باب الحاء المهملة

أحب الحديث أصدقه.

الحب معروف. تقول: أحببت الرجل فهو محبوب على غير قياس. وقد يقال محب وهو قليل. قال عنترة:

ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرمِ

وقد يقال حببته ثلاثيا أحبه بالكسر فهو محبوب. أنشد الجوهري في الصحاح:

أحب أبا مروان من أجل تمره ... وأعلم أنَّ الرفق بالمرء أرفقُ
ووالله لولا تمره ما حببته ... ولو كان أدنى من عبيدٍ ومشرقِ

و ليس عندهم مضعف متعد يتمحض فيه الكسر غير هذا. والحديث معروف أيضاً. والصدق ضد الكذب. وهذا كلام يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا جاءته هوازن تطلب منه أن يرد إليها ما أخذ منها من السبايا والأموال يوم حنين. فقال: أحب الحديث إلى الله أصدقه، أو: خير الحديث، إنَّ معي من يرون فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال. فاختاروا السبي وقالوا: لا نعدل بالأحساب شيئا. والقصة مشهورة في المغازي.
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه:

أبلغ قريشاً وخير القول أصدقه ... والصدق عند ذوي الألباب مقبولُ

حبك الشيء يعمي ويصم.
الحب مر؛و العمى معروف وأعميته: فعلت به ذلك. وكذا الصمم وأصممته. وهذا أيضاً يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم . والعمى هنا يحتمل أن يكون عمى البصر وهو ظاهر أو عمى البصيرة وهو أدق وأليق.

والمعنى أنَّ المرء إذا أحب شيئا غلبت محبته على قلبه فلا يرى رشده ولا ينظر عاقبته ولا يسمع عاذله. والصمم هنا مجاز أيضاً عن عدم الإصغاء إلى المسموع وعدم الاهتبال به والانتفاع به. فكأنه أصم لا يسمع كما قال تعالى: (صمٌ بكمٌ عميٌ). وقال الشاغر:

صمٌ إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذكرت بشرٍّ عنهم أذنوا
وقال الأخر:
فأصممت عمراً وأعميته ... عن الجود والفخر يوم الفخار

و في معنى المثل قال الإمام البوصيري رحمه الله تعالى:

محضتني النصح لكن لست أسمعه ... إنَّ المحب عن العذال في صممِ

و هذا المثل يضرب في الحذر من اتباع الهوى وما يؤمر به من اجتنابه. وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم : جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكموقال الشاعر:

إذا طالبتك النفس يوماً بشهوةٍ ... وكان عليها للخلاف طريقُ
فخالف هواها ما استطعت فإنما ... هواها عدوٌ والخلاف صديقُ
وقال الأخر:
وفي الحلم والإسلام للمرء وازعٌ ... وفي ترك طاعات الفؤاد المتيمِ
بصائر رشدٍ للفتى مستبينةٌ ... وأخلاق صدق علمها في التعلمِ

و في هذا المعنى ما لا يحصى من الشعر والنثر يأتي في الحكم إن شاء الله تعالى

حبل فلان يفتل.
الحبل بالفتح فالسكون: الرباط وهو معروف.و جمعه حبال وأحبال. قال الشاعر:

أمن أجل حبلٍ لا أباك ضربته ... بمنسأةٍقد جر حبلك أحبالا

و فتل الحبل معروف. قال امرؤ القيس:

فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل

أي بكل حبل أحكم فتله. ويقال: حبله يفتل إذا كان مقبلا على أمر.

حتفها تحمل ضأنٌ بأظلافها.
الحتف: الموت. والأظلاف جمع ظلف بالكسر وتقدم تفسيره. وهذا المثل يضرب في الهلاك يجتلبه القدر غمدان الإنسان أو يجره على نفسه. وأصله أنَّ النعمان بن المنذر عمد إلى كبش فعلق في عنقه مدية وأرسله يرعى ونذر أن يقتل من تعرض له. فكان الكبش يخرج ولا يمس. ثم مر على أرقم بن علباء اليشكري وقيل على علباء بن أرقم اليشكري فقال: كبش يحمل حتفه بأظلافهووثب عليه فذبحه وأشتواه. فقال في ذلك شعرا طويلا منه:

أخوف بالنعمان حتى كأنني ... ذبحت له خالاً كريما أو أبن عمُ

وقال أبو عبيد إنَّ هذا المثل تمثل به حريث بن حسان الشيباني بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لقيلة التميمية وكان قدم بها الذي النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في قصة طويلة حتى قالت قيلة: فقدمنا تعني مع حريث على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصليت معه الغداة حتى إذا طلعت الشمس دنوت. فقال رجل: السلام عليك يا رسول اللهفقال رسول الله: وعليك السلاموهو قاعد القرفصاء. فقالت: فتقدم صاحبي فبايعه على الإسلام فقال: يا رسول الله اكتب لي بالدهناء. فقال: يا غلام اكتب له. قالت: فشخص بي وكانت وطني وداري. فقلت: يا رسول الله الدهناء مقيد الجمل ومرعى الغنم وهذه نساء بني تميم وراء ذلك. قال: صدقت المسكينةالمسلم أخو المسلم يسمعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيلام أبن هذه أن يفصل الخطة وينتصر من وراء الحجر انتهى.
وهذا المثل هم مثل قولهم: بحث عن حتفه بظلفه وتقدم.

حتَّام تكرع ولا تنفع
حتى هنا حرف جر دخلت على ما الأستفهامية. ويقال كرع في الماء وفي الإناء بفتح الراء وكسرها كروعا وكرعا إذا تناول بفيه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء. والكرع بفتحتين: الماء يكرع فيه يجتمع من ماء السماء في غدير أو نحوه. قال عدي أبن الرقاع يصف راعي الإبل:

يسنها ابلٌ ما إن يجزئها ... جزءاً شديداً وما أن ترتوي كرعا

و يقال: نقع الرجل بالشراب وبالخبز بفتح القاف إذا استشفى به من غليله. قال كثير:

فما نقعت نفسي بما أمروا به ... ولا عجت من أقوالهم بفتيلِ

و المثل ظاهر معنى ومضرباً.

المحاجزة قبل المنازلة.
ويقال أيضاً : أن أردت المحاجزة فقبل النازلة. يقال حجزه عن الأمر إذا كفه عنه وصرفه فأنحجز هو. وحجز بين الناس فصل بينهم. وتحاجز القوم كف بعضهم عن بعضا. والحجز بفتحتين الذين يمنعون بعض الناس عن بعض ويفصلون بينهم جمع حاجز. ويقال : نجز حاجته وأنجزها: قضاها. والمناجزة المقابلة. وتناجز القوم تلاحموا وتقاتلوا. والمعنى إنَّ المحاجزة والمسالمة إنّما تكون قبل المناجزة والوقوع. فيضرب عند الحزم والفرار ممن لا يطاق أو عند طلب الصلح بعد القتال.

حدأ حدأ وراءك بندقةٌ.

الحداأة بكسر الحاء وفتح الدال المهملة بعدها همزة: الطائر المعروف جمعه حدأٌ مثل عنبة وعنب. قال الراجز: كما تدانى الحدأ الأوي.

وقال الأخر:

وتباى الألى يستلئمون على الألى ... تراهن يوم الروع كالحدأ القبلِ

و ضمير تبلي للمنون في البيت قبله. يقول: إنَّ المنية تبلي الين يستلئمون أي يلبسون اللأمات للقتال على الألى أي على النساء اللأئي تراهن يوم الروع أي يوم الفزع كالحدأ القبل جمع قبلاء وهي الناظرة بمقدمة العين. يصفهن بالإشفاق على أزواجهن فهن ينظرن إليهم هل سلموا. والبندقة بالضم هي التي يرمى بها. وحدأ في المثل أصله: يا حدأة وراءك بندقةأي أحذري بندقة الرامي تصبكوقيل إنَّ حدأ هي حدأ بن نمرة وبندقة هي بندقة بن مظلة وهما قبيلتان من سعد العشيرة. وكانت حدأ تنزل الكوفة فأغاروا على بندقة وكانوا ينزلون باليمن فنالوا منهم ثم كرت بندقة على حدأة فانحوا عليهم فصار يضرب لمن يفزع بعدوه أو يبلى بنظيره. ومن الناس من يرويه: حدا حدا بفتح الحاء غير مهموز على مثل عصا ويقول هو اسم القبيلة.

ويروى: حدث حديثين المرأة فإنَ أبت فعشرة. والحديثان والأربعة والعشرة أعداد معروفة. والمرأة فيها أربع لغات. يقال امرأة ومرأة ومرة ومراة. ويروى: حدث المرأة حديثين فإن لم تفهم فأربع. يقال: يربع إذا وقف وحبس.و المعنى: حدث حتى إذا كررت الحديث فلم يفهم عنك فأمسك ولا تتعب نفسكيضرب في سوء السمع والإجابة. وهذا المعنى ظاهر في الرواية الأخيرة. وأما الروايتان الأوليتان فأولهما رواية أبي عبيد. قال البكري: وتصح على حذف يريد حدث حديثين المرأة فإن لم تفهم فأربعة لا تفهمها. وعلى الرواية الأخرى: فعشرة لا تفهمها. انتهى.

قلت: وهذا المثل من الأمثال الموضوعة على ألسنة العجماوات. زعموا أنَّ الأرنب التقطت ثمرة فاختلسها الثعلب فأكلها فانطلقا إلى الضب يختصمان. فقالت الأرنب: يا أبا الحسلفقال: سميعا دعوت. قالت: أتيناك انختصم إليك فأخرج إلينا. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت: إني وجدت ثمرة. قال: حلوة فكليها. فقالت: فاختلسها مني الثعلب. قال: لنفسه سعى. قالت: فلطمته. قال: حقك أخذت. قالت فلطمني. قال: حر انتصر. قالت: فاقض بينناقال: حدث امرأة حديثين فإن لم تفهم فأربعةوهذه المقالة المنسوبة إلى الضب كلها أمثال سائرة.

حديث خرافة يا أم عمرو
الحديث معروف. وخرافة على مثل أسامة، رجل من عذرة استهوته الجن ثم نجا. فكان يخبر بأمور غريبة فكذبوه وقالوا: حديث خرافة ثم ضربوا به المثل وجعلوه لكل حديث مستملح أو لكل حديث لا حقيقة له. وهو مثل سائر قديما وحديثا. وقيل إنَّ خرافة كان له تابع من الجن فكان يخبره بأشياء عجيبة فيتحدث بها فتكون كما ذكر فنسبوه إليه الأحاديث الصادقة المعجبة الصادقة. قال الجوهري: ويروى عنه صلى الله عليه وسلم إنّه قال: وخرافة حق. انتهى.

وذكر بعض الأدباء إنّه روي بسند متصل إلى عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : حدثني بحديث خرافةفقال: رحم الله خرافةكان رجلا صالحا فأخبرني أنه خرج ذات ليلة فلقي ثلاثة نفر من الجن فأسروه فقال أحدهم: نعفو عنه. وقال آخر: نقتله. وقال آخر: نستعبده. فبينما هم يتشاورون في أمره ورد عليهم رجل فقال: السلام عليكمفقالوا وعليكم السلامقال: وما أنتم عليه قالوا: نفر من الجن أسرنا هذا فنحن نتآمر في أمره. قال: إن حدثتكم حديثا عجبا أنَّ تشركوني فيه قالوا: نعمقال: إني كنت ذا نعمة فزالت وركبني دين فخرجت هاربا. فأصابني عطش شديد فصرت إلى بئر فسبرت لأشرب فصاح بي صائح منها ولم أشرب. فغلبني العطش فعدت فصاح بي ثم عدت الثالثة فصاح بي فشربت ولم ألتفته.فقال: اللهم إن كان رجلا فحوله امرأة وإن كان امرأة فحولها رجلا. فإذا أنا امرأة فأتيت مدينة فتزوجني رجل فولدت منه ولدين. ثم تقت إلى بلدي فمررت بالبئر التي شربت منها فصاح بي كما صاح أولا. فشربت ولم ألتفت. فدعا كالأول فعدت رجلا كما كنت. فأتيت بلدي فتزوجت امرأة فولدت لي منها ولدان: فلي اثنان من ظهري واثنان من بطني. فقالوا: إنَّ هذا لعجبأنت شريكنا فيه. فبينما هم يتشاورون ورد عليهم ثور يطير. فلما جاوزهم إذا برجل بيده خشبة يحضر في أثره. فوقف عليهم فسألهم فردوا عليه مثل مردهم على صاحبهم فقال: إن حدثتكم بحديث أعجب من هذا أنَّ تشركوني فيه قالوا: نعمقال: كان لي عم وكان لعمي عجل يربيه فأفلت فقال: أيكم رده فابنتي له. فأخذت خشبتي هذه وائتزرت ثم أحضرت في أثره وأنا غلام. وقد شبت فلا أنا ألحقه ولا هو ينكل. فقالوا: إنَّ هذا لعجبأنت شريكنا فيه. فبينما هم كذلك ورد عليهم رجل على فرس له أنثى وغلام له على فرس. فسلم كما سلم صاحباه فردوا عليه كردهم على صاحبيه. فسألهم فأخبروه فقال: إن حدثتكم بحديث أعجب من هذا أنَّ تشركوني فيه قالوا نعمقال: كانت لي أم خبيثة. ثم قال للفرس الأنثى التي تحته: أنَّ كذلك فقالت: نعموكنا نتهمها بهذا العبد وأشار إلى الفرس تحت غلامه: أنَّ هكذا فقال برأسه نعمفوجهت غلامي هذا الراكب على هذا الفرس في بعض حاجاتي فحبسه عندها فأغفى فرأى في منامه كأنها صاحت صائحة فإذا هو بجرذ قد خرج فقالت: أسجدفسجد. ثم قالت: اكربفكرب. ثم قالت: ازرعفزرع. ثم قالت: ادرسفدرس. ثم دعت برحى فطحنت قدح سويق فأتت به الغلام وقالت له: ائت به مولاكفأتاني به. فاحتلت عليها حتى سقيتها القدح فإذا هي فرس أنثى وإذا هو فرس ذكر. أكذلك فقالت الفرس الأنثى برأسها: نعموقال الفرس برأسه: نعمفقالوا: إنَّ هذا أعجب شيء سمعناه أنت شريكنافاجتمع رأيهم فأعتقوا خرافة. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بهذا الحديث. فما جاء من الأحاديث المحالية نسب إلى خرافة صاحب الحديث. انتهى.

وقال في الصحاح: الراء في خرافة خفيفة ولا يدخله الألف واللام لأنه معرفة علم؛ إلاّ أن تريد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل. انتهى.

وقد استعمل اليوم في عرفنا اسما للحديث المستملح. يقول الرجل لصاحبه: اذكر لي خرافة أي حديثا من ذلك النوع ويحلى بالألف واللام لذلك.

الحديث شجون.
ويقال أيضاً ذو شجون. والشجون بضم الشين جمع شجن بفتح فسكون وهو الطريق في الوادي. والشواجن والشجون أيضاً: الأودية الكثيرة الشجر. قال:

لمّا رأيت عدي القوم يسلبهم ... طلح الشواجن والطرفاء والسلم

أو جمع شجنة بكسر الشين وهي الصدع في الجبل. والشجن بفتحتين غصن الشجرة المشتبك والشعبة في كل شيء والحاجة حيثما كانت. يقال لي بموضع كذا شجن. قال الراجز:

إني سأبدي لك فيما ابدي ... لي شجنان: شجن بنجد

وشجن لي في بلاد السند
والجمع أيضاً شجون. والشجنة أيضاً مثلثة الشين والعروق المشتبكة. يقال: بيني وبين فلان شجنة رحم أي قرابة مشتبكة.

وفي الحديث: الرحم شجنة من الله أي مشتبكة اشتباك العروق.

ومعنى المثل إنَّ الحديث ذو فنون وأغراض وطرق يدخل بعضها في بعض ويتشعب بعضها من بعض كالطرق المشتبكة المتقاطعة أو الأغصان والعروق. يضرب في الحديث سيذكر به حديث غيره. ومن ثم يضربه القصاص والأئمة عند استطراد المسائل والخروج من غرض إلى آخر. وقال الفرزدق:

وإن كنت قد سألت دوني فلا تقم ... بأرض بها بنت الهوى تكون
فلا تأمنن الحرب إذا استعارها ... كضبة إذ قال: الحديث شجون

و الاستعارة بالسين والعين المهملتين من استعار النار. وروي اشتغار بالشين والغين المعجمتين أي هيجانها وثورانها وانتشارها ومن قولك: شغر برجله. يقول: إنَّ الحرب سببها الكلام كما قال الآخر:

فإنَّ النار بالزندين تورى ... وإنَّ الحرب أولها كلام

و يقال الحرب أولها نجوى وأوسطها شكوى وآخرها بلوى.

وقلت مضمنا لهذا المثل في غرض:

تمنى بأوباش فتوح مدائن ... وذاك لعمري ضلة وجنون
فأضحى كعمر إذ ترجى مراده ... بجيش مراد والحديث شجون

و تقدم خبر عمرو بن أمامة مع مراد في الباب الأول.

حدث عن البحر ولا حرج
البحر معروف والحرج بفتحتين الضيق والاثم. وهذا يروى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنّه قال: حدثوا عن البحر ولا حرج أي حديث لا حرج عليكم في التحديث عنه فتكون الجملة حالية. وقد جعل هذا مثلا في الشيء الكثير الذي لا ينحصر أو لا يكاد بمعنى إنَّ المحدث عنه لا يضيق عليه المجال ولا يعزوه مقال.

وورد من هذا النحو أيضاً حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج وفي ذلك تأويلات ذكرها المحدثون ولا حاجة إلى التعرض لها. والمقصود من التمثيل واضح.
وقال أبن اللبانة:

وألغوا حديث البحر عند حديثه ... فكم بين ذي مد وكم بين ذي جزر

حدث عن معن ولا حرج
وهو معن بن زائدة الشيباني الجواد المعورف.

