من سورة الفاتحة إلى سورة الأنعام

سُورَة الْفَاتِحَة

1 - أول المتشابهات قَوْله {الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك} فِيمَن جعل {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} آيَة من الْفَاتِحَة وَفِي تكراره قَولَانِ قَالَ عَليّ بن عِيسَى إِنَّمَا كرر للتوكيد وَأنْشد قَول الشَّاعِر

... هلا سَأَلت جموع كِنْدَة يَوْم ولوا أَيْن أَيّنَا ...

وَقَالَ قَاسم بن حبيب إِنَّمَا كرر لِأَن الْمَعْنى وَجب الْحَمد لله لِأَنَّهُ الرَّحْمَن الرَّحِيم قلت إِنَّمَا كرر لِأَن الرَّحْمَة هِيَ الإنعام على الْمُحْتَاج وَذكر فِي الْآيَة الأولى الْمُنعم وَلم يذكر الْمُنعم عَلَيْهِم فَأَعَادَهَا مَعَ ذكرهم وَقَالَ {رب الْعَالمين الرَّحْمَن} لَهُم جَمِيعًا ينعم عَلَيْهِم ويرزقهم {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ خَاصَّة يَوْم الدّين ينعم عَلَيْهِم وَيغْفر لَهُم

2 - قَوْله تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} كرر {إياك} وَقدمه وَلم يقْتَصر على ذكره مرّة كَمَا اقْتصر على ذكر أحد المفعولين فِي آيَات كَثِيرَة مِنْهَا {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} أَي مَا قلاك وَكَذَلِكَ الْآيَات الَّتِي بعْدهَا مَعْنَاهَا فآواك فهداك فأغناك لِأَن فِي التَّقْدِيم فَائِدَة وَهِي قطع الِاشْتِرَاك وَلَو حذف لم يدل على

التَّقْدِيم لِأَنَّك لَو قلت إياك نعْبد ونستعين لم يظْهر أَن التَّقْدِير إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين أم إياك نعْبد ونستعينك فكرر

3 - قَوْله تَعَالَى {صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم} كرر {الصِّرَاط} لعِلَّة تقرب مِمَّا ذكرت فِي {الرَّحْمَن الرَّحِيم} وَذَلِكَ أَن الصِّرَاط هُوَ الْمَكَان المهيأ للسلوك فَذكر فِي الأول الْمَكَان وَلم يذكر السالكين فَأَعَادَهُ مَعَ ذكرهم فَقَالَ {صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم} أَي الَّذِي يسلكه النَّبِيُّونَ والمؤمنون وَلِهَذَا كرر أَيْضا فِي قَوْله {إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} {صِرَاط الله} لِأَنَّهُ ذكر الْمَكَان المهيأ وَلم يذكر المهيئ فَأَعَادَهُ مَعَ ذكره فَقَالَ {صِرَاط الله} أَي الَّذِي هيأه للسالكين

4 - قَوْله {عَلَيْهِم} لَيْسَ بتكرار لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُتَّصِل بِفعل غير الآخر وَهُوَ الإنعام وَالْغَضَب وكل وَاحِد مِنْهُمَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظ وَمَا كَانَ هَذَا سَبيله فَلَيْسَ بتكرار وَلَا من الْمُتَشَابه

سُورَة الْبَقَرَة

5 - قَوْله تَعَالَى {الم} هَذِه الْآيَة تَتَكَرَّر فِي أَوَائِل سِتّ سور فَهِيَ من الْمُتَشَابه لفظا وَذهب جمَاعَة من الْمُفَسّرين إِلَى أَن قَوْله {وَأخر متشابهات} هِيَ هَذِه الْحُرُوف الْوَاقِعَة فِي أَوَائِل السُّور فَهِيَ أَيْضا من الْمُتَشَابه لفظا وَمعنى والموجب لذكره أول الْبَقَرَة من الْقسم وَغَيره هُوَ بِعَيْنِه الْمُوجب لذكره فِي أَوَائِل سَائِر السُّور المبدوءة بِهِ وَزَاد فِي الْأَعْرَاف صادا لما جَاءَ بعده {فَلَا يكن فِي صدرك حرج مِنْهُ} وَلِهَذَا قَالَ بعض الْمُفَسّرين معنى

{المص} ألم نشرح لَك صدرك وَقيل مَعْنَاهُ المصور وَزَاد فِي الرَّعْد رَاء لقَوْله بعده {الله الَّذِي رفع السَّمَاوَات}

6 - قَوْله {سَوَاء عَلَيْهِم} وَفِي يس {وَسَوَاء} بِزِيَادَة وَاو لِأَن مَا فِي الْبَقَرَة جملَة هِيَ خبر عَن اسْم إِن وَمَا فِي يس جملَة عطفت بِالْوَاو على جملَة

7 - قَوْله {آمنا بِاللَّه وباليوم الآخر} لَيْسَ فِي الْقُرْآن غَيره تكْرَار الْعَامِل مَعَ حرف الْعَطف لَا يكون إِلَّا للتَّأْكِيد وَهَذِه حِكَايَة كَلَام الْمُنَافِقين وهم أكدوا كَلَامهم نفيا للريبة وإبعادا للتُّهمَةِ فَكَانُوا فِي ذَلِك كَمَا قيل يكَاد الْمُرِيب يَقُول خذوني فنفى الله الْإِيمَان عَنْهُم بأوكد الْأَلْفَاظ فَقَالَ {وَمَا هم بمؤمنين} وَيكثر ذَلِك مَعَ النَّفْي وَقد جَاءَ فِي الْقُرْآن فِي موضِعين فِي النِّسَاء {وَلَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر} وَفِي التَّوْبَة {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر}

8 - قَوْله {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم} لَيْسَ فِي الْقُرْآن غَيره لَيْسَ لِأَن الْعِبَادَة فِي الْآيَة التَّوْحِيد والتوحيد أول مَا يلْزم العَبْد من المعارف فَكَانَ هَذَا أول خطاب خَاطب الله بِهِ النَّاس فِي الْقُرْآن فخاطبهم بِمَا ألزمهم أَولا ثمَّ ذكر سَائِر المعارف وَبنى عَلَيْهَا الْعِبَادَات فِيمَا بعْدهَا من السُّور والآيات

فَإِن قيل سُورَة الْبَقَرَة لَيست من أول الْقُرْآن نزولا فَلَا يحسن فِيهَا مَا ذكرت

قلت أول الْقُرْآن سُورَة الْفَاتِحَة ثمَّ الْبَقَرَة ثمَّ آل عمرَان على هَذَا التَّرْتِيب إِلَى سُورَة النَّاس وَهَكَذَا هُوَ عِنْد الله فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَهُوَ على هَذَا التَّرْتِيب كَانَ يعرضه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كل سنة

أَي مَا كَانَ يجْتَمع عِنْده مِنْهُ وَعرضه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي السّنة الَّتِي توفى فِيهَا مرَّتَيْنِ وَكَانَ آخر الْآيَات نزولا {وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله} فَأمره جِبْرِيل أَن يَضَعهَا بَين آيتي الرِّبَا وَالدّين

وَذهب جمَاعَة من الْمُفَسّرين إِلَى أَن قَوْله فِي هود {فَأتوا بِعشر سور مثله} مَعْنَاهُ مثل الْبَقَرَة إِلَى هود وَهِي الْعَاشِرَة وَمَعْلُوم أَن سُورَة هود مَكِّيَّة وَأَن الْبَقَرَة وَآل عمرَان وَالنِّسَاء والمائدة والأنفال وَالتَّوْبَة مدنيات نَزَلْنَ بعْدهَا

وَفسّر بَعضهم قَوْله {ورتل الْقُرْآن ترتيلا} : 4 أَي اقرأه على هَذَا التَّرْتِيب من غير تَقْدِيم وَتَأْخِير وَجَاء النكير على من قَرَأَهُ معكوسا

وَلَو حلف إِنْسَان أَن يقْرَأ الْقُرْآن على التَّرْتِيب لم يلْزمه إِلَّا على هَذَا التَّرْتِيب وَلَو نزل جملَة كَمَا اقترحوا عَلَيْهِ بقَوْلهمْ {لَوْلَا نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن جملَة وَاحِدَة} : 32 لنزل على هَذَا التَّرْتِيب وَإِنَّمَا تَفَرَّقت سوره وآياته نزولا لحَاجَة النَّاس حَالَة بعد حَالَة وَلِأَن فِيهِ النَّاسِخ والمنسوخ وَلم يَكُونَا ليجتمعا نزولا

وأبلغ الحكم فِي تفرقه مَا قَالَه سُبْحَانَهُ {وقرآنا فرقناه لتقرأه على النَّاس على مكث} وَهَذَا أصل تنبني عَلَيْهِ مسَائِل وَالله أعلم

9 - قَوْله تَعَالَى {فَأتوا بِسُورَة من مثله} بِزِيَادَة {من} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي غَيرهَا {بِسُورَة مثله} لِأَن {من} تدل على التَّبْعِيض وَلما كَانَت هَذِه السُّورَة سَنَام الْقُرْآن وأوله بعد الْفَاتِحَة حسن دُخُول {من} فِيهَا ليعلم أَن التحدي وَاقع على جَمِيع سور الْقُرْآن من أَوله إِلَى آخِره وَغَيرهَا من السُّور لَو دَخلهَا من لَكَانَ التحدي وَاقعا على بعض السُّور دون بعض وَلم يكن ذَلِك بالسهل وَالْهَاء فِي قَوْله {من مثله} تعود إِلَى {مَا} وَهُوَ الْقُرْآن وَذهب بَعضهم إِلَى أَنه يعود على مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام أَي فَأتوا بِسُورَة من إِنْسَان

مثله وَقيل يعود إِلَى الأنداد وَهُوَ ضَعِيف لِأَن الأنداد جمَاعَة وَالْهَاء للفرد وَقيل مثله التَّوْرَاة وَالْهَاء تعود إِلَى الْقُرْآن وَالْمعْنَى فأتو بِسُورَة من التَّوْرَاة الَّتِي هِيَ مثل الْقُرْآن ليعلموا وفاقهما {وَهُوَ} خطاب للْيَهُود

10 - قَوْله {فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس أَبى واستكبر} ذكر هَذِه الْخلال فِي هَذِه السُّورَة جملَة ثمَّ ذكرهَا فِي سَائِر السُّور مفصلا فَقَالَ فِي الْأَعْرَاف {إِلَّا إِبْلِيس لم يكن من الساجدين} وَفِي الْحجر {إِلَّا إِبْلِيس أَبى أَن يكون مَعَ الساجدين} وَفِي سُبْحَانَ {إِلَّا إِبْلِيس قَالَ أأسجد لمن خلقت طينا} وَفِي الْكَهْف {إِلَّا إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ} وَفِي طه {إِلَّا إِبْلِيس أَبى} وَفِي ص {إِلَّا إِبْلِيس استكبر وَكَانَ من الْكَافرين}

11 - قَوْله {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة وكلا} بِالْوَاو وَفِي الْأَعْرَاف {فكلا} بِالْفَاءِ {اسكن} فِي الْآيَتَيْنِ لَيْسَ بِأَمْر بِالسُّكُونِ الَّذِي هُوَ ضد الْحَرَكَة وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الْبَقَرَة من السّكُون الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِقَامَة وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي زَمَانا ممتدا فَلم يصلح إِلَّا بِالْوَاو لِأَن الْمَعْنى اجْمَعْ بَين الْإِقَامَة فِيهَا وَالْأكل من ثمارها وَلَو كَانَ الْفَاء مَكَان الْوَاو لوَجَبَ تَأْخِير

