باب الجيم

أجبن من صافر.

الجبن: الخور وهيبة الأقدام على الأمور. يقال: جبن بالضم يجبن جبنا بالضم وبضمتين وجبانة بالفتح فهو جبان بوزن سحاب وجبان كشداد وجبين كأمير والجمع جبناء. وهي جبان وجبانة وجبين. والصافر: المصوت يقال: صفر يصفر صفيرا إذا صوت فهو صافر وصفار. قال:

خلا لكِ الجو فبيضي واصفري

ويقال الصافر للخشاش والبغاث من الطير وهو ما يصيد منها. واختلف في المراد من الصافر في هذا المثل فقيل أريد كل صافر من الطير ولا يكون الصفير إلاّ في ضعافها وجشاشها ويوصف بالجبن لكثرة ما يتقي من جوارح الجو ومصايد الأرض. وقيل الصافر طائر بعينه إذ أمسى تعلق بالشجرة برجليه ونكس رأسه خوفا من أن ينام فيؤخذ فيبيت منكوسا ولا يزال يصيح حتى يصبح. وقيل: الصافر هنا بمعنى المصفور به وهو الذي ينذر بالصفير فيفزع ويهرب كما قالوا: ما بالدار صافر أي مصفور به قال الشاعر:

خلت الديار فما بها ... ممن عهدت بهن صافر

و عليه يكون فاعلا بمعنى مفعول كما في دافق أي مدفوق وراحلة أي مرحولة وذلك في المثال المذكور. والبيت محتمل غير متعين. وقيل: الصافر هو الذي يصفر للمرأة بالريبة وهو موصف بالجبن ساعتئذ لوجله وحذره أن يطلع عليه. قال الكميت:

أرجو لكم أن تكونوا في مودتكم ... كلبا كورهاء تقلى كل صفار
لمّا أجابت صفيرا كان آتيها ... من قابس شيط الوجعاء بالنار

و هذه المرأة التي ذكرها الكميت وضرب بها المثل امرأة من العرب كان من حديثها إنَّ رجلا كان يعتادها فكان يأتيها وهي جالسة مع زوجها وبنيها فيصفر لها فإذا سمعت صفيره أخرجت إليه عجيزتها من وراء البيت وهي تحدث ولدها فيقضي منها وطره ويرجع. ثم إنَّ بعض بنيها فطن للأمر فلما جاء صاحبها وصفر بها فأخرجت عجيزتها على العادة فأخذ مسمارا محمى كان معه فكوى به صدغها حتى أحست بالموت وتجلدت. فلما جاء الخدن بعد ذلك وصفر بها قالت: لقد قلينا صفيركم فضرب بها الكميت المثل.

أجبن من الكروان.

الجبن تقدم. والكروان بفتحتين طائر يشبه البط لا ينام الليل. وقيل هو الحجل. وانشد الجوهري:

يا كروان صك فاكبأنا ... فشن بالسلح فلما شنا
بل الذنابي عبسا مبنا

ويقال: أراد به الحبارى يصكه النازي فيتقيه بسلحه ويقال هو الكركي. ويقال للأنثى كروانة. ويقال للذكر الكرا ومنه المثل الآتي: أطرق كرا. وثقال إنّه سمي بالكرا وبالنعاس ضد ما كان عليه لمّا مر من إنّه لا ينام وهو أيضاً موصف بالجبن الكثير والفزع من سباع الطير كما قال الشاعر في خالد بن صوفان:

ترى خطباء الناس يوم ارتجاله ... كأنهم الكروان عاين اجدلا

والكروان بالكسر فالسكون جمع الكروان السابق. وقال الآخر:

أمير أبو موسى ترى الناس حوله ... كأنهم الكروان ابصرن بازيا

و سيأتي الكلام عن قولهم: أطرق كرا إن شاء الله تعالى.

أجبن من المنزوف ضرطا.
الجبن مر والنزف: النزح. يقال نزفت ماء العين انزفه أي نزحته كله ونزفت البئر فهي منزوفة. ويقال: نزفة عبرة الرجل بكسر الزاي إذا فنيت وانزفها الشوق. ويقال: نزف فلان دمه بالبناء للمجهول إذا سال عليه سيلانا مفرطا ونزف الدم فهو منزوف فيها. والضرط بالفتح والضراط بالضم صوت الريح. يقال: ضرط بالكسر ضراطا وضرطا فهو ضراط كشداد وضروط كصبور وضروط كسنور. واختلف في المنزوف ضرطا فقيل إنَّ نسوة كن لم يكن لهن أزواج فزوج إحداهن رجلا فكان ينام الصبحة فإذا آتيته بالصبوح ونبهنه قال: لو نبهتني لعادية أي الخيل فلما اكثر من ذلك قلن بينهن: إنَّ صاحبنا لشجاع فتعالين فآتينه بالصبوح على العادة فقال: لو لعادية نبهتنني كما كان يقول. فقلن له: هذا نواصي الخيل فجعل يقول: الخيل الخيل ويضرط حتى مات. وقيل إنَّ المنزوف ضرطا دابة بالبادية إذا صيح عليها وقع عليها الضراط فلا تزال تضرط حتى تموت. وقيل إنّه رجل خرج مع رفيق له. فبينما هما في فلاة إذ لاحت لهما شجرة فقال: أرى قوما رصدونا. فقال رفيقه: إنّما هي عشرة أي شجرة والعشر بضم العين وفتح الشين شجر يحشى في المخاد وهو أجود ما يقتدح به. فظنه يقول عشرة بالفتح. فجعل يقول: وما غناء اثنين عن عشرة ويضرط حتى مات.

أجبن من النعامة.
الجبن مر والنعامة: واحدة النعام وهو معروف اسم جنس مثل حمام وحمامة وجراد وجرادة والذكر منه يقال له ظليم. والنعام يوصف بالجبن كثيرا. ويقال إنَّ النعامة إذا خافت من موضع لا ترجع إليه أبداً. وقال الشاعر في الحجاج:

أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر

و للشعر قصة تذكر بعد إن شاء الله تعالى.

الجحش لمّا بذك الأعيار
الجحش ولد الحمار اهليا كان أو وحشيا والأنثى جحشة والجمع جحاش. قال زهير يصف حمار وحش:

وقد خرم الطراد عنه جحاشه ... فلم يبق إلاّ نفسه وحلاله

و البذ بالذال المعجمة الغلبة. يقال بذك هذا الأمر أي غلبك. قال علقمة يصف بقرة وحشية:

تعفق بالأرطى لها وأرادها ... رجال فبذت نبلهم وكليب

و الأعيار جمع عير بفتح العين وهو الحمار أهليا كان أو وحشيا. قال امرؤ القيس في الوحشي:
كأني وردفي والقراب ونمرقي ... على ظهر عير وادر الخبرات

وقال الآخر في الأهلي:

ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلاّ الأذلان عير الحي والوتد

و يجمع أيضاً على معيورات.
ومعنى المثل إنّه إذا غلبتك الاعيار ولم تدركها فعليك بالجحاش. وذلك إنَّ الصائد إذا أثار طريدة من الوحش فإنَ الكبار القوية منها تسبق وتتأخر الصغار. فإذا اعجزته الكبار السوابق فمن حقه إنَّ يظفر بالصغار ولا يفرط فيها. فيضرب في الرجل يطلب الأمر العظيم الخطير فيفوته فيقال له: اطلب ما دون ذلك أمالا وترجع خائب كما قيل:

إذا حاجة ولتك لا تستطيعها ... فخذ طرفا من غيرها حين تسبق

و لفظ الجحش في المثل يكون منصوبا على الأغراء أي: عليك بالجحش ويجوز أن يرفع على الابتداء أو الخبر أي: الجحش حسبك أو حسبك الجحش.

جدك كدك.
الجد بالفتح: الرزق والحظ. ورجل مجدود: ذو حظ. والكد بالفتح: الشدة والإلحاح. ومعنى المثل انك إنّما تعيش وتنال بمالك من الحظوة والبخت لا بتعبك وكدك فإنَ الكد لا ينفع مع الحرمان كما قيل:

عش بجد ولا يضرنك نوك ... إنّما عيش من ترى بالجدود

و كما قلت أنا:

كم لبيب ذي نجدة مالت هزلا ... وغبي تحتفه ألف هان

و تقدم في هذا المعنى مستوفى وسيأتي أيضاً.
قيل: وأول من قال في هذا المثل حاتم بن عميرة الهمداني. وكان بعث ابنيه: الحسل وعاجية في تجارة لوجهتين مختلفتين. فذهب الحسل حتى لقيه قوم من بني أسد فأسروه واخذوا ماله. وسار أخوه أياما حتى وقع على مال الحسل فاتبعه حتى بلغ نجران فنادى في قومه همدان فأخذه من أيدي سالبيه قبل إنَّ يبلغ إلى موضع متجره. وكانت الإبل موسومة بسمة ابيهما وعرفوا إنَّ ما كان من المتاع له فأخذه ورجع إلى أهله. وقال في ذلك:

كفاني الله بعد السير إني ... رأيت الخير في السفر القريب
وهذا القرب نلنا خيرا ... ولم نلق الخسارة في الدؤوب

فلما رجع تباشر به أهله وانتظروا الحسل. فلما ابطأ عنهم بعث أبوه أخا له يقال له شاكر في طلبه والبحث عنه. فلما دنا شاكر من الأرض التي فيها الحسل وكان الحسل علئفا يجزر الطير فقال الحسل:

تبشرني بالنجاة القطاة ... وقول الغراب لها شاهد
تقول: أل قد دنا نارح ... فداء له الطارف التالد
أخا لم تكن أمنا أمه ... ولكن أبونا أب واحد
تداركني زلفة حاتم ... فنعم المرب الوالد
تداركني بك يا شاكر ... ومن بك الملك الماجد

فسأل عنه شاكر حتى عرف مكانه فاشتراه منهم بأربعين بازلا. فلما رجع به واخبر بما لقي من بلاء قال أبوه: اسع بجدك لا بكدك وهذا المثل قولهم: عارك بجد أودع وسيأتي:

جدع مازن انفه بكفه.
يأتي هذا في الكاف وهو هناك البق.

أجرأ من خاصي خصاف.

الجراة على وزن الجرعة الشجاعة والأقدام. تقول: جرؤ بالضم، جرأة وجراءة، فهو جريء. وجرأته على الأمر تجرئة، فأتجر عليه. وتقول: خصيت الفحل أخصيه خصاء، وبالكسر والمد إذا سللت خصييه، فهو خصي. وخصاف على وزن كتاب أو وزن قطام: اسم فرس كان لحمل بن بدر بن عوف بن بكر بن وائل، طلبه منه المنذر بن امرئ القيس ليستحلفه، فخصاه بين يديه لجرأته ومنعه منه، فسمي خاصي خصاف وقيل من خاصي خصافٍ.

أجرأ من خاصي الأسد.

الأسد معروف. وخاصي الأسد تزعم العرب إنّه رجل مر به الاسد، فوجده يحرث بثورين بادنين، فقال له: يا حراث ما اسمن ثوريكفبم أسمنتهما وما أطعمتهما فقال له الحارث: إني خصيتهما فسمنا لأجل ذلك. فقال الأسد: فهل لك إنَّ تخصيني عسى إنَّ اسمن سمنهما فقال له: نعموأمكنه الأسد من نفسه، فخصاه الحراث وزعموا إنّه مر عنه الأسد ودمه يسيل، حتى رقى ربوة فأقعى فيها حزينا ينظر إلى الحراث. فبينما هو كذلك إذا بثعلب مر به، قال له: مالي أراك حزينا يا أبا الحارث فذكر له ما فعل به الحراث، وما دهمه من المثل الخصاء. فقال له الثعلب: هل لك في أنَّ آتي الحراث واستدبره، عسى أن تمكنني منه فرصة فأثئر لك قال: نعمفداك أبي وأمي. فمضى الثعلب وجعل يراوغ الحراث ويطيف به. فتناول الحراث حجرا وقذفه به فدق فخذه. فأتى الأسد وهو على ثلاث قوائم، فأقعى معه على الرابية يشكوان بثهما وما دهيا به من ذلك الحراث حتى مرت بهما نغرة فقالت لهما: ما لكما على هذه الحال فأخبراها خبرهما، فقال لهما: أنا أتيه، فأستدبره حتى أدخل في أنفه. فجاءت إليه، وتغافل الحراث عنها حتى دنت منه قبص عليها واخذ عودا فدسه في آستها وأرسلها، فجاءت إلى الأسد والثعلب وهي شر من حالهما، قد سد العود دبرها ومنعها وأثقلها عن الطيران، فبينما الثلاثة جلوس على الربوة يتشاكون، جاءت امرأة الحراث بغذائه. فتقدم إليها، ورفع رجليها، وجعل يطؤها، وهي بمرأى من تلك الحيوانات. فقال الأسد: ما ترون هذا المشؤوم يفعل بهذه المرأة المسكينة، والله إني لأظنه يخصيها. فقال الثعلب: ما أظنه إلا يكسر فخذها، فقالت لا واللهبل يدخل في آستها عودا. فكانت النغرة أقربهن إلى الصدق ظنا. وقيل إنَّ خاصي الأسد هو الإصبع التي يفرس بها من براثينه. حكاه البكري عن القاسم بن ثابت، والله اعلم.

أجرأ من فارس خصاف.
خصاف، بفتح الخاء على مثال قطام، وهي كانت لملك بن عمرو الغساني. وخصاف بوزن كتاب: حصان كان لشهير بن ربيعة الباهلي

جرب ثم باعد أو قرب.
هذا مثل مصنوع فيما أظن، وهو ظاهر المعنى. ومثله قول الشاعر:
ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمن فعالهم وتفقد
فإذا ظفرت بذي اللبابة والعلى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد

يجري بليق ويذم.
الجريان: العدو، وهو معروف؛ وبليق مصغر اسم فرس كان سباقا، وكان مع ذلك يذم، فيضرب به المثل في المحسن يذم.

