اليو غدا.


وكذا في العكس كما قيل:

 

يا من يخاف أنَّ يكون ... ما يكون سرمدا

 

أما سمعت قولهم ... إنَّ مع اليوم غدا

 

و قال علي بن الجهم لمّا حبسه المتوكل:

 

صبراً فإن اليوم يتبعه غد ... و يد الخليفة لا تطاولها يدُ

 

ولكل خير معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عما يحمدُ

 

لا يؤنسنك من تفرج كربتة ... خطبٌ رماك به الزمان الأنكدُ

 

كم من عليل قد تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعوَّدُ

 

و قال معن بن أوس المزني:

 

وأني أخوك الدائم العهد لم أخن ... و إن زال خصمٌ أو نبا بك منزلُ

 

وإن سؤتني يموا صبرت إلى غدٍ ... ليعقب يوما آخرٌ منك أولُ

 

و لمّا خرج المتوكل العباسي إلى دمشق ركب يوما إلى رصافة هشام بن عبد الملك بن مروان فنظر إلى قصرها. ثم خرج فرأى ديرا هناك قديما حسن البناء بين مزارع وأشجار ورياض وأنهار فدخله. فبينما هو يطوف به إذ رأى رقعة بصدره. فأمر بها فأزيلت وأتوتي بها فإذا فيها:

 

يا منزلا بالدير أصبح خالياً ... يلاعب فيه شمأل ودبورُ

 

كأنك لم يسكنك بيض نواعم ... و لم يتبختر في فنائك حورُ

 

وأبناء أملاك غواشم سادةٌ ... صغيرهم عبد الأنام كبيرُ

 

إذا لبسوا ادرارهم فعوابسٌ ... و إن لبسوا تيجانهم فبدورُ

 

على أنهم يوم اللقاء ضراغمٌ ... و أيديهم يوم العطاء بحورُ

 

ليالي هشام بالرصافة قاطنٌ ... و فيك ابنه يا دير وهو أميرُ

 

إذ الدهر غض والأخلافة لدنٌ ... و عيش بني مروان فيك نضيرُ

 

وروضك مرتاد ولونك مزهرٌ ... وعيش بني مروان فيك قريرُ

 

بلىفسقاك الله صوب غمامة ... عليك لها لعد الرواح بكورُ

 

تذكرت قومي خالياً فبكيتهم ... بشجو ومثلي بالبكاء جديرُ

 

فعزيت نفسي وهي نفسٌ إذا جرى ... لها ذكر قومي أنه وزفيرُ

 

لعل زماناً جار عليهم فلم يكن ... لهم بالذي تهوى النفوس يدورُ

 

فيفرح محزونٌ وينعم بائسٌ ... و يطلق من ضيق الوثاق اسيرُ

 

رويدك إنَّ اليوم يتبعه غدٌ ... و إنَّ صروف الدائرات تدورُ

 

فلما قرأها المتوكل ارتاع وتطير وقال: أعوذ بالله من شر أقدارهواستدعى صاحب الدير وسأله عن الرقعة فقال: لا علم لي بهاويذكر إنّه رجع حينئذ إلى بغداد فلم يلبث إلاّ أياما قلائل حتى قتله ابنه المنتصر رحمه الله تعالى. وقال الحماسي:

 

عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلاً أنَّ يكون له غدُ

 

والشعر في هذا المعنى كثير.

 

إنَّ من بالنجف من ذي قدرةٍ لقريبٌ.

 

النجف، بفتحتين: الموضع المرتفع لا يعلوه الماء. والنجف هنا: موضع بقرب الكوفة، وكان قوم من أهل الكوفة فروا من الطاعون إلى هذا الموضع فقال شريح: إنَّ من بالنجف من ذي قدرة لقريب. يضرب مثلا للأحداث والأقدار وأنَّ لا ملجأ منها لديار.

 

إنَّ من البيان لسحراً.

 

هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم وتقدم شرحه في فضل الشعر. وسببه أنَّ بني تميم وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عمراً عن الزبرقان بحضوره فقال: مطاع في أدنيه شديد العارضة في قومه مانع لمّا وراء ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله إنّه ليعلم مني اكثر من ذلك ولكنه حسدني. فقال عمرو: أما والله إنّه لزمن المرءة ضيق العطن ائيم الخال أحمق الولد. ثم قال: والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الأخرى ولكني رجل رضيت فقلت أحسن ما علمت وغضبت فقلت أقبح ما علمت. فقال صلى الله عليه وسلم:إنَّ من البيان لسحراًوقد بين أبن الأهتم بكلامه المذكور وجه الأمر في باب المدح والذم: فإنَ العرب كثيرا ما يمدحون الشيء ثم يذمونه بعينه حتى يكاد العقل يحكم بتناقض كلامهم وتهافت مقالهم. وليس فيه مناقضة وإنّما ذلك لاختلاف النظر كما قال عمرو المذكور.


وبيان ذلك أنَّ جميع الكائنات التي هي بصدد التغيرات والآفات لا تخلو عن صفة كمال يتجلى الله بها فيها بالوصف الجمالي وصفة نقصان يتجلى الله تعالى بها فيها بالوصف الجلالي. فكل مخلوق مشتمل على محاسن ومساوئ أما تحقيقها كرجل يكون جوادا وحكيما وهو جبان أو شرير أو قبيح المنظر؛ وأما بوجه واعتبار وذلك أيضاً: أما تحقيقا لاختلاف النظر بحسب تعدد الموجب وتباينه أما عادة وشرعا كسفك الدماء ظلما يمدح عادة ويذم شرعا؛ وكالصمت والتعفف يكون غالبا بالعكس أو عادة وعادة ككثير من أوصاف الخلقة وأنواع الزينة والملابس والمراكب ونحو ذلك مما تختلف فيه العادات استحسانا واستقباحا وقد يختلف الأمر بحسب المكان والزمان والأقران والأحوال وذلك أمر لا ينحصر. وإنّما تخيلا وذلك أما بحسب التشبيه كالورد يحسن عندما يشبه بالخدود النواضر، ويقبح عندما يشبه بسرم البغل؛ وأما بحسب النظر والاعتماد على شبهة كالعسل، بعد كونه حسنا يقبح من حيث إنّه قيء زنبور؛ وكبذل المال جودا وسخاءً بعد كونه حسنا يقبح من حيث إنّه إتلاف للأموال وإضلعة لها وإفقار محوج إلى التذلل بالسؤال. وهذا تخييل أدى قوما من البخلاء إلى التصريح بالثناء على البخل الذي أجمع العقلاء على ذمه. وألف سهل بن هارون منهم في ذلك تأليف وقال قائلهم:


يا رب جودٍ فقر امرئ ... فقام في الناس مقام الدليل

 

فاشدد على مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل

 

و قد عرفت بهذه الجملة إنّه يمكنك أنَّ تمدح الشيء وتذمه بحسب اختلاف اعتباراته من غير تهافت في الكلام ولا تناقض: فإنَ التناقض غير لازم إلاّ لو أردت حسنا وقبحا ومدحا وذما على محل واحد باعتبار واحد، لكن توارده على محلين؛ أو باعتبارين كما بينا. والتفطن لهذه المحال واستخراج هذه الاعتبارات الدقيقة هو مرمى البلغاء، ومجال فرسان الشعر والخطباء وهو محط البيان والسحر الحلال، كما وقع في القصة السابقة: فليس الكلام بمجرد الجمع والتلفيق، ولا الشعر بمجرد الوزن والتقفية كم قيل:

 

إذا كنت لا تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وزانٌ وما أنا شاعرُ

 

وهذا كلام ليس من غرضنا ولكن الحديث شجون. وسنذكر بعد ما للشعراء في مدح الشيب والهرم وذمه ومدح طول الليل وذمه ونحو ذلك. ولنذكر الآن بعض ما ورد مما يدل على ما ذكرنا زيادة على القصة المذكورة. قال مسلمة بن عبد الملك لأخيه هشام: كيف تطمع في الخلافة وأنت بخيل وأنت جبان فقال: لأني حليم وأني عفيف. وقالت للحصين بن المنذر امرأته: كيف سدت وأنت دميم بخيل فقال: لأني سديد الرأي شديد الأقدام.

 

وصعد خالد بن عبد الله القسري منبر مكة أميرا للوليد بن عبد الملك فأثنى على الحجاج خيرا. فلما كانت الجمعة التالية، وقد مات الوليد، ورد عليه كتاب سليمان يأمره بشتم الحجاج وذكر عيوبه وإظهار البراءة منه. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّ إبليس كان يظهر من طاعة الله عز وجل ما كانت الملائكة ترى له بها فضلا، وكان الله قد علم من غشه ما خفي عن ملائكته. فلما أراد فضحه ابتلاه بالسجود لآدم فظهر لهم ما خفي عنهم فلعنوه. وإنَّ الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له بها فضلا وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين على غشه أو نحوه فالعنوه لعنه اللهثم نزل. وكان العباس بن علي عم المنصور يأخذ الكأس بيده ثم يقول لها: أما المال فتتلفين وأما المروءة فتخلقين وأما الدين فتفسدين. ويسكت ساعة ثم يقول: أما النفس فتسحين وأما القلب فتشجعين وأما الهم فتطردين؛ أتراك مني تفلتين ثم يشربها.

 

ويحكى أنَّ عيسى عليه السلام ما عاب شيئا قط فمر بكلب ميت فقال أصحابه: ما أنتن ريحهفقال عيسى عليه السلام: ما أحسن بياض أسنانهوكتب يزيد بن معاوية في كتاب إلى عبيد الله بن زياد حين ولاه محاربة الحسين رضي الله عنه وأرضاه وأرغم أنوف واتريه، وكان قبل ذلك سيئ الاعتقاد فيه: أما بعد، فإنَ الممدوح مسبوب يوما وإنَّ المسبوب ممدوح يوما. وما ورد من هذا المعنى كثير فلنقتصر لئلا نطيل.

 

إنَّ من الشعر لحكمة.

 

تقدم هذا أيضاً في فضل الشعر مبينا. وقد حكي أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: يا كعب، هل تجد للشعر ذكرا في التوراة فقال كعب: أجد في التوراة قوما من ولد إسماعيل أنا جيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة ويضربون الأمثال لا نعلمهم إلاّ العرب.


إنَّ من الشر خيراً.

 

يضرب عند تفاوت ما بين الشرين حتى يكون الأدنى خيرا بالقياس إلى الأعلى. وهو قريب من قولهم: بعض الشر أهون من بعض. وسيأتي.

 

إنَّ منكم منفَّرين.