الْأكل إِلَى الْفَرَاغ من الْإِقَامَة لِأَن الْفَاء للتعقيب وَالتَّرْتِيب وَالَّذِي فِي الْأَعْرَاف من السُّكْنَى الَّذِي مَعْنَاهَا اتِّخَاذ الْموضع مسكنا لِأَن الله تَعَالَى أخرج إِبْلِيس من الْجنَّة بقوله {اخْرُج مِنْهَا مذؤوما} وخاطب آدم فَقَالَ {يَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} أَي اتخذاها لأنفسكما مسكنا {فكلا من حَيْثُ شئتما} فَكَانَت الْفَاء أولى لِأَن اتِّخَاذ الْمسكن لَا يَسْتَدْعِي زَمَانا ممتدا وَلَا يُمكن الْجمع بَين الاتخاذ وَالْأكل فِيهِ بل يَقع الْأكل عَقِيبه

وَزَاد فِي الْبَقَرَة {رغدا} لما زَاد فِي الْخَبَر تَعْظِيمًا بقوله {وَقُلْنَا} بِخِلَاف سُورَة الْأَعْرَاف فَإِن فِيهَا (قَالَ) والخطيب ذهب إِلَى أَن مَا فِي الْأَعْرَاف

12 - قَوْله {اهبطوا مِنْهَا} كرر الْأَمر بالهبوط لِأَن الأول من الْجنَّة وَالثَّانِي من السَّمَاء

13 - قَوْله {فَمن تبع} وَفِي طه {فَمن اتبع} تبع وَاتبع بِمَعْنى وَإِنَّمَا اخْتَار فِي طه {اتبع} مُوَافقَة لقَوْله تَعَالَى {يتبعُون الدَّاعِي}

14 - قَوْله {وَلَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة وَلَا يُؤْخَذ مِنْهَا عدل} قدم الشَّفَاعَة فِي هَذِه الْآيَة وَأخر الْعدْل وَقدم الْعدْل فِي الْآيَة الْأُخْرَى من هَذِه السُّورَة وَأخر الشَّفَاعَة وَإِنَّمَا قدم الشَّفَاعَة قطعا لطمع من زعم أَن آبَاءَهُم تشفع لَهُم وَأَن الْأَصْنَام شفعاؤهم عِنْد الله وأخرها فِي الْآيَة الْأُخْرَى لِأَن التَّقْدِير فِي الْآيَتَيْنِ مَعًا لَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة فتنفعها تِلْكَ الشَّفَاعَة لِأَن النَّفْع بعد الْقبُول وَقدم الْعدْل فِي الْآيَة الْأُخْرَى ليَكُون لفظ الْقبُول مقدما فِيهَا

15 - قَوْله {يذبحون} بِغَيْر وَاو هُنَا على الْبَدَل من {يسومونكم} وَفِي الْأَعْرَاف {يقتلُون} وَفِي إِبْرَاهِيم {ويذبحون} بِالْوَاو لِأَن مَا فِي هَذِه السُّورَة والأعراف من كَلَام الله تَعَالَى فَلم يرد تعداد المحن عَلَيْهِم وَالَّذِي فِي إِبْرَاهِيم من كَلَام مُوسَى فعدد المحن عَلَيْهِم وَكَانَ مَأْمُورا بذلك فِي قَوْله {وَذكرهمْ بأيام الله}

16 - قَوْله {وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} هَهُنَا وَفِي الْأَعْرَاف 160 وَقَالَ فِي آل عمرَان {وَلَكِن أنفسهم يظْلمُونَ}

لِأَن مَا فِي السورتين إِخْبَار عَن قوم مَاتُوا وانقرضوا وَمَا فِي آل عمرَان مثل

17 - قَوْله {وَإِذ قُلْنَا ادخُلُوا هَذِه الْقرْيَة فَكُلُوا} بِالْفَاءِ وَفِي الْأَعْرَاف 161 بِالْوَاو لِأَن الدُّخُول سريع الِانْقِضَاء فيتبعه الْأكل وَفِي الْأَعْرَاف {وَإِذ قيل لَهُم اسكنوا}

الْمَعْنى أقِيمُوا فِيهَا وَذَلِكَ ممتد فَذكر بِالْوَاو أَي اجْمَعُوا بَين الْأكل والسكون وَزَاد فِي الْبَقَرَة {رغدا} لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أسْندهُ إِلَى ذَاته بِلَفْظ التَّعْظِيم وَهُوَ قَوْله {وَإِذ قُلْنَا} خلاف مَا فِي الْأَعْرَاف فَإِن فِيهِ {وَإِذ قيل}

وَقدم {وادخلوا الْبَاب سجدا} على قَوْله {وَقُولُوا حطة} فِي هَذِه السُّورَة وأخرها فِي الْأَعْرَاف لِأَن السَّابِق فِي هَذِه السُّورَة {ادخُلُوا} فَبين كَيْفيَّة الدُّخُول وَفِي هَذِه السُّورَة {خطاياكم} بِالْإِجْمَاع وَفِي الْأَعْرَاف

{خطيئاتكم} مُخْتَلف لِأَن خَطَايَا صِيغَة الْجمع الْكثير ومغفرتها أليق فِي الْآيَة بِإِسْنَاد الْفِعْل إِلَى نَفسه سُبْحَانَهُ

وَفِي هَذِه السُّورَة {وسنزيد} وَفِي الْأَعْرَاف {سنزيد} بِغَيْر وَاو لِأَن اتصالها فِي هَذِه السُّورَة أَشد لِاتِّفَاق اللَّفْظَيْنِ وَاخْتلفَا فِي الْإِعْرَاب لِأَن اللَّائِق {سنزيد} مَحْذُوف الْوَاو ليَكُون استئنافا لكَلَام

وَفِي هَذِه السُّورَة {فبدل الَّذين ظلمُوا قولا} وَفِي الْأَعْرَاف 62 {ظلمُوا مِنْهُم} لِأَن فِي الْأَعْرَاف {وَمن قوم مُوسَى} وَلقَوْله {مِنْهُم الصالحون وَمِنْهُم دون ذَلِك} وَفِي هَذِه السُّورَة {فأنزلنا على الَّذين ظلمُوا} وَفِي الْأَعْرَاف {فَأَرْسَلنَا} لِأَن لفظ الرَّسُول والرسالة كثرت فِي الْأَعْرَاف فجَاء ذَلِك وفقا لما قبله وَلَيْسَ كَذَلِك فِي سُورَة الْبَقَرَة

18 - قَوْله {فانفجرت} وَفِي الْأَعْرَاف {فانبجست} لِأَن الانفجار انصباب المَاء بِكَثْرَة والانبجاس ظُهُور المَاء وَكَانَ فِي هَذِه السُّورَة {كلوا وَاشْرَبُوا} فَذكر بِلَفْظ بليغ وَفِي الْأَعْرَاف {كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم} وَلَيْسَ فِيهِ وَاشْرَبُوا فَلم يُبَالغ فِيهِ

19 - قَوْله {وَيقْتلُونَ النَّبِيين بِغَيْر الْحق} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي آل عمرَان {وَيقْتلُونَ النَّبِيين بِغَيْر حق} وفيهَا وَفِي النِّسَاء {وقتلهم الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق} لِأَن مَا فِي الْبَقَرَة إِشَارَة إِلَى الْحق الَّذِي أذن الله أَن تقتل النَّفس بِهِ وَهُوَ قَوْله {وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} فَكَانَ الأولى أَن يذكر مُعَرفا لِأَنَّهُ من الله تَعَالَى وَمَا فِي آل عمرَان وَالنِّسَاء نكرَة أَي بِغَيْر حق فِي معتقدهم

وَدينهمْ فَكَانَ هَذَا بالتنكير أولى وَجمع النَّبِيين جمع السَّلامَة فِي الْبَقَرَة لموافقة مَا بعده من جمعى السَّلامَة وَهُوَ {النَّبِيين} {الصابئين} وَكَذَلِكَ فِي آل عمرَان {إِن الَّذين} وناصرين ومعرضون بِخِلَاف الْأَنْبِيَاء فِي السورتين

20 - قَوْله {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} وَقَالَ فِي الْحَج {وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى} وَقَالَ فِي الْمَائِدَة {والصابئون وَالنَّصَارَى} لِأَن النَّصَارَى مقدمون على الصابئين فِي الرُّتْبَة لأَنهم أهل كتاب فَقَدمهُمْ فِي الْبَقَرَة والصابئون مقدمون على النَّصَارَى فِي الزَّمَان لأَنهم كَانُوا قبلهم فَقَدمهُمْ فِي الْحَج وداعى فِي الْمَائِدَة بَين المعنين وَقَدَّمَهُمْ فِي اللَّفْظ وأخرهم فِي التَّقْدِير لِأَن تَقْدِيره والصابئون فِي كَذَلِك

قَالَ الشَّاعِر

فَإِن يَك أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْله ... فَإِنِّي وقيار بهَا لغريب

أَرَادَ إِنِّي لغريب وقيار كَذَلِك فَتَأمل فِيهَا وَفِي أَمْثَالهَا يظْهر لَك إعجاز الْقُرْآن

21 - قَوْله {أَيَّامًا مَعْدُودَة} وَفِي آل عمرَان {أَيَّامًا معدودات} لِأَن الأَصْل فِي الْجمع إِذا كَانَ واحده مذكرا أَن يقْتَصر فِي الْوَصْف على التَّأْنِيث نَحْو قَوْله {سرر مَرْفُوعَة وأكواب مَوْضُوعَة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة} : 13 16 وَقد يَأْتِي سرر مرفوعات على تَقْدِير ثَلَاث سرر مَرْفُوعَة وتسع سرر مرفوعات إِلَّا أَنه لَيْسَ بِالْأَصْلِ فجَاء فِي الْبَقَرَة على الأَصْل وَفِي آل عمرَان على الْفَرْع وَقَوله {فِي أَيَّام معدودات} أَي فِي سَاعَات أَيَّام معدودات وَكَذَلِكَ {فِي أَيَّام مَعْلُومَات}

22 - قَوْله {فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين} {وَلنْ يَتَمَنَّوْهُ} وَفِي الْجُمُعَة {وَلَا يتمنونه} لِأَن دَعوَاهُم فِي هَذِه السُّورَة بَالِغَة قَاطِعَة وَهِي كَون الْجنَّة {لَهُم} بِصفة الخلوص فَبَالغ فِي الرَّد عَلَيْهِم بلن وَهُوَ أبلغ أَلْفَاظ النَّفْي ودعواهم فِي الْجُمُعَة قَاصِرَة مترددة وَهِي زعمهم

أَنهم أَوْلِيَاء الله فاقتصر على {لَا}

23 - قَوْله {بل أَكْثَرهم لَا يُؤمنُونَ} وَفِي غَيرهَا {لَا يعْقلُونَ} {لَا يعلمُونَ} لأَنهم بَين نَاقض عهد وجاحد حق إِلَّا الْقَلِيل مِنْهُم عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه وَلم يَأْتِ هَذَانِ المعنيان مَعًا فِي غير هَذِه السُّورَة

24 - قَوْله {وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم} وفيهَا أَيْضا {من بعد مَا جَاءَك من الْعلم} فَجعل مَكَان قَول {الَّذِي} {مَا} وَزَاد فِي أَوله {من} لِأَن الْعلم فِي الْآيَة الأولى علم بالكمال وَلَيْسَ وَرَاءه علم لِأَن مَعْنَاهُ بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم بِاللَّه وَصِفَاته وَبِأَن الْهدى هدى الله وَمَعْنَاهُ بِأَن دين الله الْإِسْلَام وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله فَكَانَ لفظ {الَّذِي} أليق بِهِ من لفظ {مَا} لِأَنَّهُ فِي التَّعْرِيف أبلغ وَفِي الْوَصْف أقعد لِأَن {الَّذِي} تعرفه صلته فَلَا يتنكر قطّ وتتقدمه أَسمَاء الْإِشَارَة نَحْو قَوْله {أم من هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم} {أم من هَذَا الَّذِي يرزقكم} فيكتنف {الَّذِي} بيانان هما الْإِشَارَة قبلهَا والصلة بعْدهَا وَيلْزمهُ الْألف وَاللَّام ويثنى وَيجمع وَلَيْسَ لما شَيْء من ذَلِك لِأَنَّهُ يتنكر مرّة ويتعرف أُخْرَى وَلَا يَقع وَصفا لأسماء الْإِشَارَة وَلَا تدخله الْألف وَاللَّام وَلَا يثنى وَلَا يجمع