جري المذكي حسرات عنه الحمر.
الجري تقدم؛ والمذكي من الخيل المسن. يقال: ذكى الفرس، تذكية بذال معجمة إذا أسن. والمذاكي من الخيل: التي أتى على قروحها سنة أو سنتان. والحمر جمع حمار. والمعنى أنَّ الحمار لا يستطيع أنَّ يسابق القارح من الخيل، بل والبرذون، كما قال زهير يمدح هرم بن سنان:

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... مضارب حتى إذا ما ضربوا اعتنقا
فضل الجياد على الخيل البطاء فلا ... يعطي بذلك ممنوقا ولا نزقا

يضرب هذا المثل في الرجل البارع المبرز على غيره في الفضل.

جري المذكيات غلاب.
المثل من معنى ما قبله. والجري تقدم؛ وكذا المذكيات من الخيل. والغلاب: المغالبة، كأنها تغالب الجري. ويروى غلاء أي مغالاة في السير. والغلاء، بكسر الغين أيضاً، جمع غلوة، وقد روي المثل بذلك. والغلوة من كل غاية مقدار رمية السهم. وهذا المثل قاله قيس بن زهير، وذلك إنّه لمّا تراهن هو وحمل بن بدر على ما مر في هذه القصة، فأرسلا فرسيهما: فرس قيس وهو داحس، وفرس حمل وهو الغبراء، على ما في ذلك من الاضطراب، ظهرت الغبراء على داحس. فقال حمل بن بدر: سبقتك يا قيسفقال قيس: رويدايعدوان الجدد، فأرسلها مثلا. فلما خرجا عن الجدد وصار في الوعث، برز على الغبراء. فقال قيس حينئذ: جري المذكيات غلاب أو غلاء كما مر فذهبت مثلا.

جروا له الخطير ما أنجز لكم
الجر: السحب على الأرض مثلا. وجرت الفرس بمقوده، والجمل بزمامه، فانجر؛ والخطير، بالخاء المعجمة والطاء المهملة على مثال أمير زمام الناقة وجديلها. يسمى بذلك لأنّه يخطر أي يهتز عند مشيها. وبذلك يمس الرمح خطارا. والجديل ما كان من جلود، وقد يقال لغيره. والحبل إذا كان من خوص سمي شريطاٍ، وإذا كان من كتان سمي مرسا، كما قال امروء القيس:

كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل

و إذا كان من ليف فهو مسد. وهذا المثل يروى عن عمار بن ياسر، رضي الله عنه إنّه قاله في عثمان، رضي الله عنه، حين أنكر عليه الناس ما أنكروا، أي أتبعوه ما كان فيه موضع متبع.

اجر الأمور على إذلالها
الأمور جمع أمر؛ والإذلال، بالذال المعجمة، جمع ذال بالكسر وذل الطريق: محجته. والمعنى: أجر الأمور على مجاريها ومسالكها. ويضرب في الأمر بحسن التدبير ويقال أيضاً: إنَّ أمور الله جارية إذلالها وعلى إذلالها، أي على مجاريها. ويقال: دعه على إذلاله أي حاله؛ وجاء على إذلاله، أي على وجهه.

التجريد لغير نكاح مثله.
التجريد معروف. تقول: جردت زيدا من ثيابه، وتجرد هو من ثيابه؛ وكذا النكاح. ومثله: النقص والمثلة: النقص والعيب والشين. والمعنى أنَّ تجريد العورة لغير النكاح عيب. ويضرب في وضع الأشياء في غير موضعها. وذكروا أن المثل لرقاش بنت عمرو بن ثعلب بن وائل وكانت شريفة عاقلة. فتزوجها كعب بن مالك بن تيم الله، فقال لها: اخلعي درعك فقالت: خلع الدرع بيد الزوجز فقال: اخلعي درعك لأنظر إليكفقالت: يا أبن عم: إنَّ التجريد لغير نكاح مثلةٌفأرسلها مثلا. فطلقها مكانها، فحملت إلى أهلها، فمرت بذهل أبن شيبان بن ثعلبة، فسلم عليها وخطبها إلى نفسها، فقالت لخادمها: انظري أيبعثر أم يقعر إذا بال فنظرت الأمة فقالت لمولاتها: يقعر. فتزوجته.

ويحكى أيضاً إنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه، لمّا تزوج نائلة بنت الفرافصة بن الاحوص الكلبية، وساقها إليه أخوها، فأدخلت عليه، وخلا بها وقال لها: تقومين إلي أم أقوم إليك فقالت: ما قطعت إليك عرض السمواة وأنا احب إنَّ تقطع إلي عرض البساط. فقامت وجلست إليه، فقال لها: لا يسؤنك ما ترين من شيبي، فإن وراءه ما تحبين. قالت: إني لمن نسوة أحب رجالهن السيد الكهل. إلى أن قال لها: ضعي الخمارفوضعته. فقال لها: اخلعي الدرعفخلعته. فقال لها: اخلعي الإزارقالت: ذلك إليكفلما دخل على عثمان، رضي الله عنه، يوم الدار، أكبت عليه وجعلت تنافح بيدها حتى أصيبت بجراحات. فلما قتل رحمه الله، رثته فقالت:

إلاّ إنَّ خير الناس بعد ثلاثةٍ ... قتيل التحبي الذي جاء من مصر
ومالي لا تبكين وتبكي قرابتي ... وقد حجبت عنا فضول أبي عمر

و يروى هذا الشعر أيضاً للوليد بن عقبة، وللكميت. والتحبي هو كنانة أبن بشر قاتل عثمان، رضي الله عنه. وهو منسوب إلى تجيب، بضم التاء وفتحها، بطن من كندة. فلما انقضت عدتها خطبها معاوية، فقالت لنسائها: ما يعجب الرجال مني قلن لها: ثناياك. فعمدت إلى فهرٍ فدقت به ثنيتها وبعثت بهما إلى معاوية، فكف. ولم تزل محداً بعد قتل عثمان حتى لحقت به.

أجرى من ذبابٍ.
الجريان مر، والذباب معروف، والواحدة ذبابة، وجمع القلة أذبةٌ. قال الشاعر: ضرابة بالمشفر الأذبة وجمع الكثرة ذبان، بالكسر كغربان قال امرؤ القيس:

عصافير وذبان ودودٌ ... وأجرا من مجلحة الذئاب

و لا يخفى ماله من الجريان وسرعة الدوران وخفة الطيران.

جزاه جزاء سنمار.
الجزاء: المكافأة. وثقول: جزيت فلانا، أجزيه؛ وجازيته مجازاة وسنمار بكسر السين المهملة والنون، وشد والميم بعدها ألف فراء: اسم رجل، وهو إسكاف كان النعمان الأكبر، لمّا أراد أن يبني الخورنق لسابور، ليكون ولده فيها معه، اتخذ هذا الإسكاف، فبناه له وأحسن رصفه، وأبدع وصفها، وأكملها في عشرين حولا. فلما أتم بنائها، وأعجب الناس بحسنها، قال الأسكاف: إني لو شئت جعلت القصر يدور مع الشمس حيثما دارت. فقال الملك: انك لتحسن أنَّ تبني أجمل منه فطرحه من أعلاه. فضرب به المثل لمن يجزي الإحسان بالإساءة. قال الشاعر:

جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رصفه البنيان عشرين حجة ... يعل عليه بالقرامد والسكب
فلما انتهى البنيان يوم تمامه ... وأض كمثل الطود والباذخ الصعب
رمى بسنمار على حق رأسه ... وذاك لعمر الله من أعظم الذنب

وقال الأخر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ ... وحسن فعلٍ كما يجزى سنمار

و قيل إنَّ سنمار هو غلام لأحيحة بنى أطما فلما فرغ قال: أحكمتهفقال: إني لأعرف حجرا لو انتزع لتقوض من آخره. فسأله عن الحجر، فأراه إياه، فدفعه احيحة من الأطم فخر ميتا. وفي النوادر إنّه إنسان عمل أطما لبعض الملوك، فقال له إنَّ نزع هذا الحجر تداعى البناء كله. فرمي من فوقه لئلا يعلم به أحد غيره وأنشد: جزاء سنمار بما كان يفعل.

تجشى لقيم من غير شبعٍ.
التجشي: تنفس المعدة، ويكون عند الشبع. ولقيم اسم رجل؛ والشبع بوزن عنب معروف. والمثل ظاهر المعنى، يضرب في التشبع بما لم يعط. وهو كقولهم: عاطٍ بغير نوطٍ وقولهم: كالحادي وليس له بعير؛ وسيأتيان.

أجلسته عندي فاتكأ.
الجلوس معروف، وكذا الاتكاء. هذا المثل يضرب في عادة السوء يعتادها صاحبها. وهو كقولهم: أعطي العبد كراعا فطلب ذراعا.

جلى محباً نظره.
التجلية: الإبداء والإظهار؛ والمحب خلاف المبغض؛ والنظر البصر. والمعنى إنّ نظر الإنسان يظهر ما انطوى عليه من محبة أو بغض. ومثله قولهم: شاهد البغض اللحظ؛ وقول الشاعر:

فإنَ تك في عدو أو صديقٍ ... تخبرك العيون عن القلوب

و قول الآخر:

خذ من العيش ما كفى ... ومن الدهر ما صفا
عين من لا يريد وصلك ... تبدي لك الجفا

و قول الآخر:

تخفي العداوة وهي غير خفية ... نظر العدو بما أسر يبوح

وقالوا: إنَّ يعبر عن الإنسان اللسان، وعن المودة والبغض العيان

جمع بين الأروى والنعام.
الجمع ضد التفريق؛ وتقدم تفسير كل من الأروى والنعام في هذا الكتاب. وهذا المثل يضرب في الجمع بين أمرين متنافيين، والتأليف بين شيئين متخالفين. يقال: تكلم زيد فجمع بين الأروى والنعام، وذلك لأن الأروى مسكنها قنن الجبال، كما قال امرؤ القيس:

تلاعب أولاد الوعول رباعها ... دوين السماء في رؤوس المجادل

و النعام مسكنها السهل من الأرض، فلا يجتمعان؛ وكذا الأروى والبقر.
وسئل أعرابي عن صفة مطر فقال: استقل سد مع انتشار الطفل فشط واحزال؛ ثم أكفهرت أرجاؤه، واحمومت أرحاؤه، وابذعرت فوارقه، وتضاحكت بوارقه، واستطار وادقه، وارتقت حؤبه، وارتعن هيدبه، وحشكت أخلاقه، واستقلت أردافه، وانتشرت أكنافه؛ مرتجس، والبرق مختلس، والماء منبجس فأترع الغدر وانتبث الوجر وخلط الأوعال وبالآجال، وقرن الصيران بالرئال: فالأودية هدير والشراج خرير، والتلاع زفير؛ وحط النبع العتم، والقلل الشم، إلى القيعان الصحم. فلم يبق في القلل إلا معصم مجرنثم، أو داحص مجرجم، وذلك من فضل رب العالمين، على عباده المذنبين

قوله استقل سد: السد بضم السين: السحاب المظلم؛ وكذا الجراد لأنّه يسد الأفق. واستقل: ارتفع؛ والطفل بفتحتين، والعشي إلى المغرب؛ وشصا ارتفاع، يقال: شصا الزق إذا امتلأ فارتفعت قوائمه؛ واحزأل: ارتفع أيضاً، وهو بالحاء المهملة والزاي؛ واكفهرت تراكم؛ أرجاؤه: نواحيه، وأحموت: اسودت؛ أرحاؤه: جمع رحى، وهي الوسيط. وابذعرت بذال معجمة: تفرقت؛ فوارقه: جمع فارق، وهي القطعة من السحاب الخارجة عن معظمه. والفارق في الأصل: الناقة تند عن الإبل عند نتاجها. واستطار: انتشر؛ وادقه: الوادق الذي كثر ماؤه، أو الذي دنا من الأرض. وارتتقت: التأمت؛ حؤبه: فرجه. وارتعن: استرخى؛ هيدبه: ما تدلى منه إلى الأرض، كهدب القيظفة. وحشكت: امتلأت؛ أخلاقه: ضروعه، جمع خلف وهو ما يقبض عليه الحالب من ضرع الناقة والبقرة. واستقلت: ارتفعت؛ أردافه: مآخره. هذه كلها استعارات. وأكنافه: نواحيه. ومرتجس: مصوت ومختلس: كأنه لشدة لمعانه يختلس الأبصار، ومنحبس: منفجر واترع: ملأ والغدر، بضمتين، جمع غدير والواجر، بضمتين جمع وجار وهو الحجر يلجه الثعلب والضبع وانتبثها بالثاء المثلثة، اخرج نباتها وأصل النبيثة تراب البئر؛ والأوعال جمع وعل وهو التيس الجبلي، والآجال جمع أجل، بكسر فسكون وهو القطيع من بقر الوحش. يقول: أن هذا المطر لشدته جمع بين الأوعال التي مساكنها قنن الجبال، وبين البقر التي مساكنها القيعان. والصيران جمع صوار، وهو القطيع من بفر الوحش، والرئال: فراخ النعام، جمع رأل، بفتح فسكون، وهي تسكن الجلد من الأرض، والصيران تسكن الرمال والقيعان فجمع بينهما أيضا لشدته والهدير: الصوت؛ والشراج مجاري الماء من الحرار، واحدها شرج، والتلاع: الشعاب التي يجري بها الماء من الجبال، وأحدها تلعة بفتح السكون والنبع شجر تتخذ منه القسي؛ والعتم بعين مهملة وتاء مثناة على مثال جرف: الزيتون الجبلي؛ والقلل أعالي الجبال، والشم المرتفعة؛ والقيعان جمع قاع وهو الأرض المطمئنة والصحم: التي تعلوها حمرة، جمع أصحم والمعصم: الذي استمسك بالجبال وتمنع فيها من الأوعال. يقال: فارس معتصم إذا أخذ بعرف فرسه، والمجرنثم: المنقبض، والداحص الذي يفحص برجليه عند الموت. قال علقمة:

رغا فوقهم سقب السماء فداحص ... بشكته لم يستلب وسليب

و المجرم مصدوع.