 

قد يتمثل به. وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حين شكي إليه تطويل أصحابه بالناس في الصلاة، فقيل له: ما كدنا ندرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فغضب وقال ذلك وقال: فمن صلى منكم بالناس فليخفف، فإنَ فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة أو كما قال صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيح.

 

إنَّ الهدايا على مقدار مهديها.

 

وهو موجود في شعر وهو:

 

جاءت سليمان يوم العرض هدهدةٌ ... أهدت إليه جراداً كان في فيها

 

وأنشدت بلسان الحال قائلةً: ... إنَّ الهدايا على مقدار مهديها

 

لو كان يهدي إلى الإنسان قيمته ... لكان يهدى لك الدنيا وما فيها

 

وهذه القصة تذكر في حرف الميم إن شاء الله تعالى. والمثل ظاهر المعنى.

 

أهل مكة أعرف بشعابها.

 

مكة معروفة، زادها الله شرفا. والشعاب جمع شعب وهو من الأرض بكسر الشين، ومن الناس بفتحها. وهذا مثل مشهور شائع الاستعمال، يضرب للمباشر للشيء والمخالط له إنّه أخبر به وأبصر بحاله وأعرف كقول القائل: وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.

 

أينما أذهب ألق سعداً.

 

قاله الأضبط بن قريع السعدي وكان غاضب قومه سعد بن مناة بن تميم فتجول في القبائل. فلما لم بجد منهم من يحمد عشرته، رجع وقال: أينما أذهب ألق سعداً، أي أينما ذهب من الأرض ألق قوما ألقى منهم مثل الذي لقيت من سعد. ومضرب المثل واضح وسيأتي أيضاً


أيُّ داءٍ أدوى من البخلِ

 

الداء: المرض. يقال: داء الرجل يداء دواء وداء واداواء، فهو داء ومديء وأدأته أيضاً: أصبته بمرض، لازم منعد والبخل معروف. وهذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه نفر من الأنصار فقال: من سيدكم قالوا الجد بن قيس على بخل فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي داء أدوى من البخل بل سيدكم الأغر الأبيض عمرو بن الجموح. فقال شاعرهم في ذلك:

 

وقال رسول الله والحق قوله ... لمن قال منا من تعدون سيدا

 

فقلنا له: جد بن قيس على التي ... نبخله فيها وإن كان أسودا

 

فتى ما تخطى خطوة لدنيةٍ ... و لا مد في يوم إلى سوءةٍ يدا

 

فسود عمرو بن الجموح لجوده ... و حق لعمرو بالندى أنَّ يسودا

 

إذا جاءه السؤال أنهب ماله ... و قال خذوه إنه عائدٌ غدا

 

فلو كنت باجد بن قيس على التي ... على مثلها عمر لكنت المسودا

 

إياك أعني واسمعي يا جارة

 

هذا مثل مشهور الاستعمال عند التعريض بإضهارك شيئاً وأنت تريد شيئاً وهو لنهشل بن مالك الفزاري في شعر له. وسببه أنه خرج يريد النعمان بن المنذر فمر ببعض أحياء طيء فسأل من سيد الحي فدل على حارثة بن لأم الطائي فقصد رحله فلم يصبه حاضراً. فقالت له أخت حارثة: انزل على الرحب والسعة حتى يلحق حارثة. فأنزلته وأكرمت مثواه. ثم إنّه رأها وقد خرجت من خباء إلى خباء. فرأى جمالها باهرا، وحسنا فاتنا. وكانت عقيلة قومها وسيدة نساء حيها. فوقعت من قلبه كل موقع وجعل يقول:

 

يا أخت خير البدو والحضاره ... كيف ترين في فتى فزارة

 

أصبح بهوى حرة معطاره ... إياك أعني واسمعي يا جارة

 

فعرفت أنه يريدها فقالت: ما هذا بقول ذي عقل أريب ولا مصيبي ولا أنف نجيب. أقم ما أقمت مكرما وارتحل إذا ارتحلت مسلمافاستحى وقال: واسوأتاهفقالت: صدقتوارتحل وأتى النعمان، فاكرمه وحياه فلما رجع نزل على أخيها حارثة وتبعت نفسه الجارية وكان جميلا محبوبا. فأرسلت إليه الجارية: إن كانت لك حاجة فاخطبني إلى أخي فإني سريعة إلى ذلك. فخطبها وتزوجها فسار بها إلى أهله.

 

ومما ينسج على هذا النمط ويسلك في هذا السفط قولهم: أخذ فلان رمح أبي سعد إذا اتكأ على العصا هرما. وأبو سعد قيل هو لقمان الحكيم وقيل هو كنية الكبر والهرم. وقيل مرثد بن سعيد أحد وفد عاد،و قد تقدم. وقولهم: أخذ بلغب رقبته بفتحتين إذا أدركه. وقولهم: أخذ بحذافيره أي بأجمعه. ويقال بحذاميره، وبأجمعه وجراميزه وجذاميره وبربانه، بفتح الراء وضمها، وبصنابته وسنابته وبجلمته وجلمته وبزغبره ز بزوبره وأنشدوا:

 

وإن قال غاو من تنوخ قصيدة ... بها حرب عدت عليَّ بزوبرا

 

و بزابره وبصبرته وأصباره وبوأبجه وزأمجه وبأصيلته وبطليقته، وبأزمله. فهذه كلها معناها واحد.

 

ويقال معنى: بربانه وبحداثته: بأوله وابتدائه. وقال:

 

وإنما العيش بربانه ... و أنت من أفنانه مفتقر

 

وقولهم: إذا وجدت الظباء الماء فلا عباب، وإن لم تجده فلا أباب، أي إن وجدته لم تعب فيه وإن لم تجده لم تؤب إليه أي لم تتهيأ لطلبه.

 

وقولهم: إذا بلغ الرجل الستين، فإياه وأيا الشوابوقولهم: أكل فلان روقه إذا أسن. والمعنى أنه أكل شبابه وأفناه. يقال: فعله في روق شبابه وريقه، أي أوله. وكأنه ماخوذ من روق البيت ورواقه وهي الشقة في المقدمة. وقولهم: أنك بمحش صدق فلا تبرحهأي أنك بموضع الخير فالتزمهوالمحش، بالحاء المهملة والشين المعجمة على مثال مرد: الموضع الكثير الحشيش وقولهم: إنه أحد الأحدين، وواحد الأحدين، وإحدى الأحد، أي لا مثل له، وهو ابلغ المدح. قولهم:

 

إنه ابن إحداها

 

أي كريم الأباء والأمهات. وقولهم:

 

إن كذبت فحلبت قاعداً

 

أي ذهبت إبلك، فحلبت الغنم. وقولهم:

 

إن كذبت فشربت عبوقاً بارداً

 

أي ذهبت الماشية فشربت الماء. وقولهم:

 

إنَّ فلاناً لتدب عقاربه

 

أي يتعرض أعراض الناس. وقولهم:

 

إنّه لفي حور بور

 

وبضم الحاء المهملة والباء الموحدة، أي في ضلال أو في غير صنعة قولهم:

 

إنّه لوابصة سمع

 

أي يثق بكل ما يسمع. وقولهم: إنّما فلان هامة اليوم أو غدٍ، إذا كان مسنا، أي يموت في يومه أو غده. والهامة: طائر يخرج من رأس الميت. يزعمون إنّه إذا قتل القتيل خرج من رأسه طائر، فلا يزال يصيح: اسقونيحتى يقتل قاتله، كما قيل:

 

يا عمرو، إلاّ تدع شيمتي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة: اسقوني

 

و قال دريد بن الصمة فيما نحن فيه:

 

وهون وجدي إنّما هو فارط ... إمامي وإني هامة اليوم أو غد

 

و قال كثير:

 

فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد

 

وكل خليل زارني فهو قائل ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد


وكأنه اعتبر هنا المعنى المقصود فقط دون السن. وتمثل بهذين البيتين يزيد حين ماتت جارية حُبابة في القصة المشهورة.

 

ومن الأمثال العامية في هذا الباب قولهم: " إذا أراد الله إهلاك النملة جعل لها أجنحة تطير بها " ، يضرب للمتسبب سببا يعطب به، لأن الطير يصيدها إذا طارت. وإلى هذا المثل أشار أبو العتاهية بقوله:

 

وإذا استوت للنمل أجنحةٌ حتى يطير فقد دنا عطبه

 

وكان الرشيد كثير ما يتمثل به عند نكبة البرامكة. وقولهم:

 

إذا امتلأت القربة ترشحت.

 

يضرب للرجل تكثر ذات يده، فلا بد أنَّ ينال شيء مما عنده. وقول أبي محمّد: أنا عربيد، وأنت رعديد، وبيننا بونٌ بعيد. والعربدة: سوء الخلق؛ والعربيد والمعربد: الموذي نديمة عند السكر. والرعديد، الجبان الفزاع. والبون: الفضل والمقدار. وقولهم: إنَّ لم تجدوا ناراً فاقلوا قليةيضرب لمن استحمق فطلب أمراً حيت المظنة عدمه. وقولهم: الآن يمد أبو حنيفة رجلهزعموا إنَّ الأمام أبا حنيفة، رحمه الله، كان به ذات مرة ألم في رجله، فكان يمدها في المجلس بين يدي أصحابه. ثم إنّه يوماً حضر مجلسه رجل ذو هيئة كث اللحية لا يعرفه، فتوهمه فقيها وقبض رجله استحياء وصبر على ذلك مدة، والرجل لا يتكلم بشيء فبان له منه خلاف الظن، فمد رجله وقال ذلك.


هذا ما تيسر إيراده في هذا الباب من منثور الأمثال، بحمد ذي المن والافضال. وقد كنت أردت إنَّ أقتبس الأمثال المضروبة في الشعر وأجلبها، وأودع كل باب من هذا الكتاب جملة وافرة منها، مشروحة مع التنبيه على شجرتها، واصل ثمرتها. ثم بدا لي أنَّ ذلك بحر لا يدرك غوره، ومنزع لا ينال طوره. فرأيت أنَّ اقتصر على إيراد الأمثال النثرية، وإردافها بالأمثال الشعرية، متضمنة لمّا ضرب فيها إلاّ أنَّ يكون شيء قد انتزع قبل فأذكره. ورأيت أنَّ انبه في هذا الباب خصوصا على بعض ذلك ليقيس عليه من احب استعماله مستغنياً بذلك عن إعادة مثله في كل باب، فأقول:


أبى منبت العيد اَنِ أنْ يتغير.