وَخص الثَّانِي {بِمَا} لِأَن الْمَعْنى من بعد مَا جَاءَك من الْعلم بِأَن قبْلَة الله هِيَ الْكَعْبَة وَذَلِكَ قَلِيل من كثير من الْعلم وزيدت مَعَه {من} الَّتِي لابتداء الْغَايَة لِأَن تَقْدِيره من الْوَقْت الَّذِي جَاءَك فِيهِ الْعلم بالقبلة لِأَن الْقبْلَة الأولى نسخت بِهَذِهِ الْآيَة وَلَيْسَت الأولى مُؤَقَّتَة بِوَقْت

وَقَالَ فِي سُورَة الرَّعْد {بعد مَا جَاءَك} فَعبر بِلَفْظ {مَا} وَلم يزدْ {من} لِأَن الْعلم هُنَا هُوَ الحكم الْعَرَبِيّ أَي الْقُرْآن فَكَانَ بَعْضًا من الأول وَلم يزدْ فِيهِ {من} لِأَنَّهُ غير مُؤَقّت وَقَرِيب من معنى الْقبْلَة مَا فِي آل عمرَان {من بعد مَا جَاءَك من الْعلم} فَهَذَا جَاءَ بِلَفْظ {مَا} وزيدت فِيهِ {من}

25 - قَوْله {وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا} هَذِه الْآيَة وَالَّتِي قبلهَا متكررتان وَإِنَّمَا كررت لِأَن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا صادفت مَعْصِيّة تَقْتَضِي تَنْبِيها ووعظا لِأَن كل وَاحِدَة وَقعت فِي غير

وَقت الْأُخْرَى وَالْمَعْصِيَة الأول {أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ وتنسون أَنفسكُم} وَالثَّانيَِة {وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم}

26 - قَوْله {رب اجْعَل هَذَا بَلَدا آمنا} وَفِي إِبْرَاهِيم {هَذَا الْبَلَد آمنا} لِأَن {هَذَا} هُنَا إِشَارَة إِلَى الْمَذْكُور فِي قَوْله {بواد غير ذِي زرع} قبل بِنَاء الْكَعْبَة وَفِي إِبْرَاهِيم إِشَارَة إِلَى الْبَلَد بعد الْكَعْبَة فَيكون {بَلَدا} فِي هَذِه السُّورَة الْمَفْعُول الثَّانِي و {آمنا} صفته {وَهَذَا الْبَلَد} فِي إِبْرَاهِيم الْمَفْعُول الأول و {آمنا} الْمَفْعُول الثَّانِي

وَقيل لِأَن النكرَة إِذا تَكَرَّرت صَارَت معرفَة وَقيل تَقْدِيره فِي الْبَقَرَة البلدا بَلَدا آمنا فَحذف اكْتِفَاء بِالْإِشَارَةِ فَتكون الْآيَتَانِ سَوَاء

27 - قَوْله {وَمَا أنزل إِلَيْنَا} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي آل عمرَان {علينا} لِأَن {إِلَى} للانتهاء إِلَى الشَّيْء من أَي جِهَة كَانَت والكتب منتهية

إِلَى الْأَنْبِيَاء وَإِلَى أممهم جَمِيعًا وَالْخطاب فِي هَذِه السُّورَة لهَذِهِ الْأمة لقَوْله تَعَالَى {قُولُوا} فَلم يَصح إِلَى {إِلَى} و {على} مُخْتَصّ بِجَانِب الفوق وَهُوَ مُخْتَصّ بالأنبياء لِأَن الْكتب منزلَة عَلَيْهِم لَا شركَة للْأمة فِيهَا وَفِي آل عمرَان {قل} وَهُوَ مُخْتَصّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون أمته فَكَانَ الَّذِي يَلِيق بِهِ {على} وَزَاد فِي هَذِه السُّورَة {وَمَا أُوتِيَ} وَحذف من آل عمرَان لِأَن فِي آل عمرَان قد تقدم ذكر الْأَنْبِيَاء حَيْثُ قَالَ {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة}

28 - قَوْله {وَمن حَيْثُ خرجت} هَذِه الْآيَة مكررة ثَلَاث مَرَّات قيل إِن الأولى لنسخ الْقبْلَة وَالثَّانيِة للسبب وَهُوَ قَوْله {وَإنَّهُ للحق من رَبك} وَالثَّالِثَة لِلْعِلَّةِ وَهُوَ قَوْله {لِئَلَّا يكون للنَّاس عَلَيْكُم حجَّة} وَقيل الأولى فِي مَسْجِد الْمَدِينَة وَالثَّانيِة خَارج الْمَسْجِد وَالثَّالِثَة خَارج الْبَلَد

وَقيل فِي الْآيَات خروجان خُرُوج إِلَى مَكَان ترى فِيهِ الْقبْلَة وَخُرُوج إِلَى مَكَان لَا ترى أَي الحالتان فِيهِ سَوَاء

قلت إِنَّمَا كرر لِأَن المُرَاد بذلك الْحَال وَالْمَكَان وَالزَّمَان وَقلت فِي الْآيَة الأولى {وَمن حَيْثُ خرجت} وَلَيْسَ فِيهَا {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم} فَجمع فِي الْآيَة الثَّالِثَة بَين قَوْله {حَيْثُ خرجت} {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم} ليعلم أَن للنَّبِي وَالْمُؤمنِينَ فِي ذَلِك سَوَاء

29 - قَوْله {إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا وبينوا} لَيْسَ فِي هَذِه {من بعد ذَلِك} وَفِي غَيرهَا {من بعد ذَلِك} لِأَن قبله هُنَا {من بعد مَا بَيناهُ} فَلَو أعَاد الْتبس

30 - قَوْله {لآيَات لقوم يعْقلُونَ} خص الْعقل بِالذكر لِأَن بِهِ يتَوَصَّل إِلَى معرفَة الْآيَات وَمثله فِي الرَّعْد 4 والنحل 12 والنور 61 وَالروم 24

31 - قَوْله {مَا ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي الْمَائِدَة 4 7 ولقمان 21 {مَا وجدنَا} لِأَن ألفيت يتَعَدَّى إِلَى مفعولين تَقول ألفيت زيدا قَائِما وألفيت عمرا على كَذَا وَوجدت يتَعَدَّى مرّة إِلَى مفعول وَاحِد تَقول وجدت الضَّالة وَمرَّة إِلَى مفعولين تَقول وجدت زيدا جَالِسا فَهُوَ مُشْتَرك فَكَانَ الْموضع الأول بِاللَّفْظِ الْأَخَص

أولى لِأَن غَيره إِذا وَقع موقعه فِي الثَّانِي وَالثَّالِث علم أَنه بِمَعْنَاهُ

32 - قَوْله {أَو لَو كَانَ آباؤهم لَا يعلمُونَ شَيْئا} وَفِي الْمَائِدَة {لَا يعلمُونَ} لِأَن الْعلم أبلغ دَرَجَة من الْعقل وَلِهَذَا جَازَ وصف الله بِهِ وَلم يجز وَصفه بِالْعقلِ فَكَانَت دَعوَاهُم فِي الْمَائِدَة أبلغ لقَولهم {حَسبنَا مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} فَادعوا النِّهَايَة بِلَفْظ {حَسبنَا} فنفى ذَلِك بِالْعلمِ وَهُوَ النِّهَايَة وَقَالَ فِي الْبَقَرَة {بل نتبع مَا ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} وَلم تكن النِّهَايَة فنفى بِمَا هُوَ دون الْعلم لتَكون كل دَعْوَى منفية بِمَا يلائمها وَالله أعلم

33 - قَوْله {وَمَا أهل بِهِ لغير الله} قدم {بِهِ} فِي هَذِه السُّورَة وأخرها فِي الْمَائِدَة 3 والأنعام 145 والنحل 115 لِأَن تَقْدِيم الْبَاء الأَصْل فَإِنَّهَا تجْرِي مجْرى الْهمزَة وَالتَّشْدِيد فِي التَّعَدِّي فَكَانَت كحرف من الْفِعْل فَكَانَ الْموضع الأول أولى بِمَا هُوَ الأَصْل ليعلم مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظ ثمَّ قدم فِيمَا سواهَا مَا هُوَ المستنكر وَهُوَ الذّبْح لغير

الله وَتَقْدِيم مَا هُوَ الْغَرَض أولى وَلِهَذَا جَازَ تَقْدِيم الْمَفْعُول على الْفَاعِل وَالْحَال على ذِي الْحَال والظرف على الْعَامِل فِيهِ إِذا كَانَ ذَلِك أَكثر للغرض فِي الْإِخْبَار

34 - قَوْله فِي هَذِه السُّورَة {فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} وَفِي السُّور الثَّلَاث بحذفها لِأَنَّهُ لما قَالَ فِي الْموضع الأول {فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} صَرِيحًا كَانَ نفي الْإِثْم فِي غَيره تضمينا لِأَن قَوْله {غَفُور رَحِيم} يدل على أَنه لَا إِثْم عَلَيْهِ

35 - قَوْله {إِن الله غَفُور رَحِيم} فِي هَذِه السُّورَة خلاف سُورَة الْأَنْعَام فَإِن فِيهَا {فَإِن رَبك غَفُور رَحِيم} لِأَن لفظ الرب تكَرر فِي الْأَنْعَام مَرَّات وَلِأَن فِي الْأَنْعَام قَوْله {وَهُوَ الَّذِي أنشأ جنَّات معروشات} الْآيَة وفيهَا ذكر الْحُبُوب وَالثِّمَار وأتبعها بِذكر الْحَيَوَان من الضَّأْن والمعز وَالْإِبِل وَبهَا تربية الْأَجْسَام فَكَانَ ذكر الرب فِيهَا أليق

36 - قَوْله {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزل الله من الْكتاب ويشترون بِهِ ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُون فِي بطونهم إِلَّا النَّار وَلَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} الْآيَة فِي السُّورَة على هَذَا النسق وَفِي آل عمرَان {أُولَئِكَ لَا خلاق لَهُم فِي الْآخِرَة وَلَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} لِأَن الْمُنكر فِي هَذِه السُّورَة أَكثر فالمتوعد فِيهَا أَكثر وَإِن شِئْت قلت زَاد فِي آل عمرَان {وَلَا ينظر إِلَيْهِم}

فِي مُقَابلَة {مَا يَأْكُلُون فِي بطونهم إِلَّا النَّار}

37 - قَوْله فِي آيَة الْوَصِيَّة {إِن الله سميع عليم} خص السّمع بِالذكر لما فِي الْآيَة من قَوْله {فَمن بدله بعد مَا سَمعه} ليَكُون مطابقا وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى بعْدهَا {إِن الله غَفُور رَحِيم} لقَوْله قبله {فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} فَهُوَ مُطَابق معنى لَهُ

38 - قَوْله {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر} قيد بقوله {مِنْكُم} وَكَذَلِكَ {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه}

وَلم يُقيد فِي قَوْله {وَمن كَانَ مَرِيضا أَو على سفر} اكْتِفَاء بقوله {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} لاتصاله بِهِ

39 - قَوْله {تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تقربوها} وَقَالَ بعده {تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تعتدوها} لِأَن الْحَد الأول نهى وَهُوَ قَوْله {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} وَمَا كَانَ من الْحُدُود نهيا أَمر بترك المقاربة وَالْحَد الثَّانِي أَمر وَهُوَ بَيَان عدد الطَّلَاق بِخِلَاف مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَب من الْمُرَاجَعَة بعد الطَّلَاق من غير عدد وَمَا كَانَ أمرا أَمر بترك الْمُجَاوزَة وَهُوَ الاعتداء

40 - قَوْله {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة} جَمِيع مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن من السُّؤَال وَقع عقبه الْجَواب بِغَيْر الْفَاء إِلَّا فِي قَوْله {ويسألونك عَن الْجبَال فَقل ينسفها رَبِّي} فَإِنَّهُ أُجِيب بِالْفَاءِ لِأَن الْأَجْوِبَة فِي الْجَمِيع كَانَت بعد السُّؤَال وَفِي طه قبل وُقُوع السُّؤَال فَكَأَنَّهُ قيل إِن سُئِلت عَن الْجبَال فَقل ينسفها رَبِّي