جمع بين الضب والنون.
الضب حيوان معروف، وجمعه ضباب وأضب، وكنيته أبو حسل، والحسل ولده، كما سيأتي، والنون: الحوت، وجمعه نينان. وهذا المثل كالذي قبله في المعنى، لأن الضب حيوان بري، ولا يرد الماء ويلازم الصحراء، واكثر ما يكون في الكدى، كما قال خالد أبن علقمة:

ترى الشر قد أفنى دواءر وهجه ... كضب الكدى أفنى براثنيه الحفر

وقال الأخر:

فلله أرض يعلم الضب إنّها ... بعيد من الآفات طيبة البقل
بنى بيته فيها على رأس كدية ... وكل امرئٍ في حرفة العيش ذو عقل

و من عجيب أمره إنّه يعيش سبعمائة سنة ولا تسقط له سن، وهو لا يشرب الماء. ويقال إنّه يبول في كل أربعين يوماً مرة. ومن كلام العرب: لا أفعل ذلك حتى يرد الضب، كما يقولون: حتى يشيب الغراب. ومن الكلام الموضوع على ألسنة العجماوات، قالت السمكة: رد يا ضبفقال:

أصبح قلبي صردا ... لا يشتهي إنَّ يردا

و النون حيوان بحري لا يفارق الماء أبداً، فلا يجتمعان. قال الصابئ:

الضب والنون قد يرجى اجتماعهما ... وليس يرجى اجتماع المال والأدب

وقال الأخر:

ولو انهم جاءوا بشيء مقارب ... لقلت: هو الشكل الموافق للشكل
ولكنهم جاءوا بحيتان لجة ... تقامس والمدعو فينا أبا الحسل

و لمّا بين الضب والنون من التنافي والتقابل، قال حاتم الأصم أو غيره:

وكيف أخاف الفقر والله رازقي ... ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم ... وللضب في البيدا وللحوت في البحر

و لوضوح ذلك يقال، عند التجهيل: فلان لا يفترق بين الضب والنون.
أجمل من المذهب.
الجمال: الحسن؛ حمل الشخص، بالضم، ويجمل فهو جميل، والمذهب هو أبن عدنان، كان فائقا في الجمال والبهاء. فضربت العرب بجماله المثل.

الجمل من جوفه يجتز.
الجمل بفتحتين من الإبل معروف، والجرة بكسر الجيم وتفتح، ما يخرجه البعير من جوفه، فيأكله ثانية. ويقال: اجتر الجمل فعل ذلك، يجتر اجترارا. وهذا المثل يضرب لمن يأكل من كسبه، أو ينتفع بشيء يعود منه الضرر.

تجنب روضة وأحال يعدو.
التجنب معروف، والإحالة هنا الإقبال. يقال: أحال عليه بالسوط، أي أقبل عليه. قال الشاعر:
وكنت كذئب السوء لمّا رأى دماً ... يصاحبه يوما أحال على الدم
و معناه: تجنب الخصب واختار الضيق. يضرب في الرجل تعرض عليه الكرامة فيختار الهوان.

أجن من دقة.
الجنون معروف. يقال: جن الرجل، بالبناء للمفعول، فهو مجنون، وأجن من كذا، بنوه من فعل المفعول شذوذاً، كما قالوا: أشغل من ذات النحيين، وأزهى من ديك، وسيأتيان، ودقة، بضم الدال المهملة وتشديد القاف، اسم رجل، وهو دقة بن عبابة يضرب بجنونه المثل.

أجود من لافظة.
الجود معروف، ضد البخل. ويقال أيضاً: أسمح من لافظة؛ والسماح هو الجود. واختلف في اللافظة، فقيل: البحر لأنها تلفظ بالدرة الجليلة التي لا قيمة لها والهاء للمبالغة. قال الشاعر:

يداك يد خيرها يرتجى ... وأخرها لأعدائها غائظه
فأما التي خيرها يرتجى ... فأجود جوداً من اللافظه
وأما التي شرها يتقى ... فنفس العدو بها فائظه

وقال الأخر:

تجود فتجزل قبل السؤال ... وكفك اسمح من لافظه

و قيل: اللافظة الرحى، لأنها تلفظ ما تطحنه ولا تبقي. وقيل إنّها العنز، وجودها إنّها تدعى إلى الحلب، وهي تعلف، فتلقي ما فيها. وتقبل إلى الحالب. وقيل إنّها الحمامة لأنها تخرج ما في بطنها لفرخها. وقيل هي الديك، لأنّه يأخذ الحبة بمنقاره، فلا يأكلها، ولكن يلقيها إلى الدجاجة، إلاّ المسن منها، فإنه لاستغنائه عن الدجاج يأكل الحب دونها ويمنعها منه.

الجواد يكبو.
الجواد هو الكريم من الخيل يجود بما في طاقته من الجري. والكبو: العثار. يقال: كبا، يكبو كبوا وكبوا. ويقال في هذا المثل أيضاً: لكل جواد كبوة، وهو إنَّ الكامل لا ينبغي إنَّ بذم إذا وقعت منه هفوة، كقولهم في المثل الآخر: لا تدعم الحسناء ذاما. وسيأتي جميع ذلك. وقال أبو بكر بن دريد رحمه الله تعالى:

والطرف يجتاز المدى وربما ... عن لمعداه عثار فكبا

و قلت أنا:

وكريم الجياد يكبو وما في ... كبوة للجواد من نقصان

أجناؤها أبناؤها.
الأجناء جمع جان. يقال: جنى فلان على فلان، يجني عليه فهو جان وهو جناء وأجناء. وهذا الثاني نادر إذ لا يجمع فاعل على أفعال والبناء جمع بان وهو نادر والمعنى أنَّ الذي جنوا على هذه الدار مثلا بالهدم هم الذين كانوا بنوها. ومضرب المثل من هذا واضح. قال الجوهري: وأنا أضن أنَّ أصل المثل: جناتها بناتها لأن فاعلا لا يجمع على أفعال؛ أما الأشهاد والأصحاب فإنما هو جمع شهد وصحب إلاّ أن يكون هذا من النوادر لأنّه يجيء في الأمثال ما لا يجيء في غيرها. انتهى. وهو ظاهر.

يجني من الشوك الثمر.
تقدم تفسير هذه الألفاظ في الباب الأول. والمعنى أنك إذا ظلمت فأحذر الانتصار والانتقام
تجمع الحرة ولا تأكل بثدييها.
الجوع ضد الشبع. والحرة ضد الأمة والأكل معروف؛ وكذا الثدي وجمعه ثديّ. قال الشاعر:

أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورها

و يحكى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل:أيكون المؤمن كذاباً فقال: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. ومعناه أنَّ الحرة قد يصيبها ألم الجوع وشدة الاضطراب ولا تؤجر نفسها على الإرضاع لتأكل أجر رضاعتها، فتلزم نفسها الاصطبار صونا لنفسها عن الهوان ة الابتذال. فيضرب في الحر يصون نفسه عن قبيح المكاسب ولا تمنعه شدة فقره وحاجته أن يلزم صيانته ويحفظ مروءته.

وأصل المثل للحارث الأزدي أو الأسدي وكان خطب إلى علقمة بن حفص الطائي بنته ريا بنت علقمة وكان الحارث شيخا. فقال علقمة لامرأته: اختبري ما عند ابنتكفقالت لابنتها: أي بنية أي الرجال أحب إليك: الكهل الجحجاح الواصل المياح أم الفتى الوضاح الذهول الطماح قالت: بل الفتى. قالت: إنَّ الفتى يغريك وإنَّ الشيخ يمريك. قالت: يا أمتاه إنَّ الفتاة يحب الفتى كحب الرعاء أنق الكلا. قالت: يا بنية إنَّ الفتى شديد الحجاب كثير العتاب. قالت: يا أمتاه أخاف من الشيخ أن يدنس ثيابي ويبلي شبابي ويشمت بي أترابيفلم تزل بها أمها حتى غلبتها على رأيها فتزوجها الحارث وأرتحل إلى أهله. فبينما هو ذات يوم بفنائه وهي إلى جنبه إذ أقبل شاب من بني أسد. فتنفست الصعداء ثم بكت. فقال لها: ما يبكيك قالت: مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ من كل حقول فنيخ فقال: ثكلتك أمكتجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. ثم قال: وأبيكلرب غارة شهدتها وسبيئة أرفدتها وخمرة شربتها فلحقي بأهلك فلا حاجة لي فيكوقال أبو عبيد في هذا المثل إنّه من أمثال أكثم بن صيفي. قال: وهو مثل قديم لكن العامة ابتذلته وحولته فقالت: ولا تأكل ثدييها يعني بإسقاط حرف الجر. قال بعض العلماء: ليس هذا بشيء إنّما بثدييها ومعناه عندهم الرضاع. يقال لا تكون ظئر القوم على جعل تأخذه منهم. انتهى.

وقال بعض الأمة: إنَّ العرب كانوا يعدون أخذ الأجر على الرضاع سبة ولذلك قيل:تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها. وقال العلماء: بثدييها. والقولان صحيحان لأنها إذا أكلت ثمن لبنها فكأنها قد أكلت ثدييها. قال الراجز:

إنَّ لنا أحمرة عجافاً ... يأكلن كل ليلةٍ أكافا

أي: نبيع كل ليلة أكافاً من أكفتها ونعلفها ثمنه. قال: وكذلك قول الآخر في وصف إبل: نطعمها إذا شتت أولادها أي أثمان أولادها. انتهى.

وقال السهيلي في الروض: والتماس الأجر على الرضاع لم يكن محمودا عند أكثر نساء العرب حتى جرى المثل: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. وكان عند بعضهم لا بأس به فكانت حليمة وسيطة في بني سعد كريمة من كرائم قومها بدليل اختارها الله إياها لرضاع نبيه صلى الله عليه وسلم كما اختار أشرف البطون والأصلاب. والرضاع كالنسب لأنّه يغير الطباع. وفي المسند عن عائشة ترفعه: لا تسترضعوا الحمى فإنَ اللبن يورثويحتمل أن تكون حليمة وقومها طلبن الرضعاء للأزمة التي أصابتهم والسند الشهباء التي أقحمتهم اضطرارا. قال: وأما دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أولادهم إلى المراضع فقد يكون ذلك لوجوه: أحدها تفريغ النساء إلى الأزواج كما قال عمار بن ياسر لأم سلمة وكان أخاها من الرضاعة حين انتزع من حجرها زينب بنت لبي سليمة فقال: دعي هذه المقبوحة المشقوحة التي آذيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يكون ذلك منهم أيضاً لينشأ الطفل في الأعراب فيكون أفصح للسانه، وأجلد لجسده وأجدر أن لا يفارق الهئة المعدية كما قال عمر: تمعددوا وتمعززوا واخشوشنواوقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر حين قال له: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله فقال: وما يمنعني وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى الأعرابيات. وقد ذكر أنَّ عبد الملك بن مروان كان يقل: أضر بنا حب الوليدلأن الوليد كان لحانا وكان سليمان فصيحا لأن الوليد أقام مع أمه وسليمان وغيره من أخوته أسكنوا البادية فتعربوا ثم أدبوا فتأدبوا. انتهى. وقد قلت في نظم المثل المذكور من قصيدة:

يعرى الفتى ويجوع وهو يرى ... متجملاً بالصبر والبشرِ
والحرة الشماء ربتما ... جاعت ولم ترضع على أحرِ

جوع كلبك يتبعك
الجوع تقدم. وجوعت فلانا وأجوعته: تركته بلا طعام حتى جاع؛ والكلب معروف؛ وكذا الاتباع. والمثل ظاهر المعنى. قيل: وأوّل من قاله ملك من ملوك حمير كان جبارا عنيفا على أهل مملكته يغصبهم أموالهم وما في أيديهم. وكانت الكهنة تخبره أنهم سيقتلونه وهو لا يبالي بذلك. وسمعت امرأة له أصوات السؤال فقالت له: إني لأرحم هؤلاء لمّا يلقون من الجهد ونحن في العيش الرغد وإني أخاف أن يكونوا عليك سباعاً بعد أم كانوا لك أتباعافرد عليها: جوع كلبك يتبعكفأرسلها مثلا. ثم إنّه لبث كذلك زمانا ثم أغزاهم مع أخيه فغنموا ولم يقسم فيهم شيئا. فقالوا لأخي: قد ترى ما نحن فيه من الجهد ونحن نكره خروج الملك منكم إلى غيركم فساعدنا على قتل أخيك وأجلس مكانهوعرف أخوه بغيه واعتداءه فأجابهم إلى ذلك فوثبوا عليه وقتلوه. فيقال إنّه مر به رجل يقال له عامر بن جذيمة وهو مقتول وقد سمع قوله: جوع كلبك يتبعكفقال: ربما أكل الكلب مجوعه إذا لم ينل شبعهوقال لبو جعفر المنصور يوما لقواده: صدق الإعرابي حيث يقول: أجع كلبك يتبعكفقال له أبو العباس الطوسي منهم: يا أمير المؤمنين أخشى أن يلوح له رجل برغيف فيتبعه ويدعك

أجوع من ذئب.
الذئب معروف يهمز ويخفف والأنثى ذئبية. قال الشاعر:

فصرت كنعجة تضحي وتمسي ... تردد بين أخبث ذئبين

و الذئب يوصف بالجوع المفرط ومن ثم يقال للجوع داء الذئب. يقال: رماه الله بداء الذئب أي الجوع. وهو مع ذلك شديد الصبر عليه وربما اكتفى بالنسيم. ويقال إنّه إذا ألح عليه الجوع عوى فتجتمع عليه الذئاب فتحمل على إنسان حملة واحدة وكل منها حريص عليه؛ إلاّ إنّه إذا أدمي منها واحد وثبت عليه البواقي وتركت الإنسان. ومن ثم قال الشاعر يعاتب صديقا له أعان عليه في أمر نزل به:

وكنت كذئب السوء لمّا رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدمِ

وقال العجير السلولي:

تركنا أبا الأضياف في ليلة الدجى ... بمر ومردى كل خصمٍ يجادله
تركنا فتى قد أيقن الجوع أنه ... إذا ما ثوى في أرحل القوم قاتله
فتى قُدَّ قَدَّ السيف لا متضائلٌ ... ولا رهلٌ لماته وبآدله
إذا القوم أموا بيته فهو عامرٌ ... لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله
جوادٌ بدنياه بخيلٌ بعرضه ... عطوفٌ على المولى قليلٌ غوائله
فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوما دماً فهو آكله
إذا جد عند الجد أرضاك جده ... وذو باطل إن شئت أرضاك باطله
يسرك مظلوما ويرضيك ظالما ... وكل الذي حملته فهو حامله

أجوع من كلبة حومل.
الكلبة الأنثى من الكلاب معروفة؛ وحوامله بالحاء المهملة على مثل جوهر امرأة من العرب كانت لها كلبة تجوعها بالنهار وهي تحرسها بالليل. فكانت تربطها بالليل للحراسة وتطردها بالنهار وتقول: التمسي لا ملتمس لكحتى طال عليها الأمر فأكلت ذنبها جوعا. قال الشاعر:

كما رضيت جوعا وسوء ولاية ... لكلبتها في أول الدهر حومل

أجوع من لقوةٍ.
اللقوة بفتح اللام: الكلبة. وفيها يقال: أجوع من لقوة قاله بعض الناس. والمعروف في كتب اللغة أنَّ اللقوة بالفتح وتكسر المرأة السريعة اللقاح كالناقة. ومنه المثل الآتي: لقوة صادقت قبيساً؛ وكذا العقاب الأنثى. قال امرؤ القيس:

كأني بفتخاء الجناحين لقوة ... صيود من العقبان طأطأت شملالي

وقال أبو عبيدة: سميت العقاب لشدة لسعة أشداقها. وكأنه عنده مأخوذ من اللقوة، وهو الداء المعروف الذي يصيب في الجه. يقال لقي الرجل بالبناء للمفعول، فهو ملقو.

أجول من قطربٍ.
يقال: جال جولانا فهو جائل وجوال؛و القطرب طائر يبيت سائراً لا ينام الليل كله. ويقال دويبة. ويقال إنّه دويبة لا تستريح نهارها سعيا. وكان محمد بن المستنير النحوي يبكر إلى مجلس سيبويه فلا يفتح الباب إلاّ وجده فقال له: ما أنت إلاّ قطرب ليلفبقي عليه قطرب لقبا. ويطلق القطرب أيضاً على الذئب الأمعط وعلى الفأر وعلى اللص وعلى ذكر الغيلان وغير ذلك من المعاني.

وذكر أبن ظفر أنَّ القطرب حيوان يكون بالصعيد من أرض مصر يظهر للمنفرد من الناس فربما صده عن نفسه إن كان شجاعا وإلاّ لم يزل به حتى ينكحه فإذا نكحه داد دبره فهلك. وهو إذا رأوا من ظهر له قطرب قالوا: امنكوح أم مروع فإن قال منكوح أيسوا وإن قال مروع عالجوه والله اعلم. وسيأتي ذكر نحو هذا الحيوان في قولهم ألوط من عدار في حرف اللام، إن شاء الله تعالى.

الجار قبل الدار.
روي هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق. ويروى: الجار والرفيق مرفوعين والنصب فيهما حسن، أي: التمس الجار قبل الدار والتمس الرفيق قبل الطريق. وقال أبو تمام في هذا المعنى:

من مبلغ أبناء يعرب كلها ... أني أبتنيت الجار قبل المنزلِ

و وقال الأخر:

يقولون: قبل الدار جارٌ موافقٌ ... وقبل الطريق النهج أنس طريق
فقالت: وندمان الفتى قبل كأسه ... فما حث كأس الخمر مثل صديق

وقال الأخر في المعنى:

يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ... ولم يعلموا جاراً هناك ينغصُ
فقالت لهم: بعض الملامفإنما ... بجيرانها تغلو الديار وترخصُ

جاء بالضح والريح
المجيء معروف والضح بكسر الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة مشددة يطلق على الشمس وما طلعت عليه الشمس. وفي الحديث: لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل فانه مقعد الشيطان. ذكره في الصحاح وأنشد لذي الرمة:

غدا أكهب الأعلى وراح :إنّه ... من الضح واستقباله الشمس أخضرُ

أي استقباله عين الشمس. وقال علقمة: أبيض أبرزه للضحى راقبه.

والريح معروفة. ومعنى جاء بالضح والريح: جاء بما طلعت عليه الشمس وما جرت عليه الريح. يقال ذلك عندما يجيء بالشيء الكثير. قال في الصحاح: والعامة تقول: جاء بالضيح والريح يعني الضيح بالياء المثناة من تحت. قال: وليس بشيء. انتهى. ومثله لصاحب القاموس.

جاء بالحظر الرطب.
الحظر بالظاء المشالة على مثال كتف الشجر المحتظر به والشوك الرطب. والرطب خلاف اليابس فيقال: جاء فلان بالحظر الرطب أي بكثرة من المال والناس وقيل بالكذب المستبشع. ويقال أيضاً: أوقد فلان في الحظر الرطب إذا بم ووقع في الحظر الرطب إذا وقع فيما لا طاقة له به. وذلك كله ظاهر.

جاء بالطم والرم.
الطم بكسر الطاء المهملة قيل الماء وقيل ما على وجه الماء وقيل ما ساقه من الغثاء ويطلق أيضاً على البحر وعلى العدد الكثير وعلى العجب وغير ذلك من المعاني. والرم بكسر الراء: ما يحمله من الغثاء أو ما على وجه الأرض من فتات الحشيش. ومعنى جاء بالطم والرم: جاء بالمال الكثير. وقيل: بالرطب واليابس أو بالتراب والماء أو بالبحر والثرى. وقال بعض الناس: الطم بالكسر إذا كان مع الرم؛ فإذا أفرد فتح فقيل: جاء بالطم مفتوحا كما قالوا: هنأني بالطعام ومراني؛ فإذا أفردوا لم يقولوا إلاّ أمراني.

جاء بما صأى وصمت.
يقال: صأى الفرخ وغيره يصأى كسعى يسعى صئيا على مثل فعيل إذا صوَّت. قال:

مالي إذا أنزعها صأيت ... أكبرٌ غيرني أم بيتُ

و صمت يصمت ككتب يكتب صكتا وصموتا إذا سكت. فيقال: جاء بما صأى وبما صمت بحذف الموصول الثاني اختصارا كقول حسان رضي الله عنه:

أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء

أي: من يهجوه ومن يمدحه لاستحالة اجتماع الوصفين في موصوف واحد، وكذا الصئي والصمت لا يجتمعان. والصامت من المال: الذهب والفضة، والناطق: الإبل مثلا. ومنه قولهم: حصل الناطق والصامت، وهلك الحاسد والشامت. وقد يقال: جاء بما صاء وصمت. وصاء مقلوب صأي، كما قالوا: راء في رأي. ومنه قولهم في المثل الآخر في العقرب: تلدغ وتضيء.

جاء صريم سحرٍ
أي خائبا آيسا.

جاء يضرب أسدريه.
ويقال أيضاً: جاء يضرب اصدريه بالصاد وازدريه بالزاي والمعنى في الجميع واحد. والإصدران عرقان تحت الصدغين، وقيل المنكبان، وقيل العطفان، ويقال: جاء يضرب اصدريه، أو اسدريه، أي يضرب عطفيه ومنكبيه. ومعناه: جاء فارغا ليس بيديه شيء ولم يقض حاجة. فإذا قضاها قيل: جاء ثانياً من عنانه.

ويروى أنَّ الحسن البصري، رضي الله عنه، رأى الناس يوم عيد يضحكون فقال: تلقى أحدكم أبيض بضا، يلمح في الباطل ملخاً، ينفض مذرويه، ويضرب أصدريه، يقول: هاأنا ذا فاعرفونيقد عرفناك، فمقتك الله ومقت الصالحونومعنى يلمح في الباطل يلج فيه؛ وقيل يتثنى.

جاء يفري ويقد.
الفري: القطع. تقول: فريت الشيء، أفريه، فريا إذا قطعته على وجه الإصلاح. وأفريته إذا قطعته على وجه الإفساد. قال زهير:

ولانت تفري ما خلقت، وبعض ... القوم يخلف ثم لا يفري

أصله أنَّ الرجل يخلق الأديم أي يتهيأ لإصلاحه ويقدره، ثم يفري أي يقطعه. لذلك يقول: انك إذا تهيأت لأمر أنفذته وأمضيته، وكثير من الناس يهم ولا يفعل. وقيل: إنَّ فرى وأفرى، بمعنى واحد، وكل ذلك يكون في القطع للإصلاح والإفساد وتقول: فريت المزادة إذا خلقتها وصنعتها. قال الراجز:

شلت يدا فارية فرتها ... مسك شبوب ثم وفرتها

لو كانت الساقي صغرتها
و القد: القطع طولاً. يقال الأديم إذا شقه طولا. ومعنى: جاء يفري ويقد: جاء يعمل عملا محكما. ويقال أيضاً: هو يفري ويقد. ويقال: يفري الفري، بمعناه.

جاء بأم الربيق، على أريق.
أم الربيق: الداهية؛ والأريق أصله وريق بالواو فقبلت همزة. والوريق تصغير أورق، تصغير الترخيم، كما يقال في أسود سويد، وفي أحمر حمير، وفي أدرد دريد. والأورق من الأبل ما في لونه بياض إلى سواد. وقيل: كان أصله أن يقول أوريق على أصله، فحذفت الواو ليزدوج الكلام. ويقال إنّه من أطيب لحما لا حملاً وسيراً. وقيل لابنه الخس: أي الجمال شر فقالت: الأورق. وزعموا أن رجلا رأى غولا على جمل أورق فقال: جاء بأم الربيق على أريق، أي الغول على جمل أورق، فضرب مثلا في جناية عظيم الدواهي.

جاءوا مخلين فلاقوا حمضاً.
يقال: أخل الرجل إذا رعى إبلى في الخلة والخلة، بضم الخاء المعجمة: كل ما فيه حلاوة من النبات. مقابله الحمض، بفتح الحاء المهملة. ويقال: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها أو لحمها. وجاءوا مخلين: جاءوا وقد أكلت إبلهم الخلة. وهذا المثل يضرب لكل من جاء متهددا فصادف ما يقمع تهدده. وسنزيده بيانا بعد في محلة من الشعر إن شاء الله تعالى.

جاءوا على بكرة أبيهم.
البكرة بالفتح فالسكون: الفتية من الإبل والفتى منها بكر. وكان يقال البكر من الإبل بمنزلة الفتى من الناس؛ والبكرة بمنزلة الفتاة؛ والقلوص بمنزلة الجارية الشابة؛ والبعير بمنزلة الإنسان؛ والجمل بمنزلة الرجل؛ والناقة بمنزلة المرأة. والبكرة أيضا بكرة الدلو التي يستقى منها. واختلف في معنى هذا المثل فقيل: معنى جاءوا على بكرة ابيهم: جاءوا مجتمعين لم يتخلف منهم أحد. وليس هناك بكرة على الحقيقة. وفي الحديث جاءت هوازن على بكرة أبيها. وقيل هو وصف بالقلة والذلة أي جاءوا بحيث تكفيهم واحدة يركبون عليها وذكر الأب احتقارا.
وقيل إنَّ أصل هذا المثل أنَّ قوما قتلوا فحملوا على بكرة أبيهم فقيل فيهم ذلك ثم صار مثلا للقوم يجيئون معا. وقيل إنَّ البكرة هاهنا هي بكرة الدلو والمعنى: جاءوا بعضهم في اثر بعض كدوران البكرة على نسق واحد. وقيل: لأريد بالبكرة الطريقة أي: جاءوا على طريقة أبيهم يقتفون أثره.

جاء ينفض مذرويه.
النفض معروف؛و المذرى الخشبة التي ينقى بها الزرع؛و المذروان جانبا الرأس، وما يقع عليه الوتر في القوس من أعلى وأسفل. قال بعض هذيل:

على كل هتافة المذروين ... صفراء مضجعة في الشمالِ

و المذروان أيضاً طرفا الأليتين. قال عنترة لعمار بن زياد:

أحولي تنفض أستك مذريها ... لتقتلي فها أنذا عمارا

أي: يا عمارةولا واحد للمذروين في شيء من من هذه المعاني. وقيل إنَّ واحده مذرى ورد بأنه لو كان كذلك لقيل في التثنية مذريان بالياء لا بالواو. وهذا بحسب الظهور والرجحان؛ وإلاّ فلا مانع من أن يكون هذا من الشواذ.

ومعنى جاء ينفض مذرويه: جاء ينفض طرفيه. ويقال ذلك إذا وصف بالخيلاء. وأكثر أهل اللغة يقولون: معناه إنّه جاء متهددا، وهذا المفهوم من قول عنترة السابق؛ والخيلاء هو المفهوم من كلام البصري السابق.

جاء على غبيراء الظهر.
الغبيراء تصغير الغبراء مؤنث الأغبر. والمراد هنا الأرض ذات الغبرة. والظهر جلاف البطن. ويقال أيضاً: ترك فلان أباه على غبيراء الظهر. ومعناه أنه لم ينجح سعيه ولا ظفر بحاجته بمنزلة الرجل الطالب المرعى فصادف أرضا مغبرة الظهر مجدبة لا كلأ فيها ولا ماء. والتصغير في المثل للتعظيم كقوله:

وكأنَّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهيةٌ تصفر منها الأناملُ
جاء وقد لفظ لجامه.
اللفظ الرمي؛ واللجام معروف. فقيل: جاء فلان من حاجته وقد لفظ لجامه إذا رجع منها وهو مجهود من الأعياء والعطش. ويقال أيضاً: جاء وقد دلق لجامه.