الحديد بالحديد يفل.
الحديد معروف وكذا الفل. وهذا المثل يضرب في الرجل القوي يلقى قرينه في البسالة والنجدة. وكان الوليد بن طريف الشيباني لمّا خرج على الرشيد اشتدت شوكته فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فقتله. فقال بكر بن النطاح:

وائل بعضها يقتل بعضا ... لا يفل الحديد إلاّ الحديد
لو تلقى الوليد غير يزيد ... لغدا ظاهرا عليه الوليد

ولمّا قتل الوليد رثته أخته الفارعة بنت طريف بشعرها المعروف منه:

أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على أبن دريف
فتى لا يعد الزاد إلاّ من التقى ... ولا المال إلاّ من قنى وسيوف

و هي قصيد معروفة.

الحذر قبل إرسال السهم.
الحذر بفتحتين والحذر بكسر فسكون الاحتراز. يقال حذر بالكسر يحذر فهو حذر والإرسال: الإطلاق والمراد هنا الرمي والسهم معروف. وهذا من الأمثال العجماوية أيضاً.

زعموا إنَّ غرابا رأى رجلا فوق سهما ليضرب به. فأراد ابنه أن يطير فقال له: يا بني اثبت حتى تعلم ما يريد الرجل. فقال له ابنه: يا أبت الحذر قبل إرسال السهم فذهبت مثلا. وهو يحسن أن يضرب عند الأمر بالاحتراز والاستعداد للمحذور قبل وقوعه وقبل فوات محل الحذر. وذلك ظاهر.

أحذر من ضب حرشته.
الحذر مر والضب الحيوان المعروف والحرش صيادته. يقال: حرش الضب يحرشه حرشا فهو حارش وذلك أن يحرك يده في فم جحره ليظنه حية فيخرج ذنبه ليضرب بها فيقبض على ذنبه ويمتلخه من الجحر قال الشاعر:

وأخدع من ضب إذا جاء حارش ... أعد له عند الذنابة عقربا

و من هذا المثل الآتي: هذا اجل من الحرش.

أحذر من غراب.
الحذر تقدم والغراب معروف وتقدم أيضاً ويضرب به المثل في شدة الحذر وذلك معروف مشهور.

وقد قال بعض الحكماء: أخذت من كل شيء أحسنه حتى انتهى بي الأمر إلى الكلب والهرة والخنزير والغراب. فقيل له: ما أخذت من الكلب قال: إلفه لأهله وذبه عن صاحبه. فقيل له: ما أخذت من الهرة قال: حسن تأنيها وتملقاها عن المسألة. فقيل: ما أخذت من الخنزير قال: بكوره من حوائجه. فقيل: ما أخذت من الغراب قال: شدة حذره.

حذو النعل بالنعل.
تقول: حذوت النعل أحذوها حذوا إذا قطعتها وقدرتها وحذوت النعل بالنعل إذا قدرتها وقطعتها عليها. والنعل معروفة. والمثل يضرب في التساوي والتشابه. تقول في الشيئين يستويان: هما حذو النعل وذلك لأن كلا من النعلين تقدر بالأخرى وتقاس بقالبها. ومن ذلك قول الهذلي:

وتأملت السبت الذي أحذوله ... فأنظر بمثل حذائه أخذولي

و يقال أيضاً: احتذيت حذو فلان أي فعلت فعله.

الحرب خدعة.
الحرب معروف مؤنث وقد يذكر. ويقال رجل حرب ومحرب أي شديد الحرب شجاع ورجل حرب أي عدو للواحد والجميع وللأنثى أيضاً. قال نصيب:

وقولا لها: يا أم عثمان خلتي ... اسلم لنا في حبنا أنت أم حرب

و الخدع الختل. يقال: خدعه يخدعه أي ختله وأراد به المكروه من حيث لا يعلم. ولفظ خدعة هاهنا روي مثلثا والذي في الصحاح الفتح والضم مع سكون الدال. قال والفتح افصح. وروي أيضاً خدعة على مثال همزة. والمعنى إنّها تنقضي بخدعة. والذي يقتضيه الاتقاق لغة في هذا الضبط إنَّ الخدعة بضم الخاء وصف. فإن كان بفتح الدال كهمزة فهو وصف للرجل يكون كثير الخدع للناس. وإن كان بسكونها فهو وصف للذي يخدع. والخدعة بفتح فسكون مصدر وهو المرة من الخدع وبالكسر للهيئة من ذلك. وهذا الكلام يروى حديثا.

الحرب سجال.
الحرب مر والسجال يكون جمع سجل بفتح السين وسكون المعجمة وهو الدلو فيها ماء. ولا يقال لها سجل إلاّ وفيها ماء والمساجلة: المفاخرة والمباراة في السقي بالسجال. قال الفضل بن عباس بن عتيبة بن أبي لهب وقد وقف على زمزم:

من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ثم استعملت المساجلة في المعارضة والمباراة في كل شيء من سبق أو رمي أو غير ذلك. وتساجلا: تباريا.
ومعنى المثل إنَّ الحروب دول بين الناس: سجل منها على هؤلاء وسجل على هؤلاء كما قال أبو سفيان لهرقل لمّا قال له: كيف الحرب بينكم وبينه يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه جال: يدال علينا مرة وندال عليهم أخرى. وقال زهير:

تهامون نجديون كيدا ونجعة لك ... ليس أناس من وقائعهم سجل

و قد يضرب في غير الحروب من كل ما يشبهها من نزاع وجدال مثلا. ولفظ السجال في المثل جمع كما فسرنا أوّلاً. ولا يصح أن يكون مصدرا أي الحرب هو مساجلة. وحاصل الأمر واحد.

حرب عوان.

اعلم إنَّ العرب ضربوا للحرب المثل بأوصاف شتى: فمن السائر من ذلك العوان واللأقح والرباعية. يقولون: حرب عوان وحرب لاقح وحرب رباعية. أما العوان فاصلها في النساء وهي النصف في سنها وكذا في سائر الحيوانات. قال تعالى: لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك. ويقال العوان التي لها زوج. قال النابغة:

ومن يتربص الحدثان تنزل ... بمولاه عوان غير بكر

و هذا أيضاً نحتمل. والجمع عون بالضم. واشتقاق العوان من العون وهو القوة لأنها عرضة للأعانة إن استعينت. وأما العوان من الحروب فهي التي كانت قوتل فيها مأخوذ من عوان النساء كأنهم جعلوها في المرة الأولى بكرا ثم تصير ثيبا. قال أبو جهل يرتجز يوم بدر:

ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سن

لمثل هذا ولدتني أمي
وقال زهير:

إذا لقحت حرب عوان مضرة ... ضروس تهر الناس أنيابها عصل

وقال الحماسي موسى بن جابر:

وإن رفعوا الحرب العوان التي ترى ... فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلي

و معلوم انهم ما وصفوها بالعوان إلاّ للمبالغة وإرادة إنّها شديدة لا مجرد إنّها قوتل فيها مرة. وكان ذلك لأجل إنَّ المبتكرة يخف أمرها لعدم استحكام الضغائن فيها بعد بخلاف التي تقدمها قتلا غرس في القلوب الضغائن وأحفظها وأكثر الأوتار. فذلك مظنة الاشتداد مع عظم العود إلى الحروب على النفس ونفور النفوس منه وكراهيتها له كما قال الآخر:

الحرب أوّل ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ... عادت عجوز غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت ... مكروهة للشم والتقبيل

و أما تشبيه الأولى بالبكر والثانية بالعوان فذلك يكون لثلاثة اوجه: الوجه الأول إنَّ البكر من النساء هي التي لم تتقدم ممارستها ومخالطتها بخلاف العوان. وهذا بين وإليه أشار حبيب في التعبير عنها بالثيب حيث قال:

ولا اجتلبت بكر من الحرب ناهد ... ولا ثيب إلاّ منهم لها خطب

الثاني إنَّ البكر لصغر سنها وجسمها في الحملة تشبه المرة الأولى لخفتها والعوان لعظم جسمها في الجملة وسنها تشبه الثانية لقوتها واشتدادها. وهذا من التوهم الخيالي.

الثالث إنَّ البكر اسهل لغرتها وقناعتها بما تجد ولا كذلك العوان: فإنّها لاحتكاكها وتجربتها وطموح عينها اصعب محاورة واشد معاشرة وأدهى نكرا واعظم مكرا وهذا واضح. وقد يوصف بالعوان الأرض التي أصيبت بالمطر مرة بعد أخرى تشبيها كالذي مر. قال الحميد بن ثور الهلالي:

ولقد نظرت إلى أغر مشهر ... بكر توسن بالخميلة عونا
متسنم سنمتها متفجس ... بالدهر يملأ أنفسا وعيونا
لقح العجاف له لخامس خمسة ... وشربن بعد تحلئ فروينا

أراد بالأعر سحابا أبيض وبكونه بكرا أنه لم يمطر قبل ذلك وأراد بالخميلة الرمل ذات الشجر والعون جمع عوان وهي الأرض التي أصابها المطر مرة. ومعنى توسنها طرقها هذا السحاب ليلا عند الوسن أي النوم تقول: توسنت الرجل إذ أتيته وهو وسنان. والسنمات العظام الأسنمة من الإبل وأطلقها هنا على التلال والأكم. وقوله متنسم يريد يتسنمها أي يعلوها كالفحل الذي يتسنم الاينق. وقوله: متفجس أي متبكر بالدهر، أي رعده، تشبيها بهدر البعير؛ والعجاف أراد بها الأرضين المجدبة مجازاً؛ ومعنى لقحت حملت؛ أي أنبت عشبها. وقوله بعد تجلئ أي شربت بعد امتناع من الماء زمانا، من قولك: حلأته، أي دفعته وطردته. وأما اللاقح فأصلها في الحيوان أيضاً. يقال: لقحت الناقة بالكسر إذا حملت وألقحها الفحل، فهي لاقح ولقوح ولقحة بالكسرو يفتح. وحمع اللاقح لواقح ويجمع اللقوح لقح، وجمع اللقحة لقح، كقربة وقرب ولقح. وثم ضربوها مثلاً للحرب إذا عظمت واشتدت تشبيها لها بالناقة إذا جملت فعظم بطنها. قالت الفارغة بنت طريف:

ولم تسع يوم الحرب والحرب لاقح ... وسمر القنا ينكزنها بأنوف

و منه قول زهير السابق: إذا لقحت حرب عوان مضرة.
ومن أبلغ ما ورد في هذا المعنى قوله أيضاً في ميميته، حيث وصف الحرب فقال:

وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا كشافا ثم تحمل فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشام كلهم ... كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطم
فتغلغل لكم مالا تغل لأهلها ... قرى ضريتموها فتضرم
فتعكرتم عرك الرحا بثفالها ... وتلقح بالعراق من قفيز ودرهم

قوله تبعثوها ذميمة أي مذمومة، وكان الأفصح أن يقول ذميما، بغير هاء. ويروى بالدال المهملة، أي حقيرة، إشارة إلى معنى ما تقدم في قول الآخر: الحرب أول ما تكون فتية. وقوله عرك الرحا بثفالها، أي وهي على ثفالها. والثفال بالثاء المثلثة مكسورة ما يجعل تحت الرحا حال الطحن، يريد: تعرككم عرك الرحا إذا كانت طاحنة. وقوله تلقح كشافا: الكشاف إنَّ يحمل الفحل على الناقة سنتين ولاء أو كل سنة، أو أن تلقح حين تنتج، أو أن يضربها وهي حامل. وهي ناقة كشوفة، وقد كشفت تكشف، كشفا. وأراد أن هذه الحرب كلما خمدت عاجت. وقوله فتتئم، أي تأتي من حملها بتوءمين، وهذا تهويل وتعظيم لامر الحرب، وإيهام أنَّ شرها متكرر وهولها متضاعف. وشبهها بالناقة لما تقدم، ولأنها أيضاً يطول أمرها فتكون بمنزلة الناقة التي تضرب، ثم تحمل، ثم تنتج، ثم تفطم. وقيل لأنها يتحلب منها من الدماء مثل ما يتحلب من الناقة من اللبن. وقوله فتنتج لكم غلمان أشأم، فوضع أشأم موضع المصدر، أو غلمان شؤم أشأم على المبالغة، ونحو شغل شاغل، وليل أليل؛ أو غلمان امرئ أشأم. وقوله كلهم كأحمر عاد يعني عاقر الناقة، وهو يضرب به المثل في الشؤم، وأراد أحمر ثمود، فأضافه إلى عاد غلطا، كما قال الآخر: مثل النصارى قتلوا المسيحا وقيل ليس بغلط، لأن ثمود يقال لها عاد الآخرة، وهو دهم عاد الأولى. قال: تعالى: ) وإنّه أهلك عاداً الأولى(. وأما الرباعية بياء مخففة فهي أيضاً في الإبل ، وهي في السن التي بين الناب والثنية. ويقال للذي ألقى رباعية ربع، وجمعه ربع، كقذال وقذل. ويقال للغنم في السنة الرابعة أربعت، وللبقر وذات الحافر في الخامسة، ولذات الخف في السابعة. وتقدم ذكر أسنان الإبل إنَّ الرباعي منها والرباعية بين الثني والسدس. ويقال: جمل وفرس رباع ورباع، ونظيره ثمانٍ وثمانٌ، ونشاحٍ وناشحٌ، وجوارٍ وجوارٌ؛ والأنثى رباعية، وتوصف الحرب بالرباعية لشدتها وقوتها. قال الشاعر:

إنها حرب رباعية ... مثلها آتي الفتى عبره

وقيل لأمرأة من العرب
الحر إذا خودع تخادع، وإذا عظم تواضع.
هذا مثل مصنوع، فيما أظن، وهو ظاهر المعنى. ومثله قول الشاعر:

إذا مدح الكريم يزيد خيراً ... وإنَّ مدح اللئيم فلا يزيد

حرة تحت قرة.
يقال: حر الرجل يحر، كظل يظل، حراراً وحرة، فهو حران وهي حرى، إذا عطش. الحرة في المثل مكسورة للازدواج. والقر بضم القاف البرد، أو برد الشتاء خاصة؛ والقرة بالكسر ما أصابك منه. وهذا المثل يضرب للأمر يظهر وبعده أمر خفي. وأصل الحرة تحت القرة إنّها العطش مع البرد وهو إذ ذاك ينحاز إلى الجوف فيكون سعيرا ومع ذلك لا يظهر من حال صاحبه لمّا هو فيه من البرد إنّه عطشان. ويقال: اشد العطش حرة تحتب قرة ويقال أجد حرة تحت قرة ورماه الله بالحيرة تحت القرة.
وفي الأمثال العامة قولهم: الشتاء على قرني والعطش قتلني. وهذا يضرب لأمر آخر.

احر من دمع المقلات.
الحرارة ضد البرد كالحر والحرورة. يقال: حر اليوم يحر كمل يمل وحر يحر كفر يفر حرارة فهو حار والدمع معروف والمقلات من النساء التي لا يعيش لها ولد ومن النوق التي تضع ولدا تم لا تحمل مشتق من القلت بفتحتين وهو الهلاك. يقال قلت يقلت كفرح يفرح قلتا إذا هلك. وفي الخبر: المسافر ومتاعه على قلت إلاّ ما وقى الله تعالى. والمقلتة: المهلكة والقلات على وزن مفعال والجمع مقاليت كمقياس ومقاييس ومصباح ومصابيح قال طرفة:

لا تلمني إنّها من نسوة ... رقد الصيف مقاليت نزر

الرقد جمع رقود يعني أنهن مكفيات فهن يرقدن ولا يخدمن ولا يسعين وهن مقاليت لا تعيش أولادهن فيتحملن مؤنتهم وهن نزر أي قلائل الأولاد بالأصلة جمع نزور: فهن بذلك نعمات الأجسام نظائف الأذيال فائقات الكمال. وقال جرير في المفرد:

خشاش الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات نزور

و وصف دمعه المقلات بالحرارة لأنها تبكي حزنا على أولادها وهم يصفون دمعة الحزن بالحرارة ومن ثم يقولون في الدعاء على الرجل اسخن الله عينه ويصفون دمعة الفرح بالبرد ومن ثم يقولون: قرت عين فلان في السرور والفرح وأقر الله عينه

أحر من القرع
الحرارة تقدمت والقرع بفتحتين بثر أبيض يخرج من أعناق الفصلان وقوائمها ودواؤه الملح وحباب ألبان الإبل. فإذا لم يجدوا ملحا نتفوا أوبارها ونضحوا جلودها بالماء ومنه المثل. قال في الصحاح: وربما قالوا أحر من القرع بالتسكين يعنون به قرع الميسم وهو المكواة. قال:

كأن على كبدي قرعة ... حذارا من البين ما تبرد

قال: والعامة تريد به هذا القرع الذي يؤكل. انتهى.
قلت: وإنّما توهموا المأكول لأنّه تشتد حرارته إذا طبخ وتطول ولا يبرد بعد زمن حتى قالوا في زعاماتهم وأمثالهم: قال الذئب: لا آمنك يا قرع ولو كنت في الماء.

حر انتصر.
الحر بالضم خلاف العبد وحر كل شيء خياره والحر الجيد. يقال: ما هذا من فلان بحر أي جيد. قال طرفة بن العبد:

لا يكن حبك حبا قاتلا: ... ليس هذا منك ماوي بجر

وقال امرؤ القيس:

لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر ... ولا مقصر يوما فيأتيني بقر

و النصر الإعانة نصره على عدوه ينصره نصرا: أعانه وأستنصر: طلب النصر وانتصر منه: انتقم. وتقدم هذا المثل وإنّه من الأمثال التي نسبت إلى الضب في تحاكم الثعلب والأرنب إليه. يضرب للرجل يظلم فينتقم.

أحرس من الكركي.

يقال: حرس الشيء بالفتح يحرسه حراسة حفظه والكركي على مثال الجندي طائر معروف جمعه كراكي يوصف بالحذر والحراسة.