41 - قَوْله {وَيكون الدّين لله} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي الْأَنْفَال {وَيكون الدّين كُله لله} لِأَن الْقِتَال فِي هَذِه السُّورَة مَعَ أهل مَكَّة وَفِي الْأَنْفَال مَعَ جَمِيع الْكفَّار فقيده بقوله {كُله}

42 - قَوْله {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ} وَقَالَ فِي آل عمرَان {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين}

وَقَالَ فِي التَّوْبَة {أم حسبتم أَن تتركوا وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم} الْآيَة الْخَطِيب أطنب فِي هَذِه الْآيَات ومحصول كَلَامه أَن الأول للنَّبِي وَالْمُؤمنِينَ وَالثَّانِي للْمُؤْمِنين وَالثَّالِث للمخاطبين جَمِيعًا

43 - قَوْله {لَعَلَّكُمْ تتفكرون فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} وَفِي آخر السُّورَة {لَعَلَّكُمْ تتفكرون} وَمثله فِي الْأَنْعَام لِأَنَّهُ لما بَين فِي الأول مفعول التفكر وَهُوَ قَوْله {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} حذفه مِمَّا بعده للْعلم بِهِ وَقيل فِي مُتَعَلقَة بقوله {يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون}

44 - قَوْله {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} بِفَتْح التَّاء وَالثَّانِي بضَمهَا لِأَن الأول من نكحت وَالثَّانِي من أنكحت وَهُوَ يتَعَدَّى إِلَى مفعولين وَالْمَفْعُول الأول فِي الْآيَة الْمُشْركين وَالثَّانِي مَحْذُوف وَهُوَ الْمُؤْمِنَات أَي لَا تنْكِحُوا الْمُشْركين النِّسَاء الْمُؤْمِنَات حَتَّى يُؤمنُوا

45 - قَوْله {وَلَا تمسكوهن} أَجمعُوا على تخفيفه إِلَّا شاذا وَمَا فِي عير هَذِه السُّورَة قرئَ بِالْوَجْهَيْنِ لِأَن قبله {فأمسكوهن} وَقبل ذَلِك {فإمساك} فَاقْتضى ذَلِك التَّخْفِيف

46 - قَوْله {ذَلِك يوعظ بِهِ من كَانَ مِنْكُم} وَفِي الطَّلَاق {ذَلِكُم يوعظ بِهِ من كَانَ يُؤمن} الْكَاف فِي ذَلِك لمُجَرّد الْخطاب لَا مَحل لَهُ من الْإِعْرَاب فَجَاز الِاخْتِصَار على التَّوْحِيد وَجَاز إجراؤه على عدد المخاطبين وَمثله {عَفَوْنَا عَنْكُم من بعد ذَلِك} وَقيل حَيْثُ جَاءَ موحدا فالخطاب للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخص بِالتَّوْحِيدِ فِي هَذِه السُّورَة لقَوْله {من كَانَ مِنْكُم} وَجمع فِي الطَّلَاق لما لم يكن بعده {مِنْكُم}

47 - قَوْله {فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى من مَعْرُوف 240 لِأَن تَقْدِير الأول فِيمَا فعلن بِأَمْر الله وَهُوَ الْمَعْرُوف وَالثَّانِي فِيمَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ فعلا من أفعالهن مَعْرُوفا أَي جَازَ فعله شرعا قَالَ أَبُو مُسلم حاكيا عَن الْخَطِيب إِنَّمَا جَاءَ

الْمَعْرُوف الأول معرف اللَّفْظ لِأَن الْمَعْنى بِالْوَجْهِ الْمَعْرُوف من الشَّرْع لَهُنَّ وَهُوَ الْوَجْه الَّذِي دلّ الله عَلَيْهِ وأبانه وَالثَّانِي كَانَ وَجها من الْوُجُوه الَّتِي لَهُنَّ أَن يأتينه فَأخْرج مخرج النكرَة لذَلِك

قلت النكرَة إِذا تَكَرَّرت صَارَت معرفَة فَإِن قيل كَيفَ يَصح مَا قلت وَالْأول معرفَة وَالثَّانِي نكرَة وَمَا ذهبت إِلَيْهِ يَقْتَضِي ضد هَذَا بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا} {فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} فَالْجَوَاب أَن هَذِه الْآيَة بِإِجْمَاع من الْمُفَسّرين مُقَدّمَة على تِلْكَ الْآيَة فِي النُّزُول وَإِن وَقعت مُتَأَخِّرَة فِي التِّلَاوَة وَلِهَذَا نَظِير فِي الْقُرْآن فِي مَوضِع آخر أَو موضِعين وَقد سبق بَيَانه وَأَجْمعُوا أَيْضا على أَن هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بِتِلْكَ الْآيَة والمنسوخ سَابق على النَّاسِخ ضَرُورَة فصح مَا ذكرت أَن قَوْله بِالْمَعْرُوفِ هُوَ مَا ذكر فِي قَوْله من مَعْرُوف فَتَأمل فِيهِ فَإِن هَذَا دَلِيل على إعجاز الْقُرْآن

48 - قَوْله {وَلَو شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا} كرر هُنَا تَأْكِيدًا وَقيل لَيْسَ بتكرار لِأَن الأول للْجَمَاعَة وَالثَّانِي للْمُؤْمِنين وَقيل كرر تَكْذِيبًا لمن زعم أَن ذَلِك لم يكن بِمَشِيئَة الله تَعَالَى

49 - قَوْله {وَيكفر عَنْكُم من سَيِّئَاتكُمْ} فِي هَذِه السُّورَة بِزِيَادَة {من} مُوَافقَة لما بعْدهَا لِأَن بعْدهَا ثَلَاث آيَات فِيهَا {من} على التوالي وَهِي قَوْله {وَمَا تنفقوا من خير} ثَلَاث مَرَّات

50 - قَوْله {فَيغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء} {يغْفر} مقدم فِي هَذِه السُّورَة وَغَيرهَا إِلَّا فِي الْمَائِدَة فَإِن فِيهَا {يعذب من يَشَاء وَيغْفر} لِأَنَّهَا نزلت بعْدهَا فِي حق السَّارِق والسارقة وعذابهما يَقع فِي الدُّنْيَا

فَقدم لفظ الْعَذَاب وَفِي غَيرهَا

قدم لفظ الْمَغْفِرَة رَحْمَة مِنْهُ تَعَالَى وترغيبا للعباد فِي المسارعة إِلَى مُوجبَات الْمَغْفِرَة جعلنَا الله تَعَالَى مِنْهُم يمنه وَكَرمه

سُورَة آل عمرَان

51 - قَوْله تَعَالَى {إِنَّك جَامع النَّاس ليَوْم لَا ريب فِيهِ إِن الله لَا يخلف الميعاد} أَو السُّورَة وَفِي آخرهَا {إِنَّك لَا تخلف الميعاد} فَعدل من الْخطاب إِلَى لفظ الْغَيْبَة فِي أول السُّورَة وَاسْتمرّ على الْخطاب فِي آخرهَا لِأَن مَا فِي أول السُّورَة لَا يتَّصل بالْكلَام الأول كاتصال مَا فِي آخرهَا فَإِن اتِّصَال قَوْله تَعَالَى {إِن الله لَا يخلف الميعاد} بقوله {إِنَّك جَامع النَّاس ليَوْم لَا ريب فِيهِ} معنوي واتصال قَوْله {إِنَّك لَا تخلف الميعاد} بقوله {رَبنَا وآتنا مَا وعدتنا} لَفْظِي ومعنوي جَمِيعًا لتقدم لفظ الْوَعْد وَيجوز أَن يكون الأول استئنافا وَالْآخر من تَمام الْكَلَام

52 - قَوْله {كدأب آل فِرْعَوْن وَالَّذين من قبلهم كذبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخذهُم الله} كَانَ الْقيَاس فأخذناهم لَكِن لما عدل فِي الْآيَة الأولى إِلَى قَوْله {إِن الله لَا يخلف الميعاد} عدل فِي هَذِه الْآيَة أَيْضا لتَكون الْآيَات على مَنْهَج وَاحِد

53 - قَوْله {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} ثمَّ كرر فِي هَذِه

الْآيَة فَقَالَ {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} لِأَن الأول جرى مجْرى الشَّهَادَة وَأَعَادَهُ ليجري الثَّانِي مجْرى الحكم بِصِحَّة مَا شهد بِهِ الشُّهُود

54 - قَوْله {ويحذركم الله نَفسه} كَرَّرَه مرَّتَيْنِ لِأَنَّهُ وَعِيد عطف عَلَيْهِ وَعِيد آخر فِي الْآيَة الأولى فَإِن قَوْله {وَإِلَى الله الْمصير} مَعْنَاهُ مصيركم إِلَى الله وَالْعَذَاب معد لَدَيْهِ فاستدركه فِي الْآيَة الثَّانِيَة بوعد وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَالله رؤوف بالعباد} والرأفة أَشد من الرَّحْمَة وَقيل من رأفته تحذيره

55 - قَوْله {قَالَ رب أَنى يكون لي غُلَام وَقد بَلغنِي الْكبر وامرأتي عَاقِر} قدم فِي هَذِه السُّورَة ذكر الْكبر وَأخر ذكر الْمَرْأَة وَقَالَ فِي سُورَة مَرْيَم {وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا وَقد بلغت من الْكبر عتيا} فَقدم ذكر الْمَرْأَة لِأَن فِي مَرْيَم قد تقدم ذكر الْكبر فِي قَوْله {وَهن الْعظم مني} وَتَأَخر ذكر الْمَرْأَة فِي قَوْله {وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا} ثمَّ أعَاد ذكرهَا فَأخر ذكر الْكبر ليُوَافق {عتيا} مَا بعده من الْآيَات وَهِي {سويا} و {عشيا} و {صَبيا}

56 - قَوْله {قَالَت رب أَنى يكون لي ولد} وَفِي مَرْيَم {قَالَ رب أَنى يكون لي غُلَام} لِأَن فِي هَذِه السُّورَة تقدم ذكر الْمَسِيح وَهُوَ وَلَدهَا وَفِي مَرْيَم تقدم ذكر الْغُلَام حَيْثُ قَالَ {لأهب لَك غُلَاما زكيا}

57 - قَوْله {فأنفخ فِيهِ} وَفِي الْمَائِدَة {فتنفخ فِيهَا} قيل الضَّمِير فِي هَذِه السُّورَة يعود إِلَى الطير وَقيل إِلَى الطين وَقيل إِلَى المهيأ وَقيل إِلَى الْكَاف فَإِنَّهُ فِي معنى مثل وَفِي الْمَائِدَة يعود إِلَى الْهَيْئَة وَهَذَا جَوَاب التَّذْكِير والتأنيث لَا جَوَاب التَّخْصِيص وَإِنَّمَا الْكَلَام وَقع فِي التَّخْصِيص وَهل يجوز أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مَكَان الآخر أم لَا فَالْجَوَاب أَن يُقَال فِي هَذِه السُّورَة إِخْبَار قبل الْفِعْل فوحده وَفِي الْمَائِدَة خطاب من الله تَعَالَى لَهُ يَوْم الْقِيَامَة وَقد تقدم من عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام الْفِعْل مَرَّات وَالطير صَالح للْوَاحِد وَصَالح للْجَمِيع

58 - قَوْله {بِإِذن الله} ذكر فِي هَذِه الْآيَة مرَّتَيْنِ وَقَالَ فِي الْمَائِدَة {بإذني} أَربع مَرَّات لِأَن مَا فِي هَذِه السُّورَة كَلَام عِيسَى فَمَا يتَصَوَّر أَن يكون من فعل الْبشر أَضَافَهُ إِلَى نَفسه وَهُوَ الْخلق الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِير والنفخ الَّذِي هُوَ إِخْرَاج الرّيح من الْفَم وَمَا يتَصَوَّر إِضَافَته إِلَى الله تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْله {فَيكون طيرا بِإِذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص} بِمَا يكون فِي طوق الْبشر فَإِن الأكمة عِنْد بعض الْمُفَسّرين الْأَعْمَش وَعند بَعضهم الْأَعْشَى وَعند بَعضهم الَّذِي يُولد