جاء وقد قرض رباطه.
هذا كالذي قبله قاله أبو غبيد. وقال غيره: اكثر ما يقال ذلك في الموت. يقال: فلان قد قرض رباطه ولعق إصبعه وعطست به اللجم وضحا ظله. كل ذلك يقال إذا مات.

جاءوا قضهم بقضيهم.
معناه جاءوا جميعا. يقال بنصب قضهم على نية المصدر أو الحال؛ وبرفعه.
ويقال أيضاً بفتح القاف وكسرها. قال حصين بن الحمام المري:

وجاءت جحاش قضها بقضيضها ... وجمع عوال ما أدق والأما

و جحاش على مثل كتاب أبو حي من غطفان وهو جحاش بن ثعلبة بن سع بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان رهط الشماخ. وقال الآخر:

أتتني سليم قضها بقضيضها ... تمسح حواي بالبقيع سبالها

و يقال أيضاً جاءوا قضهم وقضيضهم بالواو وقد قيل: القض: هو الصغير من الحصان، والقضيض: الكبير منه. والمعنى: جاءوا صغيرهم وكبيرهم. وقيل القض بمعنى القاض، والقضيض بمعنى المقضوض.

ومما يلتحق بهذا الباب قولهم في الرجل: جحيش وحده وهو ذم؛ والجحيش تصغير جحش، وقد تقدم. وقولهم أجد فلان بها أمراًأي أجد أمره بها، بنصب أمر على التمييز كما قالوا: قررت بها عينا أي قرت بها عيني. وقولهم:
أجدك تقول هذا
بنصب جد أي أيجد منك فانتصب على طرح الباء؛ أو أتجد جدك فانتصب على المصدر. قال الشاعر:

أجدك ما لعينك لا تنام ... كأن جفونها فيها كلامُ

و قولهم:
أجدت من هذا الأمر قروني
أي تركته. وقولهم: جعلوا الأرض عليه حيص بيص، وحيصا بيصا. أي ضيقوا عليه ومنعوه من التصرف. وقولهم للرجل: جعد القفا.

أي لئيم الحسب وجعد البنان، أي بخيل، وقولهم: جاء بالأمر على قناديده، أي من وجهه. وقولهم: جاء بذات الرعد والصليل، أي جاء بالحرب لأن هديرها يشبه الرعد، وفيها صليل السلاح كما قال مهلهل:

فلو لا الريح أسمع من بنجدٍ ... صليل البيض تقرع بالذكور

و قولهم: جاء بالصقر والبقر على مثال زفر فيها وبالصقارى والبقارى بفتح الراء فيها مع ضم الأول أي بالكذب الصراح وهو اسم لمّا لا يعرف. وقولهم: جاء به من حسه وبسه، مثلثي الأول أي من جهده وطاقته. وقولهم: جاء مضطرب العنان، أي منهزما منفرداً. وقولهم:

جاء ولكن لم يجيء لعصره.
بضم العين أي لم يجيء حين المجيء.

ومن الأمثال المحدثة:

الجواب ما ترى لا ما تسمع

واصله إنَّ أبا يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن أحد الملوك الموحدين بمراكش كان بينه وبين الادفونش النصراني صاحب طليطلة لعنه الله مكاتبات. فكان منها رسالة كتب بها الادفونش إلى الأمير يعقوب يتوعده ويتهدده ويطلب منه بعض الحصون من إنشاء وزيره أبن النجار وهي:

" باسمك اللهم فاطر السماوات والأرض وصلى الله على السيد المسيح وروح الله وكلمته الفصيح. أما بعد فانه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب وعقل لازب انك أمير الملة الحنيفة كما أنا أمير الملة النصرانية. وقد علمت ما عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل والتكاسل وإهمالهم أمر الرعية وإخلادهم إلى الأمنية. وأنا أسموهم بحكم القهر إخلاء الديار وإسباء الذراري وأمثل بالرجال وأذيقهم عذاب الهون وشديد النكال. ولا عذر في لك في التخلف عن نصرتهم إذا أمكنتك يد القدرة وساعدك وعسا كرك وجنودك رأي وخبرة. وانتم تزعمون إنَّ الله تعالى قد رفض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم الآن خفف الله عنكم وعلم إنَّ فيكم ضعفا رحمة منه ومنا ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا إذ لا تستطيعون دفاعا ولا تملكون امتناعا. وقد حكي عنك انك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال وتماطل نفسك سنة بعد أخرى وتقدم رجلا وتؤخر أخرى. فلا ادري أكان الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعدك به ربك إلى آخر الرسالة وفيها طول فلما وصل الكتاب إلى أمير المسلمين مزقه وكتب على قطعة منه: ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم أذلة وهم صاغرون. الجواب ما ترى لا ما تسمع وتمثل ببيت أبي الطيب في مدح سيف الدولة:

ولا كتب إلاّ المشرفية عنده ... ولا رسل إلاّ الخميس العرمرم

ثم ضرب السرادقات من يومه بظاهر البلد وأمر باستنفار الجيوش من الأمصار وعبر من زقاق سبتة ودخل بلاد الإفرج فكسرهم كسرة شنيعة وعاد بغنائمهم رحمه الله تعالى ثم رأيت الحصري ذكر هذا الكلام عن المعتصم العباسي قال: كتب إليه ملك الروم كتابا يتهدده فيه فأمر بجوابه. فلما قرء عليه لم يرض بما فيه فقال لبعض الكتاب: اكتب: أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما تضمنه خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع. وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار. قال: وهذا نظير قول قطري بن الفجاءة إلى الحجاج وقد كتب إليه كتابا يتهدده فيه فأجاب: أما بعد، فالحمد لله الذي لو شاء لجمع بين شخصينا فعلمت مثاقفة الرجال، من تسطير المقال والسلام. انتهى.
ومن معنى هذا المثل قول عنترة:

ومكروب كشفت الكرب عنه ... بطعنة فيصل لمّا دعاني
دعاني دعوة والخيل تردي ... فما أدري أباسمي أم كناني
فلم أمسك بسمعي إذ دعاني ... ولكن قد أبان له لساني
فكان إجابتي إياه أني ... عطفت عليه خوار العنانِ
بأسمر من الخط لدن ... وأبيض صارم ذكر يمانِ

أي: كان جوابه له حين دعاني واستغاث بي أن عطفت عليه فرسا خوارا العنان أي سهل العنان يعني مرتاضا قد اعتاد الخول في الحرب والولوج في المضايق وذلك بأسمر ألخ . .، أي برمح وسيف صفتهما ما ذكر. ومنه قول الحماسي:

وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلم

و قول الآخر:

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيبِ

أي الاجتهاد في نصرته. وقرع الظنبوب كناية عن ذلك وقد تقدم. ومن أمثال العامة قولهم: جزاؤه على حماره.
وقولهم: جاء يعينه في قبر أمه فهرب بالفارس.
ومعناه ظاهر.
ولنذكر في هذا الباب ما تيسر من الشعر. قال الحماسي محمد بن بشير:

كم من فتى قصرت في الرزق خطوته ... ألفيته بسهام الرزق قد فلجا
إنَّ الأمر إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأباب أن يلجا
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها: ... فمن علا زلقا عن غرة زلجا

وقال عبد الله بن الزبير الأسدي:

لا أحسب الشر جاراً لا يفارقني ... ولا أحز على ما فاتني الودجا
ولا نزلت من المكروه منزلة ... إلاّ وثقت بأن ألقى لها فرجا

و حز الودج: قطعه. وضربه مثلا للغم على ما فات من عرض الدنيا.
وقال أبو تمام الطائي:

اصبري أيتها النفس: ... فإنَ الصبر أحجا
نهنهي الحزن فإنَ ... الحزن إن لم ينه لجا
والبسي اليأس من الناس ... فإنَ اليأس ملجا
ربما خاب رجاء ... وأتى ما ليس يرجى

وقال أيضاً يهجو يوسف السراج:

ووجه البحر يعرف من بعيد ... إذا يسجو، فكيف إذا يموجُ

وقال الأخر:

وإني لأغضي مقلتي على الأذى ... وألبس ثوب الصبر أبيض أبلجا
وإني لادعوا الله والأمر ضيق ... علي فما ينفك إنَّ يتفرجا
وكم من فتى ضاقت عليه وجوهه ... أصاب لها في دعوة الله مخرجا

وقال الأخر:

إذا تضايق أمر فأنتظر فرجا: ... فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج

وقال الأخر:

رب أمر عز مطالبه ... قربته ساعة الفرج

وقال الأخر:

ديار عليها من بشاشة أهلها ... جمال تسر الناظرين وتبهج

وقال الأخر:

رأى البيت يدعى بالحرام فحجه ... ولو كان يدعى بالحلال لمّا حجا

وقال الأخر:

علي إني وإنَّ لاقيت شرا ... لخيرك بعد ذاك الشر راج

وقال الأخر:

كم عالم لم يلج بالعام باب غنى ... وجاهل قبل طرق الباب ولجا

وقال الأخر:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

و مثله قول الآخر:

من راقب الناس مات عما ... وفاز باللذة الجسور

وقال الأخر:

يا نفس صبراً فعقبى الصبر صالحة ... لابد إنَّ يأتي الرحمان بالفرج

وقال الأخر:

ولي فرس بالحلم للحلم ملجم ... ولي فرس بالجهل للجهل مسرج
فمن رام تقويمي فإني مقوم ... ومن رام تعويجي فإني معوج

و ينسب هذا لصالح بن جناح. وقبله:

لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنني ... إلى الجاهل في بعض الأحايين أحوج
وما كنت أرضى الجاهل خدنا وصاحبا ... ولكني أرضى به حين أحرج
ولي فرس بالخير للخير ملجم ... ولي فرس بالشر للشر مسرج

وبعده:

فإن قال بعض الناس في سماجة ... فقد صدقوا، والذل بالحر أسمج

ونحوه قول النابغة الجعدي:

ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوة إنَّ يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... أريب إذا ما أورد الأمر أصدرا

و قول الآخر:

إذا أغضبت ذا كرم تخطى ... إليك ببعض أفعال اللئيم

و قول الآخر:

ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

و قول الآخر:

ولا خير في حلم إذا ذل جانبه

و قول الآخر:

والعاقل النحرير محتاج إلى ... أن يستعين بجاهل معتوه

و قول الآخر:

ولربما أعتضد الحليم بجاهل: ... لا خير في يمنى بغير يسار

وقال الإمام أبو الفضل يوسف بن النحوي، قدس الله سره:

والرفق يدوم لصاحبه ... والخرق يصير إلى الهرج

وقال:
خيار الخلق هداتهم ... وسواهم من همج الهمج

و من أظرف ما يحكى فيما يناسب هذا المعنى ما حدث به عن الزهري قال: دخلت على عبد الملك بن مروان، فقال: من أين أقبلت يا زهري قال قلت: من مكة. قال: فمن خلفت بها يسود أهلها قلت عطاء بن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي قلت من الموالي قال: وبم سادهم قلت بالديانة والرواية. فقال أن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا الناس. قال: فمن يسود أهل اليمن قلت: طاوس بن كيسان قال: فمن العرب أم من الموالي قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم قلت: بما ساد به عطاء. قال: من كان كذلك ينبغي أنَّ يسود الناس. قال: فمن يسود أهل مصرقلت: يزيد بن أبي حبيب. قال فمن العرب أم من الموالي قلت من الموالي. فقال كما قال في الأولين. قال فمن يسود أهل الشام قلت: مكحول الدمشقي. قال فمن العرب أم من الموالي قلت: من الموالي، عبد نبوي أعتقته امرأة من هذيل. فقال كما قال: قمن يسود أهل لجزيرة قلت ميمون بن مهران. قال: من العرب أم من الموالي قلت من الموالي. فقال كما قال. ثم قال: فمن يسود أهل البصرة قلت: الحسن بن أبي الحسن البصري. قال: فمن العرب أم من الموالي قلت من الموالي قال: ويلكفمن يسود أهل الكوفة قلت: إبراهيم النخعي. قال: فمن العرب أم من الموالي قلت: من العرب. فقال: ويلك يا زهريفرجت عني الله: تسودون الموالي على العرب حتى يخطب بها على المنابر وإن العرب تحتهاقال قلت: يا أمير المؤمنين، أمر الله ودينه. فمن حفظه ساد، ومن ضيعه سقطوقالت جارية من العرب ماتت أمها وأضرت بها زوجة أبيها:

ولو يأتي رسولي أم سعدٍ ... أتى أمي ومن يعينه حاج
ولكن قد أتى من بيني ودي ... وبين وداده غلق الرتاج
ومن لا يؤذه ألم برأسي ... وما الرئمان إلاّ بالنتاج

وقالت أم الضحاك للمحاربية:

حديث لو أنَّ اللحم يصلى بحره ... طريا، إذا أضحى به وهو منضج
و كانت تحت رجل من الضباب وهي تحبه حبا شديدا، ثم طلقها فقالت:
هل القلب إنَّ لاقى الضبابي خاليا ... لدى الركن أو عند الصفا متحرج
وأعجلنا قرب المزار وبيننا ... حديث كتشنيج المريض مزعج

وقال الأخر:

لقد علمت أم الصبيين إنني ... إلى الضيف قوام السنان خروج
إذا المرغث العوجاء بات يعزها ... على ضرعها ذو توءمين لوهج
وإني لأغلي اللحم نيا وإنني ... لممن يهين اللحم وهو نضيج

يريد: إني آخذها جيدة غالية الثمن، فأنحرها وأخلي بينها وبين الناس تهاونا بها، كما قال الآخر:

وإني لأغلي لحما وهي نية ... ويرخص عندي لحمها حين تذبح

وقال الحارث اليشكري:

قلت لعمرو حين أرسلته ... وقد حبا من دونها عالج:
لا تكسع الشول بأغبارها: ... إنك لا تدري من الناتج
وأصيب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج

يقول: لا يبق اللبن في الضروع هذه النوقوالأغبار جمع غبر وهو بقية اللبن في الضرع، كانت العرب تفعل ذلك لسمن الأولاد التي في بطونها. وأصببه للناس، فإنك لا تدري من ينتجها، ولعلك تموت فيبقى ذلك للوارثومثله قول الآخر:

وإن درت نياقك فاحتلبها ... فما تدري الفصيل لمن يكون

و هذا كما في الحديث: يقول أبن آدم مالي مالي، ومالك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت. ومنه قول النمر أبن تولب:

أ عاذل إنَّ يصبح صداي بقفرة ... بعيد نآني صاحبي وقريبي
تري أن ما أبقيت لم أك ربه ... وإنَّ الذي أنفقت كان نصيبي
وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب في رعيها ودؤوب
غدت وغد رب سواه يقودها ... وبدل أحجارا وجال قليب

قوله: جال قليب، جال: الناحية، كما قال مهلهل:

كأن رماحه أشطان بئر ... بعيد بين جاليها جرور

و منه قول الآخر أيضاً:

قأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأفعال إنَّ الثناء هو الخلد

و قول حاتم:

أماوي إنَّ يصبح صداي بقفرةٍ ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر
ترى أن ما أبقيت لم أك ربه ... وأن يدي مما بخلت به صفر

وقال أبن فارس اللغوي:

وقالوا: كيف أنت فقلت خير: ... تقضى حاجة وتفوت حاج
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا: ... عسى يوما يكون لها انفراج
نديمي هرتي وسروور قلبي ... دفاتري ومعشوقي السراج

وقال أبو محمّد الحريري:

تعارجت لا رغبة في العرج ... ولكن لأقرع باب الفرج
وألقي حبلي على غاربي ... وأسلكت مسلك من قد مرج
فإن لامني القوم قلت: أعذروا ... فليس على أعرج من حرج

وقال أيضاً:

ما الحج سيرك تأويبا وإدلاجا ... ولا اعتيامك اجمالا واحداجا
الحج إنَّ تقصد البيت الحرام على ... تجريد الحج لا تقضي به حاجا
وتمتطي كاهل الإنصاف متخذاً ... ردع الهوى هاديا والحق منهاجا
وإنَّ تواسي ما أوتيت مقدرة ... من مد كفا إلى جدواك محتاجا
فهذه إنَّ حوتها حجه كملت ... وإنَّ خلا الحج منها كان إخداجا
حسب المرائين غبنا غرسوا ... وما جنوا ولقوا كدا وإزعاجا
وإنهم حرموا أجرا ومحمدة ... وألحموا عرضهم من عاب أو هاجى
أخي فأبغ بما تبديه من قربٍ ... وجه المهيمن ولاجا وخراجا
فليس تخفى على الرحمان خافية ... إنَّ اخلص العبد في الطاعات أو داجى
وبادر الموت بالحسنى تقدمها: ... فما ينهه داعي الموت إن فاجا
واقن التواضع خلقا لا تزايله ... عنك الليالي ولو ألبسنك التاجا
ولا تشم كل خال لاح بارقه ... ولو تراءى هتون السكب ثجاجا
ما كل داع بأهل أن يصاخ له ... كم قد أصم بنعي بعض من ناجى
وما اللبيب سوى من بات مقتنعا ... ببلغة تدرج الأيام إدراجا
فكل كثرة إلى قل مغبته ... وكل ناز إلى لين وإن هاجا
وقال أيضاً في وصف سروج:

بلدة يوجد فيها ... كل شيء ويروج
ووردها من سلسبيل ... وصحاريها مروج
وبنوها ومغانيهم ... نجوم وبروج
حبذا نفحة ريا ... ها ومرآها البهيج
وأزاهير رباها ... حين تنجاب الثلوج
وقال الآخر:

لو ركبت البحور صارت فجاجا ... لا ترى في متونها أمواجا
ولو إني وضعت ياقوتة حمراء ... في راحتي صارت زجاجا
ولو إني ردت عذبا فراتا ... عاد لا شك فيه ملحا أجاجا

و مثله قول الآخر:

لو وردت البحار أطلب ماء ... جف قبل الورود ماء البحار
أو لمست العود النضير بكفي ... لذوى بعد نضرة واخضرار
أو رمى باسمي النجوم الدراري ... لا نزوى ضوؤها عن الأبصار
ولو إني بعت القناديل يوما ... لبدا الليل في ضياء النهار

وقال الآخر:

ولمل التمست الرزق فانجذ حبله ... ولم يصف لي من بحره العذب مشرب
خطبت إلى الإعدام إحدى بناته ... فزوجنيها الفقر إذ جئت أخطب
فلو تهت في البيداء والليل مسبل ... علي جنا حيه لمّا لاح كوكب
ولو جفت شرا فاستترت بظلمة ... لأقبل ضوء الشمس من حيث يغرب
ولو جاد إنسان علي بدرهم ... لعدت إلى رحلي وفي الكف عقرب
ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن ... بشيء سوى الحصباء رأسي يحصب
وأن يقترف ذنبا ببرقة مذهب ... فإنَ برأسي ذلك الذنب يعصب
وإن أر خيرا في المنام فنازح ... وإن أر شرا فهو مني مقرب
أمامي من الحرمان جيش عرمرم ... ومنه ورائي جحفل حين أركب

و قول الآخر:

أحمد الله لو أقل قط يابدر ... ويا موسى ويا كافور
لا ولا قيل قد أتاك من ... الضيعة بر موفر وشعير
أنا خلو من الممالك والأملاك ... جلد على البلايا صبور
ليس إلاّ كسيرة وقديح ... وقميص أتت عليه الدهور

وقول الآخر:

سل عن الرزق يا أبا العباس ... وجماح الزمن بالأكياس
لو من الناس ساعدتي الدهر ... ولكنني من النسناس
لو هوت صخرة من الجو جاءت ... تتخطى الأنام تطلب رأسي
لا وحق الإله ما ابصر الشمس ... بعيني من شدة الإفلاس

و قول الآخر:

برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على أحد طلابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع سحاب
فأنت إذا أردت دخلت بيتي ... علي مسلما من غير باب
لأني لم أجد مصراع باب ... يكون من السماء إلى التراب
ولا انشق الثرى عن عود تخت ... أؤمل أن اشد به ثيابي
ولا خفت الأباق على عبدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي
وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدهر ذا أبداً ودابي

وقول الآخر:

قد أراح الله من هم ... طويل وعذاب
فاسترحنا من عيال ... وعبيد ودواب
وغدو ورواح ... وهجاء وعتاب
و قول الآخر:

كسدت شواشينا وقل معاشنا ... فسعودنا مقرونة بنحوس
فكأنما قطعت رؤوس الناس أو ... خلقوا لشقوتنا بغير رؤوس

و قول الآخر:
أنا في حال تعالى الله ... ربي أي حال:
ليس لي شيء إذا قيل ... لمن ذا قلت: ذالي
فأرضي الله فرشي ... والسماوات ظلالي
ولقد اهزلت حتى ... محت الشمس خيالي
ولقد أفلست حتى ... حل أكلي بعيالي
من رأى شيئاً محالا ... فأنا نفس المحال
لو بقي في الناس حر ... لم اكن في مثل حالي

و قول الآخر:
ليس إغلاقي لبابي إنَّ لي ... فيه ما أخشى عليه السرقا
إنّما أغلقه كي لا يرى ... سوء حالي من يمر الطرقا
منزل أوطنه الفقر فلو ... يدخل السارق فيه سرقا

و قيل لبعض أجلاف المشايم: كيف المعاش فقال: يوما يرزق ويوما لا يرزق. وليته هو مضروب ألف سوط وإنَّ الله لم يخلقه وقيل له: فلعل الله قد ذخر لك بهذا أجرا في الآخرة. فقال: أيهما اكرم على الله الدنيا أم الآخرة فقيل له: الآخرة. فقال: هو لم يعطني الهينة عليه فيعطيني تلك الكريمة عليه

وقيل لآخر: أتعرف ربك فقال: وكيف لا اعرف من أجاعني واعراني وقيل لآخر وقد رئي مغتنما: ما غمك فقال: سوء الحال وكثرة العيال. فقال له: لا تغتنم فإنهم عيال الله. فقال: صدقتم ولكن كنت أحب أن يكون الوكيل عليهم غيريوقال بعضهم: كان لآدم عليه السلام غلام يخدمه فنحن معاشر المحارفين من نسل ذلك الغلام ولا نسب بيننا وبين آدم فإنَ الله يقول: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات. وليس فينا ولا عندنا شيء من هذه الخصال فلو كنا بني آدم لكان لنا حظ من هذه الأشياءواستقى قوم يوم الخميس فمطروا. فنظر إليهم بعض المشائيم وهم منصرفون فرحين بالسقايا فقال: والله ما بي إلاّ انهم يظنون إنَّ الله استجاب لهم. والله ما مطروا إلاّ أني غسلت ثيابي اليوم والله ما غسلتها قط إلاّ تغيمت السماء ومطرة ولا بأس فليرجعوا إلى خميس آخر: فإنَ مطروا فليحلقوا لحيتيوقال أبو العباس أحمد المقري الفاسي يخاطب التاج التونسي:

والله ما انصفتنا يا تاج: ... فسقامنا لدوائكم مجتاج
فقضية قد ركبت بشروطها ... أفممكن أن يخلف الإنتاج

وقال الآخر:

ولم أر شيئاً بعد ليلى ألذه ... ولا منهلا أروى به فأعيج

يقال: ما عجت بالدواء أي لم انتفع به. ويزعم كثير من اللغويين والنحويين إنّه لا يستعمل إلاّ في النفي كما مثلنا وكما في قول كثير:

قلما نفعت نفسي بما أمروا به ... ولا عجبت من أقاويلهم بفتيل

و البيت المذكور يرده إلاّ إنَّ يتأول إنّه لمّا كان الموصوف منفيا كانت الصفة وما عطف عليها أيضاً في معنى النفي والله اعلم.

وقال الآخر في الأوصاف:

في ليلة أكل المحاق هلالها ... حتى تبدى مثل وقوف العاج
والصبح يتلو المشتري فكأنه ... عريان يمشي في الدجا بسراج

ومثله قول الآخر:

يا رب ليل رقبناه وقد طلعت ... بقية البدر في أولى بشائره
كأنما ادهم الإظلام حين نجا ... من أشهب الصبح خلى نعل حافره

و قول الآخر:

فكأن الليل حين لوى ... هاربا والصبح قد لاحا
كلة سوداء احرقها ... عامد أوقد مصباحا

و قول الآخر:

سرى والصبح تحت الليل باد ... كطرف أبلق تحت الجلال
بكأس من زجاج فيه أسد ... فرائسهن الباب الرجال

و قول الآخر:

وفتيان سروا والليل داج ... وضوء الصبح مهتم الطلوع
كأن بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدروع

وقال الآخر:

لفتاة تسرنا في المثاني ... وعجوز تسرنا في المزاج
أخذت من رؤوس قوم كرام ... ثأرها بين أرجل الأعلاج

و مثله قول أبي بكر بن زهير:

وموسدين على الأكتاف خدودهم ... قد غالهم ضوء الصباح وغالني
ما زلت اسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالي
وخمر تحسن كيف تأخذ ثأرها: ... إني أملت إناءها فأمالني

وقال الآخر:

ولرب حان قد أدرت بديره ... خمر الصبا مزجت بصفو خموره
في فتية جعلوا الزقاق وكاءهم ... متضارعين تخشعا لكثيره
يهدي إلينا الراح كل مصفق ... كالخشف خفرة التماح خفيره
وإلى علي بطرفه وبكفه ... فأمال من رأسي لعب كبيره
وتزنم الناقوس عند صلاتهم ... ففتحت من عيني لرجع هديره

و الشعر في أوصاف الخمر كثيرة وأكثره يتنزه عن ذكره وسيأتي كثير منه.
وقال أبو الفرج جعفر اليماني:

عارض أقبل في ليل الدجى ... يتهادى كتهادي ذي الوجا
بددت ريح الصبا لؤلؤه ... فانبرى بوقد عنه سرجا

و مثله قول أبن الخطيب:

أخفى مسالكها الظلام فأوقدت ... من برقها كي تهتدي مصباحا
وكأنَّ صوت الرعد خلف سحابها ... حادٍ إذا ونت الركائب صاحا

و تقدم استيفاء هذا المعنى في الباب الأول. وقال الأخر:

قالوا: تبدى شعره فأجبتهم: ... لابد من علم على الديباج
والبدر أبهر ما يكون ضياؤه ... إن كان ملتحفا بليلٍ داجِ

و من هذا المعنى قول الآخر:

ومهفهفٍ علق السقام بطرفه ... وسرى فعرس في معاقد خصره
مزقت أستار الظلام بثغره ... ثم أنثنيت أحوكها من شعره

وقال أبن صارة:

ومهفهفٍ أبصرت في أطرافه ... قمرا بآفاق الملاحة يشرقُ
يقضي على المهجات منه صعدة ... متألق فيها سنان أزرقُ

و قول الآخر:

ومعذرٍ عبث العذار بخده ... ظلماً فشان ضياءه بظلامه
كسفت محاسنه لأربع عشرة ... وكذا كسوف البدر عند تمامه

وقال أبن رشيق:

همت عذاراه بتقبيله ... فاستل من عينيه سيفينِ
وقامت الحرب على ساقها ... بين أميرين قتولين:
فذلك المحمر من خده ... دماءُ ما بين الفريقينِ

وقال الأخر:

وأغيد من أبناء لمطة شادنٍ ... ينوء كما يعطو بخطوته البانُ
ذؤابته مهراقةٌ خلف ظهره ... كما التف بالغصن المنعم ثعبانُ

و قول الآخر:

ومهفهفٍ كالغصن إلاّ أنه ... سلب التثني النوم عن أثنائه
أضحى ينام وقد تورد خده ... عرقا فقلت: الورد رش بمائه