ويزعمون إنَّ الكركي تحرس مداولة فيبقى الذي يحرس منها لا ينام. ويهتف بصوت خفي ينذر إنّه حارس حتى إذ قضى نوبته قام الذي كان نائما. ويقال إنّه لا يطأ الأرض أبداً إلاّ بأحدى رجليه ويعلق الأخرى ولا يضعها على الأرض وإن وضعها وضعها وضعا خفيفا مخافة أن تخسف به.

محترس من مثله وهو حارس.
الحرس والحراسة تقدم. وتقول: احترست منه وتحرست إذا تحفظت. وهذا المثل يضرب لمن يعيب الخبيث وهذا أخبث منه.
واصله شعر عبد الله بن همام يقول لرجل كان على شرط الكوفة للحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي يقال له الحمارس وهو:

أقلي علي اللوم يا ابنة مالك ... وذمي زمانا ساد فيه الحمارس
فساع من السلطان يسعى عليهم ... ومحترس ومن مثله وهو حارس
وكم قائل: ما بال مثلك راجلا ... فقلت له: من أجل أنك فارس
إذا لم يكن صدر المجالس سيد ... فلا خير فيمن صدرته المجالس

و يروى: وذمي زمانا ساد فيه الفلاقس وهو جمع فلنقس. والفلنقس من أمة عربية وأبوه مولى. وقيل من أبواه عربيان وجدتاه أمتان. وقيل من أبواه موليان معا.

أحرص من نملة.
الحرص: الجشع يقال حرص يحرص كضرب يضرب وحرص يحرص كسمع يسمع حرصا. والنملة واحدة النمل وهو معروف. يقال إنّه ليس في الحيوانات من يحتكر الإنسان والعقعق والنمل والفأر. والنمل عظيم الاحتياط في الاحتكار. يقال إنّه إذا احتكر ما يخاف عليه أن ينبت قسمه نصفين وإذا خاف العفن على الحبوب أخرجه إلى ظاهر الأرض فنشره. وأكثر ما يفعل ذلك ليلا بضوء القمر.

حرق عليه الأرم.
الحرق: البرد. يقال: حرق الشيء يحرقه كقتله يقتله إذ برده وحك بعضه ببعض وحرق نابه يحرقه: حكه بأسنانه حتى سمع له صريف والأرم بضم الهمزة وفتح الراء المشدد على مثال ركع الأسنان أو أطراف الأصابع. والأرم أيضاً الحصا فيقال: فلان يحرق عليك الأرم أي تغيظ وأشتد غيظه. قال الراجز:

نبئت أحماء سليمى إنّما ... باتوا غضابا يحرقون الأرما

وقال زهير في معناه:

أبى الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله

وقال الآخر:

يلوك من حرد عليك الأرما

أي يعلك أسنانه أو أصابعه. وقد قيل: الأرم هنا الشفاه ويحتمل الحصى وكل ذلك صحيح لأنّه يكون من شأن المتغيظ كما كان عد الحصى شأن الهموم في قول امرئ القيس:

ظلت ردائي فوق رأسي قاعدا ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي

و سميت الاسنان أرما من الأرم وهو الأكل إذ بها يكون. يقال: أرم ما على المائدة إذا اكله فلم يبق منه شيئاً. وهذا المثل هو مثل المثل الآتي: فلان يكسر عليك الفوق والأرعاظ.

حرك خشاشه.
التحريك معروف والخشاش بكسر الخاء المعجمة ما يدخل في عظم أنف البعير من خشب وهو إذا حرك تضرر البعير بذلك فيقال: حركت خشاش فلان أي فعلت به فعلا يؤذيه ويغضبه. ويطلق الخشاش أيضاً على الغضب نفسه وعلى معان أخرى لا تناسب المحل.

وأما الخشاش بمعنى الحشرات فمثلث الأول.

حرك لها حوارها تحن.
الحوار بضم الحاء على وزن أوار ولد الناقة قبل أن يفصل وتقدم الحنين الشوق. يقال: حن إليه يحن بالكسر فهو حان وحنان إذا تاقت إليه نفسه. وهذا المثل قاله عمرو بن العاصي لمعاوية رحمهما الله حين أراد أن يستنصر بأهل الشام. وهو مثل المثل السابق: الإيناس قبل الابساس. وفي كلام أبي الوليد بن زيدون يخاطب أبن جهور: فما أبسست بك إلاّ لتدر وحركت لك الحور إلاّ لتحن.

حزت حازة من كوعها.
يضرب في اشتغال القوم بأمرهم عن غيره. ولم اقف له على أصل.

أحزم من الحرباء.
الحزم ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة. حزم الرجل بالضم يحزم حرامة فهو حازم وهم حزمة وحزماء والحرباء على مثال علباء والأنثى حرباءة والألف للإلحاق بالقرطاس: دويبة برية لها سنام يشبه سنام البعير وهي تستقبل الشمس أبداً بعينها وتدور معها كيف ما دارت قال كعب بن زهير رضي الله عنه:

يوم يظل به الحرباء مصطخدا ... كأن ضاحية بالشمس مملول

وقال أبن الرومي:

ما ذاك إلاّ إنّها شمس الضحى ... أبداً يكون رقيبها الحرباء

قيل: ويتلون بألوان من صفرة وحمرة وخضرة كما قال الشاعر:

وقد جعل الحرباء يصفر لونه ... ويخضر من لفح الهجير غباغبه

و يوصف بالحزم والتحفظ، وذلك إنّه لا يزال متمسكا بأصل الشجرة، فلا يرسله حتى يستمسك بآخر.
قال الشاعر:

إني أتيح له حرباء تنضبةٍ ... لا يرسل الساق إلاّ ممسكا ساقا

أي لا يرسل ساقا من شجرة إلاّ في حالة إمساكه ساقاً آخر. والتنضبة شجر يتعلق به الحرباء. فهو مضاف إليه، كما تقول ذئب غضا.

ويروى أنَّ رجلا خاصم أبن عمه إلى معاوية، رضي الله عنه، فلما سمع حججه قال له: أنت كما قال الشاعر، وانشد البيت المذكور، وضربه مثلا لمّا هو فيه من اللدد والاحتجاج، بحيث لا يرسل حجة إلاّ متمسك بأخرى.

أحزم من عقابٍ.
الحزم مر؛ والعقاب تقدم في حرب الباء أيضاً، وهو يوصف بالحزم. وقالوا: من حزمه إنّه يخرج من بيضته على جبل عال، ولا يتحرك من مكانه ذلك حتى ينبت ريشه جميعا ويتكامل ولو تحرك قبل ذلك سقط.

أذكر في هذا المعنى ما أخبر صاحب التشوف في ترجمة الشيخ أبي مهدي الدغوغي، رحمهما الله ونفعنا بهما، قال: حدثني داود بن الخالق حدثني وين الخير قال: كنت بمسجد أبي مهدي ادرس القرآن. فكان يقعد عندي ويدلني على طريق الآخرة. فجاءه ليلة بعض إخوانه. فلما صلينا العتمة تأخرا في المسجد إلى إنَّ انصرف الناس.فخرجنا من أحد أبواب المسجد، فشدا على أنفسهما أثوابهما وتلثما. فرأيتهما وثبا من الأرض كهيئة الغرانيق الثقيلة تطير على وجه الأرض. ومازالا يعلوان في الهواء إلى أنَّ غابا عني، فانكسرت انكسارا عظيما ونالتني حسرة القصور عن أحوال الرجال، وتكاسلت عن القرآن، وبقيت مفكرا طول ليلتي. فلما كان وقت صلاة الصبح صلى معنا أبو مهدي مع صاحبه صلاة الصبح. ثم جاء وقعد عندي على عادته، فرآني منكسرا متكاسلا عن القرآن، فقال: مالك لا تقرأ فسكت. فقال: لعلك رأيتني البارحة فهملت عيناي بالدموع، فقلت له: رأيتكما وأريد أن أصحبكما إذا ذهبتما. فقال لي: يا بني إنَّ الفرخ إذا نبت رغبه لم يطر مع الطير حتى يكمل نبات ريشهقال. فلما كان ذات ليلة قال لي: اذهب إلى فلان في بلد تانوريت وهو بلد بني سمائل وقل له يأتيني لأصلي معه الصبح الآن، وبينهما مسيرة يومين، وقد قرب طلوع الفجرقال. قلت في نفسي: كيف يمكن هذا ثم تذكرت أحواله، فمشيت وتبعني ووادعني ورجع. فمشيت قليلا وأدركني شبه السنة، فما شعرت إلاّ وأنا أعاين مسجد تانوريت. فخرج إلي منه رجل فقال: بعثك إلي شيخ أبو مهدي فقلت له نعم: وامرني أن أعلمك أن تصلي معه بمسجده الآن صلاة الصبح. فقال لي: تقدمودار حول المسجد، وغاب عني، وانقلبت راجعا. فأصابني أيضاً شبه السنة، فإذا أنا على قرب من مسجد أبي مهدي. فدخلت المسجد، فوجدت أبا مهدي وصاحبه يتحدثان وقد صليا صلاة الصبح. فصليت وظننت أني قد لحقت بالشيخ فأتيته. فقال لي: يا بنيأرأيت بعض ما يرى الرجال فقلت له: يا سيدي، عسى أنَّ أصحبك في مسيرك إذ سرت طار الطائر الصغير قبل استكمال نبات ريشه مع الطائر الوافر الريش، فإنما يسير ميلين ويسقط في القفر، فيلتقطه الرعيان. وإنَّ جاء الرجال ليصلون إلى موضع لو طار الطائر إلى إنَّ يسقط ريشه وينبت آخر فطار حتى يسقط فينبت آخر، فطار حتى يسقط فينبت آخر، وما وصل موصل عباد الله الصالحين في طرفة عين.

أحزم من قرلى.
ويقال أيضاً: أحذر من قرلى؛ ويقال أيضاً: احزم أو أحذر من قرلى، إنَّ رأى خيرا تدلى، وإنَّ رأى شراً تولى أو تعلى.

الحزم تقدم، وكذا الحذر. والقرلى بكسر القاف والراء، وبعد اللام ألف مقصورة، ويحكى أيضاً في القاف التثليث، طائر شديد الحذر، ولا يرى إلاّ على وجه الماء على جانب يهوي بإحدى عينيه إلى الماء طعماً ويرفع الأخرى حذراً. فإنَّ رأى في الماء ما يصاد من السمك، أنقض عليه انقضاض السهم؛ وإنَّ رأى جارحا ذهب. ومن ثم: يقال: إنَّ رأى خيراً تدلى أي إلى الماء، وإنَّ رأى شرا أي ما يخافه تولى فراراً منه. وقيل: إنَّ قرلى في هذا المثل رجل من العرب كان لا يفوته طعام أحد، فحيثما كان الطعام في ناحية توجه إليه؛ غير إنّه إنَّ صادف في طريقه خصوما مثلا ترك ذلك الطريق ولم يمر به. ومن ثم قالوا: اطمع من قرلي،و المراد به هذا الرجل. قيل: ويمكن إنَّ يكون هذا الرجل شبه بهذا الطائر، وسمي باسمه.

حسبك من شر سماعه.
يقال: احسبني الشيء يحسبني إحسابا، فهو محسب، أي كفاني. قال الشاعر:

إذا ما رأى في الناس حسنا يفوقها ... وفيهن حسن لو تأملت محسب

وقال الأخر:

وتقفي وليد الحي إنَّ كان جائعا ... وتحسبه إنَّ كان ليس بجائع

وقالت الخنساء:

يكبون العشار لمن أتاهم ... إذا لم تحسب المائة الوليدا

و هذا الشيء حساب، أي كافٍ. قال تعالى: (عطاء حسابنا). وحسبك درهم، أي يكفيك. قال تعالى: (حسبك الله). وقال الشاعر:

إذا كانت الهيجاء واشتقت العصا ... فحسبك والضحك سيف مهند

أي يكفيك ويكفي الضحاك.
وقال امرؤ القيس:

فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وري

و هذا الشعر ينسبه الناس لامرئ القيس، وهو في ديوانه وقبله:

ألا إلاّ تكن ابل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي
وجاد لها الربيع بواقصاتٍ ... فآرام وجاد لها الولي
إذا مشت حوالبها أرنت ... كأن القوم صبحهم نعي
فتوسع أهلها أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى وشبع وري

و سبب قوله ذلك أنَّ بني النبهان، لمّا لم يقدروا أنَّ يفتكوا له إبله التي أخذتها جذيلة وأخذت منهم رواحله التي ركبوها في رد الإبل، استحيوا من ذلك فوهبوا له المعزى التي وصفها. وكان الأصمعي ينكر نسبة هذا الشعر لامرئ القيس ويقول: امرؤ القيس لا يقول مثل هذا، واحسبه للحطيئة. وسبب إنكاره قوله: وحسبك من غنى شبع وري، فإن هذا مناف لحال امرئ القيس ولمّا كان يقول في شعره من أنَّ مطلوبه الملك، لا ما دونه، كقوله:

ولو إنّما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

قلت: وأنت خبير بأنه، مع حالته هذه، لا بعد في أنَّ يقول لوجهين: أحدهما أنَّ يقوله استهزاء ببني نبهان، حيث أغير عليه في جوارهم، ثم ركبوا رواحله في رد إبله، فانتزعت منهم زيادة على ما ذهب من الإبل ، فوقعوا في هوان عظيم وذله وصغار. ثم لم ينتصروا وجعلوا يعطونه معزى عن الإبل العكر والرواحل النجب، فعظم أمر المعزى ضحكا منهم، وذلك هجاهم حيث يقول:

فدع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديثا ما حديث الرواحل
كأن دثار حلقت بلبونه ... عقاب تنوفى لا عقاب القواعل
وأعجبني مشي الخزقة خالدٍ ... كمشي أتان حلئت في المناهل
خالد هذا هو الذي مشى في ردها فانتزعت منه الرواحل.

الثاني إنَّ يريد ظاهره، وهو إنّها كافية، قائمة مقام الإبل الذاهبة شبعا وريا. ولا يعني إنَّ ذلك منيته وبغيته من الدنيا، وإنَّ ذلك كاف من يطلب العيش، ولا يعني نفسه.
وقال نصيب:

وقال رجال: حسبه من طلابها ... فقلت: كذبتم ليس لي دونها حسب

و قبل هذا البيت قوله:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إنَّ تمثيلنا ملك القلب
وقل: إنَّ ننل بالود منك محبة ... فلا مثل ما لاقيت في حبكم حب
وقل في تجنيها: لك الذنب إنّما ... عتابك من عاتبت فيما له عتب
فمن شاء رام الصرم أوقال ظالما ... لذي وده ذنب وليس له ذنب
خليلي من كعب ألما هيتما ... بزينب لا تفقدكما أبدا كعب
من اليوم زوارها فإن ركبنا ... غداة غدٍ عنها وعن أهلها نكب
وقولا لها: يا أم عثمان خلتي ... أسلم لنا في حبنا أنت أم حرب

وقال رجال: حسبه من طلابها " البيت " وكان جرير يقول: " وددت أني سبقت أبن السوداء إلى هذه الأبيات" يعني نصيبا.
وقال الأعرابي:

وحسبك من خمر يفوتك ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمر

و لهذا الشعر حطاية ظريفة عن بعض أصحاب الأصمعي قال: ما رأيت كأعرابي وقف علينا وسلم وقال: أيكم الأصمعي فقال له: هاأنا ذاقال: أنت الذي يزعم هؤلاء انك أعرفهم بالشعر قال: فمن هو اعلم مني قال: أنشدوني من شعر أهل الحضر حتى أريه من شعرنا، فأنشده شعراً قيل في مسلمة بن عبد الملك:

أمسلم أنت البحر إنَّ جاء واردٌ ... وليث إذا ما الحرب طار عقابها
وأنت كسيف الهندواني إنَّ غدت ... حوادث من حرب يعب عبابها
ولا خلقت أكرومة في امرئ له ... ولا غاية إلاّ إليك مآبها
كأنك ديدان عليها موكل ... بها وعلى كفيك يجري حسابها
إليك رحلنا العيس إذ لم نجد لها ... أخاثقةٍ يجرى لديه ثوابها

فتبسم الأعرابي وهز رأسه، فظننا إنّه استحسن الشعر، ثم قال: هذا شعر مهلهل النسج، خطؤه من صوابه: تشبهون الملك بالأسد، والأسد أبخر قبيح المنظر، وبالبحر، والبحر مر صعب، وبالسيف، وربما خان ونبا. هلا أنشدتموني كما قال صبي منا فقال له الأصمعي: ما قال فأنشد:

إذا سألت الورى عن كل مكرمةٍ ... لم يعز أكرمها إلاّ إلى الهول
فتى جواد أذاب المال نائله ... فالنيل يشكوا لديه كثرة النيل
والموت يكره إنَّ يلقى منيته ... في كره عند لف الخيل بالخيل
لو زاحم الشمس أبقى كاسفة ... أو زاحم الصم ألجاها إلى الميل
أمضى من النجم إنَّ نابته نائبةٌ ... وعند أعدائه أجرى من السيلِ
يقصر المجد عنه في مكارمه ... كما يقصر عن أفعاله قولي

قال اللراوي: فبهتنا والله بما رأينا. فتأنى قليلا ثم قال: ألا تنشدني يا أصمعي شعرا ترتاح إليه النفس فأنشدته قول عدي بن الرقاع:

وناعمةٍ تجلو بعود أراكةٍ ... مؤشرةٍ يسبي المعانق طيبها
كأن بها خمراً بماء غمامةٍ ... إذا ارتشفت بعد المنام غروبها
أراك إلى نجد تحن وإنما ... هوى كل نفسٍ حيث كان حبيبها
فتبسم الأعرابي وقال: هذا قريب من الأول. ألا أنشدتني كما قلت:
تعلقتها بكراً وعلقت حبها ... وقلبي من كل الورى فارغٌ بكرُ
إذا احتجبت لم يكفك البدر فقدها ... وتكفيك فقد البدر إن حجب البدرُ
وما الصبر عنها إن صبرت وجدته ... جميلاً ولا في مثلها يحسن الصبرُ
وحسبك من خمر يفوتك ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمرُ
ولو أنَّ جلد الذر لامس جلدها ... لكان للمس الذر في جلها أثرُ
ولو لم يكن للبدر ضداً جمالها ... وتفضله في حسنها لصفا البدرُ

قال: الراوي: فقال لنا الأصمعي: اكتبوا ما سمعتم ولو بأطراف المدى في رقاق الأكبادانتهى.
ويقال أيضاً: حسبك بكذا. قال أبو تمام:

نامت همومي عني حين قات لها: ... حسبي أبو دلفٍ حبي به وكفى

وقال العباس بن الأحنف:

إن كان يرضيكم عذابي وأن ... أموت بالهجران والكربِ
فالسمع والطاعة مني لكم ... حسبي بما ترضون لي حسبي

و الشر ضد الخير؛أنَّ الشر يكفيك منه سماعه وإن لم تعاينه إما على معنى أنَّ الشر من شناعته وقبحه يتبين بسماعه وإن لم تعانيه؛ أو أنه يحصل لك اتهام ما به من مجرد سماعه وإن لم تقدم عليه ولا انتسبت إليه؛ أو يكفي فيما انتسب إليك من الشر سماع الناس له وإن لم يعانوه. وهذا ما ذكر أبو عبيد أنَّ هذا المثل يضرب فيما يحذر من العار والعيب والمقالة السوء وإن كانت باطلا كقول الآخر:

قد فيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا

و إما على معنى الأمر أي: اكتف من الشر بسماعه ولا تعانيه والله أعلم.