أعمى وإحياء الْمَوْتَى من فعل الله فأضافه إِلَيْهِ

وَمَا فِي الْمَائِدَة من كَلَام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فأضاف جَمِيع ذَلِك إِلَى صنعه إِظْهَارًا لعجز الْبشر وَلِأَن فعل العَبْد مَخْلُوق لله تَعَالَى

وَقيل {بِإِذن الله} يعود إِلَى الْأَفْعَال الثَّلَاثَة وَكَذَلِكَ الثَّانِي يعود إِلَى الثَّلَاثَة الْأُخْرَى

59 - قَوْله {إِن الله رَبِّي وربكم} وَكَذَلِكَ فِي مَرْيَم {رَبِّي وربكم} وَفِي الزخرف فِي هَذِه الْقِصَّة {إِن الله هُوَ رَبِّي وربكم} بِزِيَادَة هُوَ

قَالَ الشَّيْخ إِذا قلت زيد هُوَ قَائِم فَيحْتَمل أَن يكون تَقْدِيره وَعمر قَائِم فَإِذا قلت زيد هُوَ الْقَائِم خصصت الْقيام بِهِ فَهُوَ كَذَلِك فِي الْآيَة وَهَذَا مِثَاله لِأَن هُوَ يذكر فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع إعلاما أَن الْمُبْتَدَأ مَقْصُور على هَذَا الْخَبَر وَهَذَا الْخَبَر مَقْصُور عَلَيْهِ دون غَيره

وَالَّذِي فِي آل عمرَان وَقع بعد عشر آيَات من قصَّتهَا وَلَيْسَ كَذَلِك مَا فِي الزخرف فَإِنَّهُ ابْتِدَاء كَلَام مِنْهُ فَحسن التَّأْكِيد بقوله هُوَ ليصير الْمُبْتَدَأ مَقْصُورا على الْخَبَر الْمَذْكُور فِي الْآيَة وَهُوَ إِثْبَات الربوبية وَنفى الْأُبُوَّة تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا

60 - قَوْله {بِأَنا مُسلمُونَ} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي الْمَائِدَة {بأننا} لِأَن مَا فِي الْمَائِدَة أول كَلَام الحواريين فجَاء على الأَصْل وَمَا فِي هَذِه السُّورَة تكْرَار لكلامهم فَجَاز فِيهِ التَّخْفِيف لِأَن التَّخْفِيف فرع والتكرار فرع وَالْفرع بالفرع أولى

61 - قَوْله {الْحق من رَبك فَلَا تكن} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي الْبَقَرَة {فَلَا تكونن} لِأَن مَا فِي هَذِه السُّورَة جَاءَ على الأَصْل وَلم يكن فِيهَا مَا أوجب إِدْخَال نون التوكيد فِي الْكَلِمَة بِخِلَاف سُورَة الْبَقَرَة فَإِن فِيهَا فِي أول الْقِصَّة {فلنولينك قبْلَة ترضاها} بنُون التوكيد فَأوجب الازدواج إِدْخَال النُّون فِي الْكَلِمَة فَيصير التَّقْدِير فلنولينك قبْلَة ترضاها فَلَا تكونن من الممترين وَالْخطاب فِي الْآيَتَيْنِ للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمرَاد بِهِ غَيره

62 - قَوْله {قل إِن الْهدى هدى الله} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي الْبَقَرَة {قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى} لِأَن الْهدى فِي هَذِه السُّورَة هُوَ الدّين وَقد تقدم فِي قَوْله {لمن تبع دينكُمْ} وَهدى الله الْإِسْلَام فَكَأَنَّهُ قَالَ بعد قَوْلهم {وَلَا تؤمنوا إِلَّا لمن تبع دينكُمْ} قل إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام كَمَا سبق فِي أول السُّورَة

وَالَّذِي فِي الْبَقَرَة مَعْنَاهُ الْقبْلَة لِأَن الْآيَة نزلت فِي تَحْويل الْقبْلَة وَتَقْدِيره قل إِن قبْلَة الله هِيَ الْكَعْبَة

63 - قَوْله {من آمن تَبْغُونَهَا عوجا} لَيْسَ هَهُنَا بِهِ وَلَا وَاو الْعَطف وَفِي الْأَعْرَاف {من آمن بِهِ وتبغونها} بِزِيَادَة بِهِ وواو الْعَطف لِأَن الْقيَاس آمن بِهِ كَمَا فِي الْأَعْرَاف لَكِنَّهَا حذفت فِي هَذِه

السُّورَة مُوَافقَة لقَوْله {وَمن كفر} فَإِن الْقيَاس فِيهِ أَيْضا كفر بِهِ وَقَوله {تَبْغُونَهَا عوجا} هَهُنَا حَال وَالْوَاو لَا تزداد مَعَ الْفِعْل إِذا وَقع حَالا نَحْو قَوْله {وَلَا تمنن تستكثر} و {دَابَّة الأَرْض تَأْكُل منسأته} وَغير ذَلِك وَفِي الْأَعْرَاف عطف على الْحَال وَالْحَال قَوْله {توعدون} و {تصدُّونَ} عطف عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ {تَبْغُونَهَا عوجا}

64 - قَوْله {وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى لكم ولتطمئن قُلُوبكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله الْعَزِيز الْحَكِيم} هَهُنَا بِإِثْبَات {لكم} وَتَأْخِير {بِهِ} وَحذف {إِن الله} وَفِي الْأَنْفَال 10 بِحَذْف لكم وَتَقْدِيم بِهِ وَإِثْبَات إِن الله لِأَن الْبُشْرَى هُنَا للمخاطبين فَبين وَقَالَ لكم وَفِي الْأَنْفَال قد تقدم لكم فِي قَوْله {فَاسْتَجَاب لكم} فَاكْتفى بذلك

وَقدم {قُلُوبكُمْ} هُنَا وَأخر {بِهِ} ازدواجا بَين المخاطبين فَقَالَ {وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى لكم ولتطمئن قُلُوبكُمْ بِهِ}

وَقدم {بِهِ} فِي الْأَنْفَال ازدواجا بَين الغائبين فَقَالَ {وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى ولتطمئن بِهِ قُلُوبكُمْ}

وَحذف {إِن الله} هَهُنَا لِأَن مَا فِي الْأَنْفَال قصَّة بدر وَهِي سَابِقَة على مَا فِي هَذِه السُّورَة فَإِنَّهَا فِي قصَّة أحد وَأخْبر هُنَاكَ بِأَن الله عَزِيز حَكِيم وَجعله فِي هَذِه السُّورَة صفة لِأَن الْخَبَر قد سبق

65 - قَوْله {وَنعم أجر العاملين} بِزِيَادَة الْوَاو لِأَن الِاتِّصَال بِمَا قبلهَا أَكثر من غَيرهَا وَتَقْدِيره وَنعم أجر العاملين الْمَغْفِرَة والجنات وَالْخُلُود

66 - قَوْله {رَسُولا من أنفسهم} بِزِيَادَة الْأَنْفس وَفِي غَيرهَا {رَسُولا مِنْكُم} لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ من على الْمُؤمنِينَ بِهِ فَجعله من أنفسهم ليَكُون مُوجب الْمِنَّة أظهر وَكَذَلِكَ قَوْله {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم} لما وَصفه بقوله {عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم}

جعله من أنفسهم ليَكُون مُوجب الْإِجَابَة وَالْإِيمَان أظهر وَأبين

67 - قَوْله {جاؤوا بِالْبَيِّنَاتِ والزبر وَالْكتاب الْمُنِير} هَهُنَا بباء وَاحِدَة إِلَّا فِي قِرَاءَة ابْن عَامر وَفِي فاطر {بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر وبالكتاب} بِثَلَاثَة باءات لِأَنَّهُ فِي هَذِه السُّورَة وَقع فِي كَلَام مَبْنِيّ على الِاخْتِصَار وَهُوَ إِقَامَة لفظ الْمَاضِي فِي الشَّرْط مقَام لفظ الْمُسْتَقْبل وَلَفظ الْمَاضِي أخف وَبني الْفِعْل للْمَجْهُول فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر الْفَاعِل وَهُوَ قَوْله {فَإِن كَذبُوك فقد كذب رسل من قبلك} لذَلِك حذفت الباءات ليُوَافق الأول فِي الِاخْتِصَار بِخِلَاف مَا فِي فاطر فَإِن الشَّرْط فِيهِ بِلَفْظ الْمُسْتَقْبل وَالْفَاعِل مَذْكُور مَعَ الْفِعْل وَهُوَ قَوْله {وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذب الَّذين من قبلهم} ثمَّ ذكر بعْدهَا الباءات ليَكُون كُله على نسق وَاحِد

68 - قَوْله {ثمَّ مأواهم جَهَنَّم} هَهُنَا وَفِي غَيرهَا {ومأواهم جَهَنَّم} و66 9 لِأَن مَا قبلهَا فِي هَذِه السُّورَة {لَا يغرنك تقلب الَّذين كفرُوا فِي الْبِلَاد} {مَتَاع قَلِيل} أَي ذَلِك مَتَاع فِي الدُّنْيَا قَلِيل والقليل يدل على تراخ وَإِن صغر وَقل وَثمّ للتراخي فَكَانَ طبقًا لَهُ وَالله تَعَالَى أعلم

سُورَة النِّسَاء

69 - قَوْله فِي هَذِه السُّورَة {وَالله عليم حَلِيم} لَيْسَ غَيره أَي عليم بالمضارة حَلِيم عَن المضادة

70 - قَوْله {خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْز الْعَظِيم} بِالْوَاو وَفِي بَرَاءَة {ذَلِك} بِغَيْر وَاو لِأَن الْجُمْلَة إِذا وَقعت بعد جملَة أَجْنَبِيَّة لَا تحسن إِلَّا بِحرف الْعَطف وَإِن كَانَ فِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة مَا يعود إِلَى الأولى حسن إِثْبَات حرف الْعَطف وَحسن الْحَذف اكْتِفَاء بالعائد وَلَفظ {ذَلِك} فِي الْآيَتَيْنِ يعود إِلَى مَا قبل الْجُمْلَة فَحسن الْحَذف وَالْإِثْبَات فيهمَا ولتخصيص هَذِه السُّورَة بِالْوَاو وَجْهَان لم يَكُونَا فِي بَرَاءَة

أَحدهمَا مُوَافقَة لما قبلهَا وَهِي جملَة مبدوءة بِالْوَاو وَذَلِكَ قَوْله {وَمن يطع الله}

وَالثَّانِي مُوَافقَة لما بعْدهَا وَهُوَ قَوْله {وَله} بعد قَوْله {خَالِدا فِيهَا}

وَفِي بَرَاءَة {أعد الله} بِغَيْر وَاو وَلذَلِك قَالَ {ذَلِك} بِغَيْر وَاو

71 - قَوْله {محصنين غير مسافحين} فِي أول السُّورَة وَبعدهَا {محصنات غير مسافحات وَلَا متخذات أخدان} وَفِي الْمَائِدَة {محصنين غير مسافحين وَلَا متخذي أخدان} لِأَن فِي هَذِه السُّورَة وَقع فِي حق الْأَحْرَار الْمُسلمين فاقتصر على لفظ {غير مسافحين} وَالثَّانيَِة فِي الْجَوَارِي وَمَا فِي الْمَائِدَة فِي الكتابيات فَقَالَ {وَلَا متخذي أخدان} حُرْمَة للحرائر المسلمات لِأَنَّهُنَّ إِلَى الصيانة أقرب وَمن الْخِيَانَة أبعد ولأنهن لَا يتعاطين مَا يتعاطاه الْإِمَاء والكتابيات من اتِّخَاذ الأخذان

