باب التاء والمثناة

تتابعي بقر

يقال بعت الرجل بالكسر أتبعه إذا مشيت وراءه؛ وكذا أتبعته، وتتابعوا: اتبع بعضهم بعضا، والبقر معروف يطلق على الإنسية المعروفة وعلى الوحشية، كقول الشاعر يصف نساء:

أشبهن من بقر الخلساء أعينها ... و هن أحسن من صيرانها صورا

و هن أربع أصناف: المها والأيل واليحمور والتيثلز وأصل المثل أنَّ بشر بن الحارث الأسدي خرج في سنة جهد وجدب، فمروا ببقر فنفرت منهم، فقام على راس الجبل ورماها بقوسه، فجعلت تلقي نفسها وهو يقول: تتابع بقر، حتى تكسرت ثم رجع إلى قومه فأعلمهم بها فأخذوها. يضرب عند تتابع الأمر وسرعته. وعلى هذا فبقر منادى، تتابعي يا بقر. وحذف منه حرف النداء وإنَّ كان اسم جنس، وهو جائز على قلة، كقوله: ثوبي حجروقال الشاعر:

فقلت له: عطار هلا أتينا ... بريح الخزامى أو بخوضة عفرج

أتبع الفرس لجامها، والناقة زمامها، والدلو رشاءها.

ويقال أيضاً: أتبع المهرة لجامها الخ. وتقول اتبعت زيداً إذا سبقك فلحته، واتبعته كذا إذا جعلت ذلك تابعا له : والفرس معروف، يقع على الذكر والأنثى والمهر ولد الفرس، وقيل أوّل ما ينتج منه ومن غيره؛ والأنثى مهرة. قال عنترة:

لمّا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

و قال حميدة بنت النعمان بن بشير:

وما أنا إلاّ مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل

و الناقة معروفة، جمعها ناق ونوق وانوق ويهمز واونق واينق على القلب وانواق والزمام بكسر الزاي: ما يشد به جمعه أزمة والدلو معروف مؤنث وقد يذكر جمعه أدل ودلاء ودلي والرشاء بكسر الراء والمد: الحبل وهمزته مقلوبة عن واو جمعه ارشية وقال زهير:

فشج به الأماعز وهي تهوي ... هوي الدلو أسلمها الرشاء

أي شج هذا الحمار المذكور يعني علا بها أي بالأتان الاماعز وهي الأمكنة الغليظة وهي تهوي أي تسرع إسراع الدلو أسلمها الرشاء أي انقطع عنها حبلها فهوت إلى قعر البئر ولا أسرع منها حينئذ ومعنى جملة المثل ظاهر وهي عند التفصيل ثلاثة أمثال ومقصدها واحد تضرب عند الأمر باستكمال المعروف وإتمام الصنع. وسببه إنَّ ضرار بن عمرو أغار على حي عمرو بن ثعلبة وعمرو غير حاضر. فلما حضر تبعه فلحقه قبل أن يصل إلى أرضه فقال له: " رد علي أهلي ومالي" فردهما عليه فقال له: " رد علي قياني" فرد عليه القينة الرابعة وحبس ابنتها سلمى. فقال له حينئذ: " يا أبا قبيضة اتبع الفرس" الخ. وفي معنى الجملة الأخيرة قول الحماسي قيس بن الخطيم:

إذا ما شربت أربعا خط مأرزي ... و اتبعت دلوي في السماح رشاءها

يقول إذا شربت من الراح أربعا: يعني أربع اكؤس خط مأرزي أي جررت ردائي خيلاء واتبعت دلوي في السماح رشاءها أي تخلقت بالسماحة والفضل فأعطيت البذل وأوسعت الطول. وهم يفتخرون بالسماح حال السكر لأن ذلك من مكارم الأخلاق التي يحركها الثمل والنشوة كما قال طرفة:

لا تعز الخمر إن طافوا بها ... بسباء الشول والكوم البكر
فإذا ما شربوها وانتشروا ... و هبوا كل آمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر

و الآمون كصبور التي يؤمن عثارها من النوق والطمر الوثاب من الخيل. يقول: إذا سكروا جادوا بالنجائب من الإبل والعتاق من الخيل. وقوله يلحفون الأرض هداب الأزر أي يجرون هداب الأزر على الأرض. هو كصدر بيت أبن الخطيم. وابلغ من هذا في الافتخار واشمل للوصف بالسماح حالتي السكر والصحو معا قول عنترة:

فإذا انتشيت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما اقصر عن ندى ... و كما علمت شمائلي وتكرمي

و كقول امرئ القيس يمدح أخاه سعد بن الضباب:

وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... و من خاله من يزيد ومن حجر
سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... و نائل ذا إذا صحا وإذا سكر

و هذا من الشعر الذي يوضع على كرائم الإحداق وترصع به نفائس الأطواق غير أن فيه ثلبا خفيفا هو توالي القبضومن ذا الذي يسلم من الاعتراض عند العرض وقول طرفة " لا تعز الخمر إن طافوا بها " يريد: لا يعجزون عن شرائها لغلائها إنَّ جاءوا مريدين لها بل يبذلون فيها الشول والكوم البكر أي التي بكرت بالنتاج وهي احب أموالهم وهو كقول عنترة:

بذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك غايات التجار ملوم

و تقدم تفسيره. وهذا الوصف مدح عندهم لكن ما دام باقيا على سنن الاقتصاد والعدل وقد يمتدحون بإنفاق المال في النوائب واقتناء المحامد وترك أنفاقه في الشهوات كقول زهير في حصن بن حذيفة:

أخ ثقة لا تتلف الخمر ماله ... و لكنه قد يتلف المال نائله

و محتمل لأن يكون نفيا للوصف الخاص وهو الإتلاف في الخمر أو الفعل من اصله وهو الأنفاق فيها المؤدي إلى ذلك.

اتبع من الظل.
الاتباع تقدم والظل معروف قيل وهو الفيء وقيل الظل بالغداة والفيء بالعشي وقد يستعمل في سواد الليل. قال ذو الرمة:

قد اعرف النازح المجهول معسفه ... في ظل اخضر يدعو هامه البوم
قال في الصحاح: وهو استعارة لأن الظل في الحقيق إنّما هو ضوء شعاع الشمس دون الشعاع. فإذا لم يكن ضوء فهو ظلمة وليس بظل. والمقصود من المثل إنَّ ظل الحيوان ونحوه تابع له أينما تحرك وملاصق له أينما تقلب لا يفارقه ولا يتلكأ عنه فضرب به المثل لذلك في كل تابع. ويسمى الظل تبعا على مثال سكر أما لهذا المعنى وأما لأنّه يتبع الشمس كما قيل. واحسن بعض الشعراء في ذكر الظل حيث قال:

مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا ... فإذا ما ملت عنه اتبعك

اتجر من عقرب.
يقال: تجر في الشيء يتجر على مثال كتب يكتب فهو تاجر والتاجر من يبيع ويشتري في كل شيء وجمعه تجار وتجر. وقد يطلق على بائع الخمر خاصة وهو الكثير الاستعمال عند الأعراب في الجاهلية.
قال امرؤ القيس:

كأن التجار اصعد بسبيئه ... من الخص حتى أنزلوها على يسر

و قال أيضاً:

إذا ذقت فاها قالت طعم مدامة ... معتقة مما تجيء به التجر

و العقرب معروف يذكر ويؤنث وعقرب في المثل اسم رجل كان بالمدينة وكان من اكثر الناس تجارة وأشدهم مطلا وتسويقا حتى ضربوا بمطله النثل ويحكى إنّه اتفقت له معاملة مع الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب وكان هو من اشد الناس اقضاء. فقال الناس: ننظر الآن ما يصنعان. فلما حل الأجل لزم الفضل باب عقرب وقيد حماره بالباب وقعد يقرأ القرآن. فأقام عقرب على المطل غير مكترث به. ثم إنَّ الفضل ترك ملازمة بابه واشتغ بهجائه. فمما اشتهر عنه فيه قوله:

قد تجرت في سوقنا عقرب ... لا مرحبا بالعقرب التاجره
كل عدو كيده في أسته ... فغير مخشي ولا ضائره
كل عدو يتقلى مقبلا ... و عقرب يخشى من الدابره
إن عادت العقرب عدنا لها ... و كانت النعل لها حاضره

و حكي إنَّ الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد كان في صباه هو وزوج أخته الشيخ تقي الدين بن الشيخ ضياء الدين يلعبان الشطرنج فأذن العشاء فقاما فصليا فقال الشيخ تقيي الدين: أما نعود فقال صهره:

إن عادت العقرب عدنا لها ... و كانت النعل لها حاضرة

فانف الشيخ من ذلك ولم يعد إلى إنَّ مات رحمه الله تعالى.

تحفة المؤمن الموت.
وهو حديث والتحفة البر والصلة والبرة من الفاكهة ونحوها وتاؤه أصلية. يقال أتحفته. وحكى أبى أبن الأثير عن الأزهري إنَّ أصل التحفة وحفة فأبدلت الواو تاء.وعليه يكون موضعه الواو. والمعنى إنَّ المؤمن إنما ينجو من أذى الدنيا وأهوالها وأحزانها أدارها ويصل إلى ما اعد له عند الله من الخير وهيئ له من الكرامة بالموت. كما قيل:

قد قلت إذا مدح الحياة وأسرفوا: ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان عذابه بلقائه ... و فراق كل معاشر لا ينصف

أتخم من الفصيل.
التخمة بفتح الخاء كهمزة وتسكن في الشعر: داء يصيب من أكل الطعام معروف الجمع تخم وتخمات. يقال: تخم بفتح الخاء وكسرها وأتخم: أصابه ذلك وأتخمه الطعام. وهذا الطعام متخمة يتخم به. وأصل التخمة وخمة من قولك: وخم الطعام والنبات فهو وخيم إذا لم يوافق. وتوخمه واستوخمه إذا لم يستمره. وذكرناه في هذا الباب نظرا إلى ظاهر اللفظ: فإنَ الواو مستهلكة بالإبدال حتى وقع تصرف الفعل. والفصيل، بصاد مهملة: ولد الناقة إذا فصل عن أمه ويوصف بالتخمة. وقالوا لأنه يفرط في الرضاع أكثر مما يطيق.

فائدة في ذكر أسنان الإبل. قال أهل اللغة: إذا وضعت الناقة، فقبل إنَّ يعلم أذكر ولدها أم أنثى، ولدها سليل، فإذا علم، فإن كان ذكرا فهو سقب، بفتح السين المهملة وسكون القاف، وأمه مسقب؛ وإنَّ كانت أنثى فهي حائل، وأمها أم حائل، كما قال الهذلي:

فتلك التي لا يبرح القلب حبها ... و لا ذكرها ما أرزمت أم حائل

و متى جاءت الناقة بذكر قيل أنَّ ذكرت، فهي مذكر؛ وإنَّ جاءت بأنثى قيل أنثت، فهي مؤنث. فإنَ كان من دأبها أن تلد الذكور قليل هي مذكار. قال النابغة على وجه التمثيل:

لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحت عليك بناتق مذكار

و إنَّ كان دأبها الإناث فهي مئناث؛ فإذا اشتد ولدها ومشى معها فهو راشح وهي مرشح؛ فإذا حمل في سنامه شحما فهو مجد ومكعد، ثم هو ربع، على وزن صرد. والذي يقوله الكثيرون إنَّ الربع ما نتج في أوّل الناتج كما إنَّ الهبع - بوزنه - ما نتج في أخره؛ ثم هو حوار، بضم الأول؛ فإذا فصل عن أمه، أي فطم عنها، فهو فصيل؛ فإذا أتى عليه حول فأبن مخاض، ولذلك قيل:

وجدنا جعفر فضلت فقيما ... كفضل أبن المخاض على الفيصل

و الأنثى بنت مخاض. وسمي أبن مخاض لأن أمه لحق بالمخاض من النوق، أي الحوامل وإنَّ لم تكن حاملا، فإذا استكملت السنة الثانية ودخل في الثالثة فصار لأمه لبن وكانت لبونا، فهو أبن اللبون، فإذا دخل في الرابعة فهو حق والأنثى حقة. وسمي بذلك لاستحقاقه أنَّ يحمل عليه ويركب؛ فإذا دخل في الخامس فهو جذع والأنثى جذعة؛ فإذا دخل في السادسة فهو ثني والأنثى ثنية؛ فإذا دخل في السابعة فهو رباع والأنثى رباعية؛ فإذا دخل الثامنة فهو سديس وسدس بفتح الدال للذكر والأنثى، وقد يقال الأنثى سديسة؛ فإذا دخل في التاسعة فهو بازل للذكر والأنثى؛ فإذا دخل في العاشرة فهو مخلف. ولاسن بعد هذا، وإنما يقال بازل عام، وبازل عامين، ومخلف عام وعامين. وما ذكرنا في أوائل الأوصاف هو طريقة بعض اللغويين، وليس هذا محل بسط اللغة.