 

أخذناه من قول جميل بن عبد الله بن معمر العذاري:

 

بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء صدق يلقهم حيث سيرا

 

أرى كل عودٍ نابتا في أرومةٍ ... أبى منبت العيدان أنَّ يتغيرا

 

وقبل هذين البيتين يخاطب الحجاج:

 

أبوك حبابٌ سارق الضيف رحله ... و جدي يا حجاج فارس شمرا

 

و شمر: اسم فرس أنثى،و آباء الصدق: آباء الخير ز الصلاح والكرم. ومعنى سير أكثر السير.

 

والمعنى أنَّ من كان كريم الأصل، رفيع الحسب، جرى على ذلك حيثما ذهب،و كيفما انقلب.

 

والأرومة، بفتح الهمز، وتضم، الأصل. قال زهير:

 

صبحنا الخزرجية مرهفات ... أبار ذوي أرومتها ذووها

 

و الجمع أروم. قال أيضاً:

 

له في الذاهبين أروم صدقٍ ... و كان لكل ذي حسب أروم

 

وقوله: أبى منبت العيدان اَنِ الخ: يريد الناس أصول مختلفة، وأعراق متباينة، كما في حديث: الناس معادن، وكل أحد باق على أصله: فمن كان من أصل كرم لم يتحول منه، ومن كان من أصل لؤم لم ينحرف عنه وجعل الناس أعواداً وأعرقها منابت على طريق التمثيل.

 

إنَّ المحب لمن يهواه زوار.

 

طلع رجل من حجيج المغرب إلى عرفة، فلقي شيخا كبيراً، فقال له الشيخ: من أين أنت قال: من المغرب. قال: كم بينكم وبين هذا البيت قال: نحو ستّة أشهر فقال الشيخ: اتحجون كل عام قال: ل. فقال: الشيخ لو كنا منكم لم يفتنا الحج أبداً. فقال له الرجل: وممن أنت قال: من كذا بلد، بعيد بمسيرة عام أو نحوه وانشد:

 

زر من تحب وإنَّ شطت بك الدار ... و حال من دونه سهل وأوعار

 

لا يمنعنك بعد عن زيارته ... إنَّ المحب لمن يهواه زوار

 

والهوى: العشق في الخير والشر. يقال: هويته بالكسر يهواه هوى، مقصور.


والزوار: الكثير الزيارة. وكان بشر بن مروان شديد على العصاة، وكان إذا ظفر بالعاصي أقامه على كرسي وسمر كفيه بالمسامير على الحائط، ثم نزع الكرسي من تحته، فيبقى معلقا يضطرب حتى يموت. وكان فتى من بني عجل مع المهلب بن صفرة في حروب الازارقة، وكان عاشقا لابنة عم له. فكتب إليه تستزيره فكتب إليها:

 

لو لا مخافة بشر أو عقوبته ... و أنَّ يشد على كفي مسمار

 

إذا لعطت ثغري ثم زرتكم ... إنَّ المحب إذا ما اشتاق زوار

 

فكتبت إليه:

 

ليس المحب الذي يخشى العقاب ولو ... كانت عقوبته في إلفه النار

 

بل المحب الذي لا شيء ينفعه ... أو يستقر ومن يهوى به الدار

 

فلما كتبها عطل ثغره وجاءها وهو يقول:

 

أستغفر الله إذ أخشى الأمير ولم ... اخش الذي أنا منه غير منتصر

 

فشأن بشر بلحمي فليعذبه ... أو يعف عفو أمير خير مقتدر

 

فما أبالي إذا أمسيت راضية ... يا هند ما نيل من شعري ومن بشري

 

فلم يلبث إنَّ وشي به إلى بشر فأتي به فقال: يا فاسق، عطلت ثغرك، هلم بالكرسيفقال: عز الله الأميرإنَّ لي عذراً فقال: وما عذرك فأنشده الأبيات، فرق له وكتب إلى المهلب أنَّ يثبته في أصحابه.

 

إنَّ الحر حر

 

أخذناه من قول الشاعر:

 

عرضت نصيحة مني ليحيى ... فقال غششتني والنصح مر

 

ومالي أنَّ أكون أعيب يحيى ... و يحيى طاهر الأثواب بر

 

ولكن قد أتانا أنَّ يحيى ... يقال عليه في نقعاء شر

 

فقلت له: تجنب كل شيء ... يعاب عليك إنَّ الحر حر

 

والشاعر هو مخيس بن أرطأة الأعرج يخاطب رجلا من بني حنيفة يسمى يحيى كان يأتي امرأة في قرية من قرى اليمامة، وهي التي سماها في الشعر. وقوله إنَّ الحر حر، أي إنَّ الحر باق على ما عهد في الأحرار من الهمم العلية، والأخلاق الزكية، ومجانبة الريب، والحذر من سوء المنقلب.


ومثله قول أبي النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري، أي شعري هو ذلك المعروف بجزالته وفصاحته وسلاسته.


وكذلك قولهم: الناس أي هم على ما عهد فيهم.

 

ومثل ذلك قول العامة: الحر لا يكون إلاّ حراً، والرجل لا يكون إلاّ رجلاً والعبد لا يكون إلاّ عبداً. ونحو هذا يضربونه عند تقصير الإنسان عن بعض ما يحق له أو تعاطيه مالا ينبغي له.


وقوله تجنب كل شيء يعاب عليك، هذا من حفظ المروءة. قيل الأحنف بن قيس: بم بلغت ما بلغت فقال: لو عاب الناس الماء ما شربته. وقيل لعبد المالك بن مروان، وقد بالغ في الثناء على المصعب بن الزبير رضي الله عنه يوم قتله: أ كان المصعب يشرب الطلا فقال: لو عيب ما شربه. ووصف عمرو بن العاصي بعض الأشراف فقال: إنّه أخذ بثلاث، تاركٌ لثلاث: آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، ويحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر الأمرين عليه إذا خولف؛ تاركٌ للمراء، تاركٌ لمقاربة اللئيم، تاركٌ لمّا يعتذر منه. وقال أعرابي يوصي صديقاً له: دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإنَّ كان عندك اعتذاره: فليس من حكى عندك نكراً، توسعه فيك عذراً. وهذا كما قال الأول:

 

قد قيل ما قيل إنَّ صدقاً أو كذباً، ... فما اعتذارك من قولٍ إذا قيلا

 

إنَّ الحسان مظنة للحاسد.

 

أخذناه من قول الحماسي:

 

بيضاء آنسة الحديث كأنها ... قمر توسط جنح ليل مبرد

 

موسومة بالحسن ذات حواسد ... إنَّ الحسان مظنة للحاسد

 

الحسان جمع حسناء. يقال: جارية حسناء وحسنة وحسانة على مثال رمانة، فهم حسان وحسانات، ورجل حاسن وحسن. وحسين وحسان بضم الحاء مع تشديد السين وتخفيفها، فهم حسان وحسانون. ومظنة الشيء بكسر الظاء: موضع يضن فيه وجوده. والحسد جنع حاسد وحاسدة. والمعنى أنَّ الحسناء مظنة لأن تحسد على حسنها. وكذا كل من له فضيلة ما مزية ما فهو مظنة لأن يحسد كما يقال: كل ذي نعمة محسود. ومن يمتدح بكثرة الحساد ويذم بقلتهم لأن وجود الحساد كناية عن وجود الفضل والنعمة كما قيل:

 

حسدوا مروءتنا فضلل سعيهم ... و لكل بيت مروءة أعداءُ

 

و قال آخر:

 

إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا

 

فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... و مات أكثرنا غيظا بما يجدُ

 

أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرا منها ولا أردُ

 

و قال أبو الأسود أو غيره:

 

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداءٌ له وخصومُ

 

كضرائب الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً إنّه لدميمُ

 

و قال عمار بن عقيل بن بلال بن جرير:

 

ما ضرني حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو النقصان

 

و قال بشار:

 

لا عشت خلوا من الحساد إنهم ... أعز فقداً من الائي أحبوني

 

أبقى لي الله حسادي برغمهم ... حتى يموتوا بداء غير مكنون

 

و قال محمود:

 

أعطيت كل الناس مني الرضى ... إلاّ الحسود فانه أعياني

 

لا أنَّ لي ذنباً لديه علمته ... إلاّ تظاهر نعمة الرحمنِ

 

و قال أبن أبي الطاهر:

 

ولم يزل ذو النقص من نقصه ... يحسد ذا الفضل على فضله

 

و قال الآخر: ونعمة الله مقرونٌ بها الحسدُ وقال الآخر: ولن ترى للئام الناس حساداً

 

إنَّ التخلق يأتي دونه الخلُقُ.

 

أخذناه من قول الحماسي:

 

عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إنَّ التخلق يأتي دونه الخلق

 

و الخلق بضم الخاء واللام وتسكن: السجية والطبع؛ وتخلق الرجل بغير خلقه: تكلف ذلك. والمعنى إنَّ السجايا لا تزول، والخلائق القديمة لا تحول كما قيل:

 

يرام من القلب نسيانكم ... و تأبى الطباع على الناقل

 

و من كلام العامة: تنتقل الجبال ولا تنتقل الطباع: فمتى تخلق الإنسان بغير خلقه وتكلف ما ليس في طوقه لقى العناء الشديد أو افتضح غير بعيد كما قال حسان: إنَّ لا خلائق فاعلم شرها البدع وسيأتي إتمام المعنى في قولهم: الطبع أملك في حرف الطاء إن شاء الله تعالى.

 

إنَّ السم مشروب.

 

أخذناه من قول الحماسي عبد الله بن عنمة الضبي:

 

ما إن ترى السيد زيداً في نفوسهم ... كما تراه بنو زيد ومرهوبُ

 

إن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... والدرعُ محقبة والسيفُ مقروبُ

 

وإن أبيتم فإنا معشرٌ أنفٌ ... لا نطعم الخسف إنَّ السم مشروبُ

 

فازجر حمارك لا يرتع بروضتنا ... إذا يرد وقيد العير مكروبُ

 

السيد بالكسر: قبيلة من ضبة؛ وزيد ومرهوب: حيان من ذهل بن شيبان. يقول: إنكم لا تعظمون في نفوسنا كما يعظم بعضكم في نفوس بعض؛ فإنَ طلبتم الحق أعطيناه وكان السلم بيننا حتى تكون الدرع محقبة أي مجعولة في الحقائب وهو مؤخر الرحال وتكون السيوف مقروبة أي مجعولة في قربها لعدم الحاجة إلى استلالها. وقوله: أنف جمع أنوف. والخسف: الظلم والذل. والمعنى: إننا نمتنع أن تلمسنا يد الظالم ونعاف أن نطعم الهوان والضيم ويهون علينا في نيل العزة والارتفاع تجشم غمرات الدفاع واصطلاء جحيم القراع حتى نشرب سموم الموت المنقعة بأطراف الأسنة المشرعة. وضرب الطعم لنيل الهوان، وشرب السم للموت والألم مثلا.