والمثل لأم الربيع بن زياد العبسي وكان ابنها الربيع أخذ من قيس بن زهير درعا فعرض قيس لأم الربيع وهي على راحلتها في طريق فأراد أن يقبضها في الدرع فقالت: أين عزب عنك عقلك يا قيس أترى بني زياد مصالحيك وقد ذهبت بأمهم يمينا وشمالا وقال الناس ما قالوا إنَّ حسبك من شر سماعه. فذهبت كلمتها مثلا.
وقالت عاتكة بنت عبد المطلب من شعراء الحماسة:

سائل بنا في قومنا ... وليكف من شر سماعه
قيساً وما جمعوا لنا ... في مجمع باقٍ شناعه

و بعده:

فيه السنور والقنا ... والكبش ملتمع قناعه
بعكاظ يعيش الناظر ... ين إذا هم لمحوا شعاعه
فيه قتلنا مالكاً ... قسراً وأسلمه رعاعه
ومجندلاً غادرنه ... بالقاع تنهشه ضباعه

تصف بهذا الكلام حرب الفجار بين قريش بعكاظ. وأرادت بقولها: وليكف من شر سماعه: أنا أوقعنا بهم من الشر ما ظاهر غني عن السؤال عنه والأخبار به.

تحسبها حمقاء وهي باخسٌ.

تقول: حسبت زيدا عالما بالكسر أحسبه وأحسبه محسبة ومحسبه وحسباناً بالكسر إذا ظننته؛ والحمقاء مؤنث الأحمق؛ والباخس من البخس وهو النقص والظلم. يقال: بخسه حقه يبخسه بخسا فهو باخس وهي باخسة وباخس أيضاً. وورد به المثل وهو جائز كما قالوا: ناقة بازل ومغذ في السير وحائل. ومن شاء أن يؤنث في المثل أنث وهو الأصل.

و أصل هذا المثل أنَّ رجلا خلط بماله مال امرأة يظنها حمقاء فطمع فيها. فلما تقاسما أخذت جميع حقها ثم لم ترض بذلك فشكته حتى افتدى منها من المال بما أحبت. ثم إنَّ الناس ظنوا إنّه يغبنها فلاموه وقالوا له: كيف تخدع امرأة فقال عند ذلك: تحسبها حمقاء وهي باخس أي ظالمة فذهبت مثلا يضرب في الرجل يتباله أو يطيل الصمت حتى يظن به التغفل وهو ذو دهاء ومكر. ونحوه قولهم: مخرنبق لينباع كما يأتي:

أحس وذق
الحسو الشربي. تقول: حسا الرجل المرق يحسوه إذا شربه شيئا بعد شيء. وكذا تحساه. وحسا الطائر الماء يحسوه. قيل: ولا يقال شربه؛ والذوق معروف. والمثل يقال لمن تعرض للمكروه فوقع فيه ومعناه ظاهر.

الحسن أحمر.
الحسن: الجمال وهو معروف؛ والحمرة معروفة. ويريد بهذا المثل أنَّ من أراد الحسن صبر على أشياء يكرهها.

محسنةٌ فهيلي
الإحسان في الفعل ونحوه ضد الإساءة؛ والهيل التفريغ والصب. يقال: هال عليه التراب يهيله هيلا وأهاله إهالة إذا صبه. وكل شيء صبه من غير كيل فقد هاله.

قيل: وأصل المثل أنَّ الهائلة بنت منقذ من بني عمرو بن سعد بن زيد مناة أم جساس بن مرة وهي أخت البسوس بنت منقذ التي كانت الحرب عليها بين وائل أربعين سنة ورد عليها ضيف ومعه جراب فيه دقيق. فقامت الهائلة وأخذت وعاء عندها كان فيه دقيق لتأخذ من وعاء الضيف دقيقا. فجاء الضيف فلما بصرت به جعلت تأخذ من وعائها فتهيل في وعاء الضيف. فقال: ما تصنعين فقالت: أهيل من هذا في هذا. فقال: محسنة فهيليفسميت الهائلة بذلك وذهب قوله مثلا يضرب في استقامة الأمر قاله أبو عبيد. وقال غيره: يضرب للرجل يسيء في فعل فعله فيؤمر بذلك على سبيل الهزء به وهذا أظهر وأنسب بالأصل المذكور. نعميمكن أن ينقل إلى الجد حتى يقال للرجل يحسن حقيقة على وجه الاستزادة من فعله.

أحسن من طاووس.
الحسن مر؛ والطاووس على وزن قابوس طائر معروف بديع الشكل رائق الحسن وفي طبعه مع ذلك الزهو والخيلاء والإعجاب بريشه. وكان يقال: إنَّ الطاووس في الطير كالفرس في الدواب عزا وحسنا. وقال بعض الرجاز في وصفه:

سبحان من مِن خلقه الطاووس ... طير على أشكاله رئيسُ
كأنه في نفسه عروس ... في الريش منه ركبت فلوسُ
تشرق في داراتها شموس ... في الرأس منه شجر مغروسُ
كأنه بنفسج يميس ... أو هو زهر جرم ينوسُ

أحشك وتروثني
الحشيش ما يبس من الكلأ؛ وحششته أنا: قطعته؛ وحششت الفرس: ألقيت إليه الحشيش؛ والروث معروف. يقال: راثت الدابة تروث روثا. وهذا المثل يضرب لمن أحسنت إليه فأساء إليك. فانه قد صار بمنزلة الفرس إذا ألقيت إليه الحشيش فلطخك بروثه. وهذا ظاهر.

أحشفاً وسوء كيلةٍ
الحشف بفتحتين أردأ التمر. قال امرؤ القيس:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي

و كليلة بكسر الكاف الهيئة من الكيل. يقال: كال له الطعام، وكاله إياه كيلا؛ وكال كيلة واحدة بالفتح وكيلة حسنة أو قبيحة بالكسر ومعنى المثل: أتجمع على أنَّ تعطيني حشفا وتكيل لي سيئة ويضرب للأمر يكره من جهتين. وكان أصله إنَّ رجلاص اشترى تمرا من عند آخر فأتاه بتمر رديء، ثم أساء له الكيل مع ذلك، فقال له ذلك.
احطط عن راحلتك فقد بلغت


الحفائظ تحلل الأحقاد.
الحفائظ جمع حفيظة، وهو الغضب والحمية، والأحقاد جمع حقود والمعنى انك إذا رأيت حميك وقريب يظلم، وفي قلبك عليه ضغن، دعتك الحمية إلى نصره وزال عن قلبك ما فيه من بغضه، كما قال الشاعر:

أخوك الذي لا تملك الحس نفسه ... وترفض عند المحفظات الكتائف

و سيأتي زيادة في هذا المعنى.

الحق أبلج، والباطل لجلج.
الحق خلاف الباطل؛ والأبلج الواضح، ويقال الصبح بالفتح يبلج بالضم بلوجاء، وبلجت الشيء فتحته وأوضحته؛ وصبح أبلج: مشرق ومضيء. قال الراجز: حتى بدت أعناق صبح أبلجا.
وكذا الحق أبلج أي واضح ظاهر لا التباس به؛ واللجلجة والتلجيج: التردد في الكلام. ويقال: تلجلجت اللقمة في حلقه، أي ترددت ولم تنسغ. قال زهير:

تلجلج مضغة فيها أنيض ... أصلت فهي تحت الكشح داء

و المعنى إنَّ الباطل يردد من غير إنَّ ينفذ، وهو ظاهر.

تحقره وينتأ
الحقر: الإذلال تقول: حقرت الرجل حقرا كضربته ضربا وحقرته تحقيرا، واحتقرته واستحقرته؛ وتقول: حقر الرجل كجلس وحقر يحقر ككرم إذا ذل والنتوء: الارتفاع، وتقول: نتأ الشيء ينتأ وتنوءاً إذا انتفخ وارتفع وقد تقول: نتأ ينتو، بغير همز. ومعنى المثل انك تحقره وتزدريه لسكونه، وهو يرتفع ويخادعك. وهذا مثل المثل السابق: تحسبها حمقاء وهي باخس.

حقك أخذت.
تقدم في كلام الضب مع الأرنب والثعلب وهو ظاهر المعنى.

تحككت العقرب بالأفعى.

الحك معروف، حككت الشيء، وحككن الشيء بالشيء، وتحاك الشيئان: حك كل منهما صاحبه، واحتككت بهذا الشيء: حككت نفسي عليه، وفلان يتحكك بي: يتعرض لشري؛ والعقرب معروف، يذكر ويؤنث، والأنثى منه عقرباء بالمد غير مصروف وعقربة والذكر عقربان. قال الشاعر:

كأن مرعى أمكم إذ غدت ... عقربة يكومها عقربان

و مرعى اسم الأم ويكومها ينزو عليها. والأفعى حية خبيثة. قال الراجز:

كأن صوت شخبها المرفض ... كشيش أفعى أجمعت لعض

و الذكر افعوان بضم الهمزة والعين قال الراجز:

قد سالم الحيات منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما

و مغنى تحكك العقرب بالأفعى لصقت بها وحلقت حواليها أو تعرضت لشرها. يضرب لمن يصارع أو ينازع أو يخاصم من هو أقوى منه أو يتشبه بغيره ويحكي فعله ولا يقوى قوته.

احتك حكم الصبي على أهله
الحكم: القضاء، ويقال: حكمت عليه بكذا حكما. وتقول: حكمته تحكيما إذا أذنت له أنَّ يحكم، فتحتم هو واحتكم. ولما كان الصبي مقبولا ما حكم به على أهله، ومسموعا ما طلب منهم، ومغتفرا ما تحامل به عليهم، ضرب الناس بحمه المثل في الناس كل من تسمع مقالته، ويتحمل انبساطه عليك، وتغفر دالته. كان أبو سفيان إذا نزل به جار قال له: انك قد اخترتني جاراً، واخترت داري داراً، فجناية يدك على دونك، فإن جنت يد فأحتكم علي حكم الصبي على أهله قال الشاعر:

ولا تحكما حكم الصبي فأنه ... كثير على ظهر الطريق مجاهله

و من كلام أبي بكر بن القبرطانة يحق لي أنَّ أذهب شططا، وأتكلم منبسطا، وأبين غرضي كله ومذهبي، وأحتكم على مكارمه تحكم الصبي، وأبلغ بك كل أمل وأرب، وأملأ دلوي في رجائك إلى عقد الكرب. وأشار بهذا الأخير إلى قول القائل:

من يساجلني ماجداً ... يملا الدلو إلى عقد الكرب

أحكى من قردٍ.
يقال: حكيت الحديث وحكوته بالياء والواو ذكرته وحكيته عن فلان: نقلته عنه، وحاكيت قلانا وفعلت مثل فعله؛ والقرد بكسر القاف وسكون الراء معروف جمعه أقراد وقرود وقرد. وهذا الحيوان مع قبحه في الغاية من الإلهام والحذق بمحاكاة غيره وبالحرف وغيرها: فهو يعلم الخياطة والصياغة وغير ذلك؛ ويعلم حفظ الأمتعة وحراسة الحوانيت ونحوها؛ ويحاكي الإنسان في جميع أفعاله ما خلا النطق كما قال أبو الطيب:

يريدون شأوي في كلام وإنّما ... يحاكي الفتى في ما خلا المنطق القرد

حلأت حالئه عن كوعها.
يقال: خلا الجلد، بالفتح يحلؤه إذا قشرته أو إذا نزع تحليئه، والتحليء ما أفسده السكين من الجلد أو ما يبقى من الصفاق على باطنه عند السلخ؛ والكوع: رأس الزند الذي يلي الإبهام؛ والكرسوع: رأس الزند الذي يلي الخنصر.
ومعنى المثل أنَّ المرأة إذا حلأت الأديم، فإنَّ رفقت سلمت وإنَّ خرقت قطعت بالشفرة كوعها. فيضرب غي حذر الإنسان على نفسه.

أحلبت أم أجلبت
يقال: أحلب الرجل بالحاء المهملة إذا ولدت إبله إناثا لأنها تحلب، وأجلب بالجيم إذا ولدت ابله ذكوراً لأن أولادها تجلب إلى السوق فتباع.

حلبت صرام.
الحلب بالتسكين استخراج ما في الضرع من اللبن حلب الشاة بالفتح يحلبها حلبا؛ وصرام على مثال غراب آخر اللبن بعد التغريز يحتاج إليه الرجل فيحلبه ضرورة. فضرب ذلك مثلا لاستخراج آخر ما في النفس، فإذا قيل: حلبت صرام، فكأنه قيل: بلغ العر آخره. قال الشاعر:

ألا أبلغ بني سعد رسولا ... ومولاهم فقد حلبت صرام

و الصرام أيضاً اسم من أسماء الحرب والداهية.

لتحلبنها مصرا
الحلب تقدم؛ والمصر بالفتح والسكون حلب جميع ما في الضرع حتى لا يبقى شيء. والتمضر حلب بقايا اللبن. وشاة أو الناقة مصور بطيئة خروج اللبن. وهذا المثل يضرب في توعد العدو، وكأنك تقول له: انك لا تنال مني شيئاً، وإنّما أنت بمنزله من يحلب الشاه الممصورة فوضعت المصدر موضع المفعول أي: لتحلبنها ممصورة لا لبن فيها كما يقال: ضرب الأمير.

حلف له بالمحرجات.
الحلف معروف يقال: حلف بالفتح يحلف حلفا بالكسر ككذب؛ والمحرجات: الأيمان الموقعة في الحرج وهو الإثم والضيق. ويقال: المحرجات الثلاث وهي الطلاق والعتاق والمشي إلى مكةز وقيل: هي الطلاق ثلاثا.

حلم الأديم
الأديم الجلد. ويقال: حلم الأديم بالكسر يحلم إذا فسد ووقع فيه دود. ثم يضرب للأمر يتناهى فساده. قال الوليد بن عقبة يخاطب معاوية رحمه الله تعالى:

فإنك والكتاب إلي علي ... كدباغة وقد حلم الأديم

و سيأتي تتمة هذا الشعر.

وأول من قال هذا المثل خالد بن معاوية بن سنان السعدي، وذلك إنه استب، وهو بنو تميم، عند النعمان بن المنذر، فقال خالد يرتجز فيهم:

دوما بني غنم ولن تدوما ... لنا ولا سيدكم مرحوم
غنا سراة وسطنا قروم ... قد حملت أحسابنا تدوم

في الحرب حتى حلم الأديم

فذهب قوله حلم الأديم مثلاً. وقال لهم أيضاً:

إنَّ لنا يا أهل غنم علما ... أفواه أفراس أكلن هشما
استاه أم يغتدين لحما ... تركتم خير قويس سهما

فذهب هذا أيضاً مثلا وسيأتي.

ثم أنَّ شاعر غنم رجز بخالد أيضاً ومع خالد أخ له. فاستعدوا عليه النعمان فقال خالد: أبيت العنإذا أركب أنا وأخي ناقة ثم نتعرض لهم فإن استطاعوا فليعقروا بنافأعجب النعمان ذلك وقال: قد أعطوكم بحقكم. قالوا: قد رضينا. فقال النعمان: أما والله لتجدنه ألوى بعيد المستمرفأرسلها مثلا وسيأتي.

ثم إنَّ خالدا وأخاه أكتفلا ناقتهما بكفل وتأخر أحدهما إلى العجز وجعل وجهه مما يلي الذنب وتقدم الآخر إلى الكتف وجعل كل واحد منهما يذبب بسيفه فلم يخلصوا إلى أن يعقروا بهما.

أحلم من فرخ الطائر.
الحلم بالكسر الأنات والعقل. يقال: حلم بالضم يحلم حلما فهو حليم وهم حلماء وأحلام؛ وجمع الحلم حلوم وأحلام؛ وافرخ معروف جمعه أفراخ وفراخ. ونسب الحلم إلى فرخ الطائر لأنّه يخرج من البيضة على قنة الجبل ثم لا يتحرك حتى يتم نبات ريشه؛ ولو تحرك سقط. وتقدم في قولهم: أحزم من عقاب ومن فرخ العقاب وهو المقصود هنا.