تركت الرأي ببقة.

ويروى: ببقة تركت الرأي. وهو مثل قاله قصير بن سعد لجذيمة لمّا صار في بلد الزباء. وتقدم هذا مستوفى. وفيه قال عدي بن الرقاع:

دعا بالبقة الأمناء يوما ... جذيمة ينتحي عصبا ثمينا
فطاوع نفسه وعصى قصيراً ... و كان يقول: لو نفع اليقينا

و قال نهشل بن ضمرة:

ومولي عصاني واستبد بأمره ... كما لم يطع باليقين قصير

ترك الخداع من أجرى من المائة.
الترك معروف، والخداع: الختل والمكر، والخداع والمخادعة المخاتلة؛ والمائة حذف مميزة أي مائة غلوة، والغلوة بالفتح: ما بين موقف الرامي ومسقط سهمه. يقال: غلوت بالسهم غلوا وغلوا، وغاليته، وغاليت به: رفعت به إلى أقصى الغاية. وكل مرماة فهي غلوة وكان أصل المثل إنَّ الرهان، لمّا وقع بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر الفزاري أو أخيه حمل بن بدر، قال حذيفة: خدعتك يا قيس، ترك الخداع من أجرى من المائةيريد أن أجرى فرسه وأرسله من مائة غلوة، فقد كشف أمره ولم يبق خداع. وقيل إنَّ أحد المتخاطرين في الرهان المذكور قال لصاحبه: الغاية على حكمي. فقال: الغاية مائة غلوة. قال: أتخدعني فقال: ترك الخداع من أجرى من المائة. يضرب للرجل الذي قد حنكه السن مع العقل والحزم.

تركت فلانا بملاحس البقر أولادها.
ويقال: تركته بملحس البقر. والملاحس جمع ملحس، وهو مفعل من اللحس. يقال: لحس القضعة ونحوها بالكسر، يلحسها لحسا؛ والملحس يكون مصدراً بمعنى اللحس ومكانا له كما في النظارة. والمعنى: تركته بمكان ملحس البقر أولادها أي بحيث تلحس البقر أولادها يعنون به مكان البقر.

تركته ترك الظبي ظله.
الظبي معروف وجمعه اظب وظباء وظبي وظله بكسر الظاء المشالة: ما يأوي إليه ويستظل به من حر الشمس. وهو إذا تركه لا يعود إليه أبداً. فيضرب للرجل عند نفوره. وعبارة صاحب القاموس: اتركه ترك الظبي ظله وهو نحو مما كتبنا نحن. وفعل ذلك لبيان إنَّ الراء في ترك ساكنه وهو مصدر أضيف إلى فاعله وكمل بمفعول أي تركا يشبه ترك الظبي لظله وقال: إنَّ فتح الراء من ترك كما عند الجوهري وهم.

قلت: وهو كذلك في صحاح الجوهري مضبوطا بالقلم مفتوح في النسخة. ولعل الرواية كذلك عنه وإلاّ فهو محتمل لأن يكون مسكنا. وهو مصدر عاملة مقدرة وهو الذي أظهرناه أو ما يشبهه. ثم على الفتح لا مانع من صحته إنَّ تكلمت به العرب كذلك. ويكون فعلا ماضيا والظبي فاعله. فإذا نفر أحد من شيء نفرة عزما حسن إنَّ يقال: ترك الظبي ظله أي إنّه ذهب مذهبا لا مرجع فيه كأنه ظبي ترك ظله.

تركته كجوف الحمار.
ويقال: هو كجوف حمار ويقال كجوف عير ومعناه خال لا خير فيه. واختلف العلماء فيه فقيل: المراد الحمار المعروف وجوفه ليس فيه شيء ينتفع به فلا خير فيه. وقيل: المراد حمار أبن مويلع وهو رجل من عاد وله موضع يقال له جوف كان يزدرعه احرقه الله تعالى واحرق ما فيه لمّا كفر بالله تعالى. وفيه يقال اكفر من حمار كما سيأتي. قال امرؤ القيس:

وخرق كجوف العير قفر مضلة ... قطعة بسام ساهم الوجه حسان

قال شارح ديوان عاصم بن أيوب: قول كجوف العير قال أبن الكلبي: هو واد باليمن قفر لا شيء به. قال: وقال القتبي: أراد كجوف الحمار. والحمار وإنَّ كان ذكيا لا ينتفع به ولا بشيء من حشاه فكأنه خال من كل خير. وقيل: وهو رجل من بقايا عاد كان يقال له حمار بن مويلع وكان على التوحيد فأصابت بنين به عشرة صاعقة فأحرقتهم فغضب وقال: لا اعبد ربا فعل بي هذاومال إلى عبادة الأوثان ومنع الضيفة. فأرسل الله عليه نارا فأحرقته وأحرقت جوفه وهو موضع كان يزدرعه من جميع ما كان فيه وجميع من دخل معه في عبادة الأوثان فاصبح الجوف كأنه الليل المظلم. فضربت العرب المثل قالوا: وادي الحمار وجوف العير. وقال أبن دريد: إذا قالت العرب: كأنه جوف حمار فأنهم يريدون وصف الموضع الخريب الوحش. وقال: أما جوف حمار فكان لحمار بن مالك أبن نصير بن أسد وكان جبارا عاتيا. فبعث الله عليه نارا فأحرقت الوادي بما فيه وصار مثلا.

تركتهم لحما على وضم.
اللحم معروف بسكون الحاء ويجوز فتحها والوضم بفتحتين: ما وقي به اللحم من خشب وحصير ونحوهما. قال الشاعر:

لست براعي ابل ولا غنم ... و لا بجزار على ظهري وضم

جمعه اوضام واوضمة. تقول وضمت اللحم بفتح الضاد إذا عملت له وضما أو وضعته على الوضم واوضمته واوضمت له إذا عملت وضما وتقول: تركتهم لحما على وضم أي مثل اللحم المجعول أي مثل اللحم المجعول على الاوضام وذلك إذا أوقعت بهم وأوجعت فيهم. قال الحماسي:

وتركتنا لحما على وضم ... لو كنت تستبقي من اللحم

و قال البوصيري في معناه:

ما زال يلقاهم في كل معترك ... حتى حكوا بالقنا لحما على وضم

و قال صفي الدين الحلي:

أبيت والدمع هام هامل سرب ... و الجسم في أضم لحما على وضم

ترك الوطن أحد السباءين.
الوطن بالفتحتين معروف والسباء بالكسر والمد: الأسر. يقال: سبى عدوه يسبيه سبيا سباء واستباه إذ أسره. والمعنى إنَّ الخروج من الوطن ومفارقة الأهل والسكن شبيه بالسباء نوعان: أحدهما الأسر والآخر: السفر فسار السفر أحد السباءين وهذا ذم له. وتقدم في ذم السفر ومدحه من الآثار والأشعار ما أغنى عن الإعادة. وسيأتي ذكر ما في هذه التثنية الواقعة في السباء إن شاء الله تعالى.

اتق مأثور القول
التقوى معروف والمأثور: المروي المحكي. والمثل لحمل بن بدر قاله يوم الهباءة وهو اكبر أيام حرب داحس بين عبس وذبيان وسبب الحرب كلها. وصدور المثل على ضرب من الإيجاز والاختصار إنَّ قيس بن زهير فيما يزعمون وهو من بني عبس كان اشترى من مكة درعا تسمى ذات الفضول فاغتصبها منه عمه الربيع بن زياد وكان سيد عبس. فغضب قيس وتحل عنهم ونزل على بني ذبيان وسيدهم إذ ذاك حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر فأكرموه واحسنوا جواره. ثم إنَّ قيس بن زهير وحذيفة بن بدر تراهنا يوما على خطر عشرين بعيرا وجعلا الغاية مائة غلوة والمضمار أربعين ليلة والمجرى من ذات الاصاد. فاجرى قيس داحس والغبراء وأجرى حذيفة الخطار والحنفاء. فوضعت بنو فزارة رهط حذيفة كمينا في الطريق.

فلما جاءت الغبراء وكانت سابقة لطموها وردوها. فقال قيس: سبقت فدفعوه عن ذلك حتى وقع بينهم الشر. فطلب منهم قيس بعيرا واحدا فقال جذيمة: ما كنا لنقر لكم بالسبق فلما رأى قيس ذلك ترحل عنهم وفارقهم. ثم إنّه أغار فلقي عوف بن بدر أخا حذيفة فقتله ووداه مائة ناقة عشراء. ثم خرج مالك بن زهير أخو قيس فلقيه حمل بن بدر فقتله. فأرسل قيس إلى حذيفة إنَّ اردد علينا ابلنا فقد قتلت مالك بن زهير بعوف بن بدر. وكانت الإبل قد تناجت عند حذيفة فدفعها دون أولادها. وامتنعت عبس إلاّ إنَّ يقابلهم ابلهم بأولادهم فهاجت الحرب بين الفريقين ودامت أربعين سنة فيما يزعمون إلى إنَّ اصلح بينهم الحارث بن عوف وهرم بن سنان المريان كما سنذكر. وكانت بنو عبس وتروهم فاجتمعت القبائل وحلفاؤها وتعاقدوا وتحالفوا فسار حذيفة إلى عبس في جموع لا تحصى. فلما رأت عبس ذلك اجتمعوا إلى قيس بن زهير فقالوا له " ما الرأي فقال: خلوا الأموال والظغن وادخلوا في الشعب فإنَ الجموع إذا رأت الظعائن لا رجال فيها أمنوا فغنموا وتفرقوا فتدركوا منهم حاجتكمفلما أشرفت جموع حذيفة على أموال بني عبس ظنوا انهم فروا فأمنوا وغنموا وجعل الجل يطرد ما قدر عليه من الأموال. فلما تفرقوا كرت عليهم خيل عبس فوضعت فيهم السلاح وانهزموا. وأسرفت في القتال حتى ناشدهم بنو ذبيان البقية وكان يوم شديد الحر. فمضى حذيفة وأخوه حمل حتى استغاثا بجفر الهباءة فنزلا ومعهما ورقاء بن بلال ونزعوا سلاحهم وسرجهم واقعدوا ربيئة يتطلع ولم يكن لعبس هم إلاّ في حذيفة. فبعثوا الخيل تقص أثره. فنظر الربيئة فقال: إني أرى شخصا كالنعامة فلم يكترثوا به وجعلوا يتحدثون فأذاهم بخيل عبس قد لحقهم وحالت بينهم وبين خيلهم. فلما حملوا عليهم وهم في الجفر قال حذيفة: يا بني عبس فأين الأحلام فضرب أخوه حمل بين كتفيه وقال: اتق مأثور القول فأرسلها مثلا. يريد: انك تقول قولا تتذلل فيه وتخضع وتقتل ولا ينفع فتشتهر عنك أخباره ويبقى عليك عاره. فقتلوا حذيفة ومن معه وتمزقت بنو ذبيان.