 

إنَّ الكريم إذا خادعته انخدع.

 

هذا في شعر لم أثبته الآن. وقد تمثل بهذا المثل الرشيد وذلك إنّه سخط على حميد الطوسي فدعا له بالنطع والسيف لتضرب عنقه. فلما أخذ من بين يديه لتضرب عنقه بكى فقال له الرشيد: ما يبكيك أجزعاً من الموت قال: لا ولكن بكيت أن أخرج من الدنيا وأمير المؤمنين عليَّ ساخط. فضحك الرشيد وأنشد: إنَّ الكريم إذا خادعته انخدع ثم وهبه للحسن بن قحطبة.

 

إنَّ ليتاً وإنَّ لوّاً عناءُ.

 

أخذناه من قول الحماسي:

 

إنّما مت غير أني حيّ ... يوم بانت بودها الحسناءُ

 

من بني عامرٍ لها شطر قلبي ... قسمةٌ مثل ما يشقُ الرداءُ

 

أشربت لون صفرة في بياضٍ ... و هي في ذاك لدنةٌ غيداءُ

 

كل عينٍ متى تراها من ... الناس أليها مديمة حولاءُ

 

ليت شعري وأين مني ليت ... إنَّ ليتا وإنَّ لوا عناءُ

 

و أراد بالليت الضمني وجعله اسمه كقوله: ليت وهل ينفع شيئا ليت ولو هنا هي التي تكون للتمني نحو: لو تأتينا فتحدثنا. وجعله اسما كقوله:

 

ألامُ على لو ولو كنت عالما ... بأذناب لو لم تفتني أوائله

 

و العناء: المشقة والتعب. يريد أنَّ ما ذكر بعيد المطلب فتمنيه مشقة وتعب. وللبيتين الأولين قصة ظريفة وهي إنّه فيما يزعمون لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قاضٍ يميل إلى سماع الشعر فطرب لذلك طربا شديدا وقام من مجلسه وأخذ نعاله وعلقهما في أذنيه وجعل يقول: أهدوني فإني هديةفبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فعزله. قال: لم عزلتني امرأته طالق لو سمعها لقال: أركبوني فإني مطيةفلما بلغ خبره عمر أمر أن يؤتى به مع الجارية. فلما جلسا بين يديه قال له: مرها أن تغني بذلك الغناءفلما غنت اضطرب عمر لذلك اضطرابا شديدا ودخلته الأريحية واستعاد الصوت منها مرارا وبكى وقال للقاضي: قد قاربت يمينك ورده إلى قضائه.


أي الرجال المهذبُ

 

أخذناها من قول النابغة يعتذر للنعمان:

 

ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمهُ ... على شعثٍ أي الرجال المهذبُ

 

و التهذيب: التصفية والتنقيح؛ والرجل المهذب: المطهر الأخلاق. والاستفهام للنفي أي لا رجل يكون أبدا حسن الفعال طاهر الخلال محمود الخصال إلاّ من عصم كقول الآخر:

 

من ذا الذي ما ساء قط ... و من له الحسنى فقط

 

و إذ بينا يقال هذا البيان على تيسر من الأمثال النثرية فلنلم بشيء من الأمثال الشعرية أو ما يكون جاريا على منهاجها وماضيا على أدراجها قال الحماسي أمية بن أبي الصلت الثقفي يمدح عبد الله بن جدعان القريشي التيمي:

 

أ أذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنَّ شيمتك الحياءُ

 

وعلمك بالحقوق وأنت فرعٌ ... لك الحسب المهذب والسناءُ

 

وأرضك كل مكرمةٍ بنتها ... بنو تيمٍ وأنت لها سماءُ

 

خليلٌ لا يغيره صباحٌ عن الخلق الكريم ولا مساءُ

 

إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناءُ

 

تباري الريح مكرمة ومجداً ... إذا ما الكلب أجحره الشتاءُ

 

و الذي يتمثل به كثيرا منه قوله: أأذكر حاجتي . . البيت، وقوله خليل لا يغيره . . البيت، مع الذي بعده وقد يقرن بينهما. والمضرب واضح. وكثيرا ما ينشد السادات الصوفية: كريم ما يغيره صباح، الخ، يتمثلون بذلك عند التنبيه على أنَّ التعرض لمواهب المولى جلة كلمته، ومزيد منحه الجميلة ومنه الجزيلة بطريق الثناء والشكر والذكر وكثرة التحميد والتبجيل والتعبد والمجاهدة، أبلغ من التعرض لذلك بمجرد الدعاء طلبا لنيل حاجة. وهذا ورد في كلام الشارع صلوات الله وسلامه عليه: أفضل الدعاء الحمد للهوقال تعالى: )لئن شكرتم لأزيدنكم(. وهذا مقام يبين في محله. وقال أبو نواس الحسن بن هانئ:

 

دع عنك لومي فإنَ اللوم إغراءُ ... و داوني بالتي كانت هي الداءُ

 

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجرٌ مسته سراءُ

 

حتى قال:

 

لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلةٍ ... كانت تحل بها هندٌ وأسماءُ

 

فقل لمن يدعي في الحب معرفةً ... عرفت شيئاً وغابت عنك أشياءُ

 

و الذي يتمثل به منها كثيرا الشطر الأول والأخير. أما الأول فقد أخذه أبن قلاقس فقال:

 

فدعي الملامة في التصابي واعلمي ... أنَّ الملامة ربما تغريني

 

و اكثر الشعراء في هذا النحو وكلهم مقتبسون منه حائمون عليه. فمن ذلك قول أبن شرف:

 

قل للعذول: لو أطعت على الذي ... عاينته لعناك ما يعنيني

 

أتصدني أم للغرام تردني ... و تلومني في الحب أم تغريني

 

دعني فلست معاقبا بجنايتي ... إذ ليس دينك لي ولا لك ديني

 

و قول الآخر:

 

وما عذولي ناهيا عنكم ... لكنه بالصبر أمارُ

 

قال: اسلهم إن لم تطق هجرهم ... قلت له: النار ولا العارُ

 

وقول الآخر:

 

يقول لي العاذل في لومه ... و قوله زورٌ وبهتانُ

 

ما وجه من أحببته قبلةٌ ... قلت: ولا قولك قرآنُ

 

و قول الآخر:

 

يا عاذلي ليس مثلي من تفنده ... و ليس مثلك مأمونا على عذلي

 

ما دمت خلواً تنفك متهماً ... أعشق وقولك مقبولٌ عليَّ ولي

 

وقوله:

 

من منصفي من عاذل جاهل ... يخون باللوم لمن لا يخونُ

 

إن قلت: ما نصحك إلاّ أذىً ... قال: وما عشقك إلاّ جنونُ

 

وقوله:


إنَّ قوما يلحون في حب سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا

 

سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيبا وأعطوا خبيثا

 

و قول الآخر:

 

أسرفت في اللوم ولم تقتصر ... و زدت في لومك يا ذا العذول

 

قد رضيت نفسي بمحبوبها ... و إنّما المولى كثير الفضول

 

و قول الآخر:

 

تعرض لي اللاحي وجاء يزورني ... و زجرف لي زور الكلام بمينهِ

 

وقال : اسل عن هذا وعد عن غرامه ... فقلت له: هذا الفضول بعينهِ

 

و قول الآخر:

 

زعموا أنني هويت سواكم ... كذبوا ما عرفت إلاّ هواكم

 

قد علمتم بصدق مرسل دمعي ... فسلوه إن كان قلبي سواكم

 

قال لي عاذلي: متى تبصر الرشد ... و تسلو فقالت: يوم عماكم

 

و قول ابن سناء الملك:

 

أيا عاذلي فيه لمّا رآه ... لئن كنت أعمى فإني أصم

 

وهبك أبا ذر هذا الملام ... فأني أبو جهل ذاك الصمم

 

و قوله أيضاً :

 

وصفتك واللاحي يعاند بالعذل ... فكنت أبا ذر وكان أبا جهلِ

 

له شاهدا زور من النهي والنهى ... عليك ومن عينيك لي شاهدا عدلِ

 

و قول آخر:

 

وبي عاذلٌ يغري إلى الجهل لم يخل ... بأني في دعوى الغرام أبو ذرِّ

 

و المراد بهذا الصدق في الهوى. ومن هذا النمط قول آخر:

 

وشادنٍ مبتسمٍ عن حبب ... مورد الخد مليح الشنب

 

يلومني العاذل في حبه ... و ما درى شعبان أني رجب

 

و ذلك لأن شعبان عند العرب يسمى العاذل ورجب يسمى الأصم. ومما نحن فيه قول الآخر:

 

إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى ... أصخت إلى الواشي فلج بها الهجرُ

 

أشار بالشطر الأول إلى أن العذل يغريه. وقول البوصيري:

 

محضتني النصح لكن ليس أسمعه ... إنَّ المحب عن العذال في صممِ

 

و يقرب منه قول عفيف الدين التلمساني:

 

ولي على عاذلي حقوق هوى ... عليه شكري ببعضما يجبُ

 

لام فلما رآه هام به ... فكنت في عشقه أنا السببُ


و قول الآخر:

 

أبصره عاذلي عليه ... و لم يكن قبلها رآهُ

 

فقال لي: لو هويت هذا ... ما لامك الناس في هواهُ

 

قل لي إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواهُ

 

فظل من حيث ليس يدري ... يأمر بالحب من نهاهُ

 

ومن ذلك قول حفص العليمي:

 

أقول لحلمي لا تزعني عن الصبا ... و للشيب لا تذعر عليَّ الغوانيا

 

طلبت الهوى العذري حتى وجدته ... و صيرت في نجدٍ به ما كفانيا

 

وقول الخزاعي:

 

هددت بالسلطان فيك وإنّما ... أخشى صدودك لا من السلطانِ

 

و قول أبي الشيص:

 

أجد الملامة في هواك لذيذةٌ ... حبا لذكرك فليلمني اللومُ

 

و أما بيته الأخير فينشده المتمثلون اليوم:

 

قل للذي يدعي علما ومعرفة ... عرفت شيئا وغابت عنك اشياءُ

 

عجيبة: حكي أنَّ المفضل الضبي قال له الرشيد - دلني على بيت أوّله أكثم أبن صيفي في أصالة الرأي وجودة الوعظة وآخرها بقراط في معرفة الدواء. فقال: يا أمير المؤمنين لقد هولت علي. فقال: هذا قول أبي نواس: دع عنك لومي. وسأل حامدبن العباس عليَّ بن عيسى الوزير فقال له: ما دواء الثمل وقد علق به فأعرض عنه الوزير وقال: ما لنا وهذه المسألة فخجل حامد وإذا بقاضي القضاة أبي عمر قد ورد عليهم فلما قعد سأله حامد عن ذلك فقال القاضي: قال الله تعالى: )و ما آتاكمُ الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استعينوا على كل صنعة بصالحي أهلها والأعشى هو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية وقد فال في ذلك:

 

وكاسٍ شربت على اذة ... و أخرى تداويت منه بها

 

ثم تلاه أبو نواس فقال في ذلك:

 

دع عنك لومي فإنَ اللوم إغراءُ ... و داوني بالتي كانت هي الداءُ

 

فأشرق وجه حامد حينئذ وقال للوزير: ما ضرك يا بارد لو أجبت ببعض ما أجاب به قاضي القضاة، وقد استظهر في الجواب بقول الله تعالى وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الفتيا وأدى المعنى وتبرأ من العهدة فكان خجل الوزير من حامد بهذا الكلام أكثر من حامد منه لمّا ابتدأه بالمسألة.