و قول الآخر:

غزال إنسٍ كم استدنيته فنأى ... عني وأعرض مزوراً بجانبه
طالت علي ليلٍ من هواه كما ... طالت عليه ليالٍ من ذوائبه

وقال الصنوبري:

ما أخطأت نوناته من صدغه ... شيئاً ولا ألفاته من قده
فكأنما أنقاسه من شعره ... وكأنما قرطاسه من خده

و هذا المعنى كثير. وقال الأخر:

كأنَّ الثريا راحةٌ تشبر الدجى ... لتخبر طال الليل أم قد تعرضا
عجبت لليلٍ بين شرقٍ ومغربٍ ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا

و قول الآخر:

كأنَّ بهرام وقد عارضت ... منه الثريا نظر المشتري
ياقوتةٌ يعرضها بائعٌ ... في كفه والمشتري مشتري

و قول الآخر:

وقد لاح من الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا

وقال الأخر:

وغريبتة الإنشاء صرنا فوقها ... والبحر يسكن تارة ويموجُ
عجبا تؤم بها معاهدنا التي ... كرمت فعاج الأنس حيث نعوجُ
وقد استطال النور فوق الماء من ... شمس الأصيل فلاح وهو بهيجُ
فكأنَّ متن البحر ذائب فضةٍ ... قد سال فيه من النضار خليجُ

و مثله قول الآخر:

لو أبصرت عيناك زورق فتيةٍ ... يبدي لهم لمح السرور مراحه
وقد استداروا تحت ظل شعاعه ... كلٌ يمد بكأس راحٍ راحهُ
لحسبته خوف العواصف طائراً ... مد الحنان على بنيه جناحهُ

وقال أبن الخطيب:

إنَّ الهوى لشكايةٌ معروفة ... صبر التصبر من أجل علاجها
والنفس إن ألفت مرارة طعمه ... يوما ضمنت لها صلاح خراجها

وقال السبتي:

يا ساءلاً عن مذهبي عامداً ... ليقتدي فيه بمنهاجي
منهاجي العدل وقمع الهوى: ... فهل لمنهاجي من هاجِ

وقال أبو الحسن بن رشيق:

ولقد ذكرتك في السفينة والردى ... متوقع بتلاطم الأمواجِ
والجو يهطل والرياح عواصفٌ ... والليل مسود الذوائب داجِ
وعلى السواحل للأعادي غارةٌ ... يتوقفون لغارة وهياجِ
وعلت لأصحاب السفينة ضجةٌ ... وأنا وذكرك في أل تناجِ

و مثله وهو أصله قول عنترة:

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ ... مني وبيض الهند تقطر بالدمِ

و قول الأرجاني:

وإني لأرعاكم على القرب والنوى ... وأذكركم بين القنا والقنابلِ

و قول الآخر:

إلاّ من مبلغ المحبوب أني ... وقفت وللظبا حولي صليلُ
وأني جلت في جيش الأعادي ... برمح وهو في ذكري يجولُ

و قول الآخر:

أرسلتها والعوالي في الطلا ترد ... في موقفٍ فيه ينسى الوالد الولدُ
وما نسيتك والأرواح سائلةٌ ... على السيف ونار الحرب تتقدُ

و قوله:

ولقد ذكرتك والصوارم لمع ... من حولنا والسمهرية شرع
وعلى مكفاحة والعدو ففي الحشا ... شوق إليك تضيق عنه الأضلع
ومن الصبا وهلم جرا شيمتي ... حفظ الوداد فيف عنه أرجع

و قول الصفي الحلي:

ولقد ذكرتك والعجاج كأنه ... منا وبين معفر في معفر
والشمس بين مجدل في جندلٍ ... منا وبين وجهك أو مساء مقمر
وتعطرت أرض الكفاح كأنما ... فتقت لنا ريح الجلاد بعنبر

و قوله أيضاً:

ولقد ذكرتك والسيوف مواطر ... كالسحب من وبل النجيع وطله
فوجدت أنسا عند ذكرك كاملا ... في موقف يخشى الفتى من ظله

و قلوه أيضاً:

ولقد ذكرتك والجماجم وقع ... تحت السنابك والأكف تطير
والهام في أفق العجاجة حوم ... فكأنها فوق النسور نسور
فأعتادتني من طيب ذكرك نشوة ... وبدت علي بشاشة وسرور
فظننت أني في مجالس لذتي ... والراح تجلى والكؤوس تدور
و قول أثير الدين بن حيان:

لقد ذكرتك والبحر الخضم طغت ... أمواجه والورى منه على سفر
في ليلة أسدلت جلباب ظلمتها ... وغار كوكبها عن أعين البشر
والماء تحت وفوق المزن وأكفه ... والبرق يستل أسيافا من الشرر
والروح من حزن راحت وقد وردت ... صدري فيالك من ورد بلا صدر
هذا وشخصك لا ينفك في خلدي ... ولا في فؤادي وفي سمعي وفي بصري

و يقرب من هذا قولي:

إلاّ ليت شعري هل أرى من ثنية ... عضها كموصوف الكتائب تشرف
وهل أردن من سلسبيل مواردٍ ... هناك كالمعسول المباسم تشرف
وهل أرين مغنى الدلاء عيشة ... كأن بنياه بجاد مفوف
ذكرتكم وهنا وإني لمدلج ... بأجواز أقطار الصحاري أطوف
فقلت وقلبي ضمن شجو ولوعة ... وجفني بمنثور الجمان يكفكف:
أدار سقيك الوبل غير مبرحٍ ... ولا برحت عنك الحوادث تصرف
لقد هجت للقلب العميد صبابة ... تكاد لها صم الجبال تقصف

و قول الصفدي:
ولقد ذكرتكم بحرب ينثني ... عن بأسها الليث الهزبر الأغلب
والصافنات بركضها قد أنشأت ... ليلا وكل سنا سنان كوكب
والبيض تنثر كل ما نظم القنا ... والنبل يترب والعجاج يترب
وحشاشة الأبطال قد تلفت ظما ... ودم الفوارس مستهل صيب
والنفس قد سالت على حد الظبا ... وأنا بذكركم أميل وأطرب

وقول الآخر يصف الشمس في الغيم:

وتنقبت بخفيف غيم أبيضٍ ... هي فيه بين تخفر وتغنج
كتنفس الحسناء في المرأة إذ ... كلمت ولم تتزوج

و من هذا المعنى قول أبن طباطبا العلوي:

متى أبصرت شمسا تحت غيمٍ ... ترى المرآة في كف الحسود
تقابلها فتلبسها غشاء ... بأنفاس تزايد في الصعود

وقال الوزير المهلبي:

أما ترى الشمس وهي طالعة ... تمنع منا إدامة النظر
حمراء صفراء في تلونها ... كأنها تشتكي من السهر
مثل عروس غداة ليلتها ... تمسك مرآتها من القمر

و قوله:

والشمس خيراً خلف غيم عارض ... فكأنها في ضوء ليل مقمر
و قوله:
الشمس من مشرقها قد بدت ... نيرة ليس لها حاجب
كأنها فوهية أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب

و قول أبن المعتز:
والشمس كالمرآة في كف الأشل

و قول أبي حفص بن برد، ومنه أخذ:

كأن شعاع الشمس في كل غدوةٍ ... على ورق الأشجار أوّل طالع
دنانير في كف الأشل يضمها ... لقبض فتهوي من فروج الأصابع

و نحو هذا قول الآخر في الخمر:

كانت سراج أناس يهتدون بها ... في سالف الدهر قبل النار والنور
تهتز في الكأس من ضعف ومن هرمٍ ... كأنها قبس في كف مقرور

و قول أبن الرومي في الشمس:

كأن جنوح الشمس عند غروبها ... وقد جنحت في مجنح الليل تمرض
محاجر عين مس أجفانا الكرى ... ترنق فيها النوم وهي تغمض

وقال أبن خفاجة:

والنقع يكسر من سنى شمس الضح: ... فكأنه صدا على دينار

وقال إبراهيم بن العباس الصولي:

ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج
كملت فلما استكملت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج

و كان يقال: ما رددهما من نزلت به نازلة به إلاّ فرج الله عنه.

وقال الأخر:

رويدكفالهموم لها رتاج ... وعن كثب يكون لها انفراج
ألم تر أنَّ طول الليل لمّا ... تناهى حان للصبح انبلاج

وقال أبو فراس:

ألا، ربما ضاق بأهله ... وأمكن من بيت الأسنة مخرج

و مثله قوله أيضاً:

خفض عليك ولا تكن قلق الحشا ... مما يكون وعله وعساه
فالدهر أقصر مدة مما ترى ... وعساك أنَّ تكفى الذي تخشاه

و قول الآخر:

تربص بيومك ما في غدٍ ... فإن العواقيب قد تعقب
لعل غدا من أخيه حمى ... يلم لك الصداع أو يرأب

وقال الحجاج:

دعها سماوية تجري على قدرٍ ... لا تفسد برأي منك أرضي

و قول أبن حميدس:

ما أغفل الفيلسوف عن طرقٍ ... ليس لأهل العقول منسلكه
من سلم الأمر للإله نجا ... ومن عدا القصد واقع الهلكه

و قول الآخر:
لا تضف في الأمور ذرعا فقد ... يكشف عنها بغير احتيال
ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال

و قصة أبي عمرو بن لعلاء في هذا الشعر، حيث ألزمه الحجاج أنَّ يأتي بشاهد على قراءته غرفة فسمع هذا الشعر مقرونا بنعي الحجاج، معروفة.
وقال الأخر:

إذا دجا خطب وأيقنت من ... صعب بأن الأمر يأتي عسير
ينعكس الأمر ويأتي كما ... شئت: فسبحان اللطيف الخبير

و قول الآخر:

لا تشكفالأيام حبلى ربما ... جاءتك من أعجوبة بجنين
فكذا تصاريف الزمان: مشقة ... في راحةٍ وخشونة في اللين
ما ضاع يونس بالعراء مجرداً ... في ظل نابتة من اليقطين

و قول الآخر:

والليالي كما علمت حبالى ... مقربات يلدن كل عجيب

و قول الآخر:

الدهر لا ينفك عن حدثانه ... والمرء منقاد لحكم زمانه
فدع الزمان فانه لم يعتمد ... لجلالة أحد ولا لهوانه
كالمزن لم يخصص بنافع صوبه ... أفقا ولم يخش أذى طوفانه
لكن لباريه بواطن حكمةٍ ... في ظاهر الأضداد من أكوانه

و قول الآخر:
دع المنىربما نيلت بلا طلبٍ ... وربما وقع الحرمان من المهن

و قول الآخر:
الدهر كالطيف بؤساه وأنعمه ... من غير قصد: فلا تمدح ولا تذم
لا تسأل الدهر في غماء يكشفها: ... فلو سألت دوام البؤس لم يدم

و قوله: ولا تذم، إنَّ كان بكسر الذال من قولك ذامه يذمه ذيما وذاما أي عابه فهو صحيح؛ وإنَّ كان بضمها من قولك ذمه يذمه فهو مذموم فلحن أو ضرورة بشيعة.
وقول أبي بكر الخوارزمي:

ما أثقل الدهر على من ركبه ... حدثني عنه لسان التجربه
لا تحمدن الدهر لشيء سببه ... فانه لم يعتمد بالهبه
وإنّما أخطأ فيك مذهبه ... كالسيل إذ يسقي مكاناً أخربه
والسم يستشفي به من شربه

قلت: وشعر هذين الشاعرين ينحو منحى زهير إذ يقول:

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم

لا سيما الشاعر الأول. ولا شك إنَّ ما ذكره زهير خطأ وجهل بالتدبير الرباني، والتصريف الاختياري، وأنَّ كل ذلك واقع عن علم وسبق مشيئة. وإنَّ كان يمكن أنَّ يتأول الكلام لو صدر من موحد بأن ذلك بحسب الصورة الظاهرة. ومثل المنايا صروف الدهر وحوادثه سواء.
ويشبه قول الخوارزمي:

لا تمدحن أبن عباد وإن هطلت ... كفاه بالجود حتى أخجل الديما
فإنها خطراتٌ من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما

و كتب البيتين فوضعهما حيث يجلس الصاحب ثم ارتحل من وقته. فلما وقف الصاحب عليهما فال:

أقول لركبٍ من خراسان أقبلوا ... أمات خوارزميكم قيل لي نعم
فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره: ... إلاّ لعن الرحمن من يكفر النعم

و مثل ما تقدم قول الآخر:

من يصحب الدهر لا يعدم تقلبه ... والشوك ينبت فيه الورد والآسُ
تمر حينا وتحلو لي حوادثه ... فقلما جرحت إلاّ انثنت تأسو

و قول الآخر:

لا تجزعن لعسرةٍ من بعدها ... يسران وعد ليس فيه خلافُ
كم عسرة ضاق الفتى لنزولها ... لله في أعطافها ألطف

و قول الآخر:

تصبر للعواقب واحتسبها ... فأنت من العواقب قافي اثنتينِ
تريحك بالمنى أو بالمنايا ... فإنَ الموت إحدى الراحتين

وقول الأبيوردي:

تنكر لي دهري ولم يدر إنني ... أعز وأنَّ الحادثات تهونُ
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكونُ

و قولنا من قصيدة:

فإذا عرتك الحادثات فثق ... بمليكها ذي الخلق والأمرِ
واصبر لروح الله مرتجيا ... فلتحمدن عواقب الصبرِ
إنَّ اصطبار المرء مفتتحٌ ... متغلق البأساء والعسرُ
ومنفس عنه الكروب إذا ... ضاقت بهن جوانح الصدرِ
كم من حزين بات مكتئباً ... متعسر الأحشاء ذا زفرِ
ما يرتجى جلباب ليلته ... أن ينزوي طرفاه بالسفرِ
فاتته ألطافٌ منفسةٌ ... لفؤاده من حيث لا يدري
ولكم بعيد الضيق من سعةٍ ... ولكم بعيد العسر من يسرِ
هل بعد معتكر الظلام سوى ... بلج الصباح وطلعة الفجرِ
أو بعد ظمأة هجمةٍ وردت ... إلاّ ارتواء جانب الغدرِ
أو بعد خانقة التلاع سوى ... فيح الفجاج وفسحة البهرِ