ولا يخفى إنَّ هذا المثل حقه إنَّ يذكر في غير هذا الباب لكن الواو لمّا استهلكت بالإبدال اعتبرنا الظاهر تقريبا. وداحس بالدال المهملة على وزن فاعل من الدحس وهو الدفع. وسنئتي بذلك لأن أباه ذا العقال وهو فرس كان لرجل يسمى حوطا خرجت به جاريتان له يومان تقودانه فمرتا به على فرس أنثى لقرواش تسمى جلواء وهي إذ ذاك وديق والو الديق بالدال المهملة: المشتهية الفحل ومنه المثل الآتي: ودق العير إلى الماء فلما رآها ذو العقال ودق. فضحك شباب منهم فاستحيت الجاريتان فأرسلتا مقوده فزنا عليه. فلما جاء حوط وكان رجلا سيئ الخلق عرف النزو في عين ذي العقال فغضب وقال: أعطوني ماء فحلي فلما رأوا الخطب قد عظم قالوا: دونك وماء فحلك فأخذ الفرس وجعل يده في الماء والتراب وادخل اليد في رحمها حتى إنّه استخرج الماء. وقد اشتملت الرحم على ما فيها فنتجت قروش مهرا اسمه داحسا لدحس حوط إياه وخرج كأنه ذو العقال أبوه. ثم إنَّ قيس بن زهير أغار على بني يربوع فغنم فرأى داحس قد ركبه فتيان فقطعها الخيل ونجوا. فاعجب به قيس ودعا إلى إنَّ يجعله فداء المغنم كله. فأطوه إياه وكان سبب الحروب حتى قيل: أشأم من داحس وسيأتي. والخطار بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة بعدها ألف فراء وهم فرس لحذيفة والحنفاء: فرس له أيضاً تأنيث الأحنف. والحنف قيل هو الاعوجاج في الرجل وقيل أن يقبل إحدى إبهامي الرجل على الأخرى وقيل ميل في صدور القدم وقيل المشي على ظهر القدمين من شق الخنصر.
ويذكر في هذه القصة أيضاً أن حذيفة أجرى قرزلا والقرزل بالقاف والراء والزاي على وزن جحذب وهو فرس لحذيفة أيضاً ويحتمل إنّه الخطار المذكور. وقد قيل في هذه القصة إنَّ الصحيح إنَّ الرهان إنّما وقع بين قيس وحمل بن بدر لا حذيفة وإنَّ فرس قيس داحس وفرس حمل الغرباء. وفي القصة اضطرابات كثيرة اضربنا عنها. والهباء بفتح الهاء ثم باء موحدة وبعد الألف همزة مقلوبة عن واو ثم هاء التأنيث وهي أرض لغطفان فيها ماء. وفي الفرسين يقول عنترة بن معاوية بن شداد العبسي يرثي مالك بن زهير:

لله عين من رأى مثل مالك ... عقير قوم إنَّ جرى فرسان
فليتهما لم يجريا نصف غلوة ... و ليتهما لم يرسلا لرهان
وليتها ماتا جميعا ببلدة ... و أخطاهما قيس فلا يريان
وكان لهى الهيجاء يحمى ذماره ... و يضرب عند الكرب كل بنان
لقد جلبا حينا وحربا عظيمة ... تبيد سراة الحي من غطفان

و قال الربيع بن زياد أيضاً عم مالك المذكور يرثيه:

إني أرقت فلم اغمض حار ... من سيء النبل الجليل الساري
من مثله يمشي النساء حواسرا ... و تقوم معولة مع الأسحار
أبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجوا النساء عواقب الأطهار
ما أن أرى في قتله لذوي النهى ... إلاّ المطي تشد والاكوار
ومجنبات ما يذقن عذوقة ... يقذفن بالمهرات والامهار
ومسارعا صدأ الحديد عليهم ... فكأنما طلب الموجوه يقار
من كل سرور بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسر يندبنه ... قد قمن قبل تبلج الأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تسترا ... فالآن حين بدون للنظار
يضربن حر وجوههن على فتى ... عف الشمائل طيب الأخبار

قوله: حار أراد يا حارث قوله: ترجوا النساء عواقب الأطهار يريد إنَّ النساء لا يأتين بمثله وفي عروض هذا البيت عيب القطع وهو لا يجوز إلاّ مع التصريع. والمنجبات: خيل يركبون الإبل فيقودونها هي لا يركبونها إلى موضع الغارة لتجم. ويقال ما ذقت عذوفا بالذال المعجمة وتهمل في لغة ربيعة وبالفاء أي شيء. ويقال عذوقا وعذوقة فإنَ كانت الرواية بغير هاء التأنيث ففي هذا العروض أيضاً عيب السابق. والمساعر جمع مسعر وهو الذي يسعر الحرب. قوله: قد قمن قبل تبلج الأسحار هكذا في الرواية. والجملة حال أي بجد النساء عند وصوله يندبنه وقد كن قمن إلى ذلك من الليل قبل تبلج الأسحار واستمررن على البكاء إلى وقت مجيئه. ويروى: يندبنه بالصبح قبل تبلج الأسحار. وقالوا يعني بالصبح هنا الحق والأمر الجلي وليس بظرف. ولا بد فيه مع ذلك من التقدير الذي في الرواية الأولى. ويصح إنَّ يكون الصبح أطلق على آخر الليل لقربه منه مجازا أو يكون على بابه. وقوله قبل تبلج الأسحار معمول لفعل مقدر كما في الرواية الأولى أو معمول ليندبه. ويكون بالصبح معمولا لحواسر على الألف والنشر مع تكلف. وأفاد بالبيتين انهم أدركوا ثأرهم لأن القتيل عند العرب لا يبكى حتى يؤخذ بثأره. وقال قيس بن زهير يرثي حمل بن بدر وهو أوّل من رثى مقتوله:

تعلم إنَّ خير الناس ميت ... على جفر الهباء لا يريم
ولو لا ظلمه مازلت أبكي ... عليه الدهر ما بدت النجوم
ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغنى والبغي مرتعه وخيم
أظن الحلم دل علي قومي ... و قد يستجهل الرجل الحليم
ومارست الرجال ومارسوني: ... فمعوج علي ومستقيم

و في ذلك قال أيضاً:

شفيت النفس من حمل بن بدر ... و سيفي من حذيفة قد شفاني
قتلت باخوتي سادات قومي ... وهم كانوا لنا حلي الزمان
فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم اقطع بهم إلاّ بناني

فائدة: حمل بن بدر المذكور بفتح الحاء المهملة وفتح الميم على لفظ ولد الضان. وفيه قال الشاعر:

ليت شعري يلحق الهيجا حمل ... ما احسن الموت إذا حان الأجل

و تمثل بهذا الشعر فيما ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه يوم الخندق. قال البكري: وفي همدان حمل بن زياد بن حسان بفتح الحاء وضم الميم وقي مدحج جمل كنانة بفتح الجيم والميم كلفظ واحد الجمال وفي كنانة خمل بن شق يعني بالخاء المعجمة مضمومة وتسكين الميم والله اعلم.

وأما سبب الصلح بينهم على الحارث بن عوف فهو إنَّ الحارث قال يوما لخارجة بن سنان: أتراني اخطب إلى أحد من العرب فيردني قال: ومن هو أوس بن حارثة في بلاده. فلما رأى الحارث قال: مرحبا بك يا حار قال: ويكقال: وما حاجتك قال: جئتك خاطبا. قال: ليست هناك فانصرف ولم يكلمه. ودخل أوس إلى امرأته مغصبا وكانت من عبس فقالت: من الرجل الذي وقف عليك قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف. قالت: فما لك لم تستنزله قال إنّه استمحق. قالت: وكيف قال: جاءني خاطبا. قالت: أف تريد تزويج بناتك قال: نعمقالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن قال: قد كان ذاك. قالت: فتدرك ما كان منكقال بماذا قالت: بأن تلحقه فترده. قال: وكيف وقد فرط مني ما فرط إليه قالت: تقول انك لقيتني مغضبا بأمر. فانصرف ولك عندي ما تحب فانه سيفعل فركب حارة في أثره . قال خارجة: فو الله إنا لنسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته فأقبلت على الحارث وما يكلمني غنا. فقالت: هذا أوس بن حارثة قال: وما نصنع به امض فلما رآنا لا نلتفت صاح: يا حار أربع علي فوقفنا له فكلمه بذاك الكلام فرجع مسرورا. ودخل أوس فقال لامرأته: ادعي لي فلانة كبرى بناته. فأتته فقال: يا بنية هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب وقد جاء خاطبا. فأردت إنَّ أزوجك منه فما تقولين قالت: لا تفعل قال: ولم قالت: لأني امرأة في وجهي ردة وفي خلقي بعض الحدة ولست بابنة عمه فيرعى رحمي وليس بجارك في البلد فيستحي منك ولا آمن إنَّ يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي وصمة. قال: قومي بارك الله فيك ثم دعى الوسطى فأجابته بنحو ذلك ثم دعى الصغرى فقال لها قالت: أنت وذلك . قال: إني عرضت ذلك على أختيك فأبتاه. قالت: لكني الجميلة وجها الصناع يدا الحسيبة أبا. فإنَ طلقني فلا أخاف الله عليه. قال: بارك الله عليك ثم خرج إلينا قال: قد زوجتك بهنسة بنت أوس. قال: قد قبلت. أمر أمها إنَّ تهيئها وتصلح من شأنها. ثم أمر ببيت فضرب له وادخله إياه. فلما أدخلت إليه لبث هنيئة ثم خرج ألي فقلت: أفرغت من شأنك قال: لا والله لمّا مددت يدي إليها قالت مه اعند أبي واخوتي هذا لا يكون قال: فأمر بالرحلة فارتحلنا بها معنا فسرنا ما شاء الله ثم قال لي: تقدم فتقدمت فعدل بها عن الطريق فما لبث إنَّ لحقني فقلت: أفرغت قال: لا والله قالت لي: اكما يفعل بالأمة الجليبة والسبية الأخيذة لا والله حتى تنحر الجزور وتذبح الغنم وتدعو العرب وتعمل ما يعمل لمثلي. قال خارجة: فقلت: والله لأري هيئة عقل وإني لأرجو أن تكون المرأة النجيبة. ثم سرنا حتى دخلنا بلادنا. فأحضر الإبل والغنم ثم دخل إليه وخرج. فقلت: أفرغت قال: لا والله قلت: ولم ذلك قال: دخلت عليها أريدها فقلت: قد أحضرنا من المال ما ترين. قالت: والله لقد ذكرت لي من الشرف بما لا أراه فيك قلت: كيف قالت: أتتفرغ لنكاح النساء والعرب يقتل بعضها بعضا تعني عبسا وذبيان قلت: فتقولين ماذا قالت: اخرج إلى هؤلاء القوم فاصلح بينهم ثم ارجع إلى اهلك فلن يفوتك قلت: والله إني لأرى عقل وهمة ولقد قالت قولا فاخرج بنا فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح فاصطلحوا على إنَّ يحسبوا القتلى من الفريقين ثم يؤخذ الفضل ممن هو عليه. فحملنا عنهم الديات وكانت ثلاثة آلاف بعير. وفي هذا الصلح يقول زهير يمدحهما:

سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
يموينا لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبس وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

و عاش الحارث حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم رحمه الله تعالى.


تلك التجارة لا انتقاد الدرهم.
هذا في قول القائل:

وإذا شكا مهري الي حرارة ... عند اختلاف الطعن قلت له: اقدم
إنني بنفسي في الحروب لتاجر ... تلك التجارة لا انتقاد الدرهم

و معناه ظاهر.

تمرة خير من جرادة.
التمر بالمثناة الفوقانية وسكون الميم معروف وهو ما يبس من حمل النخيل. الواحدة تمرة والجمع تمرات وتمور وتمران والتمار بائع التمر والتمري من يحبه. وأما الثمر بالمثلثة وفتح الميم فهو حمل الأشجار كلها. والجراد معروف الواحدة جرادة والمثل ظاهر مشهور.