قلت وهذا الكلام من القاضي كان على مجاراة أهل هذه الصنعة وتبيان ما ثبت في نفس الأمر من بعض منافع الخمر ولم يتعرض للحكم الشرعي من حرمة التداوي بها، لعلمه إن السائل يعرف ذلك، وإلاّ فكان الواجب أن يستدرك عقب كلامه بما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تداوى بالحرام، والله اعلم.

 

واعلم أن التصامم عن العذال قد تقدم في كلام الشعراء كثيراً قبل أبي نواس، كقول زهير في الجود:

 

وأبيض فياضٍ يداه غمامة ... على معتفيه ما تغلب نوافله

 

بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله

 

يفدينه طوراً وطوراً يلمنه ... و أعيى فما يدرين أين مخاتله

 

فأقصرن منه عن كريم مرزءٍ ... عزوم على الأمر الذي هو فاعله

 

غير إنَّ أبا نواس لم يكتف العذل ضائعاً، حتى جعله ناجعاً، في عكس المطلوب، ونقيض المرغوب.

 

ولم يحضرني الآن أسبق بهذا أم لا. وقال الشاعر:

 

ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له: ... إياك، إياك أن تبتل بالماء

 

و هو مثل مشهور يضرب عند إلزام الشخص ترك ما لا محيص له عنه عند وجود سببه، أو ارتكاب مالا قدرة عليه. ومنه التكاليف الشرعية عندنا معشر الاشاعرة عند النظر إلى التحقيق وباطن الأمر، إلاّ أنا نجوز في حق الملك الحق تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد من غير قبح في شيء من ذلك، بل حسن جار على وفق الاختيار، وتصرف من له الاقتدار، ولا سيما بحسب الظاهر. ويقرب من هذا المعنى قول بعض الشعراء في امرأة:

 

سكت فقالت: قد سكت عن الحق ... ففهت فقالت ما دعاك إلى النطق

 

فأومأت هل من حالة بين ذا وذا ... فقالت: وذا الإيماء أيضاً من الحمق

 

فلم أرلي إذ حلت الغرب راحةً ... من الشر إلاّ في المسير إلى الشرق

 

فلما أتيت الشرق ألفيتها به ... و قد قعدت بي منه في أضيق الطرق

 

فيا قوم هل من حيلة تعرفونها

 

و قال الآخر:

 

من غص داوى بشراب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء

 

و مضربه واضح. وفي معناه قول الأول:

 

لو بغير الماء حلقي قد شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري

 

وقول الآخر:

 

إلى الماء يسعى من يغص بأكله ... فقل: أين يسعى من يغص بالماء

 

و قول الآخر:

 

فكيف نجيز غصتنا بشيءٍ ... و نحن نغص بالماء الشروب

 

و قول الآخر:

 

فلو كان هذا الحكم في غير ملككم ... لبؤت به أو غص بالماء شاربه

 

و قول الآخر:

 

مصاحبة المنى خطر وجهلُ ... و كم شرقٍ تولد من زلالِ

 

و قول أبن حبوس:

 

مضى الكرماء صانوا ماء وجهي ... بما بذلوه عن ذل السؤال

 

وها أنا بعدكم في الناس ابغي ... كريماً يشتري شكري بمالِ

 

أرى الاكدار يشرق شاربوها ... فوا شرقي من الماء الزلال

 

و قول الآخر:

 

إني لأذكركم وقد بلغ الظمأ ... مني فأشرق بالزلال الباردِ

 

وأقول ليت أحبتي عاينتهم ... قبل الممات ولو بيوم واحد

 

و قول الآخر:

 

قد كنت عدتي التي أسطو بها ... و يدي إذا اشتد الزمان وساعدي

 

فرميت منك بضد ما أملته ... و المرء يشرق بالزلال الباردِ


و قول الآخر:

 

كنت من محنتي أفر إليهم ... فهم محنتي فأين الفرار

 

و قول أبن سناء الملك:

 

أموت غراما حين احرم وصل من ... هويت وأحيا فرحة حين ارزق

 

وإنَّ الفتى يحيا بما قد يميته ... فبالماء يحيا وهو بالماء يشرقُ

 

و قال البحتري:

 

تداويت من ليلى بليلى فما اشتفى ... بماء الربى من بات بالماء يشرقُ

 

وهو مخالف لمّا قبله باعتبار: فإنَ الأول ناظر إلى جنس الماء وإنّه يكون سببا للحياة والموت باعتباري مساغه والشرق به، وتنظير الأحبة بذلك باعتبار وصالهم وفراقهم صحيح. والثاني ناظر إلى من وقع له الشرق بالماء وإنّه لا ينتفع بالماء لمّا مر في الأناشيد وهو صحيح ولكن التنظير خطأ إلاّ أن يريد الأخبار عما وقع له هو من حصول الوحشة ممن يترقب منه الأنس ولم يلاحظ ما قال أبن ذريح:

 

تداويت من ليلى بليلى من الهوى ... كما يتداوى شارب الخمر بالخمرِ

 

أخذه من قول الأعشى السابق:

 

وكأس شربت على لذةٍ ... و أخرى تداويت منها بها

 

و هذا كله وفق قول أبن سناء الملك. وقال الآخر:

 

يا قوم قلبي عند زهراء ... يسمعه السامع والرائي

لا تدعني إلاّ بيا عبدها ... فانه أشرف أسماءِ

 

يتمثل بالبيت الثاني. وقد تمثل به العلماء في قصة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا، واختياره أن يكون عبدا وهو أشرف الأمرين وأجل فإنَ الإضافة إلى الشرف تفيد شرفا. وأي شرف ومجد وعظمة وجلال وراء عظمة مالك الملك الحق تعالىوأي منزلة أعظم من الانتساب إليه وقال الآخر:

 

سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمد وللأمد انقضاءُ

 

و قبله:

 

أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... تأمل فيك ما صنع العاءُ

 

و تمثل صاحب التشرف بهذا الشعر حين ذكر أنَّ أبا الفضل أبن النحوي دخل فأساً، فلما ظهر أصلب القاضي أبن دبوس منه غيرة وآذاه. فلما أزمع أبو الفضل الخروج قطع تلك الليلة التي يخرج في صبيحتها بسجدة دعا في آخرها وقال: اللهم عليك بابي دبوسفأصبح القاضي ميتا. وقال الآخر وهو معنى رشيق، وكان عتب على الصمت:

 

قالت الضفدعة قولاً ... فسرته الحكماءُ

 

في فمي ماءٌ وهل ينطقُ ... من في فيه ماءُ

 

و قال ذي الرمة:

 

أما النبيذ فلا يذعرك شاربه ... و احفظ ثيلبك ممن يشرب الماءَ

 

قومٌ يرون عما في صدورهم ... حتى إذا استحكموا كانوا هم الداءَ

 

يشمرون إلى انصاف سوقهم ... هم اللصوص وقد يدعون قراءَ

 

و لهذا الشعر قصة وهي أنَّ ذا الرمة اجتمع هو وإسحاق بن سويد العدوي في مجلس. فأتيا بطعام فطعما، وأتيا بنبيذ فشرب ذو الرمة وأبى إسحاق أن يشرب. فقال ذو الرمة: أما النبيذ فلا يذعرك شاربه الأبيات. وقال إسحاق مجيبا له:

 

أما النبيذ فقد يزري بشاربه ... و لن ترى شاربا أزرى به الماءُ

 

الماء فيه حياة الناس كلهم ... و في النبيذ إذا عاقرته الداءُ

 

يقال هذا نبيذي يعاقره ... فيه عن البر والخيرات إبطاءُ

 

وفيه إن قيل مهلا عن مصممة ... و فيه عند ركوب الإثم إغضاءُ

 

و مثل قول أبن الرومي قول الآخر وبنسب لابن الرومي في الفقهاء:

 

أذيابا بدت لنا ... في ثياب ملونة

 

إحلالاً وجتم ... أكلنا في المدونه

 

و قوله أيضاً:

 

إلاّ إنّما الدنيا ميتةٍ ... و طلابها مثل الكلاب الموامسِ

 

وأعظمهم ذماً لها وأشدهم ... لها شغفاً قومٌ طوال القلانسِ

 

و مثل قول إسحاق بن سويد في النبيذيين قول الآخر:

 

بلوت النبيذيين في كل بلدةٍ ... فليس لأصحاب النبيذ حفاظُ

 

إذا أخذوها ثم أغنوك بالمنى ... و إن فقدوها فالوجوه غلاظُ

 

عكاظية لا قدس الله روحها ... و ما ذكرت في الصالحين عكاظُ

 

و سيأتي كل من الأمرين مستوفي إن شاء الله تعالى. وقال الآخر:

 

إذا انقطع الرجا من كل حي ... ففي الله الكفاية والرجاءُ


سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناءُ

 

و قد جمع بين الممدوح وهو الرجاء وبين مد المقصور وهو الغناء بكسر الأول ضد الفقر.