الحمد مغنم والمذمة مغرم.
هذا المثل ظاهر المعنى إفرادا وتركيبا يضرب عند اكتساب المحامد واجتناب المذام. ومثله قول مالك بن جرير: وإنَّ قليل الذم غير قليل وقبله:

أجود على العافي وأحذر ذمه ... إذا ضن بالمعروف كل بخيلِ

و مثله قول عبيد:

الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت في زادِ

و قول الحماسي:

أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فلتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي
أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحداث من بعدي
وكيف يسيغ المرء زادا وجاره ... خفيف المعى بادي الخصاصة والجهد
وللموت خيرٌ من زيادة باخل ... يلاحظ أطراف الأكل على عمدِ
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما في إلاّ يلك من شيمة العبدِ

و قول حاتم:

أكف يدي عن أن ينال التماسها ... أكف صاحبي حين حاجاتنا معا
أبيت هضيم الكشح مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذم أن أتضلعا
وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
وإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

و قول عمرو بن الأهتم:

وكل كريم يتقي الذم بالقرى ... وللخير بين الصالحين طريقُ
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيقُ

و قول الآخر:

ألا يكن عظمي طويلاً فإنني ... له بالخصال الصالحات وصولُ
ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم تزن حسن الجسوم عقولُ
إذا قد رأينا من فروع طويلة ... تموت إذا لم يحيهن أصولُ
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وإما وجهه فجميلُ

و الشعر في هذا المعنى لا يحصر.

أحمق ما يتوجه.
الحمق قلة العقل. حمق الرجل بالضم وحماقة وانحمق واستحمق فهو أحمق وهم حماق وحمق بضمتين وحمقى وحماقى؛ وتوجه: أقبل وولى وكبر. ويقال: أحمق ما يتوجه أي ما يحسن أن يأتي الغائط لحمقه.

أحمق من جهبر.
الحمق مر؛ والجهبر أنثى الدب وهو دويبة معروفة يصطاد بها يزعمون أنها تترك ولدها وترضع ولد الضبع فوصفت بالحمق.
واعلم أنهم بنوا صيغة التفضيل من حمق وهو من الخارج عن القياس: فإنَّ نحو هذه المادة لا يبنى منها قياس كما قرر في محله.

أحمق من جهيزة.
جهيزة بالجيم أوله والزاي آخره على وزن صحيفة هي أم شبيب بن زيد الشيباني الخارجي. كان أبوه يزيد اشتراها من السبي فقال لها: أسلميفأبت فضربها فلم تسلم فواقعها فحملت فلما أحست بالولد تحرك في بطنها قالت: إنَّ في بطني شيئا ينفر. فقال الناس حينئذ: أحمق من جهيزة وضرب بها المثل في الحمق.
وقيل إنَّ جهيزة هي عرس الذئب تدع ولدها وترضع ولد الضبع. وفيها أو في مثلها ورد قول الشاعر:

كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال على قصد

و جهيزة أيضاً امرأة حمقاء. واجمع قوم يخطبون في الصلح بين حيين في دم لكي يرضوا بالدية. فبينما هم كذلك قالت جهيزة: ظفر بالقاتل ولي المقتول فقتله فقالوا: قطعت جهيزة قول كل خطيب

أحمق من أبي غبشان.
أبو غبشان بفتح الغين المعجمة وتضم أيضاً وبسكون الباء الموحدة رجل من خزاعة كان يلي سدانة الكعبة قبل قريش. فاجتمع هو وقصي في شرب بالطائف فأسكره قصي ثم اشترى منه المفاتيح بزق خمر وأشهد عليه. ودفعها قصي لابنه عبد الدار وأرسله في الحين إلى مكة. ثم أفاق أبو غباشة من سكره وهو أندم من الكسعي فضرب به المثل في الحمق وفي الندم وخسارة الصفقة كما يأتي.

أحمق من حبارى.
الحبارى بضم الحاء وبألف مقصورة للتأنيث طائر معروف يقع على الذكر والأنثى ويوصف بالحمق.
وفي كلام عثمان رضي الله عنه: كل شيء يحفظ ولده حتى الحبارىوإنّما خصها بالذكر لأنها مشهورة بالحمق ومع ذلك تحب ولدها وتطعمه وتعلمه الطيران كسائر الحيوانات.

أحمق من دغة.
الحمق مر ودغة بدال مهملة وغين معجمة مخففة على مثال ثبة وكرة والأصل دغي أو دغو. وهي امرأة من بني عجل وهي مارية بنت مغنج ومغنج هو ربيعة بن عجل. ودغة حمقاء مشتهرة بذلك ولذلك ضرب بها المثل.

وكان من حمقها إنّها تزوجت في بني العنبر بن عمرو بن تميم. فلما أخذها الطلق ظنت إنّها تريد الخلاء فانطلقت إلى بعض الغيطان تتبرز فولدت واستهل الولد ورجعت إلى بيتها تقدر إنّها أحدثت. فقالت لضرتها: يا هنتاه هل يفتح الجعرافة قالت: نعم ويدعو أباه فمضت ضرتها وأخذت الولد. فبنو العبير يدعون بذلك بني الجعراء وصار ذلك لقبا لهم.

ونظرت يوما إلى زوجها يقبل بنته ويقول: بأبي درادرك والدرادرك مغارز الأسنان. فذهبت هي ودقت أسنانها بفهر حتى بدت درادراها فجاءت زوجها وقالت له: كيف ترى درادري فقال لها: أعييتني بأشر فكيف بدردر وهو مثل سيأتي. وقال أبو نواس:

وما لبكر بن وائل عصم ... إلاّ بحمقائها وكاذبها

وقد خطأ أبو العباس المبرد أبا نواس في هذا وقال إنّه أراد بالحمقاء هبنقة القيسي ولا يقال للرجل حمقاء. ورد عليه بانه أراد دغة العجلية وعجل في بكر بن وائل.

قال شمس الدين بن خلكان رحمه الله تعالى: وقد رأيت المبرد في المنام وأنا بالاسكندرية وفي سنة ست وثلاثين وستمائة وعندي الله تعالى ذاك الكامل للمبرد وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربة. فرأيت في العقد في ترجمة ما غلط فيه على الشعراء وذكر أبياتا نسبوا أصحابها إلى الغلط ولم يغلطوا وإنّما وقع الغلط ممن غلطهم منها ما ذكر المبرد في الروضة من تغليط أبي نواس في البيت السابق والغلط إنّما هو من المبرد كما قررنا. قال: فلما كان بعد ليال قلائل من وقوفي على هذه الفائدة رأيت كأني بمدينة حلب في مدرسة القاضي بهاء الدين وكأننا صلينا الظهر جماعة. فلما فرغنا أردت الخروج فرأيت في أخريات الموضع رجلا واقفا يصلي فقال لي بعض الحاضرين: هذا أبو العباس المبرد. فجئت إليه وقعدت إلى جانبه انتظر فراغه. فلما فرغ سلمت عليه فقلت له: أنا في هذا الزمان أطالع كتابك الكامل. فقال لي: رأيت كتابي الروضة فقلت: لا. وما كنت رأيتها قبل ذلك. فقال لي: قم حتى أريك إياه فقمت وصعد بي إلى بيته. فدخلنا ورأيت فيه كتب كثيرة. فقعد يفتش عليه وقعدت أنا ناحية. فأخرج مجلدا ودفعه لي ففتحته وتركته في حجري فقلت له: قد أخذوا عليك. فقال: أي شيء أخذوا فقلت له: انك نسبت أبا نواس إلى الغلط في بيت كذا وأنشدته إياه. فقال: نعم غلط في هذا. فقلت إنّه لم يغلط بل هو على صواب ونسبوك أنت إلى الغلط في تغليطه. فقال: وكيف هذا فعرفته ما قاله صاحب العقد. فعض على رأس سبابته وبقي ساعة ينظر إلي وهو في صورة خجلان حتى استيقظت من منامي وهو على تلك الحال. انتهى ملخصا.

أحمق من رجلة.
الرجلة بكسر الراء وسكون الجيم: ضرب من النبات معروف ينبت في حميل السيل فيقتلعه فيوصف لذلك بالحمق. ويقال له بقلة الحمقاء والبقلة اللينة والبقلة المباركة. وقيل إنَّ البقلة المباركة هي الهندباء. وقولهم بقلة الحمقاء أضيف منه الموصوف إلى الصفة في الظاهر كقولهم: مسجد الجامع وصلاة الأولى.

أحمق من رخمة.
الرخمة بفتح الراء والخاء المعجمة طائر معروف جمعه رخم ويقال له الانوق كما مر. ومن تم يقال لها ذات الاسمين. وهي تتمنع في قلل الجبال كما تقدم وتتحرز ومع ذلك تحمق. قال الكميت:

وذات أسمين والألوان شتى ... تحمق وهي كيسة الحويل

و ذكر الروافض عند الشعبي فقال: لو كانوا من الدواب لكانوا حمرا ومن الطير لكانوا رخما. والرخمة من لئام الطير ولئام الطير فيما يزعمون ثلاثة: الرخمة والغراب والبومة.

أحمق من صاحب ضأن ثمانين.
الضأن بسكون الهمزة وفتحها جمع ضائن مثل ركب لراكب وحرس لحارس والضائن خلاف الماعز من الغنم والأنثى ضائنة. ويقال: أضأن الرجل كثرت عند الضأن وثمانون عقد معلوم من العدد وصاحب ضأن ثمانين قالوا هو رجل بشر كسرى فقال له كسرى: سل مني ما شئت فقال: أسألك ضأنا ثمانين فقال: أحمق من صاحب ضأن ثمانين. وقيل إنّه رجل حكمه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أيما أحب إليك: ثمانون من الضأن أو أدعو الله تعالى أن يجمعك معي في الجنة. فقال: بل ثمانون من الضأن. فقال صلى الله عليه وسلم : أعطوه إياه ثم قال صلى الله عليه وسلم :إنَّ صاحبة موسى كانت أعقل منك. وذلك إنَّ عجوزا دلته على عظام يوسف عليه السلام فقال لها موسى عليه السلام: أيما احب إليك: أسأل الله أن تكوني معي في الجنة أو مائة من الغنم فقالت: الجنة.

ويروى أيضاً إنَّ رجلا وقف على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم حنين فقال: إنَّ لي عندك موعدا يا رسول الله قال: صدقت فاحتكم ما شئت قال: إني أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها. فقال صلى الله عليه وسلم : هي لك وقد احتكمت يسيرا. ولصاحبة موسى عليه السلام التي دلته على عظام يوسف عليه السلام كانت أحزم منك حين حكمها موسى فقالت: حكمي أن تردني شابة وأدخل مع الجنة.

وفي هذا الرجل يقال: أقنع من صاحب الثمانين وراعيها كما سيأتي.

أحمق من ضبع.
الضبع على مثال سبع معروف يقع على الذر والأنثى وهو مؤنث اللفظ. والذكر بخصوصه ضبعان بالكسر والأنثى ضبعانة ولا يقال ضبعة. وقيل يقال. ويقال للذكر منه أيضاً ذريح بكسر الذال المعجمة.

والضبع توصف بالحمق. ومن حمقها فيما يزعمون أن الصائد إذا أراد أن يصيدها رمى بحجر في وجارها فتحسبه شيئاً فتخرج إليه. وإنّها أيضاً يقال لها وهي في الوجار: خامري أم عامر أي أسترى كما سيأتي. فتبقى حتى يدخل إليها ويقيدها برجلها ويخرجها. ويقال لها أيضاً وهي في الوجار: اطرحي أم طريف خامري أم عامر أبشري: بجراد عظلى وشاة هزلي فتبقى حتى تقبض. ومن الناس من يرى إنَّ هذه من خرافات العرب فقط. وأهل زمانا أيضاً يزعمون إنَّ الصيادين إذا اجتمعوا حول وجاره وجعل بعضها يقول: ما هي هما وما هنا شيء فتتلبث هي حتى تقبض وإنّهم أيضاً قد يرونها فيعظمونها ويهولون أمرها ويقولون: ما هذا السبع وما هذه الداهية ونحو ذلك. فتبقى تنتفخ وتتعظم في نفسها ولا تفر حتى يقبضوها.

ومن شهرة حمقها على سائر الدواب يقول العرب يقال المثال الآخر في الشيء يدعى وضوحه جدا: ما يخفى هذا الأمر على الضبع.

أحمق من ناطح الصخرة.
النطح دفع الشيء بالقرون والصخرة واحد الصخور المعروفة وناطح الصخرة هو الوعل والوعل هو التيس الجبلي كما مر جمعه أوعال ووعول. قال امرؤ القيس:

تلاعب أولاد الوعول رباعها ... دوين السماء في رؤوس المجادل

وقال أمية بن أبي الصلت:

كل حي وإن تطاول دهرا ... آئل أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا

يحكى إنَّ أمية لمّا احتضر غشي عليه ثم أفاق فقال: لبيكما لبيكما أنا إذا لديكما: لا عشيرتي تحميني ولا مالي يفديني ثم غشي عليه. فلما أفاق قال: كل حي ...... البيتين ففاظت نفسه. وهما من شعره الحكيم.

ويروى إنَّ عمرو بن العاصي تمثل بهما. وكان لمّا حضرته الوفاة قال له ابنه: يا أبتاهانك كنت تقول: يا ليتني ألقى رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت به حتى يصف لي ما يجد وأنت ذلك الرجل: فصف لي الموتفقال: يا بني كأن السماء قد انطبقت على الأرض وكأني بينهما أتنفس من سم إبرة وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي. ثم أنشأ يقول: ليتني كنت......البيت. ومثل هذا عن عبد الملك بن مروان لمّا احتضر وكان في قصره مشرفا على الناس. فنظر فرأى بعض الغسالين يغسل الثياب فقال: ليتني كنت نثل هذا الغسال أكتسب قوتي يوم بيوم ولم أكن وليت الخلافة ثم تمثل بالبيتين السابقين فمات.

ويحكى إنّه لمّا بلغت قصته هذه بعض أهل زمانه قال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يعني الرؤساء يتمنون ما نحن فيه ولم يجعلنا نتمنى ما هم فيه.
وقالوا في الوعل ناطح الصخرة لقول الأعشى:

كناطح صخرة يوما ليقلعها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

و قول الآخر:

فرشني لا أكونن ومدحتني ... كناطح يوما صخرة بعسيل

أحمق من نعامة.
النعامة معروف وتقدم ما فيه. والنعامة توصف بالحمق وذلك إنّها تخرج طلبا للطعم وتدع بيضها. فمتى وجدت بيض نعامة أخرى حضنتها ونسيت بيضها. وفي ذلك يقول أبن هرمة:

وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زنداً شحاحا
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملحقة بيض أخرى جناحا

و من حمقها إنَّ الصائد إذا أدركها أدخلت رأسها في كثيب رمل تقدر أنها اختفت عنه بذلك وهي بادية له. ومع ذلك فكان لها في بيضها أمر عجيب، وذلك إنّها تبيضها زوحا وتضعها فتقسمها قسمين: فقسما تحضنه وقسما تتركه يكون غذاء لمّا يكون من الأفراخ، على ترتيب في ذلك ووضع عجيب. فسبحان القادر على ما يشاء والملهم كل حي منافعه.
وأما قول علقمة:

حتى تلافى وقرن مرتفع ... أدحي عريسين فيه البيض مركوم

فقد قيل إنّه غلط لأن بيض النعام لا يكون مركوما، أي بعضه على بعض، كما قلنا.

أحمق من هبنقة.
ويقال أيضا أحمق من ذي الودعات؛ وهبنقة بالفتحات مع تشديد النون. هو يزيد بن ثروان القيسي. ويقال له ذو الودعات ولقب بذلك لأنه كان يتقلد الودع، والودع بفتحتين خرز أبيض يستخرج من البحر، الواحد ودعة والجمع ودع وتسكن الدال أيضاً وودعات.
وقال الشاعر في المفرد:

أسن من جلفزيزي عوزم خلقٍ ... والحلم حلم صبي يمرس الودعه

و الجلفزيزي العجوز والناقة الهرمة؛ والعوزم العجوز والناقة المسنة فيها بقية. ومعنى يمرس الودعة: يمصها. ويقول إنه كبير الجسم، صغير العقل. وقال: الآخر في الجمع، مسكنا ومحركا:

إنَّ الرواة بلا فهم لمّا حفظوا ... مثل الجمال عليها يحمل الودع:
لا الودع ينفعه حمل الجمال له ... ولا الجمال بحمل الودع تنتفع

قيل: الودع أشتق له من الودع وهو الترك، لمّا قالوا من البحر يتركه، وذلك إنّه يقذفه حيوانا فيموت ويصلب صلابة الحجر، ويعلق للعين. فكان هبنقة أتخذ قلادة من ودع وعظام خزف يجعلها في عنقه، وكان طويل اللحية. فقيل له:لم تعلق هذا فقال: لئلا أضل. ثم إنَّ أخا له سرقها ذات ليلة وتقلدها. فلما صبح هبنقة ورآها في عنق أخيه فقال له: يا أخي، أنت أنا، فمن أنا فضرب به المثل في الحمق.

وقد حكيت عنه أخبار كثيرة في الحمق: منها أنه أشترى له أخوة بقرة بأربع أعنز. فلما ركبها وأعجبه عدوها، التفت إلى أخيه فقال له: زدهم عنزاًفضرب به مثلا للمعطي بعد وجوب البيع. ثم إنّه سار بالبقرة حتى مر بأرنب تحت شجرة، ففزع منها، وركض البقرة حتى تجاوزها فقال:

الله نجاني ونجى البقرة ... من جاحظ العينين تحت الشجرة

ومنها إنّه مان إذا رعى الإبل رد السمان منها إلى المرعى، ونحى المهازيل وقال: لا اصلح ما افسد اللهومنها إنّه اختصم إليه بنو راسب والطفاوة في غلام تنازعه الفريقان، فقال : اذهبوا فاطرحوه في النهر: فإنَّ طفا فوق الماء فهو للطفاوة، وإنَّ رسب فيه فهو لبني راسب. وهذه أيضاً تحكى عن غير هبنقة، كما سيأتي، والله اعلم. ومنها إنّه ضل له بعير فقال: من جاء به فله بعيران. فقيل له: أتجعل في بعير بعيرين فقال انكم لا تعرفون حلاوة الوجدان وقال اليزيدي:

عش بجد ولا يضرنك نوك: ... إنّما عيش من ترى بالجدود
رب ذي إربة مقل من المال ... وذي عنجهية مجدود
عش بجد وكن هبنقة القيسي ... أو مثل شيبة بن الوليد

و سبب قول اليزيدي هذا الشعر إنّه تناظر، هو والكسائي، في مجلس المهدي، وكان شيبة أبن الوليد حاضرا فتعصب للكسائي وتحامل على اليزيدي فهجاه.