72 - قَوْله {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ} فِي هَذِه السُّورَة وَزَاد فِي الْمَائِدَة {مِنْهُ} لِأَن الْمَذْكُور فِي هَذِه بعض أَحْكَام الْوضُوء وَالتَّيَمُّم فَحسن الْحَذف وَالْمَذْكُور فِي الْمَائِدَة جَمِيع أحكامهما فَحسن الْإِثْبَات وَالْبَيَان

73 - قَوْله {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} ختم الْآيَة مرّة بقوله {فقد افترى} وَمرَّة بقوله {فقد ضل} لِأَن الأول نزل فِي الْيَهُود وهم الَّذين افتروا على الله مَا لَيْسَ فِي كِتَابهمْ وَالثَّانِي نزل فِي الْكفَّار وَلم يكن لَهُم كتاب فَكَانَ ضلالهم أَشد

74 - قَوْله {يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب} وَفِي غَيرهَا {يَا أهل الْكتاب} و5 19 59 الخ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ استخف بهم فِي هَذِه الْآيَة وَبَالغ ثمَّ ختم بالطمس ورد الْوُجُوه على الأدبار واللعن وبأنها كلهَا وَاقعَة بهم

75 - قَوْله {دَرَجَة} ثمَّ فِي الْآيَات الْأُخْرَى {دَرَجَات} و3 163 و4 96 و6 83 132 لِأَن الأولى فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي فِي الْجنَّة وَقيل الأولى الْمنزلَة وَالثَّانيَِة الْمنزل وَهُوَ دَرَجَات وَقيل الأولى على القاعدين بِعُذْر وَالثَّانيَِة على القاعدين بِغَيْر عذر

76 - قَوْله {وَمن يُشَاقق الرَّسُول} بالإظهار فِي هَذِه السُّورَة وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْفَال 13 وَفِي الْحَشْر بِالْإِدْغَامِ 4 لِأَن الثَّانِي من المثلين إِذا تحرّك بحركة لَازِمَة وَجب إدغام الأول فِي الثَّانِي أَلا ترى أَنَّك تَقول ارْدُدْ لَهُ بالإظهار وَلَا يجوز ارددا أَو ارددوا أَو ارددي لِأَنَّهَا تحركت بحركة لَازِمَة الْألف وَاللَّام فِي الله لازمتان فَصَارَت حَرَكَة الْقَاف لَازِمَة وَلَيْسَ الْألف وَاللَّام فِي الرَّسُول كَذَلِك وَأما فِي الْأَنْفَال

فلانضمام الرَّسُول إِلَيْهِ فِي الْعَطف وَلم يدغم فِيهَا لِأَن التَّقْدِير فِي القافات قد اتَّصل بهما فَإِن الْوَاو توجب ذَلِك

77 - قَوْله {كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله} وَفِي الْمَائِدَة {قوامين لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} لِأَن لله فِي هَذِه السُّورَة مُتَّصِل ومتعلق بِالشَّهَادَةِ بِدَلِيل قَوْله {وَلَو على أَنفسكُم أَو الْوَالِدين والأقربين} أَي وَلَو تَشْهَدُون عَلَيْهِم وَفِي الْمَائِدَة مُنْفَصِل ومتعلق بقوامين وَالْخطاب للولاة بِدَلِيل قَوْله {وَلَا يجرمنكم شنآن قوم} الْآيَة

78 - قَوْله {إِن تبدوا خيرا أَو تُخْفُوهُ} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي الْأَحْزَاب {إِن تبدوا شَيْئا} لِأَن فِي هَذِه السُّورَة وَقع الْخَبَر فِي مُقَابلَة السوء فِي قَوْله {لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء} والمقابلة اقْتَضَت أَن يكون بِإِزَاءِ السوء الْخَيْر وَفِي الْأَحْزَاب وَقع بعْدهَا {لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض} فَاقْتضى الْعُمُوم وأعم الْأَسْمَاء شَيْء ثمَّ ختم الْآيَة بقوله {فَإِن الله كَانَ بِكُل شَيْء عليما}

79 - قَوْله {وَإِن تكفرُوا فَإِن لله مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض}

وَسَائِر مَا فِي هَذِه السُّورَة {مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} لِأَن الله سُبْحَانَهُ ذكر أهل الأَرْض فِي هَذِه الْآيَة تبعا لأهل السَّمَوَات وَلم يفردهم بِالذكر لانضمام المخاطبين إِلَيْهِم ودخولهم فِي زمرتهم وهم كفار عَبدة أوثان وَلَيْسوا بمؤمنين وَلَا من أهل الْكتب لقَوْله {وَإِن تكفرُوا} وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسا مطردا بل عَلامَة

80 - قَوْله {يستفتونك} بِغَيْر وَاو لِأَن الأول لما اتَّصل بِمَا بعده وَهُوَ قَوْله {فِي النِّسَاء} وَصله بِمَا قبله بواو الْعَطف والعائد جَمِيعًا وَالثَّانِي لما انْفَصل عَمَّا بعده اقْتصر من الِاتِّصَال على الْعَائِد وَهُوَ ضمير المستفتين وَفِي الْآيَة مُتَّصِل بقوله {يفتيكم} وَلَيْسَ بِمُتَّصِل بقوله {يستفتونك} لِأَن ذَلِك يَسْتَدْعِي {قل الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة} وَالَّذِي يتَّصل يستفتونك مَحْذُوف يحْتَمل أَن يكون فِي الْكَلَالَة وَيحْتَمل أَن يكون فِيمَا بدا لَهُم من الوقائع

سُورَة الْمَائِدَة

81 - قَوْله {واخشون الْيَوْم} بِحَذْف الْيَاء وَكَذَلِكَ {واخشون وَلَا تشتروا} وَفِي الْبَقَرَة وَغَيرهَا {واخشوني} بالإثبات لِأَن الْإِثْبَات هُوَ الأَصْل

وحذفت الْيَاء من {واخشون الْيَوْم} من الْخط لما حذفت من اللَّفْظ وحذفت من {واخشون وَلَا تشتروا} مُوَافقَة لما قبلهَا

82 - قَوْله {وَاتَّقوا الله إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور} ثمَّ أعَاد فَقَالَ {وَاتَّقوا الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} لِأَن الأول وَقع على النِّيَّة وَهِي بِذَات الصُّدُور وَالثَّانِي على الْعَمَل وَعَن ابْن كثير أَن الأولى نزلت فِي الْيَهُود وَلَيْسَ بتكرار

83 - قَوْله {وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة وَأجر عَظِيم} وَقَالَ فِي الْفَتْح {وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات مِنْهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما} رفع مَا فِي هَذِه السُّورَة مُوَافقَة لفواصل الْآي وَنصب مَا فِي فتح مُوَافقَة للفواصل أَيْضا وَلِأَنَّهُ فِي الْفَتْح مفعول وعد

وَفِي مفعول وعد فِي هَذِه السُّورَة أَقْوَال أَحدهَا مَحْذُوف دلّ عَلَيْهِ وعد خلاف مَا دلّ عَلَيْهِ أَو أوعد أَي خيرا وَقَوله {لَهُم مغْفرَة} يفسره وَقيل {لَهُم مغْفرَة} جملَة وَقعت موقع الْمُفْرد ومحلها نصب كَمَا قَالَ الشَّاعِر ... وجدنَا الصَّالِحين لَهُم جَزَاء ... وجنات وعينا سلسبيلا ...

فعطف جنَّات على مَحل لَهُم جَزَاء وَقيل رفع على الْحِكَايَة لِأَن الْوَعْد قَول وَتَقْدِيره قَالَ الله لَهُم مغْفرَة وَقيل تَقْدِيره إِن لَهُم مغْفرَة فَحذف إِن فارتفع مَا بعده

84 - قَوْله {يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه} وَبعده {يحرفُونَ الْكَلم من بعد موَاضعه} لِأَن الأولى فِي أَوَائِل الْيَهُود وَالثَّانيِة فِيمَن كَانُوا فِي زمن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَي حرفوها بعد أَن وَضعهَا الله موَاضعهَا وعرفوها وَعمِلُوا بهَا زَمَانا

85 - قَوْله {ونسوا حظا مِمَّا ذكرُوا بِهِ} كرر لِأَن الأولى فِي الْيَهُود وَالثَّانيَِة فِي حق النَّصَارَى وَالْمعْنَى لم ينالو مِنْهُ نَصِيبا وَقيل مَعْنَاهُ ونسوا نَصِيبا وَقيل مَعْنَاهُ تركُوا بعض مَا أمروا بِهِ

86 - قَوْله {يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم} ثمَّ كررها فَقَالَ {يَا أهل الْكتاب} لِأَن الأولى نزلت فِي الْيَهُود حِين كتموا صفة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَة الرَّجْم من التَّوْرَاة وَالنَّصَارَى حِين كتموا بِشَارَة عِيسَى بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيل وَهُوَ قَوْله {يبين لكم كثيرا مِمَّا كُنْتُم تخفون من الْكتاب} ثمَّ كرر فَقَالَ {وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه} فكرر {يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم}

أَي شرائعكم فَإِنَّكُم على ضلال لَا يرضاه

الله على {فَتْرَة من الرُّسُل} على انْقِطَاع مِنْهُم ودروس مِمَّا جَاءُوا بِهِ وَالله أعلم

87 - قَوْله {وَللَّه ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا يخلق مَا يَشَاء} ثمَّ كرر فَقَالَ {وَللَّه ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَإِلَيْهِ الْمصير} كرر لِأَن الأولى نزلت فِي النَّصَارَى حِين قَالُوا {إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} فَقَالَ {وَللَّه ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا} لَيْسَ فيهمَا مَعَه شريك وَلَو كَانَ عِيسَى إِلَهًا لاقتضى أَن يكون مَعَه شَرِيكا ثمَّ من يذب عَن الْمَسِيح وَأمه وَعَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا إِن أَرَادَ إهلاكهم فَإِنَّهُم كلهم مخلوقون لَهُ وَإِن قدرته شَامِلَة عَلَيْهِم وعَلى كل مَا يُرِيد بهم

وَالثَّانيَِة نزلت فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى حِين قَالُوا {نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه} فَقَالَ {وَللَّه ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا} وَالْأَب لَا يملك ابْنه وَلَا يهلكه وَلَا يعذبه وَأَنْتُم مصيركم إِلَيْهِ فيعذب من يَشَاء مِنْكُم وَيغْفر لمن يَشَاء

88 - قَوْله {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم اذْكروا} وَقَالَ فِي سُورَة إِبْرَاهِيم {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكروا} لِأَن تَصْرِيح اسْم الْمُخَاطب مَعَ حرف الْخطاب يدل على تَعْظِيم الْمُخَاطب بِهِ وَلما كَانَ مَا فِي هَذِه السُّورَة نعما جِسَامًا مَا عَلَيْهَا من مزِيد وَهُوَ قَوْله {جعل فِيكُم أَنْبيَاء وجعلكم ملوكا وآتاكم مَا لم يُؤْت أحدا من الْعَالمين} صرح فَقَالَ يَا قوم ولموافقته مَا قبله وَمَا بعده من النداء وَهُوَ قَوْله {يَا قوم ادخُلُوا} {يَا مُوسَى إِنَّا} وَلم يكن مَا فِي إِبْرَاهِيم بِهَذِهِ الْمنزلَة فاقتصر على حرف الْخطاب

89 - قَوْله {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله} كَرَّرَه ثَلَاث مَرَّات وَختم الأولى بقوله {فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} وَالثَّانيَِة بقوله {فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} وَالثَّالِثَة بقوله {فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} قيل لِأَن الأولى نزلت فِي حكام الْمُسلمين وَالثَّانيَِة فِي حكام الْيَهُود وَالثَّالِثَة فِي حكام النَّصَارَى وَقيل الْكَافِر وَالْفَاسِق والظالم كلهَا بِمَعْنى وَاحِد وَهُوَ الْكفْر عبر عَنهُ بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة لزِيَادَة الْفَائِدَة وَاجْتنَاب سُورَة التّكْرَار