 

وقال عدي بن الرقاع:

 

وإذا نظرت إلى أميري زادني ... ضنا به نظري إلى الفقراءِ

 

بل ما رأيت جبال أرض تستوي ... فيما عسيت ولا نجوم السماءِ

 

كالغيم فيه وابلٌ متتابعٌ ... غدقٌ وآخر لا يجود بماءِ

 

والحر يورث مجده أبناءه ... و يموت آخر وهو في الأحياءِ

 

و مثل البيت الأول قول الحماسي:

 

ولمّا أبى إلا جماحا فؤاده ... ولم يسل عن ليلى بمال ولا اهلِ

 

تسلى بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى ولا تسلي

 

و قال الآخر:

 

لم ألق بعدهم حياً فأخبرهم ... إلاّ يزيدهم حباً الي همُ

 

و قال الحماسي عدي بن الرعلاء:

 

ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنّما الميت ميت الأحياءِ

 

إنّما الميت من يعيش كئياً ... كاسفا باله قليل الرجاءِ

 

و قال الآخر:

 

يوما بحزوي ويوماً بالعقيق ... وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء

 

و قال الحماسي قيس بن الخطيم الأنصاري:

 

وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلاّ عناءُ

 

وبعض خرئق الأقوام داءٌ ... كداء البطن ليس له دواءُ

 

يريد المرء أن يعطي مناه ... و يأبى الله إلاّ ما يشاءُ

 

وكل شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدتها رخاءُ

 

فلا يعطي الحريص غنى لحرصٍ ... و قد ينمى على الجود الثراءُ

 

غني النفس ما عمرت غني ... و فقر النفس ما عمرت شقاءُ

 

وليس بنافع ذا البخل مالٌ ... و لا مزر بصاحبه السخاءُ

 

وبعض الداء ملتمس شفاه ... و داء النوك ليس له شفاءُ

 

قال الآخر من شعراء الحماسة:

 

وأرض عن مطامع قد أراها ... وأتركها وفي بطني انطواءُ

 

فلا وأبيك ما في العيش خير ... و لا الدنيا إذا ذهب الحياءُ

 

يعيش المرء ما استحيى بخير ... و يبقى العود ما بقى اللحاءُ

 

و قلت أنا في أمر حدث:

 

تعلم أنَّ شر الأصدقاء ... صديق لا يدوم على الإخاء

 

متى ما تلقيه أرضاك بشراً ... و ليس إذا تغيبت ذا وفاء

 

لعمرك ما الوداد سوى وداد ... يدوم على التداني والتنائي

 

وفي الأتراب والترب المجلي ... أخاك وفي المسرة والبلاء

 

وليس أخوك من يبدي ودادا ... بوجهك طاويا مكنون داء

 

فإن أدبرت أتبعك أعتضاضاً ... بنابيه وعاد من العداء

 

و قال الآخر:

 

إنَّ الذي وهو مثر لا يجود حرٍ ... بفاقة تعتريه بعد إثراء

 

قوله: وهو مثر جملة حالية فصل بها بين الموصول وصلته وذلك قيل؛ والمثري: الغني. وقال الحماسي قيس بن الخطيم الأنصاري:

 

وكنت أمرء لا أسمع الدهر سبه ... أسب بها إلاّ كشفت غطاءها

 

متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة ... لنفسي إلاّ قد قضيت قضاءها

 

يريد: إلاّ قضيتها قضاء فأوقع القلب كما ترى. وقال الآخر:

 

أقول لمقلتي لمّا التقينا ... وقد شرقت مآقيها بماء

 

خذن اليوم من نظري بحظ ... فسوف تكونين إلى البكاء

 

و مثله قول الآخر:

 

ترفق بدمعك فاستبقه ... فبين يديك بكاءٌ طويل

 

و قال البحتري بن المغيرة بن أبي صفرة وكان المهلب بن أبي صفرة قد استعمل يزيد على حرب خراسان والمغيرة على خراجها ولم يوله هو شيئا. فكتب إليه:

 

أقرأ السلام على الأمير وقل له: ... إنَّ المقام على الهوان بلاءُ

 

أصل الغدو إلى الرواح وإنّما ... أذني وأذن الأبعدين سواءُ

 

أجفى ويدعى من ورائي جالساً ... ما بالكرامة والهوان خفاءُ

 

فلما بلغ المهرب ذلك وجد عليه وألزمه بيته فكتب إليه:

 

جفاني الأمير والمغيرة قد جفا ... و أمسى يريد لي قد أزور جانبه

 

وكلهم قد نال شبعا لبطنه ... و شبع الفتى ليسؤم إذا جاع صاحبه

 

فيا عم مهلاً واتخذني لنوبة ... تلوم فإنَ الدهر جم نوائبه

 

أنا السيف إلاّ أنَّ للسيف نبوة ... و مثلي لا تنبو عليك مضاربه

 

فرضي عنه وعزل المغيرة وولاه. وقال خالد الكاتب:

 

أعان طرفي على جسمي وأحشائي ... بنظرة وقفت جسمي على داءِ

 

وكنت غراً بما يجنى على بدني ... لا علم لي أنَّ بعضي بعض أدواءِ

 

و أخذه من قول إبراهيم بن المهدي:

 

إذا كلمتني بالعيون الفواتر ... رددت عليها بالدموع البوادر

 

فلم يعلم الواشون ما بيننا ... و قد قضيت حاجاتنا بالضمائر

 

أقاتلتي ظلما بأسهم لحظها ... أما حكم يقضي على طرف جائرِ

 

فلو كان للعشاق قاض من الهوى ... إذا لقضى بين الفؤاد وناظري

 

و مثله قول الآخر:

 

والله يا طرفي الجاني على بدني ... لتطفئن بدمعي لوعة الحزن

 

ولهذا الشعر قصة طريفة: حكي عن بعض المغنين قال قدم عليَّ فتى حسن الوجه عليه اثر السقم وقال: لي عندك حاجةقلت: وما هي فأخرج ثلاثمائة دينار وقال: اقبلها مني واصنع لي لحنا في بيتين وغنني بها. فقلت: نعمحبا وكرامة فأنشد البيتين المذكورين. قال: فصنعت لحنا شجيا ثم غنيته إياه. فأغمي عليه حتى ظننته قد مات ثم أفاق وكأنما نشر من قبر. فقال: أعد عليّفناشدته الله في نفسه وقلت: أخشى والله أن تموت. فقال: ليت ذلك قد كان فأستريحوجعل يتضرع لي حتى رحمته فأعدت الصوت. فصعق صعقة ظننت أن نفسه زهقت فيها. فجعلت أنضح وجهه بالماء. فلما أفاق وضعت دنانيره بين يديه وقلت: انصرف عني فإني لا أحب أن أشرك في دمك. فقال: لا حاجة لي بها ولك عندي مثلها. وأخرج ثلاثمائة أخرى وقال: أعد علي الصوت مرة أخرى وأنا أنصرف عنك. فشرهت نفسي إلى الدنانير وقلت:أفعل على ثلاث شروط. قال: وما هي قال: الأول أن تأكل من الطعام ما تتقوى به؛ والثاني أن تشرب أقداحا من النبيذ تمسك قلبك والثالث أن تحدثني بقصتك فلعل ذلك ينفعك. فقال: نعم. فدعوت بالطعام فأصاب منه ودعوت بالشراب فشرب أقداحا وأنا أغنيه ما يحضرني. فلما رأيت النبيذ شد قلبه غنيت الصوت فطرب وأعته عليه مرارا رضي وسكن. فقلت: حدثني. فقال. أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزها وقد سال العقيق مع أصحاب لي. فخرج فتيات لمثل ما خرجنا إليه. فنظرت إلى فتاة منهن كأنها غصن بان، فعلقتها من وقتي وأطلت إليها وأبصرت هي ذلك مني. فلما تفرق الناس وجدت بقلبي جرحا ولم أعرف لها ولا لصواحبها خبرا. فمرضت لذلك حتى يئس مني أهلي. فخلت بي ظئري وسألتني عن ضري وضمنت لي كتمان السر والسعي فيما يصلح. فأخبرتها خبري، فقالت: لا بأس عليك سيعود المطر ويسيل العقيق فتخرج معك. فإذا رأيتها عرفتني بها فلا أفارقها حتى تقف على موضعها وأوصلك إليها وأسعى في تزوجها. فسكنت نفسي لقولها ولم نلبث أن جاء المطر وسال العقيق. فخرجت مع أصحابي ومعي ظئري وجلسنا مجلسنا الأول بعينه وإذا بالنسوة وفيهن صاحبتي. فأومأت إلى ظئري حتى عرفتها وقلت لها: انطلقي وقولي: يقول لك الفتى: والله لقد أحسن الذي يقول:

 

رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت ... و قد غادرت جرحا به وندوبا

 

فمضت وقالت لها ذلك. فقالت: قولي له: لقد احسن القائل واحسن الذي يقول:

 

بنا مثل ما يشكو فصبرا لعلنا ... نرى فرجا يشفي الفؤاد قريبا

 

قال: فلما انصرفنا، تبعتها حتى عرفت مكانها، فتلطفت حتى جمعت بيننا على مخالسة، فظهر ما بيننا فحجبت عني ولم أقدر على لقائها. فبلغ ذلك أبي فخطبها من أبيها فقال: لو كان هذا قبل اشتهار حديثها لأسعفته؛ وأما الآن فلا أحقق مقالة الناس فيها بتزويجها منه. فيئست منها ومن نفسي، فخرجت هائما حتى بلغتك. قال المعني المذكور: ثم إنني حضرت مجلس جعفر بن يحيى، فغنيته بشعر الفتى، فقال: ويحكمما هذا الصوت وما قصته فقلت: قصة أظرف منه. ثم حدثته بحديث الفتى، فأمر بإحضاره وسأله، فأعاد عليه الحديث كما حدثته فقال له: أنا ضامن لك تزويجها، فطابت نفسه. ثم ركب جعفر إلى الرشيد وحدثه الحديث. فاستظرفه وأمر بإحضارنا جميعا،و سأل الفتى عن حديثه فحدثه وقال لي: غن الصوت فغنيته وطرب له وشرب عليه، وأمر بالكتب إلى عامل الحجاز بأشخاص الرجل وأهله وولده مكرمين. فلما حضروا عنده أعطى الرجل ألف دينار وأمره بتزويج الجارية من الفتى، وأعطى الفتى ألفي دينار، وأمر لي بألف دينار.