التمر في البئر على ظهر الجمل.
التمر تقدم والبئر معروف وكذا الجمل. وأصل المثل إنَّ المنادي كان يقوم في الجاهلية على اطم من اطام المدينة فينادي بذلك الكلام حتى يدرك التمر أي: من سقى نخيله بمياه الآبار على ظهور الجمال بالسواني وجد التمر وحمد عاقبة الأمر وأدرك غاية السقي ونجاح الرأي. وهذا كما تقول: الزرع في تحريك الأرض وتزبيلها والعنب في زبر الكرم وسقياه. وهذا كله تحضيض على أحكام الأسباب والاعتناء بالسوائل وتنبيه على إنَّ المقاصد منوطة بها ومرتبط صلاحها بصلاحها. وقريب منه المثل الآخر: وهو قولهم: عند الصبح يحمد القوم السرى وقول القائل:

إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن الزرع

اتميميا مرة وقيسيا أخرى
يضرب لمن يتلون ويختلف كلامهم يقف على حال أي: أتنتسب إلى تميم مرة وإلى قيس مرة أخرى وتميم وقيس قبيلتان عظيمتان من قبائل العرب.أما تميم فهو تميم بم مر بم آد بن طابخة بالباء الموحدة والخاء المعجمة بن الياس بن مضر بن نزار وأما قيس فهو قيس بن عيلان بفتح العين المهملة واسمه الياس بن مضر بن نزار وقيس لقب له. وقد قيل إنَّ عيلان هو أبو قيس. ويدل لصحته قول الحماسي:

لحى الله قيسا عيلان إنّها ... أضاعت ثغور المسلمين وولت
فشاول بقيس في الطعان ولا تكن ... أخاها إذا ما المشرفية سلت
إلاّ إنّما قيس بن عيلان بقة ... إذا شربت الماء العصير تغنت

فصرخ بأنه أبن عيلان. وبين القبيلتين أبداً منافرات ومكافحات ومقاتلات. ومن ثم اشتهر بينهما التقابل كما في هذا المثل وشاع عند البيانيين في باب القصر التمثيلي بقولهم: فلان تميمي مراعاة لهذا الأمر. وفي بعض الأخبار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا الدرداء إذا فاخرت ففاخر بقريش وإذا كاثر فكاثر بتميم وإذا حاربت فحارب بقيس إلاّ إنَّ مجوهها كنانة ولسانها أسد وفرسانها قيس إلاّ إنَّ لله فرسانا في سمائه وهم الملائكة وفرسان في الأرض وهم قيس وإنَّ آخر من يقاتل عن الإسلام حين لا يبقى إلاّ ذكره ومن القرآن إلاّ اسمه لرجل من قيس. قلت: يا رسول الله من أي قيس قال: من سليم.

وسار معاوية يوما فإذا هو براكب فقال لبعض أصحابه: علي به من غير ترويع فاتاه وقال: اجب أمير المؤمنين فقال: إياه أدرت. فلما دنا حسر اللثام وانشد:

معاوية لم أزل آتيك تهوي ... برحلي نحو ساحتك الركاب
تجوب الأرض نحوك ما تأبى ... إذا ما الاكم قنعها السراب
وكنت المرتجى وبك استغثت ... لتنعشها إذا بخل السحاب

فإذا ليلى الاخيلية فهش لها معاوية وأمر لخها بخمسين بعيرا. ثم سألها عن مضر فقالت: فاخر بقريش وحارب بقيس وكاثر بتمبم وناطق بأسد وتقدم إنَّ هذا في الحديث وسيأتي تمام حديث ليلى في الأعيان. ويسمى أولاد الياس خندفا وهي اسم أمها ومضر كلها راجعة إلى خندف وقيس.

ومن اظرف من يتفق في هذا النسب ويزيد بصيرة في هذا المقام. ما ذكر أبو علي البغدادي يرفع إلى أبي عبيدة أن يزيد بن شيبان بن علقمة خرج حاجا فرأى حين شارف البلد شيخ يحفه ركب على ابل عتاق برحال ميس ملبسة ادما. قال: فعدلت فسلمت عليهم وبدأت به فقلت: من الرجل ومن القوم فإنَ القوم ينظرون إلى الشيخ هيبة له فقال الشيخ: رجل من مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف من قضاضة. فقلت: حياكم الله وانصرفت. فقال الشيخ: قف أيّها الرجل استنسبتنا فانتسبنا لك ثم انصرفت ولم تكلمنا ويروى: شاممتنا مشامة الذئب للغنم ثم انصرفت قال. قلت: ما أنكرت سوءا ولكنني ظننتكم من عشيرتي فانسبكم فانتسبتم نسبا لا اعرفه ولا أراه يعرفني. قال: فامال الشيخ لثامه وحسر عمامته وقال: لعمري لئن كنت من جذم من اجذام العرب لاعرفنك. قلت: فاني من اكرم اجذامها. قال: فإذا العرب بنيت على أربعة أركان: مضر وربيعة واليمن وقضاعة فمن أيهم أنت قلت: من مضر. قال: أمن الأرجاء أمن الفرسان فعلمت إنَّ الأرجاء خندف وإنَّ الفرسان قيس. قلت: من الأرجاء. قال: أنت إذا من خندف قلت: اجل قال: افمن الأرنبة أم الجمجمة فعلمت إنَّ الأرنبة مدركة وإنَّ الجمجمة طابخة. فقلت: من الجمجمة. قال: فأنت إذن من طابخة قلت: اجل قال: افمن الصميم أم من الشويط فعلمت إنَّ الصميم تميم وإنَّ الشويط الرباب فقلت: من الصميم. قال: فأنت إذا من تميم قلت: اجل قال: افمن الاكرمين أم من الاحلمين أم من الاقلين علمت إنَّ الاكرمين زيد مناة وإنَّ الاحلمين عمرو بن تميم وإنَّ الاقلين الحارث بن تميم. قلت من الاكرمين. قال: فأنت إذا من زيد مناة قلت: اجل قال: افمن الجدود أم من البحور أم من الثماد فعلمت إنَّ الجدود مالك وإنَّ البحور سعد بن زيد مناة وإنَّ الثماد بنو امرئ القيس بن زيد بن مناة. قلت: من الجدود. قال: فأنت إذا من بني مالك قلت: اجل قال: افمن الذرى أنت أم من الارداف فعلمت إنَّ الذرى حنظلة وإنَّ الارداف ربيعة ومعاوية وهما الكرد وسان. قلت: من الذرى. قال: فأنت إذا من بني حنظلة قلت: اجل قال: افمن البدور أم من الفرسان أم من الجراثيم فعمت إنَّ البدور مالك وإنَّ الفرسان يربوع وإنَّ الجراثيم البراجم. قلت: من البدور. قال: فأنت إذا من بني مالك بن حنظلة قلت: اجل قال: افمن الأرنبة أم من اللحيين أم من القفا فعلمت إنَّ الأرنبة دارم وإنَّ اللحيين طهي والعدرية وإنَّ القفا ربيعة بن حنظلة قلت من الأرنبة قال: فأنت إذا من دارم قلت اجل قال: افمن اللباب أم من الهضاب أم من الشهاب علمت إنَّ اللباب عبد الله وإنَّ الهضاب مجاشع وإنَّ الشهاب نهشل. قلت: من اللباب. قال: فأنت إذا من عبد الله قلت اجل قال: افمن البيت أم من الزوافر فعلمت إنَّ البيت بنو زرارة وإنَّ الزوافر الاحلاف. قلت: من البيت. قال: فأنت إذا من بني زرارة قلت: اجل قال: فإنَ زرارة ولد عشرة: حاجيا ولقيطا وعلقمة ومعبدا وخزيمة ولبيد وأبا الحارث وعمرا وعبد مناة ومالك فمن أيهم أنت قلت: من بني علقمة ولد شيبان لم يلد غيره فتزوج ثلاثة نسوة:مهدد بنت حمران بن بشر بن عمرو بن مرثد فولدت له يزيد وتزوج عكرشة بنت حاجب بن زرارة بن عدس فولدت له المأمور وتزوج عمرة بنت بشر بن عمرو بن عدس فولدت له المقعد. فلأيهم أنت قلت: لمهدد. قال: يا أبن أخي ما افترقت فرقتان بعد مدركة إلاّ كنت في أفضلها حتى زاحمك أخزك فانهما إنَّ تلدني أما هما احب ألي من إنَّ تلدني أمك. يا أبن أخي أتراني عرفتك قلت: أي وأبيك أتم معرفة قال: الميس ضرب من الشجر تعمل منه الرحال وارم القوم: سكنوا والوشيط الخسيس من الرجال والصميم الخالص. وفي معنى هذا المثل الذي نحن فيه قول زفر ابن الحارث لعمران بن حطان: ازدينا مرة واوزعيا أخرى ومن التلون قول عمران المذكور:

فاعذر أخاك أبن زنباع فإنَ له ... في النائبات خطوبا ذات ألوان
يوما يمان إذا لا قيت ذا يمن ... و إنَّ لقيت معديا فعداني

و قول الآخر:

أفي الولائم أولاد لواحدة ... و في المفاخر أولاد لعلات

تيسي جعار.
تيسي بكسر التاء الفوقانية المثناة بعدها مثناة تحتانية ساكنة بعدها سين مهملة. وجعار على مثال حذام وهي الضبع ويقال لها جعار وأم جعار وأم جعور ويقال أيضاً: عيثي جعار. أما تيسي فهي من مادة التيس ولم يذكروا لها فعلا بل قالوا إنّها كلمة تقال في معنى إبطال الشيء وأما عيثي وهو الإفساد واصله عيثي يا جعار قال الشاعر:

فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلحم امرئ لم يحضر اليوم ناصره

و سيأتي تمامه في محله ومما يلتحق بهذا الباب قولهم:

تحت طريقتك عنداوة.
والطريقة على مثال السكينة الرخاوة واللين والعنداوة: الخديعة والمكر أي تحت إطراق مكر. وهو مثل المثل الآتي: مخرنبق لينباع وسيأتي قولهم:

تركته باست الأرض.
أي تركته عديما فقيرا. وقولهم:

تركته على أنقى من الراحة.
ومما يتمثل به تارة قوله صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
ومن أمثال العامة الحكيمة في هذا الباب قولهم: اترك الحب تحب أي لا تطمع فيما أيدي الناس يحبونك وإنَّ تكثر غشيانهم يملونك. قال زهير:

ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه ... و لا يغنها يوما من الدهر يسام

و في الأثر المروي: أزهد في الدنيا يحبك الله، وأزهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس. ويشبه هذا المثل مسألة الطائر، إنَّ ترك الحبة المعلقة في الفخ نجا، وإنَّ وإنَّ اقتحمها هلك. ومن أمثالهم أيضاً قولهم:

اترك صاحب الغاسول يسكت
زعموا إنَّ شخصين اصطحبا في طريق، لأحدهما حمل من حديد أو أشبه، وللأخر حمل من الغاسول، وهو طين يغتسل به الرؤوس، فأصابهما مطر في منزل، فجعل صاحب الحديد يتوجه ويتخوف على سلعته من البلل. فقال له صاحب الغاسول ما ذكر. ومعلوم أنَّ الحديد وشبهه لا يضره البلل، وأما الغاسول المذكور فأدنى شيء من البلل خلص إليه يحله ويفسده. فيضرب فيمن يتوجع ويتألم، أو يشتكي ويتظلم، أو يتأسف ويتندم، وثم من هو اجدر منه.
وقد حان أن نذكر من الشعر ما يتيسر. قال الشاعر:

كم من فتى تحمد أخلاقه ... و يسكن العافون في ذمته
قد كثر الحاجب أعداءه ... و احقد الناس على نعمته

و سبب هذا الشعر أنَّ أعرابياً دخل البصرة، فسأل عن دار عبد الله بن عامر بن كريز، وكان عبد الله من فتيان قريش جوداً وسخاء، وكرماً وحياء، فدل على الدار، فأناخ راحلته بالباب. فاشتغل عنه الحاجب والعبيد وبات طاويا. فلما أصبح ركب راحلته ووقف على الحاجب فأنشأ يقول:

كأني ونضوي عند باب أبن عامرٍ ... من الجود ذئبا قفرة هلعان
وقفت وصنبور الشتاء يلفني ... و قد مس برد ساعدي وبناني
فلما أوقدوا ناراً ولا بذلوا قرى ... و لا اعتذروا عن عسرة بلسان

فقال بعض شعراء البصرة ما تقدم. فلما بلغ أبن عامر، عاقب الحاجب وأمر أنَّ لا يغلق بابه ليلا ولا نهاراً.
وقال الأخر:

لا تنظرن إلى عقلٍ ولا أدبٍ ... إنَّ الحدود قرنات الحماقات
واسترزق الله مما في خزائنه ... فكل ما هو آت مرة آت

و مثله قول الصابئ:

إذا جمعت بين أمراين صناعة ... فأحببت أن تدري الذي هو احذق
فلا تتأمل منهما غير ما به ... جرت لهما الأرزاق حين تفرق:
فحيث يكون النوك فالرزق واسع ... و حيث يكون الحذق فالرزق ضيق

و قال صالح ب عبد القدوس:

وليس رزق الفتى من حين حيلته ... و لكن جدود بأرزاق وأقسام
كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمى فيرزقه من ليس بالرامي

و قال الأخر:

متى ما يرى الناس الغني وجاره ... فقير يقولون: عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... و لكن أحاظٍ قسمت وجدود

و قولي، من قصيدة:

والحظ والمقدار ما حصرا ... في ذي الذكاء يبيت يستمري
بل قسمة أزلية نشأت ... بيدي مدبرها على قدر
وإذا نظرت رأيت في قرن ... عمر الغني وجهالة الغمر
وترى اللبيب يبيت في ضعف ... بهمومه متقسم الفكر
ليكون فضل حجى الفتى عوضا ... عن فضل مل الأنوك الكثر
وتكون أحكام الإله جرت ... في الخلق عن غلب وعن قسر

و سيأتي ذكر ما في هذا المعنى من الشعر عند ذكر الجد، إنَّ شاء الله تعالى.
وقال الحماسي عمرو بن معدي كرب:

وجاشت إلي نفسي أوّل مرة ... فردت على مكروهها فاستقرت

ومنه قول الآخر:

صبرت على اللذات حي تولت ... و ألزمت نفسي هجرها فاستقلت
وكانت مدى الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت صبري على الذل ذلت

و السادات الصوفية، رضوان الله عليهم، يتمثلون به كثيراً في نجح الرياضة.
وقول الحماسي أيضاً سيار بن قصير الطائي:

عشية أرمي جمعهم بلبانها ... و نفسي قد وطنتها فاطمأنت

و قول كثير:
فقلت لها: غز كل مصيبة ... إذا وطئت يوماً لها النفس ذلت

قال المبرد: وكان عبد الملك يقول: لو كان هذا البيت في صفة الحرب لكان أشعر الناس.
وقوله أيضاً:

فيا عجب للقب كيف اعتزامه ... و النفس لمّا وطئت كيف ذلت

و قول ضابئ بن الحارث:

ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب

و قال الأخر:

تمتع إذا ما أمكن الدهر واغتنم ... زمانك واعلم إنّه سيفوت

و قال الأخر:

داء قديم وأمر غير مبتدع: ... جور الزمان على أهل المروآت

و قال الأخر:

سكت عن السفيه فظن إني ... عييت عن الجواب، وما عييت

و قال الأخر:

سروران ما لهما ثالث: حياة البنين وموت البنات

و هذا من قول الأعراب: موت البنات، من المكرمات. وقال الأخر:

كانت سليمى تنادي يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبت

و قال الأخر:

كلام الناس أشتات ... و معنى كله: هاتوا

و قال الأخر:

كم عائد رجلا وليس بعائد ... إلاّ ليعلم هل يراه يموت

و قال الأخر:

كم مات قوم وما ماتت مكارمهم ... و عاش قوم وهم في الناس أموات

و قال الأخر:

وأنطقت الدراهم بعد عي ... أناس بعد ما كانوا سكوتا

و قال الأخر:

وما تنفع الآداب والحلم والحجى ... و صاحبها عند الكمال يموت

و قال الأخر:

ويحسن إظهار التجلد للعدى ... و يقبح غير العجز عند الأحبة

و قال الأخر:

لا تتهم من شف فاك فانه ... أعطى الحياة وقدر الأقواتا

و قال أبو الطيب:

إنَّ الكرام بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سويداواتها

و قال: أبو العلاء المعري:

فالأرض تعلم أنني من فوقها ... متصرف وكأنني من تحتها
غدرت بني الدنيا وكل مصاحب ... صاحبته غدر الشمال بأختها
شغفت بوامقها الحريص وأظفرت ... مقتي لمّا أظهرته من مقتها
لابد للحسناء من ذامٍ ولا ... ذام لنفسي سيئ بختها

و قال الأخر:

إنَّ الصروف كما علمت صوامت ... عنها وكل عبارة في صمتها
متفقه للدهر إنَّ تستفتيه ... نفس عن جرمه لم يفتها
وتكون كالورق الذنوب على الفتى ... و مصابه ريح تهب لحتها

و قال أيضاً:

رويدا عليها إنّها مهجات ... و في الدهر محيى لامرئ وممات
أرى غمرات ينجلن عن الفتى ... و لكن توافي بعدها غمرات
ولابد للإنسان من سكر ساعة ... تهون عله بعدها السكرات
إلاّ إنّما الأيام أبناء واحد ... و هذي الليالي كلها أخوات
فلا تطلب من عند يوم وليلة ... خلاف الذي مرت به السنوات

و قال أيضاً:

والموت احسن بالنفس التي الفت ... عز القناعة من إنَّ تسال القوتا
بت الزمان حبالي من حبالكم ... اعزز علي بكون الوصل مبتوتا

و قال:

أحسنت ما شئت في إيناس مغترب ... و لو بلغت المنى أحسنت ما شيتا

و قال القاضي التنوخي:

القرآن العدو بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات
فأحزم الناس من يلقي أعاديه ... في جسم حقد وأثواب المودات

و قال الآخر:

إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت

و هو مثل قول الآخر:

أو كلما ظن الذباب طردته ... إنَّ الذباب إذا علي كريم

يحكى إنَّ رجلا اسمع أبن هبيرة وهو معرض عنه فقال له الرجل: إياك اعني فقال: وعنك أنا اعرضوقال الآخر وينسب لعثمان بن عفان رضي الله عنه:

خليلي لا والله ما من ملمة ... تدوم على حي وإنَّ هي جلت
فإنَ نزلت يوما فلا تخضعن لها ... و لا تكثر الشكوى إذا النعل زلت
فكم من كريم قد بلى بنوائب ... فصابرها حتى انجلت واضمحلت

و قال أبو محمّد الحريري:

يا من تظن السراب ماء ... لمّا رويت الذي رويت

و قال:

فمهد العذر أو فسامح ... إنَّ كنت أجرمت أو جنيت

و قال أيضاً:

لا تحقرن أبيت اللعن ذا أدب ... لأن بدا خلق السربال سبروتا
ولا تضع لأخي التأميل حرمته ... أكان ذا لسن أم كان سكيتا
وانفح بعرفك من وافك مختطبا ... و أنعش بغوبك من ألفيت منكوتا
فخير مال الفتى مال اشد له ... ذكر تناقله الركبان أو صيتا
وما على المشتري حمدا بموهبة ... غبن ولو كان ما أعطاه ياقوتا
لولا المروءة ضاق العذر عن فطن ... إذا اشرأب إلى ما جاوز القوتا
لكنه لابتناء المجد جد ومن ... حب السماح ثنى نحو الغنى ليتا
وما تنشق نشر الشكر ذو كرم ... إلاّ وأزرى بنشر المسك مفتوتا
والحمد والبخل لم يقض اجتماعها ... حتى لقد ذا ضبا وذا حوتا
السمح في الناس محمود خلائقه ... و الجامد الكف ما ينفك ممقوتا
وللشحيح على أمواله علل ... يوسعنه أبداً ذما وتبكيتا
فجد بما جمعت كفاك من نشب ... حتى يرى مجتدي جدواك مبهوتا
وخذ نصيبك من قبل رائعة ... من الزمان تريك العود منحوتا
فالدهر أنكر من إنَّ تستمر به ... حال تكرهت تلك الحال أم شيتا

قوله: أشاد له ذكرا أي رفعه وهذا محمود مطلوب. ففي الحديث: إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند الله فانظروا ما يتبعه من الذكر الحسن وقيل لبعض الحكماء: ما أحمد الأشياء قال: أن يبقى للإنسان أحدوثة حسنة وقال اكثم بن صيفي: إنّما انتم خبر فطيبوا أخباركم وآخذه حبيب فقال:

وما أبن آدم الاذكر صالحة ... و ذكر سيئة تسري بها الكلم
أما سمعت بدهر ... جاءت بأخبارها من بعدها الأمم

و أبو بكر بن دريد حيث قال:

وإنّما المرء حديث بعده: ... فكن حديثا حسنا لمن وعى

و قال الأحنف بن قيس: وما ادخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتى للأحياء افضل من اصطناع المعروف عند ذوي الاحساب. وقيل لمعاوية: أي الناس احب إليك فقال: من كانت له عندي يد صالحة. وقيل: إذا أقبلت عليك الدنيا فانفق منها فإنّها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنّها لا تبقى. واخذ هذا المعنى الشاعر فقال:

ولا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف
فإنَ تولت فأحرى أن تجود بها ... و الحد منها إذا ما أدبرت خلف

و قال الآخر:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها ... على الناس طرا قبل أن تنقلت
فلا الجود يقنيها إذا هي أقبلت ... و لا البخل يبقيها إذا هي ولت

قوله: فكن البيت مثله قول الآخر:

لولا توقع معتر فأرضيه ... ما كنت أوثر أترابا على تربي

و قال الآخر:

لولا شماتة أعداء ذوي حسد ... و أن أنال بنفع من يرجيني
لمّا خطبته إلى الدنيا مطايبها ... و لا بذلت لها عرضي ولا ديني

قوله: وما تنشق نشر الشكر ذو كرم البيت نحوه ما يحكى عن بعضهم قال: رأيت رجلا من وجوه أهل مكة لا يزال دائبا في طلب حوائج الناس وادخل الرفق على الضعفاء. فقلت له: اخبرني عن الحال التي أوجبت لك هذا التعب. فقال: قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار من فروع الأشجار وسمعت خفوق أوتار العيدان وترجيع أصوات القيان فما طلابت من صوت قط طربي من ثناء حسن على رجل قد احسن ومن شكر حر لرجل حر ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر وفي مدح الكرم وذم البخل قول الله تعالى: ومن يوق شح نفسه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله يحب الجود ومكارم الأخلاق، ويكره سفسافها " . وقوله صلى الله عليه وسلم: أي داء أدوا من البخل كما مر في قصته. وقيل لمحمود بن عياد: أنت متلاففقال: منع الجود، سوء الظن بالمعبود. أخذه محمود الوراق فقال:

من ظن بالله خيراً جاد مبتدياً ... و البخل من سوء ظن المرء بالله

و خوف بعض البخلاء بعض الأسخياء الإملاق، فرد عليه السخي وقال: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا. وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال. فقال: إنَّ الله تعالى عودني أنَّ يتفضل علي، ودعوته أنَّ أتفضل على عبيده؛ فأخاف أنَّ أقطع العادة، فيقطع عني عادته.
وقال أيضاً:

إنَّ الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت
لكنه ما يشين الحر موجعة: ... فالمسك يسحق والكافور مفتوت
وطالما أصلي الياقوت جمر غضا ... ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت

و قال أيضاً:

أستغفر الله من ذنوب ... أسرفت فيهن واعتديت
كم خضت بحر الضلال جهرا ... و رحت في الغي واغتديت
وكم أطلعت الهوى اغتراراً ... و اختلت واغتلت وافتريت
وكم خلعت العذار ركضا ... إلى المعاصي وما ونيت
وكم تناهت في التخطي ... إلى الخطايا وما انتهيت
فليتني كنت قبل هذا ... نسيا ولم أجد ما جنيت
فالموت للمجرمين خير ... من المساعي التي سعيت

وقال طفيل الغنوي:

جزى الله عنا جعفراً حينما أزلقت ... بنا رجلنا في الواطئين وزلت
أبوا أنَّ يلمونا ولو أنَّ أمنا ... تلاقي الذي يقولون منا لملت
وهم أسكنوا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنت

و يروى أنَّ مالا جاء من البحرين فقسمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالسوية، فغضبت الأنصار وقالوا: لنا فضل. فقال: صدقتمإنَّ أردتم أنَّ أفضلكم ذهب عملكم للدنيا، وإنَّ صبرتم كان ذلك لله. فقالوا: والله ما عملنا إلاّ للهوانصرفوا. فخطب أبو بكر وقال أثناء خطبته: يا معشر الأنصارلو شئتم لقلتم: أنا آويناكم في ظلالنا، ونشاطركم في أموالنا، ونصرناكم بأنفسنا. يا معشر الأنصارلكم من الفضل ما لا يحصيه العدد، وإنَّ طال به الأمد. فنحن وأنتم كما قيل طفيل الغنوي وأنشد الأبيات، متمثلا. وقال كثير:

هنيئا مريئا غير داءٍ مخامرٍ ... لعزة من إعراضنا ما استحلت

حكي أنَّ الشعبي أتى المسجد يوما فصادف فيه قوما يغتابونه، فأخذ بعضادتي الباب وقال: هنيئا مريئا " البيت " . وهذا البيت من قصيدة كثير التائية المشهورة التي أولها:

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قولوا صيكما ثم أبكيا حيث حلت

و منها:

وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة ... و رجل رمى فيها الزمان فشلت
وكانت كذات الضلع لمّا تحاملت ... على ضلعها بعد العثار استقلت
أريد الثواء عندها وظنها ... إذا ما أطلنا عندها المكث ملت

و منها.

وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت مما بيننا وتخلت
لك المرتجي ظل الغمامة كلما ... تبوا منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها سحابه ممحل ... رجاها فلما جاوزته استهلت

و ذكر أبو علي البغدادي إنّه قيل لكثير: من أشعر أنت أم جميل قال: أنا. فقيل له: كيف، وأنت راويته فقال جميل الذي يقول:

رمى الله في عيني بثينة بالقذا ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح

و أنا أقول: هنيئا مريئا غير داءٍ مخامر، الخ.
قلت: وقد وقع له بعد هذا البيت نحو ما لجميل، حيث قال:

فإن تكن العتبي فأهلا ومرحبا ... و حقت لها التعبسي لدينا وقلت
وإنَّ تكن الأخرى فإن وراءنا ... منادح لو سارت بها العيس كلت

فقوله: وراءنا مناديح أضر على قلب عزة من القذى في العين، غير إنّه قال أيضاً:

أسيئي بنا أو احسني لا ملومة ... لدينا ولا ملقية إنَّ تقلت

و قال الأخر:

سقوني وقالوا لا تغن، ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت

ذكروا أنَّ فتى أتي به بعض الخلفاء ثملا، فسأله. فأنشد ذلك، وقال آخرون: أتي بفتى من قريش إلى عبد الملك بن مروان، فقال له: أين شربت فقال:

شربت مع الجوزاء كأسا روية ... و أخرى مع الشعري إذا ما استقلت
معتقة كانت قريش تعافها ... فلما استحلت قتل عثمان حلت

فاستظرفه وأمر بإطلاقه، وأعطاه عشره آلاف درهم. والسادات الصوفية، أسبل الله رضوانه عليهم، وحشرنا إليهم، يتمثلون بالبيت السابق في شرابهم المستطاب، الذي كل شراب دونه سراب أو عذاب؛ وفي ذلك قال الإمام المقدسي، مضمنا للبيت المذكور:

أباحت دمي إذ باح قلبي بحبها ... و حل لها في حكمها ما استحلت
وما كنت ممن يظهر السر إنّما ... عروس هواها في ضميري تجلت
فشاهدتها فاستغرقتني فكرة ... أغيب بها عن كل كلي وجملتي
وحلت محل الكل مني بكلها ... فإياي إياها إذا ما تبدت
ونمت على سري فكانت هي التي ... عليها بها بين البرية نمت
إذا سألت من أنت قلت أنا الذي ... بقائي إذا أفنيت قيل هويتي
أنا الحق في عشقي كما أن سيهي ... هو الحق في حسني لغير معية
فإن أك في سكري فإنني ... حكمت بتمزيق الفؤاد المفتت
ولا غرو إنَّ أصليت نار تحرقي ... و نار الهوى للعاشقين أعدت
ومن عجبي أنَّ الذين أحبهم ... و قد أعلقوا أيدي الهوى بأعنة
سقوني وقالوا لا تغن، ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني، لغنت

و قال الأخر:

لقد بخلت حتى لو إني سألتها ... قذى العين من ضاحي التراب لضنت
فإنَ بخلت فالبخل منها سجية ... و إنَّ بذلت أعطت قليلا وأكدت

و سيأتي في هذا المعنى ما فيه كفاية، إن شاء الله تعالى.
وقال أعرابي:

شر قرين للكبير بعلته ... تولغ كلبا سؤره أو تكفته

البعلة: الزوجة، والرجل بعل. والمعنى أن الرجل إذا كبر تقذرته امرأته: فلا تشرب فضلة شرابه، بل تسقيه كلبا أو تكفته على الأرض.

وقال الأخر:

أقول إذ حوقلت أو دنوت، ... و بعض حيقال الرجال الموت:
مالي إذا أنزعتها صأيت ... أكبر غيري أم بيت

و البيت: الزوجة أيضاً.
فائدة: الزوجة لها أسماء عدة: منه البعلة والبيت وتقدم ومنها الشهلة. قال الشاعر:

له شهلة شابت ومامس جيبها ... و لا راحتيها الشثنتين عبير

و تطلق الشهلة على العجوز كقول الآخر:

باتت تنزي دلوها تنزيا ... كما تنزي شهلة صبيا

و هذا أيضاً محتمل. ومنها الحليلة وجمعها حلائل. قال الله تعالى: وحلائل آبائكم. ومنها العرس بكسر العين. قال امرؤ القيس:

كذبت لقد أصبى على المرء عرسه ... و امنع عرسي أن يزن بها الخالي

و يقال للرجل أيضاً عرس وكذا العروس يستويان فيه غير إنّه إنّما يوصفان به ما دام في إعراسهما بخلاف العرس. وأما العرس بضم العين فاسم الوليمة ومنها الحنة. قال الشاعر:

ما أنت بالحنة الودود ولا ... عندك خير يرجى لملتمس

و منها الطلة قال الشاعر:

وإنَّ امرؤا في الناس كنت أبن أمه ... تبدل مني طلة لغبين
دعتك إلى هجري فطاوعت أمرها ... فنفسك لا نفسي بذاك تهين

و منها الربض ويقال الربض أيضاً لكل ما أويت إليه. قال الشاعر:

جاء الشتاء ولمّا اتخذ ربضا ... يا ويح نفسي من حفر القراميص

و منها القعيدة. قال الحطيئة:

أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيت قعيدة لكاع

ومنها الزوج ويطلق على الذكر والأنثى. وقد يقال الزوجة على قلة كقول الفرزدق:

وإنَّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها

و قال سليمان العدوي أو الخزاعي في مرثيته للحسين رضي الله عنه:

إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها ... و قتلنا قيس إذا النعل زلت

وهو مثل قول اللحيص بيض:

ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم ابطح

و قرئ على قبر بالمدينة:

يا مفردا سكن الثرى وبقيت لو ... كنت اصدق إذ بليت بليت
الحي يكذب: لا صديق لميت ... لو صح ذاك ومت كنت أموت

و مثله قول الآخر:

ومن عجب أن بت مستشعر الثرا ... و بت بما زودتني متمتعا
ولم إنني أنصفتك الود لم أبت ... خلافك حتى تنطوي في الثر معا

و قول الآخر:

ما وفي العباد حي لميت ... بعد ياس منه له في الإياب

و قول الآخر:

نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... و ليس لمن وارى التراب نسيب
و قال أبو محمّد الحريري رحمه الله تعالى في غلام ابقل عذاره:
قال العواذل ما هذا الغلام به: ... أما ترى الشعر في خديه نبتا
فقلت والله لو إنَّ المفند لي ... تأمل الرشد في عينيه ما ثبتا
ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل عنها والربيع أتى

و قال أبن زهر الاشبيلي إذ غلب عليه الشيب:

إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
رأيت فيها شيوخا لست اعرفه ... و كنت اعهده من قبل ذاك فتى
فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان متى
فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة ... أتى الذي أنكرته مقلتاه أتى
كانت سليمة تنادي: يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم: يا أبتا

و تقدم بعضه قبل هذا الباب. وقال الآخر:
الصبر محمود إلى غاية ... و هذه الغاية حتى متى
ما احسن الصبر ولكنه ... في ضمنه يذهب عمر الفتى

و هو مأخوذ من قول بعض الحكماء: ما احسن الصبر لولا إنَّ النفقة عليه من العمر.
وقال الآخر:

ألم تر إنَّ الدهر يوم وليلة ... يكران من سبت عليك إلى سبت
فقل لجديد العيش: لا بد من بلى ... و قل لاجتماع العيش: لابد من شت

وقال الآخر:

إذا لم يكن مني تصامم ... و في بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذا من صومي الجوع والظما ... و إنَّ قلت إني صمت يوما فما صمت

و فيه الجناس التام. وقال الآخر وقد قدم على المواريث:

وما نلت من شغل المواريث غير إنَّ ... اسرح نعشا كلما مات ميت
واكتب بالأموات صك كأنهم ... يخاف عليهم من الحساب التفلت
كأني لعزرائيل صرت مناقضا: ... فهاهو يمحو كل يوم واثبت

و قال الفرزدق:

بنو دارم إكفاؤهم آل مسمع ... و تنكح في اكفائها الحبطات

و كان بلغه إنَّ رجلا من الحبطات يخطب امرأة من دارم فقال ذلك. ودارم هو مالك بن حنضلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وآل مسمع كمنبر من بني قيس بن ثعلبة وهم بيت بكر بن وائل في الإسلام. والحبطات بنو الحارث بن عمرو بن تميم وكان أبوهم الحارث يلقب بالحبط بكسر الباء الموحدة والحبط هو الذي يصبه الحبط بفتحتين وهو انتفاخ بطون الماشية من أكل النبات كما مر. وأصاب ذلك الحارث في بعض أسفاره فقيل له الحبط وقيل لأولاده الحبطات. ويضرب هذا البيت مثلا لمن طمح إلى فوق قدره في هذا المعنى.
وقال بعض الأعراب:

وسائلي عن خبري لويت ... فقلت: لا ادري وقد دريت

و قبله:
ومنهل في الغراب ميت ... كأنه من الأجوان زيت
سقيت منه القوم واستقيت ... و ليلة ذات ندى سريت
ولم يلتني عن سراها ليت ... و لم تضرني كنة وبيت
وجمة تسألني أعطيت ... و سائلي عن خبري لبيت

و البيت هنا أيضاً الزوجة والجمة القوم يسألون في الديات.
وقال الآخر:

خليلي هذي زفارة اليوم قد مضت ... فمن لغد من زفرة قد أظلت
ومن زفارات لو قصدن قتلنني ... تقص التي تبقى التي قد تولت

و قال الآخر:

القني في لظى: فإن أحرقتني ... فيقين أن لست بالياقوت
جمع النسيج كل من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت

وهذا الشعر معروف مشهور ولم يعرف قائله ويتمثل به على نحو قولهم: ما كل سوداء تمرة وقولهم: مرعى ولا كالسعدان. وتقدم معنى البيت الأول في قول الحريري:

وربما أصيل الياقوت جمر لطى ... ثم أنطفى الجمر والياقوت ياقوت

و قال بعضهم في مناقضة البيتين المذكورين:

أيّها المدعي الفخار دع الف ... خر لذي الكبرياء والجبروت
نسيج داود لم يفد ليلة ... الغار وكان الفخار للعنكبوت
وبقاء السمند في لهب ... النار مزيل فضيلة الياقوت
وكذاك النعمام يلتقم الجزيرة ... مر وما الجمر للنعام بقوت

وأراد إنَّ للعنكبوت شرف عظيما بنسيجها على فم الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وذلك مشهور. وقد قيل إنّها أيضاً نسجت على نبي الله داود عليه السلام حين طلبه طالوت وعلى عبد الله بن انس حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتل خالد الهذلي وعلى عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم حين صلب عريان والله اعلم. والسمند الذي ذكره هو السمندل بالام وهو طائر يكون في أرض الهند لا يحترق بالنار تصنع منه المناديل فإذا اتسخت ألقيت في النار فأكلت النار ما عليها من الأوساخ وبقيت نظيفة فكان ذلك لها غسلا وإذا غمس شيء منها في الزيت وجعل في المصباح اشتعل بما فيه من الزيت ولم يحترق منه شيء أصلا ولو بقي ما بقي. وبعد كتابي هذا وجدت في بعض الدواوين أصل هذا الشعر وهوان بعض الملوك كان له وزير فعتب عليه شيئاً وحلف ليستبدلنه بمن لقي. فلقي أعرابي رث الهيئة فاستوزره فقال الوزير الأول وكان اسمه ياقوت يعرض للثاني:

احكم النسيج كل من حاك لكن ... نسيج داود ليس كالعنكبوت

القني في لظا البيت.
فأجابه الثاني بقوله:

نسج داود ما حمى صاحب الغار ... و كان الغار للعنكبوت
وفراخ السمند في لهب النار ... أزالت فضيلة الياقوت

و قالت امامة العامرية من شعراء الحماسة:

وحرب يضج القوم من نفيانها ... ضجيج الجمال الجلة الدبرات
سيتركها قوم ويصلى بحرها ... بنو نسوة للثكل مصطبرات

و قال جحدر:

قد علمت والدتيي ما ضمت ... و لففت خرق وشمت
إذا الكماة بالكماة التفت ... امخدج اليدين أم أتمت

أي قد علمت مخائل الكرم في منذ ولدتني وعلمت إني تام الخلق غير ناقص لإقدامي وجراتي.
وقال سنان بن فحل الطائي:

وقالوا قد جننت فقلت كلا ... و ربي ما جننت ولا انتشيت
ولكني ظلمت فكدت ابكي ... من الظلم المبرح أو بكيت
فإنَ الماء ماء أبي وجدي ... و بئري ذو حفرة وذو طويت
وقبلك رب خصم قد تمالوا ... علي فما جزعت ولا نيت
ولكني نصبت لهم جبيني ... و ألة فارس حتى قريت

و قال تأبط شرا:

ألم تعلم بأني لا كبير ... فتهونه ولا ضرع شخيت
وإنَّ على وداعي كل خير ... و إنَّ قذافي الموت المميت

الضرع: الضعيف والشخيت: الضئيل الحقير والوداع: المودعة والمسالمة والقذاف: المقاذفة اللسان وقال المأمون العباسي:

وما أحد طالت له لحية ... فزادت اللحية في هيئته
إلاّ وما ينقص من عقله ... اكثر مما زاد في لحيته

و كان يوما جالسا مع ندمائه يذكرون أخبار الناس فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط إلاّ نقص من عقله بمقدار ما طال من لحيته وما رأيت عاقلا قط طويل اللحية فلم يسلم له جلساؤه ذلك. فبينما هم كذلك إذ اقبل رجل كبير اللحية حسن الهيئة حسن الثياب. فقال المأمون: ما تقولون في هذا الرجل فقال بعضهم: هو رجل عاقل وقال آخر: يجب إنَّ يكون هذا قاضيا. فقال المأمون: علي به فلم يلبث أن صعد إليه فسلم وأجاد السلام واستنطقه بأحسن المنطق. فقال المأمون: أبو حمدوية. قال: ما الكنية قال: علوية. فضحك المأمون واقبل على جلسائه فغمزهم عليه ثم قال: ما صنعتك قال: أنا فقيه أجيد الشرح للسائل. فقال المأمون: نسألك عن مسألة قال: سل عما بدا لكفقال المأمون: ما تقول في رجل اشترى شاة من رجل فلما سلمها المشتري ومضى خرجت من أستها بعرة ففقأت عين رجل. على من تجب دية العين قال: تجب على البائع دون المشتري. فقال المأمون: وما العلة التي أوجبت الدية على البائع دون المشتري قال: لأنّه لمّا باعها لم يشترط إنَّ في أستها منجنيقا. قال: فضحك المأمون حتى استلقى على قفاه وضحك كل من حضر من الندماء وأنشأ المأمون يقول: ما أحد طالت لحيته البيتين ومثله قول الآخر:

إذا عظمت للفتى لحية ... فطالت وصارت إلى سرته
فنقص عقل الفتى فاعلمن ... بمقدار ما زاد من لحيته

وقول الآخر:

لا تفخرن بلحية ... كثرت منابتها طويلة
تهوي بها هوج الرياح ... كأنها ذنب السحلية
قد يدرك الشرف الفتى ... يوما ولحيته قليلة

السحلية: ولد البقرة والجمع حسيل. وقول الآخر:

وكل امرئ ذي لحية عثولية ... يقوم عليها ظن إنَّ له فشلا
وما الفضل من طول السبال وعرضها ... إذا الله لم يجعل لصاحبها عقلا

و قال الحسن بن المثنى: إذا رأيت رجلا له لحية طويلة ولم يتخذ لحية بين لحيتين كان في عقله شيء. وسيأتي من هذا المعنى ما في الكفاية إن شاء الله تعالى. وقول الآخر:

إذا لم يكن فيك ظل ولا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات

و قال الآخر:
يقوا أناس: لو نعت لنا الهوى ... و والله ما ادري لهم كيف انعت
فليس لشيء منه حدّثني أحده ... و ليس لشيء منه وقت موقت
إذا اشتد مابي كان آخر حيلتي ... له وضع كفي فوق خدي واصمت
وانضح وجه الأرض طورا بعبرتي ... و اقرعها طورا بظفري وانكت
وقد زعم الواشون إني سلوتها: ... فما لي أراها من بعيد فأهبت

و قال دعبل بن علي الخزعلي:

أحببت ومي ولم اعدل بحبهم ... قالوا: تعصب جهلا قول ذي بهت
دعني أصل رحمي إنَّ كانت قاطعها: ... لا بد للرحيم الدنيا من الصلة
فاحفظ عشيرتك الادنين إنَّ لهم ... حقا يفرق بين الزوج والمرة

و قال الأخر:ليس أعرابي من بالحارث:

رئمت لسلمى فضيم وإنني ... قديما لآبي الضيم وأبن أبات
فقد وقفتني بين شك وشبهة ... و ما كنت وقافا على الشبهات

و قال الحامسي:

إذا ما يد لم تعط مما تخولت ... من المال في المعروف يوم فشلت
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم احفل حتى متى ما أظلت
فمنهن أن ألقى الصليب وأهله ... و اقدم فوق القارح المتفلت
ومنهن أن أعطي الكريم بسؤله ... إذا شعب المعروف في الناس قلت
ومنهن إبراز الفتاة بنانها ... و قد أعطيت من صورة ما تمنت
اصاح تروح نترك الجهل والصبا ... و نمح بقيا فتنة قد أظلت
فما لك من ليلى ساء تحية ... تكون وداعا للفرق وقلت
وزفرة مجزون وذكر مصيبة ... سلوت ولو عزت علي وجلت

لم احفل: لم أبال وأظلت: أقبلت وغشيت وشعب المعروف: طرقه وأسبابه. وهذا التقسيم كأنه آخذه من قول طرفة بن العبد:

فلولا ثلاث هن من عيش الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تجعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف مجنبا ... كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطرف المعمد

و سيأتي مع بيانه في محله إن شاء الله تعالى.
وقال الشيخ أبي الفارض رضي الله عنه:

كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي

و سيأتي إنشاد ما قيل في النحول إن شاء الله تعالى. وقال:

أروم وقد طال المدى منك نظرة ... و كم من دماء دون مرامي طلت

و قال:
وجنبني حبيبك وصل معاشري ... و حببني ما عشت قطع عشيرتي
وأبعدني عن أربعي بعد أربع ... شبابي وعقلي وارتياحي وصحتي
فلي بعد أوطاني سكون إلى الفلا ... و بالوحش أنسي إذ من الأنس وحشتي
وما ظفرت بالود روح مراحة ... و لا بالولا نفس صفا العيش ودت
وأين الصفا هيهات من عيش عاشق ... وجنة عدن بالمكاره حفت
وحسن به تسبي النهى دلني على ... هوى حسنت فيه لعزك ذلتي

و قال أبو الفرج بن هند:

لا يرد الردى لزوم بيوت ... لا ولا يقتضيه جوب فلاة
مولد الدر حماة فإذا سا ... فر حل التيجان واللماتسة

و تقدم في هذا المعنى شعر كثير. ولنذكر هنا شيئا من غير ما مر من ذلك قول أبن الساعاتي:

اهلك والليل منضيا جملك ... شمر فخير البلاد ما حملك
لا خير في بقعة تروى من الأ ... رض إذا لم تنل بها املك
حتام لا تعمل الجياد ولا ... تعمل في كل غاية جملك
لقد تربص خيفة الأجل ... المحتوم لو كان دافعا أجلك
وحبذا ذاك لو وجدت فتى ... افضل يوما عليك أو فضلك

قال أبن قلاقس:

سافر إذا حاولت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا
والماء يسكب إن جرى ... طيبا ويخبث ما استقرا
وبنقلة الدرر النفيسة ... بدلت بالبحر نحرا

و له أيضاً:

شرفي جاوز الغنى ومن العا ... رضما انحط عن رؤوس الجبال
كيف لا أسرع التنقل والمشهر ... للبدر سرعة الانتقال

و قوله أيضاً:

إنَّ مقام المرء في بيته ... مثل مقام الميت في لحده
فواصل الرحلة نحو الغنى ... فالسيف لا يقطع في غمده
والنار لا يحرق مشبوبها ... إلاّ إذا ما طار عن زنده

و قول أبن الغنائم:

سر طالبا غاياتها: أما ترى ... فوق الثريا أو ترى تحت الثرى
لا تخلدن إلى المقام فإنما ... سير الهلال قضا له أن يقمرا
لا تبك دارا فالفتى من إن دعا ... دمعا عصاه وإن دعاه ما جرى
أين الكنائس من العرين وغزلا ... ن اللوى في المجد من أسد الشرى
لو ينتج الوطن العلا ما سار عن ... غمدان سيد حمير مستنصرا
والليث لو وجد الفريسة رابضا ... أو ناهضا في خيسة ما اصحرا
لا عار في بيع النفوس على الردى ... عندي إذا كان العلاء المشترى
حتام حظي في الوهاد وأصحاب ... الدناءة في الشواهق والذرى
ما الجبن يحميني الحمام ولا أرى ... الأقدام يجلب لي سوى ما قدرا
لا بد منها وثبة تسعى الظبى ... فيها وتكسو الجو فيها العيثرا
أشكو إلى الأيام ما ألقى لها ... وجها على تلوينها مستبشرا
ما عذر من لم يلق وجها ابيضا ... منهن إن لم يلق وجها احمرا

و قال أبو الفضل التميمي:

دعني اسر في البلاد متلمسا ... فضل مال إن لم يفر زانا
فبيدق الرخ وهو ايسر ما ... في الدست إن سار صار فرزانا

و قال أبن صردر:

قلقل ركابك في الفلا ... و دع الغواني للقصور
لولا التغرب ما ارتقى ... در البحور إلى النحور

و قول الآخر:

دعي عزمات المستضام تسير ... فتنجد في عرض الفلا وتغور
اللم تعلمي إنَّ الثواء هو التوى ... و إنَّ بيوت العاجزين قبور

و قول أبي إسحاق الغزي:

يا حليا عاطل البيد ... بوجه النجيبة الشملال
زحل اكبر الكواكب لا ... يحمل إلاّ من قلة الانتقال

وقول أبن قلاقس أيضاً:

إن كنت تبغي وطنا ... من العلى فاغترب
فالسمر في غاباتها ... معدودة في القصب
والشمس لا ترقب في ... المشرق لو لم تغرب

و قول أبن الساعاتي أيضاً:

وكن غنيا عن كل أرض بأختها ... و إنَّ حل مغناها كواعب عين
فلولا فراق الدر أصداف بحره ... لأنكره تاج وصد جبين

و قوله أيضاً:

ولا يصدنك عن شيء ترفعه ... فربما صار وردا نازح السحب
لم يشرق الدر لولا هجر موطنه ... و البدر ما تم حتى جد في الطلب

و قول الآخر:

فالتبر كالتراب ملقى في موطنه ... و العود في أرضه نوع من الحطب

و مثله قول الآخر:

أضيع في معشري وكم بلد ... يعود الكباء من حطبه

و قول أبن السكن:

قالوا نراك كثير السير مجتهداً ... في الأرض طوراً وترتحل
فقلت لو لم يكن في السير فائدة ... ما كانت السبع في الأبراج تنتقل