وَقيل وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله إنكارا لَهُ فَهُوَ كَافِر وَمن لم يحكم بِالْحَقِّ مَعَ اعْتِقَاده حَقًا وَحكم بضده فَهُوَ ظَالِم وَمن لم يحكم بِالْحَقِّ جهلا وَحكم بضده

فَهُوَ فَاسق وَقيل وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَهُوَ كَافِر بنعمه الله ظَالِم فِي حكمه فَاسق فِي فعله

90 - قَوْله {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} كرر لِأَن النَّصَارَى اخْتلفت أَقْوَالهم

فَقَالَت اليعقوبية إِن الله تَعَالَى رُبمَا تجلى فِي بعض الْأَزْمَان فِي شخص فتجلى يَوْمئِذٍ فِي شخص عِيسَى فظهرت مِنْهُ المعجزات وَقَالَت الملكية إِن الله اسْم يجمع أَبَا وابنا وروح الْقُدس اخْتلفت بالأقانيم والذات وَاحِدَة فَأخْبر الله عز وَجل أَنهم كلهم كفار

91 - قَوْله {لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم} ذكر فِي هَذِه السُّورَة هَذِه الْخلال جملَة ثمَّ فصل لِأَنَّهَا أول مَا ذكرت

سُورَة الْأَنْعَام

92 - قَوْله {فقد كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم فَسَوف يَأْتِيهم} وَفِي الشُّعَرَاء {فقد كذبُوا فسيأتيهم} لِأَن سُورَة الْأَنْعَام مُتَقَدّمَة

فقيد التَّكْذِيب بقوله {بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم} ثمَّ قَالَ {فَسَوف يَأْتِيهم} على التَّمام وَذكر فِي الشُّعَرَاء {فقد كذبُوا} مُطلقًا لِأَن تَقْيِيده فِي هَذِه السُّورَة يدل عَلَيْهِ ثمَّ اقْتصر على السِّين هُنَا بدل سَوف ليتفق اللفظان فِيهِ على الِاخْتِصَار

93 - قَوْله {ألم يرَوا كم أهلكنا} فِي بعض الْمَوَاضِع بِغَيْر وَاو كَمَا فِي هَذِه السُّورَة وَفِي بَعْضهَا بِالْوَاو وَفِي بَعْضهَا بِالْفَاءِ هَذِه الْكَلِمَة تَأتي فِي الْقُرْآن على وَجْهَيْن

أَحدهمَا مُتَّصِل بِمَا كَانَ الِاعْتِبَار فِيهِ بِالْمُشَاهَدَةِ فَذكره بِالْألف وَالْوَاو لتدل الْألف على الِاسْتِفْهَام وَالْوَاو على عطف جملَة على جملَة قبلهَا وَكَذَا الْفَاء لَكِنَّهَا أَشد اتِّصَالًا بِمَا قبلهَا وَالْوَجْه الثَّانِي مُتَّصِل بِمَا الِاعْتِبَار فِيهِ بالاستدلال فاقتصر على الْألف دون الْوَاو وَالْفَاء لتجري مجْرى الِاسْتِئْنَاف

وَلَا ينْقض هَذَا الأَصْل قَوْله {أولم يرَوا إِلَى الطير} فِي النَّحْل لاتصالها بقوله {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم} وسبيله الِاعْتِبَار بالاستدلال فَبنى عَلَيْهِ {أولم يرَوا إِلَى الطير}

94 - قَوْله {قل سِيرُوا فِي الأَرْض ثمَّ انْظُرُوا} فِي هَذِه السُّورَة فَحسب وَفِي غَيرهَا {سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا} و16 36 و27 69 و30 42 لِأَن ثمَّ للتراخي وَالْفَاء للتعقيب وَفِي هَذِه السُّورَة تقدم ذكر الْقُرُون فِي قَوْله {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} ثمَّ قَالَ {وأنشأنا من بعدهمْ قرنا آخَرين} فَأمروا باستقراء الديار وَتَأمل الْآثَار وفيهَا كَثْرَة فَيَقَع ذَلِك سيرا بعد سير وزمانا بعد زمَان

فخصت بثم الدَّالَّة على التَّرَاخِي بَين الْفِعْلَيْنِ ليعلم أَن السّير مَأْمُور بِهِ على حِدة وَالنَّظَر مَأْمُور بِهِ على حِدة وَلم يتَقَدَّم فِي سَائِر السُّور مثله فخصت بِالْفَاءِ الدَّالَّة على التعقيب

95 - قَوْله {الَّذين خسروا أنفسهم فهم لَا يُؤمنُونَ}

لَيْسَ بتكرار لِأَن الأول فِي حق الْكفَّار وَالثَّانِي فِي حق أهل الْكتاب

96 - قَوْله {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ} وَقَالَ فِي يُونُس {فَمن أظلم} وَختم الْآيَة بقوله {إِنَّه لَا يفلح المجرمون} لِأَن الْآيَات الَّتِي تقدّمت فِي هَذِه السُّورَة عطف بَعْضهَا على بعض بِالْوَاو وَهُوَ قَوْله {وأوحي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} إِلَى {وإنني بَرِيء مِمَّا تشركون} ثمَّ قَالَ {وَمن أظلم} وَختم الْآيَة بقوله {الظَّالِمُونَ} ليَكُون آخر الْآيَة لفقا لأوّل الأولى

وَأما فِي سُورَة يُونُس فالآيات الَّتِي تقدّمت عطف بَعْضهَا على بعض بِالْفَاءِ وَهُوَ قَوْله {فقد لَبِثت فِيكُم عمرا من قبله أَفلا تعقلون} ثمَّ قَالَ {فَمن أظلم} بِالْفَاءِ وَختم الْآيَة بقوله {المجرمون} أَيْضا مُوَافقَة لما قبلهَا وَهُوَ {كَذَلِك نجزي الْقَوْم الْمُجْرمين} فوصفهم بِأَنَّهُم مجرمون وَقَالَ بعده {ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف فِي الأَرْض من بعدهمْ} فختم الْآيَة بقوله {المجرمون} ليعلم أَن سَبِيل هَؤُلَاءِ سَبِيل من تقدمهم

97 - قَوْله {وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك} وَفِي يُونُس {يَسْتَمِعُون} لِأَن مَا فِي هَذِه السُّورَة نزل فِي أبي سُفْيَان وَالنضْر بن الْحَارِث وَعتبَة وَشَيْبَة وَأُميَّة وَأبي بن خلف فَلم يكثروا كَثْرَة من فِي يُونُس لِأَن المُرَاد بهم فِي يُونُس جَمِيع الْكفَّار فَحمل هَهُنَا مرّة على لفظ من فَوحد لقلتهم وَمرَّة على الْمَعْنى فَجمع لأَنهم وَإِن قلوا كَانُوا جمَاعَة وَجمع مَا فِي يُونُس ليُوَافق اللَّفْظ الْمَعْنى وَأما قَوْله فِي يُونُس {وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك} فَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله

98 - قَوْله {وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على النَّار} ثمَّ أعَاد فَقَالَ {وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم} لأَنهم أَنْكَرُوا النَّار فِي الْقِيَامَة وأنكروا جَزَاء الله ونكاله فَقَالَ فِي الأولى {إِذْ وقفُوا على النَّار} وَفِي الثَّانِيَة {وقفُوا على رَبهم} أَي على جَزَاء رَبهم ونكاله فِي النَّار وَختم بقوله {فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون}

99 - قَوْله {إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا وَمَا نَحن بمبعوثين} لَيْسَ غَيره وَفِي غَيرهَا بِزِيَادَة {نموت ونحيا} و45 24 لِأَن مَا فِي هَذِه السُّورَة عِنْد كثير من الْمُفَسّرين مُتَّصِل بقوله {وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} {وَقَالُوا إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا وَمَا نَحن بمبعوثين}

29 - وَلم يَقُولُوا ذَلِك أَي {نموت ونحيا} بِخِلَاف مَا فِي سَائِر السُّور فَإِنَّهُم قَالُوا ذَلِك فَحكى الله عَنْهُم ذَلِك

100 - قَوْله {وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لعب وَلَهو} قدم اللّعب على اللَّهْو فِي هَذِه السُّورَة فِي موضِعين وَكَذَلِكَ فِي سورتي الْقِتَال 36 وَالْحَدِيد 20

وَقدم اللَّهْو على اللّعب فِي الْأَعْرَاف وَالْعَنْكَبُوت وَإِنَّمَا قدم اللّعب فِي الْأَكْثَر لِأَن اللّعب زَمَانه الصِّبَا وَاللَّهْو زَمَانه الشَّبَاب وزمان الصِّبَا مقدم على زمَان الشَّبَاب يُبينهُ مَا ذكر فِي الْحَدِيد {اعلموا أَنما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب} كلعب الصّبيان وَلَهو كلهو الشبَّان وزينة كزينة النسوان وتفاخر كتفاخر الإخوان وتكاثر كتكاثر السُّلْطَان

وَقَرِيب من هَذَا فِي تَقْدِيم لفظ اللّعب على اللَّهْو قَوْله تَعَالَى {وَمَا بَينهمَا لاعبين} {لَو أردنَا أَن نتَّخذ لهوا لاتخذناه من لدنا}

وَقدم اللَّهْو فِي الْأَعْرَاف لِأَن ذَلِك فِي الْقِيَامَة فَذكر على تَرْتِيب مَا انْقَضى وَبَدَأَ بِمَا بِهِ الْإِنْسَان انْتهى من الْحَالَتَيْنِ وَأما العنكبوت فَالْمُرَاد بذكرها زمَان الدُّنْيَا وَأَنه سريع الِانْقِضَاء قَلِيل الْبَقَاء {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان}

64 - أَي الْحَيَاة الَّتِي لَا أمد لَهَا وَلَا نِهَايَة لأبدها بَدَأَ بِذكر اللَّهْو لِأَنَّهُ فِي زمَان الشَّبَاب وَهُوَ أَكثر من زمَان اللّعب وَهُوَ زمَان الصِّبَا

101 - قَوْله {أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله أَو أتتكم السَّاعَة} ثمَّ قَالَ {قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله بَغْتَة} وَلَيْسَ لَهما ثَالِث وَقَالَ فِيمَا بَينهمَا {قل أَرَأَيْتُم} وَكَذَلِكَ فِي غَيرهَا وَلَيْسَ لهَذِهِ الْجُمْلَة فِي الْعَرَبيَّة نَظِير لِأَنَّهُ جمع بَين علامتي خطاب وهما التَّاء وَالْكَاف وَالتَّاء اسْم بِالْإِجْمَاع وَالْكَاف حرف عِنْد الْبَصرِيين يُفِيد الْخطاب فَحسب وَالْجمع بَينهمَا يدل على أَن ذَلِك تَنْبِيه على شَيْء مَا عَلَيْهِ من مزِيد وَهُوَ ذكر الاستئصال بِالْهَلَاكِ

وَلَيْسَ فِيمَا سواهُمَا مَا يدل على ذَلِك فَاكْتفى بخطاب وَاحِد وَالْعلم عِنْد الله

102 - قَوْله {لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي الْأَعْرَاف {يضرعون} بِالْإِدْغَامِ لِأَن هَهُنَا وَافق مَا بعده وَهُوَ قَوْله {جَاءَهُم بأسنا تضرعوا} ومستقبل تضرعوا يَتَضَرَّعُونَ لَا غير

103 - قَوْله {انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات} مُكَرر لِأَن التَّقْدِير انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات ثمَّ هم يصدفون عَنْهَا فَلَا تعرض عَنْهُم بل تكررها لَهُم لَعَلَّهُم يفقهُونَ

104 - قَوْله {قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله وَلَا أعلم الْغَيْب وَلَا أَقُول لكم إِنِّي ملك} فكرر لكم وَقَالَ فِي هود {وَلَا أَقُول إِنِّي ملك} فَلم يُكَرر لكم لِأَن فِي هود تقدم {إِنِّي لكم نَذِير} وعقبه {وَمَا نرى لكم}