 

وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، من قصيدة:

 

انظر وإياك الهوى لا تمكنن ... شيطانه من مقلةٍ شوشاء

 

و قال أيضاً، من هذه القصيدة، يخاطب خالد بن يزيد:

 

لو سيرت لالتقت الضلوع على أسى ... كلف قليل السلم للأحشاء

 

ولجف نوار الكلام وقلما ... يبقى بهاء الغرس بعد الماء

 

و قال أيضاً، من أخرى:

 

لا تسقيني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ما بكائي

 

و في إضافة الماء للملام، غرابه أوجبت بعض الهجنة والبرودة في الكلام يحكى إنّه عيب عليه ذلك حتى تحدث أن بعض عصرييه أرسل إليه إنَّ ابعث إلي بشربة من ماء الملام. فقال: حتى تبعث إلي بريشة من جناح الذل. وهذه خطيئة أبشع من الأولى، فإن الاستعارة في جناح الذل مأنوسة الاستعمال قديما وحديثا، ومدركا حسنها وفصاحتها بالذوق دون ماء الملام. وقد وقع له في هذه القصيدة نفسها ما يقرب من هذا، حيث قال:

 

رأي لو استسقيت ماء نصيحةٍ ... لجعلته رأيا من الآراء

 

غير إنَّ هذا، وإنَّ كان غريبا، يحسنه أن الرأي والنصيحة تحيا بهما النفوس كما تحيا بالماء الأبدان ولا كذلك الملام. وقال أبو الطيب أحمد بن حسين المتنبي:

 

عذل العواذل حول قلبي التائه ... و هوى الأحبة منه في سودائه

 

و تقدم هذا المنزع وما فيه قبل. وقال أيضاً:

 

أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... فإذا انطلقت فأني الجوزاء

 

وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... ألا تراني مقلة عمياء

 

و قال الآخر:

 

إنَّ الحديث جانب من القرى ... ثم المنام بعد ذلك في الذرى

 

و قال الآخر:

 

إذا القوم قالوا من لعظيمةٍ ... فما كلهم يدعى ولكنه الفتى

 

و قال الآخر:

 

ضاع سعيي وخبت وخابت أعاديك ... و من يبتغي لك الأسواء

 

واحتملت الحرمان والنقص والأبعاد ... و الذل والعنا والجفاء

 

وتحملت واصطبرت فلم يبق ... على عوادي الزمان لحاء

 

أعلى هذه المصيبة صبر ... لا ولو كنت صخرة صماء

 

و مثله في التشكي قول الآخر:

 

أسجناً وقيد واشتياق وغربة ... و نأي الحبيب إنَّ ذاك عظيم

 

وإنَّ أمرءاً تبقى مواثيق عقده ... على مثل ما لاقيته لكريم

 

و قول الآخر:

 

ولقد أردت الصبر عنك فأعاقني ... علق بقلبي من هواك قديم

 

يبقى على حادث الزمان وريبه ... و على جفائك إنّه لكريم

 

و قال الآخر:

 

قال لي: كيف أنت قلت: عليل ... سهر دائم وحزن طويل

 

و قال الآخر:

 

وإذا ما الصديق صار عدوا ... كان في الشر أكبر الأعداء

 

و قال الآخر:

 

لا تعدن للزمان صديقا ... و اعد الزمان للأصدقاء

 

و مثله قول الآخر:

 

ليس بالمنكر انقلاب صديقٍ ... ربما غص شارب بالشراب

 

لا تصيع مودة من صديق ... فانقلاب الصديق شر انقلاب

 

و قول منصور الفقيه:

 

أحذر عدوك مرة ... و أحذر صديقك ألف مرة

 

فلربما انقلب الصديق ... فكان أعرف بالمضره

 

و قوله:

 

أحذر مودة ماذق ... مزج المرارة بالحلاوة

 

يحصي الذنوب عليك ... أيام الصداقة للعداوة

 

و قول الآخر

 

كن من صديقك خائفا فلربما ... حال الصديق فصار غير الصديق

 

و قول أبن الرومي:

 

عدوك من صديقك مستفاد ... فأقلل ما استطعت من الصحاب

 

فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب


و قول الآخر:

 

دار الصديق إذا استشاط تغيظا ... فالغيظ يخرج من كامن الأحقاد

 

قول أبن الخالدي:

 

وأخٍ رخصت عليه حتى ملني ... والشيء مملول إذا ما يرخص

 

ما في زمانك ما يعز جوده ... إنَّ رمته إلاّ صديق مخلص

 

و قول المنصور أيضاً:

 

إذا تخلفت عن صديقٍ ... و لم يعاتبك في التخلف

 

فلا تعد بعدها إليه ... فإنما وده تكلف

 

و قول الأنصاري:

 

إلاّ رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته ساءك ما يفري

 

لسان له كالشاهد مادت حاضراً ... و بالمغيب مطرور على ثغرة النحر

 

و قول أبي الطيب:

 

ومن نكد الدنيا على المرء إنَّ يرى ... عدوا له ما من صداقته بد

 

و ما يحكى إنَّ كسرى قال يوما لمرازبته: من أي شيء انتم اشد حذراً قالوا: من العدو الفاجر، والصديق الغادر. وقول موسى بن جعفر: اتق العدو وكن من الصديق على حذر، فإن القلوب سميت قلوب لتقلبها. وسيأتي كثير من هذا النمط بعد إنَّ شاء الله تعالى. وقال أبو الطيب:

 

وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أ يعمى العالمون عن الضياء

 

و قال أيضاً مادحا:

 

وإذا مدحت فلا لتكسب رفعة ... للشاكرين على الإله ثناء

 

وإذا مطرت فلا لأنك مجدب ... يسقى الخصيب وتمطر الادماء

 

و الادماء:البحر. وقال أيضاً:

 

إنّما التهنئات للأكفاء ... و لمن يدني من البعداء

 

وأنا منك لا يهنئ عضو ... بالمسرات سائر الأعضاء

 

و قال أيضاً من هذه القصيدة يمدح كافورا وكان أسود:

 

إنّما الجلد ملبس وابيضاض ... النفس خير من ابيضاض القباء

 

و قال أيضاً:

 

وما كل من قال قولا وفى ... و لا كل من سيم خسفاً أبى

 

و قال:

 

ولا بد للقلب من آلة ... ورأي يصدع صم الصفا

 

و قال:

 

فكان على قربنا بيننا ... مهامه من جهله والعمى

 

و قال:

 

وماذا بمصر من المضحكات ... و لكنه ضحك كالبكا

 

و قال:

 

ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى

 

و قال الحماسي محرز الضبي يهجو بني عدي بن جندب، من أبيات:

 

وإني لراجيكم على بطئ سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء

 

واخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... و لو شئت قال المخبرون أساءوا

 

و قال القاسم بن حنبل في بني سنان:

 

لهم شمس النهار إذا استقلت ... و نور ما يغيره العماء

 

هم حلوا من الشرف المعلى ... و من حسن العشيرة حيث شاءوا


بناة مكارم وأساء كلمٍ ... دماؤهم من الكلب الشفاء

 

و إنّما قال ذلك لمّا يزعمون من أنَّ من أصابه الكلب، وهو شبه جنون يصيب من عضه الكلب، ثم سقي دم ملك أو شريف برئ، ومثله قول زهير:

 

وإنَّ يقتلوا فيشتفى بدمائهم ... و كانوا قديما من مناياهم القتل

 

و قول الآخر:

 

أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم من الكلب

 

و قال الحسين بن مطير الأسدي يصف برقا وسحابا:

 

مستضحك بلوامع مستعبر ... بمدامع لم تمرها الأقذاء

 

فله بلا حزن ولا بمسرةٍ ... ضحك يراوح بيننا وبكاء

 

كثرت ككثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تحلب فاضت الأطباء

 

وكأن عارضها حريق يلتقي ... أشب عليه وعرفج وآلاء

 

لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لو يبق في لجج السواحل ماء

 

و للعرب فمن بعدهم في وصف السحاب والبرق والرعد إكثار وإطناب لا يأتي عليه الحصر ولكنا نذكر جملة من مستحسن ذلك ومما كان منه حسن إنَّ يتمثل به. فمن ذلك قول امرئ القيس:

 

اصاح ترى برقها وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل

 

يضيء سناه أو مصابيح راهب ... آمال السليط في الذبال المفتل

 

و قوله:

 

اعني على برق أراه وميض ... يضيء حبيا في شماريخ بيض

 

ويهدأ تارات سناه وتارة ... ينوء كتغتاب الكسير المهيض

 

وتخرج منه لامعات كأنها ... اكف تلقى الفوز عند المفيض

 

و قوله:

 

ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر

 

تخرج الود إذا ما اشجذت ... و تواريه إذا ما تستكر

 

و هي قطعة أبيات في هذا. وأشجذت: أقلعت. وقوله:

 

يساجل التؤم اليشكري ... و أواخر الأنصاف للتؤم

 

و قوله:

 

أحار ترى بريقا هب وهنا ... كنار مجوس تستعر استعارا

 

 

أرقت له ونام أبو شريح ... إذا ما قلت قد هدأ استطارا

 

كأن هزيره بوراء غيب ... عشار وله لاقت عشارا

 

فلما أن دنا لقفا أضاح ... و هت أعجاز ريقه فحارا

 

فلم يترك بذات السر ظبيا ... و لم يترك بجلهتها حمارا

 

و قال عبيد أبن الأبرص:

 

يا من لبق أبيت الليل ارقبه ... في عارض كمضي الصبح لماح

 

دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح

 

كأن ريقه لمّا علا شطبا ... اقراب ابلق ينفي الخيل رماح

 

ينزع جلد الحصى أجش مبترك ... كأنه فاحص أو لاعب داح

 

فمن بنجوته كمن بعقوته ... و المستكن كمن يمشي بقرواح

 

كأن فيه عشار جلة شرفا ... شعثا لهاميم قد همت بارشاح

 

هدلا مشافرها بحا حناجرها ... تزجا مرابعها في صحصح ضاح

 

و قول كثير:

 

فالمستكن ومن يمشي بمروته ... سيان فيه ومن بالسهل والجبل

 

و قول الحماني:

 

دمن كأن رياضها ... يسبيان أعلام المطارف

 

وكأنما غدرانها ... فيها عشور في مصاحف

 

وكأنما أنهارها ... يهتز بالريح العواصف

 

طرر الوصائف يلتقين ... بها إلى طرر الوصائف

 

باتت سواريها تمخض ... في رواعدها القواصف

 

ثم انبرت سحا ... كباكية بأربعة ذوارف

 

وكأن لمع بروقها ... في الجو أسياف المثاقب

و قول عبيد:

 

سقى الرباع مجلجل ... الأكناف لمع بروقه

 

جون تكفكفه الصبا ... و هنا تمريه خريقه

 

مري العسيف عشاره ... حتى إذا درت عروقه

 

ودنا يضيء ربابه ... غبا يضرمه حريقه

 

حتى إذا ما ذرعه ... بالماء ضاق فما يطيقه

 

هبت له من خلفه ... ريح الشماسية تسوقه

 

حلت عزاليه الجنوب ... فثج واهيه خروقه

 

و قال كثير:

 

تسمع الرعد في المخيلة منها ... مثل هزم القرون في الاشوال

 

وترى البرق عارضا مستطيرا ... مرح البلق جلن في الإجلال

 

أو مصابيح راهب في يفاع ... سغم الزيت ساطعات الذبال

 

و قوله:

 

اهاجك برق آخر الليل واصب ... تضمنه فرش الحيا فالمسارب

 

يجر ويستأني نشاطا كأنه ... بغيقه حاد جلجل الصوت جالب

 