يحمل شن ويفدي لكيز.
الحمل معروف، تقول: حملت الشيء أحمله حملا كضربته أضربه ضربا؛ وشن اسم رجل وهو شن بن أفصى بن عبد القيس بن جديلة؛ وتقول فديت الرجل تفديه إذا قلت له: جعلت فداءك. قال امرؤ القيس:

فيا رب مكروب كررت وراءه ... وعانٍ فككت الغل عنه ففداني

و العرب تقول في التفدية: فدتك نفسي، وأبي وأمي، وطارفي وتالدي. وتقول: فديت الرجل ثلاثيا، وفاديته إذا فككته؛ ولكيز بالزاي، على مثل زبير هو أبن أفصى، أخو شن المذكور. وكان شن وأخو لكيز مع أمهما ليلى بنت قرآن في سفره، فنزلا بموضع يقال له ذو طوى. فلما أرادت الرحيل فدت لكيز، ثم دعت شناً ليحملها. فحملها وهو غضبان حتى إذا كانا بالثنية رمى بها عن بعيرها وقال: يحمل شن ويفدى لكيزفذهبت ويضرب في وضع الشيء غير موضعه. ثم فقط عليك بجعرات أمك يا لكيز.
ومثل هذا المثل، المثل الآتي: هيل خير حالبيك تنطحين، وقول الشاعر:

وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

كما مر. وكل ذلك يضرب في الخطأ في مكافئة المحسن بالإساءة والمسيء بالاحسان.

الحمى أضرعتني إليك
الحمي مرض معروف. يقال: حم الرجل بضم الأول وأحمته الله، فهو محموم؛ والاضراع: الإذلال. يقال: ضرع إليه بالفتح يضرع ضراعة: ذل وخضع، وأضرعة الغير. وهذا المثل يضرب عند الذل للحاجة.

قال: أبو علي القالي: إنّما قيل هذا لأن صاب الحاجة تأخذه رعشة، من الحرص على حاجته. ويقول: فهذا الذي في من القل هو الذي أضرعني؛ والقل الرعدة. انتهى. وقوله: القل الرعدة، يعني بكسر القاف. وحصل ما ذكر أنَّ ما طلبه من الحرص المزعج له إزعاج الحمى هو الذي أضر وأذله، كما قال الآخر: أذل الحرص أعناق الرجال وهو ظاهر

الحمى أضرعتني للنوم.
هذا المثل كالذي قبله في المعنى، وهو هو بعينه. وأوّل من قاله قرين بن مصاد الكلبي. وكان لصا مبيراً حتى إنّه كان يقال له الذئب لشدة لصوصيته. وكان له أخوان: مرارة ومرة؛ وإنَّ مرارة خرج يتصيد الأروى في جبل يقال له أبلق، فأختطفه الجن. فانطلق مرة أخوه بأثره حتى إذا كان بذلك المكان اختطف أيضاً. وكان قرين غائبا فلما قدم وعلم بأمر أخويه أقسم لا يشرب خمراً ولا يمس رأسه غسلا حتى يطلب أخويه. فتكتب قوسه وانطلق إلى ذلك المكان. فمكث فيه سبعة أيام لا ينام ولا يرى شيئاً حتى كان اليوم الثامن، فإذا هو بظليم فرماه وأصابه، واستقبل الظليم حتى صار في أسفل الجبل. فلما وجبت الشمس بصر بشخص قام على صخرة ينادي:

يا أيها الرامي الظليم الأسود ... ثبت مراميك ولمّا ترشد

فأجابه قرين:

يا أيها الهاتف فوق الصخرة ... كم عبرة هجيتها وعبرة
بقتلكم مرارة ومرة ... فرقت جمعا وتركت صخرة

فذهب الجني وتوارى عنه هونا من الليل. فأصابت قرينا حمى فغلبته عينه فنام. فأتاه الجني فاحتمله وقال: ما أنامك، وقد كنت حذرا فقال قرين: الحمى أضرعتني للنوم. ثم أنطلق به حتى أتى حاضر الجن. فلما كان في وجه الصبح، خلى سبيله، فقال قرين عند ذلك:

ألا من بلغ فتيان قومي ... بما لاقيت بعدهم جميعا
غزوت الجن أطالبهم بثأري ... لأسقيهم به سما نقيعا
فيرض لي ظليم بعد سبعٍ ... فأرميه فأتركه صريعا
وكنت إذا القروم تعاورني ... جريء الصدر معتز منيعا
بنى لي معشري وجدود صدق ... بذروة شامخ بيتا منيعا
وعزا سامعا ثبت الرواسي ... ترى شم الجبال خضوعا

حمي الوطيس.
تقدم في باب الهمزة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في الأمثال الحديثة.

أحمى من مجير الجراد.
الحماية: المنع. وتقول: حميت الشيء أحميه حماية إذا حفظته ومنعته.
قال جرير:

حميت حمى تهامة بعد نجدٍ ... وما شيء حميت بمستباح

و تقول: أجرت الرجال أخيره إذا منعته من أن يظلم، فهو جار. وقال الشاعر:

وكنت إذا جاري دعا لمضيفةٍ ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري

و جار الرجل واستجار: طلب أنَّ يجار؛ والجراد معروف، واحده جرادة للذكر والأنثى، ومجير الجراد هو مدلج بن سويد الطائي. وذكروا إنّه بينما هو ذات يوم في ظل خيمة إذ رأى قوما من طيء قد أقبلوا ومعهم الأوعية، فقال: ما شأنكم فقالوا: جراد بات بفنائك، فجئنا نأخذه. فلما سمع ذلك، قام إلى فرسه فركبه وتسلح وقال لهم: أيكون الجراد بفنائي وتريدون أخذه والله لا يعرض له أحد منكم إلاّ قتلتهفلم يزل يحرسه حتى طلعت عليه الشمس وطار، فقال: شأنكم الآن به، فقد تحول الآن عن جواريفضرب به المثل.

حن حنين الثكلى
تقدم معنى الحنين: التي فقدت ولدها وتقدم أيضاً. وحنين الثكلى شديد، كما تقدم في قولهم: أحر من دمع المقلات. وقالت أسماء المرية:

فإن بأكناف الرغام غريبه ... مولهة ثكلى طويلا نئيمها

وقال الخنساء في الثكلى من الإبل وحنينها:

فما عجول على من تحن له ... لها حنينان: إعلان وإسرار
ترتع ما غفلت إذا أذكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجع مني يوم فارقني ... صخر وللدهر إحلاءٌ وإمرار

ونحوه قول عبد الله بن الزبير الأسدي:

رمى الحدثان نسوة آل زيدٍ ... بمقدارٍ سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سودا
فإنك لو سمعت دعاء باكيةٍ حزينٍ ... أبان الهر وأحدها الفقيدا


حنَّ قدحٌ ليس منها.
هذا المثل يضرب للرجل يدخل نفسه في القوم وليس منهم أو يمتدح بالشيء ليس من أهله. يروى أنَّ عقبة بن أبي معيط لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله قال: أ أقتل من بين قريش فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حن قدح ليس منهافقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهل أنت إلاّ يهودي من صفورية وذلك أنهم ذكروا أنَّ أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام وأقام بها عشر سنين. فوقع على أمة يهودية للخم من صفورية يقال لها ترنى فولدت له ذكرا فاستلحقه أمية وكناه أبا عمرو وهو أبو أبي معيط.

حنت ولا تهنت.
هذا المثل لمازن بم مالك بن عمرو بن تميم وذلك أنَّ الهيجمانة بنت العنبر بن عمرو بن تميم بن مر كان عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم كان يزورها. فنهاه قومها عن ذلك فأبى حتى وقعت الحرب بين قومه وقومها. فأغار عليهم عبد شمس في جيشه فعلمت به الهيلمانة فأخبرت أباها. وكانوا يعرفون إعجاب الهيلمانة به كإعجابه بها. فلما قالت هذه المقالة لأبيها قال مازن بن مالك: حنت ولا تهنتوأنى لها مقروع ومقروع عبد شمس كان يلقب به، لأن القريع والمقروع في كلام العرب هو المختار فقال لها أبوها عند ذلك: أي بنية اصدقينيكذلك هو فانه لا رأي لمكذوب. فقالت: ثكلتك إن أكن صدقتك فانج لا أخالك ناجيافذهبت كلمة مازن وكلمته وكلومتها أمثالا. فقال مازن: حنت ولا تهنت أراد أنها إنما كان غرضها أن تذكر عبد شمس ليجري اسمه على لسانها حبينا إليه وشوقا لا شفقة على قومها ولا نصحا لأبيها ولا تحذيرا. وقوله: ولا تهنت دعاء عليها أي: لا هناها الله بذلكوأراد: لا تهنأت بالهمز من الهناء ثم خفف الهمزة وقلبها ألفاً ثم حذف الألف لملاقاة التاء الساكنة كما في نظائره.
قيل: ويحتمل أن يريد: ولات هنا أي ليس هذا الوقت أو: أنَّ ذلك ولا حينه كما قال الأعشى:

لات هنا ذكرى جبيرة أم من ... جاء منها بطائف الأهوال

أي ليس هذا حين ذكرها يأسا منها. وكما قال الراعي:

أفي أثر الأظعان عينك تطمح ... نعملات هنا إنَّ قلبك متيح

و كما قال جحل بن نضلة الباهلي:

حنت نوار ولات هنا حنت ... وبدا الذي كانت نوار أحنت
لمّا رأت ماء السلى شربا لها ... والفرث يعصر في الإناء أرنت

و في إعرابه كلام مبين في علم النحو. والتاء في لات لتأنيث الكلمة كما قيل في رب وثم ربت وثمت. وقيل إنها بدل من الألف لأن التاء تبدل من الألف عند الوقف وعند السجع كما قيل:

من بعدما وبعدما وبعدمت ... صارت نفوس القوم عند الغل صمت

حورٌ في محارةٍ
الحور بضم الحاء وفتحها وهو مضموما: الهلاك والنقصان ومفتوحا النقصان أيضاً والرجوع. يقال: حار إليه بحور حورا: رجع. قال مهلهل بن ربيعة التغلبي:

أليلتنا بذي حسم أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري

أي: لا ترجعيوالمحاورة النقصان أيضاً.

ومعنى المثل: نقصان في نقصان. يقال للرجل يكون أمره في إدبار أو للرجل ينقص بعد الزيادة ويكون صالحا فيفسد ولمن لا يصلح. ومن ورود الحور بمعنى النقصان قول الشاعر:
واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدروا ... والذم يبقى وزاد القوم في حورِ
حيل بين العير والنزوان.
تقول: حال الشيء بيني وبين كذا يحول حيلولة: منعني منه؛ وحيل بين زيد وبين كذا. قال تعالى )وحيلَ بينهم وبينَ ما يشتهونِ(؛ والعير بالفتح الحمار وسيد القوم أيضاً؛ والنزوان مصدر قولك: نزا الفحل على الأنثى ينزو عليها نزوا ونزوانا.
والمثل يضرب للرجل يعوقه عن مطلبه عائق. وهو قول صخر بن عمرو بن الشريد:

أهم بفعل الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان

و سنذكره وما يتعلق به في الأمثال الشعرية إن شاء الله تعالى.

حال الجريض دون القريض.
الجرض الريق يغص به. يقال: جرض الرجل بريقه يجرض كفرح يفرح إذا ابتلعه بجهد على هم وحزن؛ والجريض الاختناق بالريق على الموت. قال امرؤ القيس:

كأن الفتى لم يغن في الناس ساعة ... إذا اختلف اللحيان عند الجريضِ

و يقال: هو يجرض على نفسه أي يكاد يقضي ومن ذلك قول امرئ القيس أيضاً:

وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركته صفر الوطاب

و القريض: الشعر.
ومعنى المثل أنَّ الاختناق بالريق منع من قول الشعر فيضرب في كل أمر يعوق عنه عائق.
وأوّل من قاله جوشن الكلابي. وكان أبوه منعه من قول الشعر فمرض حزنا فرق له أبوه وقد أشرف فقال له يا بني انطق بما أحببت فقال: هيهاتحال الجريض دون القريض. قيل: وأنشد:

عذريك من أبيك بضيق صدري ... فما تغني بيوت الشعر عني

و قيل أول من قاله عبيد بن الأبرص حين وفد على النعمان في يوم بؤسه وأيقن بالموت وقال له النعمان: أنشدنيفقد كان يعجبني شعرك فقال عبيد: حال الجرض دون القريضوقد تقدمت قصته في حرف الهمزة مستوفاة.
وقال أبو محمد الحريري رحمه الله تعالى:

ما بات جارٌ لهم ساغباً ... ولا لروع قال: حال الجريض

حوَّل حابله على نابله.
الحابل هنا السدى؛ والنابل اللحمة وقد تقدما. ومعنى حول حابله على نابله جعل أعلاه أسفله وهو ظاهر.

حوالينا لا علينا.
يتمثل به كثيرا وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حين استصحى فقال: اللهم حوالينا ولا عليناأي أنزل المطر حوالينا ولا تنزله عليناوالحديث مشهور.
وقال مشيرا إلى ذلك على طريق الاقتباس الصاحب بن عباد:

أقول وقد رأيت لها سحابا ... من الهجران مقبلة إلينا
وقد سحت عزاليها يهطل: ... حوالينا الصدود ولا علينا

و تقول: جلست حول الرجل وحوليه وحواليه وأحواله مفتوحات الأول وكلها بمعنى واحد.

حيث لا يضع الراقي أنفه.
حيث من ظروف المكان؛ والوضع: الطرح والجعل. تقول: وضعت الشيء أضعه بفتح الضاد فيهما؛ والرقية بضم الراء العوذة رقاه يرقيه رقيا فهو له نفث في عوذته. قال عروة بن حزم:

فما تركا من رقية يعلمونها ... ولا شربة إلاّ بها سقياني

و هذا المثل يضرب في الأمر لا يدنى ولا يقرب منه.
قال أبو علي القالي: وكأنهم يرون أنَّ أصل ذلك ملسوعا لسعا في آستة فلم يقدر الراقي أن يقرب أنفه مما هناك. انتهى.
قالت: وأورده أبو عبيد في أمثاله بلفظ جرحه حيث لا يضع الراقي أنفه وقال إنّه يضرب في الجناية لا دواء لها. فقال البكري عن أبن الكلبي: أوّل من نطق بهذا المثل امرأة من العرب وأظنها زوجة حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم أو بنته وكان حنظلة شيخا كبيرا. فأصابتهم ليلة ريح ومطر وبرق. فخرجت تصلح طنب بيتها وعليها صدار. فأكبت على الطنب وبرقت السماء برقة فأبصرها مالك بن عمرو بن تميم وهي مجيبة فشد عليها حتى خالطها فقالت:

يا حنظل بن مالك لحرها ... يشفى بها من ليلةٍ وقرها

فأقبل بنوها وزوجها فقالوا لها: مالك فقالت: لدغت. قالوا: أينه فقالت: حيث لا يضع الراقي أنفه.فذهبت مثلا. ومات حنظلة بن مالك فتزوجها مالك بن تميم صاحب اللدغة فولدت له نفرا.

أحير من برغوث.
تقول: حار الرجل يحار حَيرة وحِيرة وتحيرا: إذا نظر فلم يهتد؛ والبرغوث بضم الباء معروف. قال الأعرابي:

إلاّ ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث علي سبيلُ

و هو يطير إلى وراء وذلك من لطف الله تعالى به ليرى من يكيده.

أحير من ضب.
الحيرة تقدمت، والضب معروف يوصف بالحيرة، وذلك انهم يزعمون إنَّ في طبعه النسيان وعدم الهداية، ولذلك يحفر حجره عند صخرة، أو في أكمة ليلا يضل عنه إذا خرج لطلب الطعام، وذلك توجد براثينه كليلة من حفرة الكدى والأماكن الصلبة، كما قال خالد بن علقمة:

ترى الشر قد أفنى دوائر وجهه ... كضب الكدى أفنى براثينه الحفر
و تقدم شيء من هذا في الباء.