و قال الأخر:

أقول لجارتي والدمع جرٍ ... و لي عزم الرحيل من الديار
ذريني أنَّ أسير ولا تنوحي ... فإن الشهب أشرفها السواري

وقال أبن سناء الملك:

وأسعد الناس من لاقى بلا تعب ... مبدأ السعادة في مبدأ شبيبته
و هذا البيت من أبيات يمدح بها والده الرشيد، وهي:
إني لأرثي لدمعي من تزاحمه ... كما رثيت لشملي من تشتته
أنا القوي بعزمي والرشيد أبي ... هو الرئيس على الدنيا بهمته
أبني وأنشر بيت المجد مجتهداً ... في لم لمته أو رم رمته
أصبحت أحتال في حال ونضرتها ... به وارتع في عيشي وخضرته

و اسعد الناس " البيت " ومما مدحه به أيضاً قوله:

يكفيك أني بك يا سيدي ... قد طاب أصلي وزكا محتدي
جاوزت حدّثني البر بي صاعداً ... فقف: فما أبقيت من مصعد

و قوله أيضاً من قصيدة:

أني لي النقص إنَّ مجد أبي ... سام كما أنَّ قدره سابق
هو الرشيد الذي رياسته ... سارت، فلا زاجر ولا سائق
يكنى أبا الفضل وهو يعشق ... نفس الفضل، والمرء لابنه عاشق

و أين هذا من أبن الرومي، حيث يقول في هجو أبيه، وبئس ما قال:

لو كان مثلك في زمان محمّدً ... ما جاء في القرآن بر الوالد

و أبن عنين في قوله:

وجبتني أن أفعل الخير والد ... قليل إذا عد أهل المناسب
بعيد من الحسنى قريب من الخنا ... وضيع مساعي الخير جم المثالب
إذا رمت أنَّ أسمو صعوداً إلى العلا ... غدا عرقه نحو الدنية جاذبي

و مثل هذا البيت قول الآخر في خالد بن عبد الله القسري، أو في غيره:

إذا نبهته نخوة عربية ... إلى المجد قالت إرمنيته نم

و ممن هجا والده أبن بسام، حتى قال: فيه بعض الشعراء:

من شاء يهجو عليا ... فشعره قد كفاه
لو إنّه لأبيه ... ما كان يهجو أباه

و قال الأخر:

لا تخف للخطوب في كل وقتٍ ... لا ولا تخشاها وإنَّ هي جلت
فحقيق دوامها ليس يبقى ... كثرت في الزمان أو هي قلت
واردع للهموم صبرا جميلاً ... فالرزايا إذا توالت تولت

و قال الأخر في هذا المعنى:

اصبر إذا نائبه حلت ... فهي سواء والتي ولت
واستنهض العزم فليس الظبا ... تربي وتفري كالتي كلت

وفي هذا المعنى شعر كثير تقدم بعضه، وسيأتي في محل أخر، إن شاء الله تعالى.
وقال الأخر:

القبر أخفى سترة للبنات ... و دفنها يروى من المكرمات
أما رأيت الله جل اسمه ... قد وضع النعش بجنب البنات

و سيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى.
وقال الأخر:

اقنع بأسير شيء أنت نائله ... و اصبر ولا تتعرض للولايات
فما صفا النيل إلاّ وهو منتقص ... و لا تكدر إلاّ في الزيادات

و مثله قول أبن طباطبا:

كن بما اوتيته مغتبطا ... تستدم عمر القنوع المكتفي
إنَّ في النيل المنى وشك الردى ... و قياس عند السرف
كسراج دهنه قوته ... فإذا أغرقته فيه طفي

و قال الأخر:

خذ من العيش ما كفى
كسراج منور ... إن طفا دهنته انطفا

وسيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى.
وقال البحتري:

إنَّ أبق أو اهلك فقد نلت التي ... ملأت صدور أقاربي وعداتي
وغنيت ندمان الخلائف نابها ... ذكري وناعمة بهم نشواتي
وشفعت في الأمر الجليل إليهم ... بعد الجليل فأنجحوا طلباتي
ووضعت في العرب الصنائع عندهم ... من رفد طلاب وفك عناة

و قال دعبل الخزاعي:

لا تعرضن بمزح لامرئ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جارية ... في محفل لم يرد إنماؤها نمت
إني إذا قلت بيتا ماتب قائله ... و من يقال له والبيت لم يمت

و نحوه قول الآخر:

فللشعراء ألسنه حداد ... على العورات موفية دليله
ومن عقل الكريم إذا اتقاهم ... و دارهم مدارة جميلة
إذا وضعوا مكاويهم عليه ... و إنَّ كذبوا فليس لهن حيله

و سيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى.
وقال الأخر يتشوق إلى أهله:

ولي كبد مكلومة لفراقكم ... أطمئنها صبراً على ما أجنت
تمنتكم شوقا إليكم وصبوة ... عسى الله أنَّ يدني لها ما تمنت
وعين جفاها النوم واعتادها البكا ... إذا عن ذكر القيروان استهلت
و قال تميم بن جميل بين يدي المعتصم، وقد قدم السيف والنطع ليقتله:
أرى الموت بين النطع والسيف كامنا ... يلاحظني من حيث ما أتلفت
واكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... و أي امرئٍ مما قضى الله يفلت
وأي امرئ يدلي بعذر وحجةٍ ... و سيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن تغلي موقف ... يهز علي السيف فيه وأسكت
فما حزني إني أموت وإنني ... لأعلم أنَّ الموت شيء موقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم ... و أكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم ... و قد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بنعمةٍ ... أذود الردى عنهم وإنَّ ماتوا
فكم قائل لا يعبد الله داره ... و آخر جذلان يسير ويشمت

فعفا عنه المعتصم، واحسن إليه، وقلده عملا. ونحو البيت الأخير قول الأول:

إذا مت كان الناس صنفان شامت ... و آخر مثن بالذي كنت أصنع

وقال أبن رشيق:

أيّها الموحي إلينا ... نفثه الصل الصموت
ما سكتنا عنك عيا ... رب نطقٍ في السكوت
لك بيت في البيوت ... مثل بيت العنكبوت
إنَّ يهن وهنا ففيه ... حيلتا سكنى وقوت

و مثل هذا قوله أيضاً:

واحرق أكال للحم صديقه ... و ليس لجاري ريقه بمسيغ
لست له ظنا بعرضي فلم أجب ... و رب جواب في السكوت بليغ

و قول الآخر:

واعلم بأن من السكوت إبانة ... و من التكلم ما يكون خبالا

و قول الآخر:

أيا رب إنَّ الناس لا ينصفوني ... و لم يحسنوا قرضي على حسنات
إذا ما رأوني في رخاء توددوا ... إلي وأعداء لدى الأزمات
ومهما أكن في نعمة حزنوا لها ... ذوو أنفس في شدتي جذلات
ثقاتي ما دامت صلاتي لديهم ... و إنَّ عنهم أخرتهم فعداتي
سأمنع قلبي إنَّ يحن إليهم ... و اصرف عن قاليا لحظاتي
والزم نفسي الصبر دائبا لعلني ... أعين ما أملت قبل مماتي
ألا إنّما الدنيا كفاف وصحة ... و أمن ثلاث طيب كل حياة

و قال الأخر:

وما النفس إلاّ حيث يجعلها الفتى: ... فإن توقت تاقت وإلاّ تسلت

و قال الأخر:

إذا ما مددت النفس التمس الغنى ... إلى غير من قال اسألوني فشلت
سأصبر جهدي إنَّ في الصبر عزة ... و أرضى بدنياي وإنَّ هي قلت

و قال الأخر:

من لي بذكري كلما أوحشته ... تمحو سلوي واشتياقي تثبت
وسحاب دمع كلما أمطرته ... غير القتاد بمضجعي لا ينبت

و قد كنت قلت معنى البيت الأخير، قبل إنَّ أراه، وهو مطلع قصيدة:

طرقت من بعد الهدو بلابل ... تمهى كما طرق الخميلة وابل
سحب متى تحلل بأكناف الحشى ... ينبت به منها القتاد الراعل

إلاّ إنّه جعله في مطر الدموع، وأنا جعلته في مطر الأحزان؛ وجعله في المضجع، وأنا جعلته في وسط الفؤاد، وإليك ارتياد الإبلاغ

تقسم منك الترب قومي وجيرتي.... ففي الظاهر إحيائي وفي البطن أمواتي

و تقدم كثير مما قيل في ذكر الوطن، وسيأتي مزيد فيه، إن شاء الله تعالى.
وقلت أنا في قوم غشوا لئيما فجعل جائزتهم الازدراء:

لأن تهملوا أو يزدرى بوجوهكم ... فذوا ورطات خاضها الطين بابته
ومن يستبل يوما حميراً ينلنه ... فلا يشجعه من بولهن إصابته
ولو كان حلم لأدري المرء إنّه ... من النوك أنَّ تمتد للصخر راحته
إلاّ إنَّ برقا خلبا غير ممطر ... و شائمة الحرمان والغم غايته

و دخلت يوما عليه للتسليم عليه، فرأيت من لقياه ما أكره، فقلت في نفسي ارتجالا أو شبه ارتجال:

أتكبر يا أبن اللؤم بالكبر والخنا ... و لؤم لديه ما درى كرم الخلق
وتلتمس ركن المعالي براحة ... مغللة منها البنان إلى العنق
وتستقبلن وجه السيادة مسفراً ... بوجه كوجه الضفدع التف في سحق
وترقى سرير الملك يوما بأحمصٍ ... لو أعتسفت خضر الصوح بالمحق
ولو خاضت العذاب الفرات غدابها ... زعاقا يغص الشاربين وذا رنقِ
وتجري تصريف الرعايا جميعها ... على مسكة العصفور ذي الطيش الخرق
وتقدم في دفع الملمات عنهم ... بقلب هيوب يستفز من الوق
فهيهات منك المجد إنَّ كنت عاقلاً ... فدعه وإنَّ كنت المهوس فأسترق
فلا خير فيه غير أن لقاءه ... يعلمك الهجو البليغ على صدق
وإن هجا الناس ليس يسوؤه ... و هل ساء من على العرض يستبقي
دخلت عليه زائرا فإذا أنا ... بكلب مطير عابس مائل الشدق
واحسن إذا أخطأت إن زرت مثله ... فيعاقبني بالتيه أو سيئ الخلق

و أنا أستغفر الله العظيم من هجو المسلمين، وثلب أعراض الغافلين. ولولا أن اغتياب البخيل، ورد فيه ترخيص وتسهيل، مع إبتناء الكتاب، على قصد الإمتاع من كل باب، ما مضمضت بالهجو لساني، و سطرته ببناني.

وهيهفاء يحكيها القضيب تأوداً ... إذا ما انثنت في الريط أو حبراتها

يضيق الإزار الرحب عن ردفها كما ... يضيق بها الأحشاء عن زفراتها
وما ظبية أدماء تألف وحدة ... تزيد ظلال الضال أو أثلاتها
بأحسن منها يوم أومت بلحظها ... إلينا ولم تنطق حذار وشاتها

و قال أبن النبيه:

من لي بسلمى وفي أجفان مقلتها ... للحرب بيض حداد قط ما صحفت
يهتز بين وشاحيها قضيب نقى ... حمائم في أفنانه صدحت
وأسود الخال في محمر وجنتها ... كمسكة نفحت في جمرة لفحت

و قال الحماسي في غير هذا المعنى:

لا تنكحن الدهر ما عشت أيما ... مجربة قد مل منها وملت
تحك قفاها من وراء خمارها ... إذا فقدت شيئاً من البيت جنت
تجود برجليها وتمنع درها ... و إنَّ طلبت منها المحبة هرت

و قوله تحك قفاها: يريد إنّها لا تحسن احتكاكا، فضلا عن غيره. وقوله تجود برجليها، الخ: يريد إنّها تتأتى لمن يريد غشيانها، ولا تصلح للولادة، لأنها قعدت عنها فلا در لها. وتقدم هذا المعنى. وقال الحماسي أيضاً في لتلميح:

إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى ... على الرجل المسكين كاد يموت

وفي هذا القدر كفاية من هذا الباب، والله يقول الحق ويهدي السبيل.