تألق واحمومى وخيم بالربى ... احم الذرى ذو هيدب متراكب

 

كما اومضت بالعين ثم تبسمت ... خريع بدا منها جبين وحاجب

 

و قول عبد الله بن المعتز:

 

ومزنة جاد في أجفانها مطر ... فالروض منتظم والقطر منتثر

 

ترى مواقعه في الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستتر

 

و قوله أيضاً:

 

كأن رباب الجون والفجر ساطع ... دخان حريق لا يضيء له جمر

 

و قول أبي الغمر:

 

نسجته الجنوب وهو صناع ... فترقى كأنه حبشى

 

و قول الآخر:

 

ما ترى نعمة السماء على الار ... ض وشكر الرياض على الأمطار

 

و قول الآخر:

 

وموقرة بثقل الماء جاءت ... تهادي فوق أعناق الرياح

 

فجاءت ليلها سحا ووبلا ... و هطلا مثل أفواه الجراح

 

و قول الآخر:

 

بدا البرق من نحو الحجاز فشاقني ... و كل حجازي له البرق شائق

 

سرى مثل نبض العرق والليل دونه ... و أعلام أبلى كلها والاسالق

 

و قول الطائي ومنه اخذ:

 

إليك سرى بالمدح ركب كأنهم ... على العيس حيات اللصاب النضانض

 

تشيم بروقا من نداك كأنها ... و قد لاح أولاها عروق نوابض

 

و قول الآخر:

 

أرقت لبرق آخر الليل يلمع ... سرى دائبا منها يهب ويهجع

 

سرى كإقتداء الصبر والليل ضارب ... بأوراق والصبح قد كاد يسطع

 

و قول الآخر:

 

أرقت لبرق سرى موهنا ... خفي كغمزك بالحاجب

 

كأن تألقه في السماء ... يدا حاسب أو يدا كاتب

 

و قول أبن المعتز:

 

رأيت فيها برقها منذ بدت ... كمثل طرف العين أو قلب يجب

 

ثم حدت بها الصبا حتى بدا ... فيها من البرق كأمثال الشهب

 

تحسبه فيها إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعة يضرب

 

وتارة تحسبه كأنه ... ابلق مال جله حين وثب

 

حتى إذا ما رفع اليوم الضحى ... حسبته سلاسلا من الذهب

 

و قول الآخر:

 

نار تجدد للعيدان نضرتها ... و النار تلفح عيدان فتحترق

 

و قول الطائي:

 

يا سهم للبرق الذي استطارا ... ثاب على رغم الدجى نهارا

 

آض لنا ماء وكان نارا

 

وقول عبد الله بن عبد الله بن طاهر:

 

أما ترى البرق قد رقت حواشيه ... و قد دعاك إلى اللذات داعيه

 

وجاد بالقطر حتى خلت إنَّ له ... إلفا ناه فما ينفك يبكيه

 

و مثله قول الآخر:

 

كأن سحاب الغر غيبن تحتها ... حبيبا فما ترقى لهن مدامع

 

و تتبع الشعر في هذا يطيل فلنمسك العنان. وقال أبو الأسود الدؤلي:

 

وما طلب المعي

شة بالتمني ... و لكن القي دلوك في الدلاء

 

تجيء بملئها طورا وطورا ... تجيء بحماة وقليل ماء

 

و سيأتي إتمام هذا المنزع بعد إن شاء الله تعالى. وقال أبن نقطة:

 

لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في الضراء والسراء

 

فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء

 

و قال أبو سعيد الخوارزمي في أبي بكر الخوارزمي الشاعر:

 

أبو بكر له أدب فضل ... و لكن لا يدوم على الوفاء

 

مودته إذا دامت لخل ... فمن وقت الصباح إلى المساء

 

و قال عبد الله بن رواحة الأنصاري يوم خرجوا إلى مؤتة وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بعد زيد وجعفر رضي الله عنهم أجمعين:

 

إذا بلغتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء

 

فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... و لا ارجع إلى أهلي وراء

 

قوله: فشأنك فانعمي يريد إنّه قضى الوطر من ركوبها ولم تبق له تباعة على ظهرها وهي كناية على إنّه لا يحب المرجع ولا يشتهي مذهبا على ذلك الموضع. ومن ثم قال: ولا ارجع إلى أهلي بجزم الفعل قصدا للدعاء كأنه يقول: اللهم لا ترجعني إلى أهلي وأستشهدنيوما ذكره في الناقة قد تداوله الشعراء كثيرا فمن ذلك قول الشامخ في عرابة الأوسي:

 

رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين

 

إذا ما راية رفعة لمجد ... تلقاها عرابة باليمين

 

إذا بلغتني وحملت رحلي ... إليه فاشرقي بدم الوتين

 

ومثل سراة قومك لم يجاروا ... إلى ربع الرهان ولا الثمين

 

و كان الشماخ قدم المدينة فقال له عرابة: ما أقدمك فقال: قدمت لأمتار. فملأ له عرابة رواحله تمرا وبرا وأعطاه غير ذلك فقال فيه ما تقدم. وقول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي رباح:

 

إذا أبن أبي موسى بلالاً بلغته ... فقام بفأس بين وصليكِ جازرُ

 

غي إنّه يعاب على هذين الشاعرين أن جعلا جزاء الراحلة التي بلغتهما ذلك المأمول العظيم والمطلب الخطير شرا، وما كان ينبغي لهما أن ينظرا لها عند الاستغناء عنها ويكافئها خيرا بما قضيا منها كما أشار إليه أبلغ البلغاء وأحكم الحكماء صلى الله عليه وسلم حيث وردت المرأة راكبة على ناقته فقالت: إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها. فقال صلى الله عليه وسلم : بئس ما جزيتهالا نذر في معصية الله ولا نذر للإنسان في غير ماله. أو كما قال صلى الله عليه وسلم وعلى هذا المنزع العجيب النبوي كان قول أبن رواحة السابق. وقول أبي نواس في محمد الأمين بن هارون الرشيد، وأوضح هذا المعنى:

 

وإذا المطي بنا بلغنا محمدا ... فظهورهن على الرجال حرامُ

 

قربننا من خير من وطئ الثرى ... فلها عينا حرمة وذمامُ

 

و قول الفرزدق:

 

متى تردى الرصافة تستريحي ... من التهجيري والدبر الدوامي

 

و لهذا الشعر قصة تذكر بعد إن شاء الله تعالى. والعذر للأولين أن الدعاء عليها في نحو ذلك أبلغ في التنبيه على الاستغناء عنها وعدم الالتفات إليها. وليس هذا المعنى ملحوظا في قصة المرأة فليس يقاس عليه. ومن هذا الباب قول السلامي:

 

إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصار المطايا أن يلوح لها القصرُ

 

و لعل السابق إلى هذا المعنى الأعشى القيسي في قصيدته التي توجه بها إلى النبيصلى الله عليه وسلم حيث يقول:

 

متى ما تناخي عند باب أبن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله يدا

 

فضمن لها عند النزول بابن هاشم صلى الله عليه وسلم أن يخلي عن ظهرها ويريحها من كد الأسفار إذ لا مطلب ورائه ولا حاجة إلى أحد سواه. وقال أبو بكر بن دريد في مقصورته:

 

والناس كالنبت: فمنهم رائق ... غضٌ نضيرٌ عوده مر الجنى

 

ومنه ما تقتحم العين فإنَ ... ذقت جناه انساغ عذبا في اللهى

 

و هذا المقصورة جلها أمثال وحكم، وهي مشهورة لا حاجة إلى ذكرها. وقال الآخر:

 

يقولون هذه أم عمرو قريبةٌ ... نأت بك ارضٌ نحوها وسماءُ

 

ألا إنّما قرب الحبيب وبعده ... إذا هو لم يوصل إليه سواءُ

 

و قال صالح بن جناح:

 

إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ... و لا خير في وجهٍ إذا قل ماؤه

 

و قال الآخر:

 

ورب دنيةٍ ما حال بيني ... و بين ركوبها إلا الحياءُ

 

إذا رزق الفتى وجهاً وقاحا ... تقلب في الأمور كما يشاءُ

 

و تقدم شيء من هذا في قولهم: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. وقال الآخر:

 

 

إذا جار الأميرُ وكاتباه ... و قاضي الأرض داهن في القضاءِ

 

فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ ... لقاضي الأرض من قاضي السماءِ

 

و قال زهير:

 

وإنَّ الحق مقطعه ثلاثٌ ... يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءُ

 

و يروى أنَّ عمر رضي الله عنه لمّا سمع هذا البيت جعل يردده استحسانا له وتعجبا من معرفته بالحقوق وإبانته أحكامها وإقامته أقسامها. وقال الآخر:

 

خير ما ورث الرجال بينهم ... أدب صالح وحسن ثناءِ

 

و قال سابق البربري:

 

موت التقي حياة لا انقطاع لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياءُ

 

و مثله قول الآخر:

 

أخو العلم حي خالد بعد موته ... و أوصاله تحت التراب رميمُ

 

وذو الجهل ميتٌ وهو يمشي على الثرى ... يعد من الأحياء وهو عديمُ

 

و قال أبن الرومي:

 

إنَّ لله بالبرية لطفا ... سبق الأمهات والأباءَ

 

و قال أيضاً:

 

أنت عيني وليس من حق عيني ... غض أجفانها على الأقذاءِ

 

و قال لبيد:

 

كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والامساءُ

 

و قال عبد الله بن عيينة:

 

كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الأعداءِ

 

و مثله في ذكر الشماتة قول الآخر:

 

إذا ما الدهر جر على أناس ... بكلكله أناخ بآخرينا

 

فقل للشامتين بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا

 

و قال عدي بن زيد:

 

أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور

 

أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرورُ

 

من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفيرُ

 

و قال منصور الفقيه:

 

يا من يسرُ بموتي ... إذا أتاه البشيرُ

 

أليس من كان بمثلي ... إلى مصيري يصيرُ

 

و تمثل الشافعي رضي الله عنه، حين بلغه دعاء من دعا عليه بالموت ببيتي الشاعر:

 

تمنى رجال أن أموت فإنَ أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحدِ

 

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قدِ

 

و قال الحماس في الملح:

 

وما العيش إلاّ أكلة وتشرق ... و تمر كأكباد الجراد وماءُ

 

التشرق بالراء: القعود للشمس، والتمر الذي كأكباد الجراء: الصيحاني. وقال الآخر:

 

من فاته العلم واخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حدٍ سوا

 

و لنقتصر على هذا القدر من هذا الباب، فإنَ فيه كفاية إن شاء الله تعالى. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.