وَبعده {أَن أنصح لكم} فَلَمَّا تكَرر لكم فِي الْقِصَّة أَربع مَرَّات اكْتفى بذلك

105 - قَوْله {إِن هُوَ إِلَّا ذكرى للْعَالمين} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي سُورَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام {إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} منون لِأَن فِي هَذِه السُّورَة تقدم {بعد الذكرى} {وَلَكِن ذكرى} فَكَانَ الذكرى أليق بهَا

106 - قَوْله {إِن الله فالق الْحبّ والنوى يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت ومخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي آل عمرَان {وَتخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} وَكَذَلِكَ فِي الرّوم 19 وَيُونُس 31 {يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} لِأَن مَا فِي هَذِه السُّورَة وَقعت بَين أَسمَاء الفاعلين وَهُوَ {فالق الْحبّ والنوى} {فالق الإصباح وَجعل اللَّيْل سكنا} وَاسم الْفَاعِل يشبه الِاسْم من وَجه فيدخله الْألف وَاللَّام والتنوين والجر وَغير ذَلِك وَيُشبه الْفِعْل من وَجه فَيعْمل عمل الْفِعْل وَلَا يثنى وَلَا يجمع إِذا عمل وَغير ذَلِك وَلِهَذَا جَازَ الْعَطف عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ نَحْو قَوْله {إِن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا} وَجَاز عطفه على الْفِعْل نَحْو قَوْله {سَوَاء عَلَيْكُم أدعوتموهم أم أَنْتُم صامتون}

فَلَمَّا وَقع بَينهمَا ذكر {يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت} لفظ الْفِعْل {ومخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} بِلَفْظ الِاسْم عملا بالشبهين وَأخر لفظ الِاسْم لِأَن الْوَاقِع بعده اسمان والمتقدم اسْم وَاحِد بِخِلَاف مَا فِي آل عمرَان لِأَن مَا قبله وَمَا بعده أَفعَال فَتَأمل فِيهِ فَإِنَّهُ من معجزات الْقُرْآن

107 - قَوْله {قد فصلنا الْآيَات لقوم يعلمُونَ} ثمَّ قَالَ {قد فصلنا الْآيَات لقوم يفقهُونَ} وَقَالَ بعدهمَا {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ}

99 - لِأَن من أحَاط علما بِمَا فِي الْآيَة الأولى صَار عَالما لِأَنَّهُ أشرف الْعُلُوم فختم الْآيَة بقوله {يعلمُونَ} وَالْآيَة الثَّانِيَة مُشْتَمِلَة على مَا يَسْتَدْعِي تأملا وتدبرا وَالْفِقْه علم يحصل بالتدبر والتأمل والتفكر وَلِهَذَا لَا يُوصف بِهِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فختم الْآيَة بقوله {يفقهُونَ} وَمن أقرّ بِمَا فِي الْآيَة الثَّالِثَة صَار مُؤمنا حَقًا فختم الْآيَة بقوله {يُؤمنُونَ} حَكَاهُ أَبُو مُسلم عَن الْخَطِيب

وَقَوله {إِن فِي ذَلِكُم لآيَات} فِي هَذِه السُّورَة بِحُضُور الْجَمَاعَات وَظُهُور الْآيَات عَم الْخطاب وَجمع الْآيَات

108 - قَوْله {أنشأكم} وَفِي غَيرهَا {خَلقكُم} و4 1 و6 2 و7 189 الخ لموافقة مَا قبلهَا وَهُوَ {وأنشأنا من بعدهمْ} وَمَا بعْدهَا {وَهُوَ الَّذِي أنشأ جنَّات معروشات}

109 - قَوْله {مشتبها وَغير متشابه} وَفِي الْآيَة الْأُخْرَى {متشابها وَغير متشابه} لِأَن أَكثر مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن من هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ جَاءَ بِلَفْظ التشابه نَحْو قَوْله {وَأتوا بِهِ متشابها} {إِن الْبَقر تشابه علينا} {تشابهت قُلُوبهم} {وَأخر متشابهات} فجَاء قَوْله {مشتبها وَغير متشابه} فِي الْآيَة الأولى و {متشابها وَغير متشابه} فِي الْآيَة الْأُخْرَى على تِلْكَ الْقَاعِدَة

ثمَّ كَانَ لقَوْله تشابه مَعْنيانِ أَحدهمَا الْتبس وَالثَّانِي تساوى وَمَا فِي الْبَقَرَة مَعْنَاهُ الْتبس فَحسب فَبين بقوله {متشابها} وَمَعْنَاهُ ملتبسا لِأَن مَا بعده من بَاب التَّسَاوِي وَالله أعلم

110 - قَوْله {ذَلِكُم الله ربكُم لَا إِلَه إِلَّا هُوَ خَالق كل شَيْء} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي الْمُؤمن {خَالق كل شَيْء لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} لِأَن فِيهَا قبله ذكر الشُّرَكَاء والبنين وَالْبَنَات فَدفع قَول قَائِله بقوله {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} ثمَّ قَالَ {خَالق كل شَيْء} وَفِي الْمُؤمن قبله ذكرالخلق وَهُوَ {لخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس} فَخرج الْكَلَام على إِثْبَات خلق النَّاس لَا على نفي الشَّرِيك فَقدم فِي كل سُورَة مَا يَقْتَضِيهِ مَا قبله من الْآيَات

111 - قَوْله {وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون} وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى من هَذِه السُّورَة {وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون} لِأَن قَوْله {وَلَو شَاءَ رَبك} وَقع عقيب آيَات فِيهَا

ذكر الرب مَرَّات وَمِنْهَا {جَاءَكُم بصائر من ربكُم} فختم بِذكر الرب ليُوَافق آخرهَا أَولهَا وَقَوله {وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ} وَقع بعد قَوْله {وَجعلُوا لله مِمَّا ذَرأ} فختم بِمَا بَدَأَ فِيهِ

112 - قَوْله {إِن رَبك هُوَ أعلم من يضل عَن سَبيله} وَفِي {ن والقلم} {إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله} بِزِيَادَة الْبَاء وَلَفظ الْمَاضِي لِأَن إِثْبَات الْبَاء هُوَ الأَصْل كَمَا فِي {ن والقلم} وَغَيرهَا من السُّور لِأَن الْمَعْنى لَا يعْمل فِي الْمَفْعُول بِهِ فَنوى الْبَاء وَحَيْثُ حذفت أضمر فعل يعْمل فِيمَا بعده وخصت هَذِه السُّورَة بالحذف مُوَافقَة لقَوْله {الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته} وَعدل هُنَا إِلَى لفظ الْمُسْتَقْبل لِأَن الْبَاء لما حذفت الْتبس اللَّفْظ بِالْإِضَافَة تَعَالَى الله عَن ذَلِك فنبه بِلَفْظ الْمُسْتَقْبل على قطع الْإِضَافَة لِأَن أَكثر مَا يسْتَعْمل لفظ أفعل من يَسْتَعْمِلهُ مَعَ الْمَاضِي نَحْو أعلم من دب ودرج وَأحسن من قَامَ وَقعد وَأفضل من حج وَاعْتمر فَتنبه فَإِنَّهُ من أسرار الْقُرْآن لِأَنَّهُ لَو قَالَ أعلم من ضل بِدُونِ الْيَاء مَعَ الْمَاضِي لَكَانَ الْمَعْنى أعلم الضَّالّين

113 - قَوْله {اعْمَلُوا على مكانتكم إِنِّي عَامل فَسَوف تعلمُونَ} بِالْفَاءِ حَيْثُ وَقع وَفِي هود {سَوف تعلمُونَ} بِغَيْر فَاء لِأَنَّهُ تقدم فِي هَذِه السُّورَة وَغَيرهَا {قل} فَأَمرهمْ أَمر وَعِيد بقوله {اعْمَلُوا} أَي

اعْمَلُوا فستجزون وَلم يكن فِي هود {قل} فَصَارَ استئنافا وَقيل سَوف تعلمُونَ فِي سُورَة هود صفة لعامل أَي إِنِّي عَامل سَوف تعلمُونَ فَحذف الْفَاء

114 - قَوْله {سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء} وَقَالَ فِي النَّحْل {وَقَالَ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء} فَزَاد من {دونه} مرَّتَيْنِ وَزَاد {نَحن} لِأَن لفظ الْإِشْرَاك يدل على إِثْبَات شريك لَا يجوز إثْبَاته وَدلّ على تَحْرِيم أَشْيَاء وَتَحْلِيل أَشْيَاء من دون الله فَلم يحْتَج إِلَى لفظ {من دونه} بِخِلَاف لفظ الْعِبَادَة فَإِنَّهَا غير مستنكرة وَإِنَّمَا المستنكر عبَادَة شَيْء مَعَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا يدل على تَحْرِيم شَيْء كَمَا يدل عَلَيْهِ أشرك فَلم يكن لله هُنَا من يعتبره بقوله {من دونه} وَلما حذف {من دونه} مرَّتَيْنِ حذف مَعَه {نَحن} لتطرد الْآيَة فِي حكم التَّخْفِيف

115 - قَوْله {نَحن نرزقكم وإياهم} وَقَالَ فِي سُبْحَانَ {نَحن نرزقهم وَإِيَّاكُم} على الضِّدّ لِأَن التَّقْدِير من إملاق بكم نَحن نرزقكم وإياهم وَفِي سُبْحَانَ خشيَة إملاق يَقع بهم نَحن نرزقهم وَإِيَّاكُم

116 - قَوْله {ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تعقلون} وَفِي الثَّانِيَة {لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} وَفِي الثَّالِثَة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} لِأَن الْآيَة الأولى مُشْتَمِلَة على خَمْسَة أَشْيَاء كلهَا عِظَام جسام فَكَانَت الْوَصِيَّة بهَا من أبلغ الْوَصَايَا فختم الْآيَة الأولى بِمَا فِي الْإِنْسَان من أشرف السجايا وَهُوَ الْعقل الَّذِي امتاز بِهِ الْإِنْسَان عَن سَائِر الْحَيَوَان

وَالْآيَة الثَّانِيَة مُشْتَمِلَة على خَمْسَة أَشْيَاء يقبح تعَاطِي ضدها وارتكابها وَكَانَت الْوَصِيَّة بهَا تجْرِي مجْرى الزّجر والوعظ فختم الْآيَة بقوله {تذكرُونَ} أَي تتعظون بمواعظ الله

وَالْآيَة الثَّالِثَة مُشْتَمِلَة على ذكر الصِّرَاط الْمُسْتَقيم والتحريض على اتِّبَاعه وَاجْتنَاب مناهيه فختم الْآيَة بالتقوى الَّتِي هِيَ ملاك الْعَمَل وَخير الزَّاد

117 - قَوْله {جعلكُمْ خلائف الأَرْض} فِي هَذِه السُّورَة وَفِي يُونُس وَالْمَلَائِكَة {جعلكُمْ خلائف فِي الأَرْض} لِأَن فِي هَذَا الْعشْر

تكَرر ذكر المخاطبين كرات فعرفهم بِالْإِضَافَة وَقد جَاءَ فِي السورتين على الأَصْل وَهُوَ {جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} {جعلكُمْ مستخلفين}

118 - قَوْله {إِن رَبك سريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم} وَقَالَ فِي الْأَعْرَاف {إِن رَبك لسريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم} لِأَن مَا فِي هَذِه السُّورَة وَقع بعد قَوْله {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} وَقَوله {وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف الأَرْض} فقيد قَوْله {غَفُور رَحِيم} بِاللَّامِ تَرْجِيحا للغفران على الْعقَاب

وَوَقع مَا فِي الْأَعْرَاف بعد قَوْله {وأخذنا الَّذين ظلمُوا بِعَذَاب بئيس} وَقَوله {كونُوا قردة خَاسِئِينَ} فقيد رَحْمَة مِنْهُ للعباد لِئَلَّا يرجح جَانب الْخَوْف على الرَّجَاء وَقدم سريع الْعقَاب فِي الْآيَتَيْنِ مُرَاعَاة لفواصل الْآية