و قول الآخر:

أ مقتولة الأجفان مالك والهاً ... ألم ترك الأيام نجما هوى قبلي
أقلي بكاءً: لستِ أول حرةٍ ... طوت بالأسى كشحا على مضض الثكلِ
وفي أم موسى عبرةٌ إذ رمت به ... إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي
ولله فينا علم غيبٍ وحسبنا ... به عند جور الدهر من حكم عدلِ

و الشعر في هذا المعنى اكثر من أن يحصى.
وقال الغري:

قالوا: بعدت ولم تقرب فقلت لهم: ... بعدي عن الناس في هذا الزمان حجا
لولا التباعد بين الحاجبين به ... بان افتراقهما لم نعرف البلجا

و مثله قول الارجاني:

أسفت على عمرٍ تصرم ضائعاً ... وجدت بدمعٍ يستهل هتونِ
وآنسني بعدي من الناس جانباً ... وإن هم على أحداقهو حملوني
ولمّا غدا عنا على جفن ناظري ... لقاء الورى من صاحبٍ وخدينِ
ألفت الفضا مستوطناً ظهر ناقةٍ ... تلف سهولاً دائماً بحزونِ
وما سرت إلاّ في الهواجر وحدها ... كراهة ظل أن يكون قريني

و قول أبي العلاء المعري:
فظم بسائر الإخوان شراً ... ولا تأمن على سرٍ فؤادا:
فلو خبرتهم الجوزاء خبري ... لمّا طلعت مخافة أن تكادا

و قوله أيضاً:

جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ودِّ امرئ غرضا

و قول أبن القلاقس:

اعلق بأطراف الوداد فانه ... من دافع الأمواج مات غريقا
وإذا انتهى الإخلاص أوجب 1ده:إنَّ التجمع ينتج التفريقا

وقول أبن الرومي، وهو المثل المشهور في هذا:

عدوك من صديقك مستفادٌ: ... فلا تستكثرن من الصحابِ
فإنَ الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشرابِ

و قول الآخر:

جزى الله خيراً كل من ليس بيننا ... ولا بينه ودٌ ولا متعارفُ
فما نالني ضيمٌ ولا مسني أذى ... من الناس إلاّ من فتى كنت آلفُ

و قول الآخر:

أحذر عدوك مرةً ... وأحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الزمان ... فكان أعرف بالمضرة

و قول أبن سناء الملك:
أبى الهر إلاّ ضد ما أنا طالبٌ: ... فيا ليت مني مكن الله ضده
يعد الفتى إخوانه لزمانه ... وأعدى له من خوفه من أعده

و قولي من قصيدة:
وبنو دهرك العضال من الداء ... العديم الأساة ذو الأزمانِ
وأضر الأدواء من تتولاه ... وتحجوه أقرب الإخوانِ
إنما الأقرباء في الناس جساسٌ ... عليك في السر والإعلانِ
يخبرون العورات حفظاً وإعداداً ... ليوم البأساء والشنآنِ

و قول الأنصاري الأول:

ألا رب من تحجو صديقاً ولو ترى ... مقاتله بالغيب ساءك ما يفري:
لسانٌ له كالشهد ما دمت حاضراً ... وبالغيب مطرورٌ على ثعرة النحرِ

و قولي من قصيدة:
فتوخ في الناس الوفي إذا ... عاشرتهم وحذار الله تعالى الغدرِ
واسبرهم قبل الإخاء ولا ... تغتر في الإخوان بالسبرِ
كم من أخٍ مذق الوداد على ... ما فيه من إجنٍ ومن سبرِ
إن تلقه فالشهد مقولته ... وإذا تعيب يكون كالصبرِ
يسمى بوجهك تستميل وإن ... أدبرت عنه فكية الظهرِ
وإذا الزمان دعاك نائبه ... العازي إليه ترجى البرِ
فسيحتبيك بوعد غانيةٍ ... أو وعد عرقوبٍ جنى التمرِ
وإذا تعود يظل مكتلحاً ... متغيظاً ينزو ويستشري
وإذا تصادف ذا الصفا فكن ... منه ولو صافحك ذا حذرِ
وأسم سوائم سمعه طرقاً ... مطروقةً من مسرح السرِ
وصن السرارة واللباب ولا ... تبذل له منه سوى القشرِ
فلربما يلوي الزمان به ... فيكون أبص فيك بالضرِ
و قول الآخر:

فاقت بيوسفها الدنيا وفاح لها ... طيب طوى المسك في نشر لها أرجِ
فإنَ يشاركه في اسم الملك طائفةٌ ... فإنَ شمس الضحى من جملة السرجِ

و يتمثل بالبيت الثاني. ومثله في المعنى قول الآخر:

وفي البساتين أفنانٌ منوعةٌ ... وليس يقطف إلاّ الورد والزهرُ
وفي السماء نجومٌ ما لها عددٌ ... وليس يخسف إلاّ الشمس والقمرُ

و قول أبي الطيب:

فإنَ تفق الأنام وأنت منهم ... فأن المسك بعض دم الغزال

و قول الآخر:

وقد يسمى سماء كل مرتفعٍ ... وإنّما الفضل حيث الشمس والقمرُ

و قول الآخر:

الناس كالناس إلاّ تجربهم ... وللبصيرة حكم ليس للبصرِ
والأيك مشتبهاتٌ في منابتها ... وإنّما يقع التفضل في الثمرِ

و قول الآخر:

وقد يتقارب الوصفان جداً ... وموصوفاهما متباعدانِ

و قول الآخر:

قد يبعد الشيء من شيء يناسبه ... إنَّ السماء نظير الماء في الزرقِ

و قول الآخر:

دع ما تناسب في الأبصار ظاهره ... ولا تقل بقياس غير مطردِ
فصدمه المتنافي لا اعتداد بها ... شتان ما بين مهتزٍّ ومرتعدِ

و قول الآخر:

قد تشبه الحالة الأخرى وبينهما ... إذا تأملت فرقٌ عن سواك خفي
فربما صفق المسرور من طربٍ ... وربما صفق المحزون من أسفِ

و قول الآخر:

لقد عرض الحمام لنا بسجعٍ ... إذا أصغى له ركبٌ تلاحى
شجا قلب الخلي فقال غني ... وبرَّحَ بالشجي فقال ناحا

وقال الشيخ عمر بن الفارض:

لا كان وجدٌ به الأماق جامدةٌ ... ولا غرامٌ به الأشواق لم تهجِ

وقال الراعي:

ومرسلٍ ورسولٍ غير متهمٍ ... وحاجةٍ غير مزجاةٍ من الحاجِ
طاوعته بعدما طال النجي بنا ... وظن أني عليه غير منعاجِ
ما زال يفتح أبواباً ويغلقها ... دوني وأفتح باباً بعد إرتاجِ
حتى أضاء سراجٌ دونه بقرٌ ... حمر الأنامل عين طرفها ساجِ
يا نعمها ليلةٌ حتى تخونها ... داعٍ دعا في فروع الصبح سحاجِ
لمّا دعا الدعوة الأولى فأسمعني ... أخذت بردي وأستمررت أدراجي

وقال الأخر:

ما زلت ابغي الحي أتبع ظلهم ... حتى دفعت إلى ربيبة هودجِ
قالت: وعيش أبي وحرمة أخوتي ... لأنبهن الحي إن أم تخرجِ
فخرجت خيفة قولها فتبسمت ... فعلمت أنَّ يمينها لم تحرجِ
فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرجِ

قوله ماء الحشرج أي الماء الجاري على الحجارة.
وقال عمر بن أبي ربيعة:

قد كنت حملتني عيظا أعالجه ... فإنَ تقدني فقد عنيتني حججا
حتى لو اسطيع مما قد فعلت بنا ... أكلت لحمك من غيظٍ وما نضجا

و قبل هذين البيتين:

يا ربة البغلة الشهباء هل لكم ... أن ترحمي عمراً لا ترهقي حرجا
قلت: بدائك مت أو عش تعالجه ... فما نرى لك فيما عندنا فرجل

و بعدهما:

فقلت: لا والذي حج الحجيج له ... ما مج قلبك من قلبي وما مهجا
ولا رأى القلب من شيء يسر به ... مذبان منزلكم منا وما ثلجا
كالشمس صورتها غراء واضحةٌ ... تعشي إذا برزت من حسنها السرجا
ضنت بنائلها عنه فقد تركت ... من غير جرم أبا الخطاب مختلجا

وقال بعض المجان:

إذا مررت بوادٍ لا أنس به ... فاضرب عميرة لا عارٌ ولا حرجُ

ضرب العميرة هي الخضخضة وهي الاستمناء باليد وشبهه. وكذب هذا القائل: فإنَ في الخضخضة لحرجا وعاراً وإنما محرمة عند جماهير الناس وفيها قول بعض الأعراب:

إن تبخلي بالركب المحلوق ... فإنَ عندي راحتي وريقي

و الركب بفتحتين وتقدم تفسيره.
وقول الآخر:
كفي ورجلي لا عدمت كليهما ... أصبحت أغنى من يروح ويغتدي
أمشي على هذه وأنكح هذه ... فمطيتي رجلي وجاريتي يدي

و قول الآخر:
خطبت إلى ساعدي راحتي ... وما كنت من شر خاطفيها
وما إن تكلفت من مهرها ... سوى ريقةٍ أجتزي بها
فإن شئت أوتى بها ثيباً ... وبكراً إذا شئت أوتى بها

وقال بعضهم: مررت على برذعة الموسوس، وقد أدخل رأسه في جيبه يتخضض. فضربته برجلي، فانكشف فإذا هم منعض، فقلت: ما هذا فقال: أما ترى في ذلك الروشن وأشار إلى باب في علية فإذا جارية جميلة تتطلع. فقال: إني دعوتها فلما لم تجبني أجبتها. فقلت: قبحك اللهووليت عنه. فلم ألبث أن لحق فقال: قضيت الحاجة على رغم أنفك وأنشد:

أ أنكرت ما عاينت من كف دالك ... وهل ينكر التداليك في قول مالك
لقد أمن الدلاك من أن تنالهم ... حدود الزنى في واضحات المسالك
وأني قد سكنت غربة غلمتي ... بحسن العيون والثدي الفوالك

و كذب هذا الأحمق على مالك رضي الله عنه: فإنَ حرمة الاستمناء هي مذهبه وكذا مذهب الشافعي وغيره. وإنّما رويت رخصة عن عمر بن دينار إن صحت الحكاية عنه. وروى عن أبن عباس إنّه فال في الخضخضة: هي خير من الزنا.

قلت: وليس في هذا الكلام ما يقضي حليتها، إذ ليست المحرمات كلها في درجة واحدة بل مقطوع بتفاوت ما بينها: فإنَ الزنى نفسه وهو محرم إجماعا على درجات بعضها أشد من بعض. ألا ترى إنَّ الزنا بحرة مطاوعة لا زوج لها ولا أهل يسبون بفعلها ة لا ترجو ولدا أخف من الزنى بغيرها وإن كان الكل حراما لأن الحق إذا انفرد وتمحض لله تعالى أخف مما إذا انضم إليه حق المزني بها المكره أو حق الزوج أو حق الأهل أو حق السيد في الأضرار بهم، ونحو ذلك من الحقوق. وهو أيضاً في الآيسة أخف منه في الولود، لمّا في الثانية من مزيد المفسدة باختلاط الأنساب وهو الحكمة الأصلية في التحريم. والمعلوم أنَّ الخضخضة ليست بمحل لهذه المفسدة لا تحقيقا ولا مظنة؛ ولكن فيها تضييع البذر وهو ماء النسل في وجهه فلتكن هي أخف. ولهذا المبحث محل يليق به وليس من غرضنا الآن التعرض له.
وقلت أنا:
إذا لحظتك عين المرء يوماً ... بدا منه صفاءٌ أو ضجاجُ
وأنبت فيه عن حبٍّ ورغضٍ ... كما ينبي عن الماء الزجاجُ

الصفاء بالكسر: المصفاة؛ والضجاج بالكسر: المضاجة، وهي المشاوره.
وقلت أيضاً:
لكل أخي داء دواءٌ يعده ... وأعيت دواء الضغن كل معالجِ
إذا آنس النعمى تضاعفت داؤه ... وآض بغيظ للجوانح زامجِ
وإن آنس البأساء اصبح شامتاً ... بقلبٍ من الشحناء والهزء رامجِ

تقول: زمجت القربة إذا ملأتها وزمج الغيظ للجوانح مجاز. والمراج: الممتلئ الريان وهو هنا مجاز أيضاً. وقلت أيضاً:
أرى الورى وصروف الدهر تخضمها ... مثل السفين تداعت فوقها اللججُ
وهم رمايا مناياها فلا وزرٌ ... عنها ولا ملجأٌ منها ولا وحجُ
كأنما هي حوض والورى وردٌ ... عطشى أناخوا عليه دائما وحجوا
أو مثل هيمٍ لخمسٍ تغتشيه فلم ... يعن الياد لها عنه ولا العنجُ

الخضم: الأكل ويستعمل في ملء الفم بالمأكول وهو مجاز هنا عن الاستئصال والوحج: الملجأ وهو عطف تفسير. والورد بضمتين جمع ورود؛ وحجوا: أقاموا. يقال: حجي به أي أولع به ولزمه. وبينه وبين الوحج الأول جناس تام بين الاسم والفعل. والهيم: الإبل يصيبها الهيام. والخمس بالكسر: زمان ورودها. والذياد: الطرد؛ والهنج بالتحريك: اسم من العنج بالسكون وهو أن يشد الراكب خطام البعير فيرده على رجليه.