الحية من الحيية.
الحية معروف يقع على الذكر والأنثى، والتاء فيه للوحدة من الجنس، كالبطة والدجاجة وحكى بعض الأقدمين: رأيت حيا على حية، أي ذكر على أنثى.
ومعنى المثل أنَّ الأمر العظيم ينشأ عن الأمر الصغير، وهو كقولهم: العصا من العصية، وسيأتي. وقريب من قولهم: إنَّ السقط يحرق الحرجة، وقد تقدم. وقد جعل بعضهم نظير هذا المعنى من كتاب الله قوله تعالى: ( ولا يلدوا إلاّ فاجرا كفارا).
أحيى من ضب.
يقال: حيي الشيء بالكسر يحيى حياة فهو حي؛ والضب معروف ووصف بكثرة الحياة وطول عمره. فقد ذكر إنّه يعيش سبعمائة سنة أو أكثر، ولا تسقط له سن، ويبول كل أربعين يوما مرة واحدة. قال الشاعر:
إنك لو عمرت عمر الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتل كطين الوحل

و الحسل بالكسر ولد الضب ومن ثم يقال للضب أبو حسل؛ والفطحل على مثال هزبر فيما يزعمون: زمان كانت الصخر فيه رطبة.
ومما يلحق بهذا الكتاب قولهم:

حبا وكرامة.
يقول الرجل لآجر إذا طلبه شيئاً: نعم وحبا وكرامة. ويقال أيضاً: حبة وكرامة. والحبة بضم الحاء بمعنى الحب؛ والكرامة من الإكرام، ويقال أيضاً: حبا وكرامة، وحبا وكرمانا بضمها وقيل المراد بالحب هنا الحب الذي هو الجرة العظيمة وهي الخابية والكرامة غطاء الجرة.
وقد يقال: أفعل كذا حبا وكرامة لك بالفتح وكرما وكرمة وكرمى وكرمة عين بضم الكل وليس له فعل ظاهر. وقولهم:

حطني القصا.
أي تباعد عني، والقصا البعد، ويقال قصا الشيء يقصو قصوا، وقصي الرجل عن جواري بالكسر يقصي قصى أي تباعد. والقصا أيضاً فناء الدار ويمد والناحية. يقال. ذهبت قصا فلان، أي ناحيته. وقال الشاعر:

فحاطونا القصا ولقد رأونا ... قريبا حيث يستمع السرار

قال في الصحاح، عن الأصمعي: معنى حاطونا القصى أي تباعدوا عنا وهم حولنا وما كنا بالبعد منهم لو أرادوا أنَّ يدنوا منا. انتهى. وقولهم:
تحللت عقد فلانٍ.
أي سكن غضبه. ومن الأمثال المشتهرة في هذا الباب على ألسنه الناس قولهم:

أحسن من نار القرى.
كانت خولة بنت منظور بن زيان أجمل نساء قومها، فقدمت المدينة لزيارة أختها زوجة عبد الله بن الزبير، فسمع الناس بها فخطبوها وفيهم الحسن بن علي رضي الله عنه. فجعلت أمرها بيدي أختها، فوكلت أبن الزبير فزوجها من الحسن. فلما بلغ الخبر أباها جاء المدينة فركز رأيته عند المسجد ونادى: يا آل قيسفلم يبقى قيسي إلاّ دخل تحت رايته. فبلغ ذلك الحسن فجاء إليه فقال له: شأنك بابنتكفجاءها فحملها معه. فلما خرجا قالت له: أو يرضى أحد بمثل فعلك الحسن بن علي وفاطمة، وسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة، أين تجد مثله فقال: صدقت، ولكن تعالي ننزل بقبا. فإن كان له غرض فيك فسيلحقنافبينما هم هنالك اقبل الحسن والحسن وأبن جعفر وأبن العباس، فردها إليه. فولدت للحسن الحسن المثنى، أكبر ولده. ولم تزل عنده حتى مات. فكثر خطابها، فقالت: والله لا كان لي حمء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلمفكشفت القناع وبرزت للرجال في هيئة المتجالات، فيئسوا منها عند ذلك. وكانت معروفة بفعل الخير والتفضل ويقصدها الناس في حوائجهم فتقضيها. وعاشت كثيراً.
فحكي عن معبد المغني قال: جئتها ألتمس معروفا، وهي عجوز، وغنيتها شعراً قاله فيها بعض من أراد تزويجها وهي شابة فلم تنكحه ومنه:

قفا في دار خولة فاسألاها ... تقادم عهدها وهجرتماها
بمحلال كأن المسك فيه ... إذا فاحت بأبطحه صباها

فطربت وأهتزت وقالت: يا عبد بني قطن، أنا والله يومئذ أحسن من نار القرى في عين التائه الصديوقولهم:

أحقر من ذباب وأحقر من قلامة.
وهو ما يزال من الظفر. وهذا باب مطرد. وقولهم:

أحير من طير في شبكة.
يريدون الطير المقنوص في شبكة الشديد الاضطراب والموجان؛ وقولهم:

أحير من بقة في حقة.
ونحو هذا.
ومن الأمثال العامية قولهم:

حل عبستك، ما أردت خبزتك
يضربون للرجل يعجز إنَّ يجامل الناس بحسن خلقه فضلا عن إنَّ يسامح بنداه. وقولهم:

الحمار حماري وأنا أركب من وراء
وقد آن أنَّ نذكر في هذا الباب ما يتيسر من الشعر. قال الشاعر:

أخاك أخاك، إنَّ من لا أخاله ... مساع إلى الهيجا بغير سلاح
وإنَّ أبن عم المرء فأعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح

وقال الآخر:

وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زندا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء ... وملحفة بيض أخرى جناحا

يريد النعامة، وقد تقدم ذلك فيها.
وقال عروة بن الورد:

وقلت بقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا وإنَّ رزح
تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم ... إلى مستراح من حمام مبرح
ومن يكن مثلي ذا عيال ومقترا ... يغرر ويطرح نفسه كل مطرح
ويبلغ عذرا أو يصيب رغيبة ... ومبلغ نفس مثل منجح

و الكنيف حظيرة تعمل للماشية تحفظ فيها؛ والرزح جمع رازح وهو الساقط المعيي هزالا، وهو نعت القوم؛ والحمام بكسر الحاء الموت وجعله مبرحا أي شاقا لطوله لأنهم يبقون حتى يموتوا جوعا.
وذلك أنَّ عروة مر بقوم من أهله قد جهدوا على أنفسهم حظيرة، فقال لهم: ما هذا قالوا: أنا جهدنا وخفنا على أنفسنا السباع، فعملنا هذا نبقى فيه حتى نموت. فلامهم على ذلك واستنهضهم لطلب الرزق. فسار بهم حتى نزلوا ماء يقال له ماوان لبنى فزارة. فمر بهم راكب معه ظعينة على بعير ومائة ناقة. فقام إليه عروة فقاتله حتى قتله. فأخذ ذلك وقسمه على أصحابه.
وقوله: ومبلغ نفس عذرها مثل منجح: مثل سائر عند القوم: ويريد به أنَّ من جد في الطلب، عانى المشقة والتعب، فهو إنَّ ظفر فذلك ما يسعى إليه، وإنَّ لم يظفر فلا ملامة عليه، كما قال امرؤ القيس: نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وقال أبن هرمة:

يحب المديح أبو ثابتٍ ... ويفرق من صلة المادح
كبكر تشهى لذيذ النكاح ... وتجزع من صولة الناكح

وقال الحماسي عمرو بن الاطنابة الأنصاري:

أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرضٍ صحيح

الإجشام: الإكراه على تحمل المشقة؛ والمشيح والشائح: الجاد في الأمر؛ وجشأت نفس الرجل: تحركت واضطربت من جزع أو حزن؛ وجاشت: ماجت واضطربت، ومنه الجيش، لموجانه بعضه في بعض؛ والمآثر ما يذكر عن الإنسان ويؤثر عنه؛ والعرض الصحيح: الذي لم يتعلق به عيب فيمرضه.
وقال جميل بن معمر:

أريد صلاحها وتريد قتلي ... فشتى بين قتلي والصلاح
و قبله:

تنادى آل بثنة بالرواح ... وقد تركوا فؤادك غير صاح
فيا لك منظرا ومسير ركبٍ ... شجاني حين أمعن في الفياحي
ويا لك خلة ظفرت بعقلي ... كما ظفر المقامر بالقداح
لعمر أبيك لا تجدن عهدي ... كعهدك في المودة والسماح
ولو أرسلت تستهدين نفسي ... أتاك بها رسول في سراح

وقال أبو الطيب:
وما ترك الشعر إلاّ إنّه ... تقصر على نفسي وصف الأمير المدائح

قلت: وما أحق أنَّ يتمثل بك بهذا عند ترك الاشتغال بمديح النبي صلى الله عليه وسلمفإن أكثر الفحول تركوه واشتغلوا بمديح غيره. وما ذلك إلاّ عجزاً: فإن نباهة مكانه صلى الله عليه وسلم، وجلالة جانبه تبهر العقل وتحير الفكر، فلا يستطيع إنَّ يجول فيه، ولو جال لقصر. وقد ذكر أبن الخطيب رحمه الله هذا المعنى في صدر كتاب السحر والشعر له، بعد إنَّ ذكر مقطعات لبعض الأدباء في مدحه صلى الله عليه وسلم، فقال وكما أنَّ الشعر لم يتعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي له لئلا يرتاب المبطلون، وذلك في حقه الكامل، بخلاف غيره، كذلك يبعد أو يمتنع أنَّ وجد قسم السحر في مدحه، إذ أصله الإغياء والمحاكاة والخيال والتمجين، حتى قال: ووقار جانبه صلى الله عليه وسلم يبهر النفس ويمنع من استرسالها في ذلك. فالمجيد فيه من عول على نصاعة اللفظ، وقصد الحق، وقرب المعنى، وإيثار الجد. انتهى. قلت: ومن أسباب ذلك إنَّ المديح إنّما يحسن لاشتماله على المحاسن وأوصاف كمال للممدوح، ويتفطن لها الشاعر دون غيره، ويبالغ فيها أكثر مما يستحق الممدوح ويظن به.
وقد علم في حق النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ كل ما يتخيله الشاعر من المحاسن والكمالات، فالنبي صلى الله عليه وسلم زائد على ذلك وارفع منه إذ لا يبقى فوق كماله صلى الله عليه وسلم إلاّ كمال الألوهية، وليس لأحد أنَّ يثبته له، فلم يبق للشاعر إلاّ إنَّ يبين ما هو عليه أو أنقص، وكلاهما لا طائل فيه، مع أن إتيان قدره صلى الله عليه وسلم نتعذر عادة، إذ لا تصل إليه العقول فليس إلاّ القصور. ولله در القائل:

ما قصر الشعراء فيك تعمدا ... بل دق في أفكارهم معناكا

نعميمكن الإتيان بشيء من حلاه صلى الله عليه وسلم وأوصفه على نوع من الغرابة وضرب من المبالغة، بحسب ما يرى الناس من حاله صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً:

أيكون الهجان غير هجان ... أيكون الصراح غير صراح
جهلوني وإنَّ عمرت قليلاً ... نسبتي لهم رؤوس الرماح

وقال أيضاً:

تخفي العداوة وهي غير خفيةٍ ... نظر العدو بما أسر يبوح

وقال أيضاً:

فقلت لكل حي يوم سوء ... وإنَّ حرص النفوس على الفلاح

وقال أبو العلاء المعري:

وأمراض المواعد أعلمتني ... بأن وراءها سقما صحيحا

وقال:

أعباد المسيح يخاف صحبي ... ونحن عبيد من خلق المسيحا

وقال:

وما للمسك في أنَّ فاح حظ ... ولكن حظنا في أنَّ يفوحا

وقال:

وذلك إنَّ شعرك طال شعري: ... فما نلت النسيب ولا المديحا
ومن لم يستطع علام رضوى ... لينزل بعضها نزل السفوحا

و هذا في معنى ما مر لأبي الطيب: وقال الشاعر:

إذا أبطا رسولك فارج يسرا: ... ففي إبطائه أثر النجاح

و هذا يشبه قول أبي الطيب:

ومن الخير بطئ سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام

وقال الآخر:


إذا أنت لم تصلح لنفسك لم تجد ... لها أحداً من سائر الناس يصلح

وقال الآخر:

جبينك والعمامة والثنايا ... صباح في صباح في صباحٍ

وقال الآخر:

دع الناس طرا واهجر الناس كلهم ... إذا كنت في أخلاقهم لا تسامح

وقال الآخر:

صديق بلا عيب قليل وجوده ... وذكر عيوب الأصدقاء قبيح

وقال الآخر:

طلبت بك التكثير قلة ... وقد يخسر الإنسان في طلب الربح

وقال الآخر:

كأنني الجزار في فعله: ... ما قال بسم الله إلاّ ذبح

وقال الآخر:

كن في أمان الله من خاطر: ... مثلك لا يهجى ولا يمدح

وقال الآخر:

ليس عاراً بان يقال مقل: ... إنّما العار أنَّ يقال شحيح

و مثله قول الآخر:

ألم تعلمني يا عمرك الله إنني ... كريم على حين الكرام قليل
وإني لا أخزى إذا قيل مملق ... كريم وأخزى أنَّ يقال بخيل

قول الآخر من شعراء الحماسة:

أجلك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكل غني في العيون جليل
وليس الغنى إلاّ غنى زين الفتى ... عشية يقرى أو غداة ينيل

وقال إحسان بن حنظلة:

تلك ابنة العدوي قالت باطلا ... أزرى بقومك قلة الأموال
أنا لعمرك أبيك يحمد ضيفنا ... ويسود مقترنا على الإقلال

و قول الآخر:

لنا حمد أرباب المئين ولا يرى ... إلى بيتنا مال مع الليل رائح

و قول الآخر:


بكر العواذل بالسواد يلمنني ... جهلا يقلن: ألا ترى ما صنع
فأتيت مالك في السفاه، وإنما ... أمر السفاهة ما أمرنك أجمع
وقتود ناجية وضعت بقفرة ... والطير عاشية العوافي وقع
بمهند ذي حليةٍ جردته ... يبرى الأصم من الكعوب ويقطع
لتنوب نائبة فيعلم إنني ... ممن يغر على الثناء فيخدع
إني مقسم ما ملكت فجاعل ... أجراً لآخره ودنيا تنفع

وقول أبي زياد الأعرابي:

له نار تشب على يفاعٍ ... إذا النيران ألبست القناعا
ولم يك أكثر الفتيان مالا ... ولكن كان أرحبهم ذراعا

و قول الآخر:

وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكن معروفة أوسع

وقال الآخر:

وتبا لمن بخلت نفسه ... بشيء يؤول إلى المستراح

أي: المرحاض:وقال الآخر:

وشيئان معدومان في الأرض: درهم ... حلال، وخل في الحقيقة ناصح

وقال الآخر:

ويؤلمني جميل لا أكافا ... عليه كأنه عندي قبيح

وقال الآخر:

هجوت زهيرا ثم أني مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح

وقال الآخر:

لا يصحب الإنسان في قبره ... غير التقى والعمل الصالح

وقال الآخر:

وما العيش إلاّ في خمول مع الغنى ... وعافية تغدوا بها وتروح

وقال الآخر:

وما كل حين يصدق المرء ظنه ... ولا كل أصحاب التجارة يربح

وقال معن بن أوس:

رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهن لا تكذب نساء صوالح
وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... عوائد لا يمللنه ونوائح

وقال الآخر:

ولا تفش سري إلاّ إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
فإني رأيت غواة الرجال لا يتركون أديما صحيحا

و قيل: وكان أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه يتمثل بهذين البيتين كثيرا، وقيل انهما له. والأديم: الجلد، استعير هنا للعرض، وجعل لام الوشاة سهاما يرما بها الأعراض حتى تهتكها. ومثله قول أبن الخياط:

فلا تعدل إلى الواشين سمعا ... فإنَّ كلام أكثرهم كلام
وإنَّ الود عندهم نفاق ... إذا طاوعتهم والحمد ذام
وأقوال إذا سمعت سهام ... تقصر عن موقعها السهام
فلما نصحوا لمجدك بل مراداً ... لمّا قد ساءني قعودا وقاموا
فليتك تسمع القولين حتى ... تبين في من الحق الخصام

وقالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية ترثي أخاها وقيل ليلى بنت يزيد بن الصعق ترثي ابنها قيس بن زياد:

لقد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاح
قد كنت ذات حمية ما عشت لي ... أمشي البراز وكنت أنت جناحي
فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراح
وأغض من بصري وأعلم إنّه ... قد مات خير فوارس ورماح
وإذا دعت قمرية شجبنا لها ... يوما على فنن دعوت صباحي

و تمثلت بها فاطمة أم السبطين رضي الله عنها يوم وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم. ومعنى: دعوت صباحي أي قلت: وأسوء صباحاهلعدم ناصري فيه. وفي معنى الأول قول أبي الوفاء يرثي غازي:

أيا تاركي ألقى العدو مسلما ... متى ساءني بالجد قمت ألاعبه

وقال سعد بن قيس:

كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح
فالهم بيضات الخدور ... هناك لا النعم المراح

و الضمير في كشفت للحرب في قوله:

يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا

و كشف الساق كناية عن اشتدادها، أخذ من كشف الرجل عن ساقه وتشميره إذا جد في الأمر، كما قيل:
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... اشمر حتى ينصف الساق مئزري

و الصارح: الخالص أصله اللبن الذي ذهبت رغوته، كما مر؛ فالهم بيضات الخدور الخ . . فيه وجهان: أحدهما إنّه يقول: أما حينئذ لا نبالي بأموالنا أن تذهب، وإنّما همنا الدفع عن حريمنا؛ والآخر: إنَّ يريد: أنا ظهرنا على العدو ولم نلتفت إلى أموالهم وأخذها، وإنما همنا منهم القتل والسباء وهو أفخر.
وقال أحد بني يشكر:

إلاّ أبلغ بني ذهل رسولا ... وخص إلى سراة بني البطاح
بأنا قد فتلنا بالمعلى ... عتيبة منكم وأبا الجلاح
فإن ترضوا فأنا قد رضينا ... وإنَّ تأبوا فأطراف الرماح
مقومة وبيض مرهفات ... تبين جماجما وبنان راح

وقال الحيض بيض:

ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما ... غدونا على الأسرى فنعفو ونصفح

ويحكى عن بعضهم قال: رأيت الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في المنام، فقلت له: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة وتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يؤثم على ولدك الحسين مآثم فقال لي: أسمعت أبيات الصيفي في هذا، وهو الحيص بيض فقلت: لا. قال: اسمعنا منه قال: فانتبهت، فلما أصبحت بادرت إلى دار الحيص بيص فأخبرته بالقصة فبكى وحلف بالله ما خرجت من فيه إلى أحد وما نظمها إلاّ في ليلته، فأنشدني: ملكنا فكان العفو منا البيتين.
وقال الحماسي أحد بني الحارث بن كعب:

لنا حمد أرباب المئين ولا يرى ... إلى بيتنا مال مع الليل رائح

وقال مالك بن أسماء، من شعراء الحماسة أيضاً:

وحسبك تهمة ببرئ قومهم ... يضم على أخي سقم جناحا

و قبله:

هجوت الأدعياء فنا صبتني ... معاشر خلتها عربا صحاحا
فقلت لهم وقد نجوت طويلا ... إلى وما أجبت لهم نباحا
أمنهم أنتم فأكف عنكم ... وأدفع عنكم الشتم الصراحا

وحسبك " البيت "
والمناصبة: المعاداة. ويقول: إنَّ عاديتموني بسببهم وذهبتم عنهم، فأنتم منهم ولا أهجوكم للؤمكم، وكفى بكم ريبة إنَّ تضموا الجناح على المريبين.
وقال الآخر:

وإني لأغلي لحمها وهي حية ... ويرخص عندي لحمها حين تذبح
بذا فآندبيني فإنني ... فتى تعتريني هزة حين امدح

و تقدم هذا الشعر وما كان بمعناه.
وقال الآخر:

ونصر الفتى في الحرب أعداء قومه ... على قومة للمرء ذي الطعم فاضح

وقبله:

دعاني أبو نصر وأهدى نصيحة ... إلي ومما أنَّ تعز النصائح
لأجزر لحمي كلب نبهان كالذي ... دعا القاسطي حتفه وهو نازح
أو البرجمي حين أهداه حينه ... لنار عليها موقدان وذابح
ورأي أبي سعد وإنَّ كان حازما ... بصير وإنَّ ضاقت عليه المسارح
أعان به ملعون نبهان سيفه ... على قومه والقول عاق وجارح

ونصر الفتى في الحرب " البيت "
وقوله: لأجزر لحمي أي: أصير نفسي جزرة، والجزرة البدنة تنحر. قال: عنترة:

إنَّ يعفرا مهري فإنَّ أباهما ... جزر لخامعة ونسر قشعم

و القاسطي الذي ذكره هو أحد القارضين الهالكين، وسيأتي فيهما المثل؛ والبرجمي هو وافد البراجم المتقدم؛ وقوله: للمرء ذي العقل والمعرفة. وقال الحماسي أشجع السلمي:

مضى أبن سعيد حين لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلاّ له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح
فاصبح في لحد من الأرض ميتا ... وكان به حيا تضيق الصحاصح
فما أنا من رزء، وإنَّ جل، جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح
كأن لم يمت حي سواك ولم تقم ... على أحد إلاّ عليك النوائح

وقال أبن المعتز:

كما يخلق الثوب الجديد ابتذاله ... كذا يخلق المرء العيون الطوامح

و من هذا قولهم: طول المجالسة يخلق: وقد قال أزدشير لأبنه: لا تمكن الناس من نفسك: فإن أجرا الناس على الأسود أكثرهم لها معاينةوقال أبو بكر بن النطاحي في المدح:

يتلقى الندى بوجه حيي ... وصدور القنى يوجه وقاح
هكذا هكذا، المعالي: ... طرق الجد غير طرق المازح

و البيت الثاني ذهب مثلا سائرا. وقال مجد الدين الاربلي:

طرفي وقلبي: ذا يسيل دما، وذا ... بين الورى أنت العليم بقرحه
وهما بحبك شاهدان وإنّما ... تعديل كل منهما في جرحه

و نحو هذا من التوجيه قول الآخر:

زرت الإمام الشافعي ولم أكن ... يوما زيارة قبره بالتارك
فوجدت مولاي الحبيب يزوره ... فظفرت عند الشافعي بمالك

و قول الآخر:

وعاطيته علم البديع وخده ... يعلمني تلوينه علم جابر
وصفحت من شوقي مدونة الرضى ... لثغر فأفتاني بنص الجواهر

و قول الآخر:

لا غزو إنَّ يصلي الفؤاد ببعدكم ... نارا تؤججها يد التذكار:
قلبي إذا غبتم يصور شخصكم ... فيه وكل مصور في النار

وقال الآخر في هذا المعنى:

إلاّ إنَّ حالي في هواك خفيفة ... ولكن لعيني بالصبابة تبريح
عجبت لدمع لا يزال مرويا ... فيقبل في آثاره وهو مطروح
وأعجب من ذا أن خدي شاهد ... يصادق في أقواله وهو مجروح

وقال أيضاً:

ومحكم اللحطات في مهج الورى ... تحكيم نار هواه بين جوانحي
جريح الفؤاد فطار من ولع به ... فكيف الخلاص لطائر من جارح

ومثله أيضا قوله:

أحادثه بالفكر فهو منادمي ... على الدهر لا أبغي عليه بديلا
تملك قلبي فهو رهن اعتقاله ... فمن شاء يبصر مالكا وعقيلا
وتقدم لنا هذا المعنى في حرف الثاء، مستوفى، وسنعيد منه كثيرا.

وقال القاضي أبو الفضل عايض رحمه الله:

انظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ماست أمام الرياح
كتبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح

و مثله قوا الآخر:

فتح الشقائق جرحها ومغنمها ... وشيء الربيع، وقلاها من الثمر
لأجل هذا إذا هبت طلائعه ... تدرع النهر واهتزت قنا الشجر

و نحو هذا من حسن التعليل في هذا المعنى قولي:

إنَّ بين الغمام والزهر الغض ... لرحما قديمة وإخاء
بان إلف عن إلفه فتوارى ... في الثرى ذا وذاك حل السماء
فإذا ما لغمام زارت جانبا ... أذنت فيه بالحبيب اللقاء
ذكرت عهده القديم فحنت ... عند لقياه فاستهلت بكاء
فترى الزهر بارزا من خباياه ... يحيى الوفود والأصدقاء
بادي البشر والبشاشة جذلا ... ن لبوسا من كل لون رداء
ثملا من شموس شمس الضحى ... وهو على بسط سندس خضراء
راقصات والصبا تهنيه والو ... رق غواني القيان تشدو غناء

و ما رأيت أحدا ولا أظنه سيبقي إلى هذا المعنى، ولا تصريحا ولا تلويحا.
وقال الحسن بن هانئ:

مازلت أشرب روح الزق في لطفٍ ... وأستقي دمه من جوف مجروح
حتى أنثنيت ولي روحان في جسد... والزق منطرح جسما بلا روح

وقال أيضاً في هذا المعنى:

أذكى السراج وساقي القوم يمزجها ... فلاح في البيت كالمصباح مصباح
كدنا على علمنا للشك نسأله: ... أراحنا نارنا أم نارنا الراح

و سيأتي هذا المعنى مستوف في بعد. وقال أبن الخياط في صفحة الحساب:

أخفى مسالكها الظلام فأوقدت من برقها كي تهدي مصباحا
وكان صوت الرعد خلف سحابها ... حادٍ إذا ونت الركائب صاحا

و تقدم هذا المعنى في حرف الهمزة. وقال عبد الله بن المعتز:

كأن سماءنا لمّا تجلت ... خلال نجومها عند الصباح
رياض بنفسج خضل ثراه ... تفتح بينه نور الأقاح

وقال أبن الزقاق:

فبت وقد زارت بأنعم ليلة ... تعانقني حتى الصباح صباح
على عاتقي من ساعديها حمائل ... وفي خصرها من ساعدي وشاح

وقال إدريس بن اليماني:

ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
حفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح

وقال الآخر في وصف الروض:

ورياض من الشقائق أضحت ... تتهادى بها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تفوق لون الراح
قلت: ما ذنبها فقال مجيبا: ... سرقت حمرة الخدود الملاح

وقال الآخر في زورق:

لو أبصرت عيناك زورق فتيةٍ ... بيدي لهم لمح السرور مراحة
وقد استداروا تحت ظل شراعه ... كل يمد بكأس راح راحه
لحسبته خوف العواصف طائرا ... مد الحنان على بنيه جناحه

وقال أبن الرومي:

قالت: علا الناس إلاّ أنت قلت لها: ... كذاك يسفل في الميزان مارجحا

وقال أبو إسحاق بن الحاج:

يا مالكي بصبيح وجهٍ حسنه ... أربى على فلق الصباح الأوضح
ما شك قلبي فيك أنك مالك ... لمّا عرفت وسامة بالإصباحِ

وقال سيف الدولة:

لا أواخذك بالجفاء فإني ... واثقٌ منك بالوفاء الصريحِ
فجميل العدو غير جميلٍ ... وقبيح الصديق غير قبيح

وقال مهيار:

اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا
وارحموا صبا إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا

وقال شرف الدين الحموي شيخ الشيوخ:

حديثي في المحبة ليس يبرح: ... فدعني من حديث اللوم واسرح
فما لك مطمع ببراح قلبي ... عن الحب الذي أعيا وبرح
فكم من لائم ألحى إلى أن ... تأمل من هويت فما تنحنح
فيا لله ما أشهى وأبهى ... ويا لله ما أحلى وأملح
له طرفٌ يقول: الحرب أحرى ... ولي قلبٌ يقول: الصلح أصلح
سألت سواره المثري فنادى ... فقير وشاحه: الله يفتح
وماس من القوام بغصن بان ... إذا أنشدت أغزالي ترنح
وحياني بألحاظٍ مراضٍ ... صحيحاتٍ فأمرضني وصحح
أعاتبه فلا يصغي لعتبي ... ولا أسلو فأتركه وأربح

وقال عبد المحسن الصوري:

وأخٍ مسه نزولي بقرحٍ ... مثل ما مسني من الجوع قرحُ
بت ضيفاً له كما حكم الد ... هر وفي حكمه على الحر قبحُ
فابتداني يقول وهو من السكر ... ة بالهم طافحٌ ليس يصحو:
لم تغربت قلت: قال رسول ... الله والقول منه نصح ونجح:
سافروا تغنموا. فقال: وقد قال ... تمام الحديث: صوموا تصحوا

وقال أبن الوردي:

قد عجبنا لأميرٍ ... ظلم الناس وسبح
فهو كالجزار فيهم ... يذكر الله ويذبح

وقال شهاب الدين الخفاجي وهو من باب التورية اللطيفة:

وصفت خصره الذي ... أخفاه ردف راجحُ
قالوا: وصف جبينه ... فقالت: ذاك واضح

وقال أيضاً وفيه نحو ما في الذي قبله من التورية:

لله أيام الصبا والهوى ... لله أيام النجا والنجاح
ذاك زمان مر حلو الجنى ... ظفرت منه بحبيب وراح

وقال أبو محمد الحريري:

لزمان السفار وجبت القفار ... وعفت النفار لأجنبي الفرح
وخصت السيول ورضت الخيول ... لجر ذيول الصبا والمرح
ومطت الوقار وبعت العقار ... لحسو العقار ورشف القدح
ولولا الطماح إلى شرب راح ... لمّا كان باح فميبالملح
ولا كان ساق دهئي الرفاق ... لأرض العراق بحملي السبح
فلا تغضبن ولا تصخبن ... ولا تعتبن فعذري وضح
ولا تعجبن لشيخ أبن ... بمغنى أغن ودن طفح:
فإنَّ المدام تقوي العظام ... وتشفي السقام وتنفي الترح
وأصفى السرور إذا ما الوقور ... أماط ستور الحيا وأطرح
وأحلى الغرام إذا المستهام ... أزال اكتتام الهوى وافتضح
فبح بهواك وبرد حشاك ... فزند أساك به قد قدح
وداوي الكلوم وسل الهموم ... ببنت الكروم التي تقترح
وخص العبوق بساق ... بلاء المشوق إذا ما طمح
وشاد يشيد بصوت تميد ... جبال الحديد له إن صدح
وعاص النصح الذي لا يبيح ... وصال المليح إذا ما سمح
وجل في المحال ولو بالمحال ... وجع ما يقال وخذ ما صلح
وفارق أباك إذا ما أباك ... ومد الشباك وصد من سنح
وصاف الخليل وناف البخيل ... وأول الجميل ووال المنح
ولذلك بالمتاب أمام الذهاب ... فمن دق باب كريم فتح

وقال أيضاً:

نهاني الشيب عما فيه أفراحي ... فكيف أجمع بين الراح والراحِ
وهل يجوز اصطباحٌ من معتقةٍ ... وقد أنار مشيب الرأس إصباحي
أنَّ ليت لا خامرتني الخمر ما علقت ... روحي بجسمي وألفاظي بإفصاحي
ولا اكتست لي بكاسات السلاف يدٌ ... ولا أجلت قداحي بين أقداح
ولا صرفت إلى صرفٍ مشعشعة ... همي ولا رحت مرتاحا إلى راح
ولا نظمت على مشمولة أبداً ... شملي ولا اخترت ندماناً سوى الصاحي
محا المشيب مراحي حين خط على ... رأسي: فأبغض به من كتاب ماح
ولاح يلحى على جري العنان إلى ... ملهى: فسحقاً له من لائح لاح
ولو لهوت وفودي شائب لخفى ... بين المصابيح من غسان مصباحي
قومٌ سجاياهم توقير ضيفهم ... والشيب ضيفٌ له التوقير يا صاح

وقال أيضاً:

أعدد لحسادك حدّثني السلاح ... وأورد الأمل ورد السماح
وصارم اللهو ووصل المهى ... وأعمل الكوم وسمر الرماح
واسع لإدراك محل سما ... عماده لا لادراع المراح
والله ما السؤدد حسنو الطلا ... ولا مراد الحمد رؤد رداح
واها لحر صده واسع ... وهمه ما سر أهل الصلاح
مورده حلو لسؤاله ... وماله ما سألوه مطاح
ما اسمع للآمل ؤداً ولا ما طله والمطل لؤم صراح
ولا أطاع اللهو لمّا دعا ... ولا كسا راحا له كأس راح
سوده إصلاحه سرة ... وردعه أهواءه والطماح
وحصل المدح له علمه ... ما مهر الحور مهور الملاح

وقال عوف بن محلم:

ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ ... وغصنك ميادٌ ففيم تنوحُ
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيحُ
ولوعاً فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد جريحُ

و زعموا إنّه خرج مع عبد الله بن طاهر في بعض غزواته فسمع عبد الله يوما وهما يتسايران صوت حمامة فأنشد أبيات عوف ثم التفت إلى عوف وقال له: هل حضرك شيء في هذا المعنى وهذه القافية فقال عوف:

أفي كل عامٍ غربةٌ ونزوح ... أما للنوى من ونيةٍ فتروحُ
لقد ظلم البين القذوف ركائبي: ... فهل أرين البين وهو طليحُ
وأرقني بالري نوح حمامةٍ ... فنحت وذو الشوق الغريب ينوحُ
على أنها ناحت ولم تدر عبرةً ... ونحت وأسراب الدموع سفوحُ
وناحت جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتلقى عصا التسيار وهي طريحُ
فإنَّ الغنى يدني الفتى من صديقه ... وعدم الغنى بالقترين نزوحُ

فرق له عبد الله وصرفه إلى أهله بعطاء جزيل وقال: يصلك عطاؤك كل سنة لموضعك.
وللشعراء قديما وحديثا الإكثار من ذكر الحمام والفواخت والورشان في أشعارهم واستحسان أصواتها. فمن مستحسن ما للأولين في ذلك قول الشاعر:

سيغنيك عن مزمار آل مخارق ... وبربطهم تغريد تلك الحمائمِ
بأيكة ناظر تجاوبن بالضحى ... على شاهقات آفلاتٍ نواعمِ

قول الآخر:

أحن إلى حوائط ذات عرقٍ ... لتغريد الفواخت والحمامِ
ألم بها بكل فتى كريمٍ ... من الفتيان مخلوع الزمامِ
إذا غنت على الأغصان ورقٌ ... أجبناها بإعمال المدامِ

و قول أبي صخر:

ولمّا دعت غورية الأيك سجعت ... فسجع دموعي يستهل ويستشري
يذكرني شجي دعاء حمامةٍ ... ويبعث لوعات الصبابة في صدري
بكت حزناً رزء الهديل وشفني ... فراق حبيب ضاق عن فقده صبري

و قول الآخر:

أيها البلبل المغرد في النخ ... ليس غريبا من أهله حيرانا
أفراقا تشكوه أم ظلت تعو ... فوق أفنان نخلك الورشانا
هاج لي شجوك المغرد شجواً ... رب صوتٍ يهيج الأحزانا

و قول حميد بن ثور:

وما هاج هذا الصوت إلاّ حمامةٌ ... دعت ساق حر ترحةً وترنما
محلاة طوقٍ لم يكن بتميمةٍ ... ولا ضرب صواغٍ بكفيه درهما
تغنت على غصنٍ عشاءً فلم تدع ... لنائحةٍ في نوحها متلوما
إذا حركته الريح أو مال ميلةً ... تغنت عليه مائلاً ومقوما
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً شاقه صوت أعجما

و قول الآخر:

ومن بستان إبراهيم حنت ... حمائم بينها فننٌ رطيبُ

و قول عدي بن الرقاع:

ومما شجاني أنني كنت نائماً ... أعلل من برد الكرى بالتنسمِ
إلى أن دعوت ورقاء في غصن أيكةٍ ... تردد مبكاها بحسن الترنمِ
فلو قيل مبكاها بكيت صبابةً ... بسعي شفيت النفس قبل التندمِ
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت: الفضل للمتقدمِ

وقال المجنون:

وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الاباطحِ
تجافيت عني حين لا لي حيلةٌ ... وخلفت ما خلفت بين الجوانحِ

و زعموا أنَّ رجلا دخل بني عامر يسأل عن المجنون فقيل له إنّه في هذه لبصحراء قد استوحش وإنّه إذا رآك نفر منك؛ ولكن إذا رأيته فاجلس كأنك لا تقصده فانه يجلس إليك. فإذا جلس إليك فإن كان عندك شيء من شعرا بن ذريح فاذكره فانه يصغي إليك. قال: ففعلت ذلك. فلما جلس إلي قالت: ما أشعر قيس بن ذريح حيث يقول:

وإني لمفنٍ دمع عيني بالبكا ... حذاراً لمّا قد كان أو هو كائنُ
وقالوا: غداً أو بعد ذاك بليلةٍ ... فراق حبيبٍ بان أو هو بائنُ
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفي إلاّ الله تعالى ما حان حائنُ

قال: فبكى طويلا ثم قال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:

أبى القلب إلاّ حبها عامريةً ... لها كنيةً عمرو وليس لها عمرُ
تكاد يدي تندى إذا لمستها ... وينبت في أطرافها الورق الخضرُ
عجبت لسعي الهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الهرُ

ثم أوغل في الصحراء وتركني فانصرفت. فلما كان الغد رجعت فقلت: ما أشعر قيسا حيث يقول:

يبيت ويضحى كل يومٍ وليلةٍ ... على منهج تبكي عليه القبائلُ
قتيلٌ للبنى صدع الحب قلبه ... وفي الحب شغلٌ للمحبين شاغلُ
فبكى أيضاً طويلا ثم قال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... معرقةً تضحى لديك وتخصرُ
وأخيلتها من مخها فكأنها ... قوارير في أجوافها الريح تصفرُ
إذا سمعت ذكر الفراق تقطعت ... علائقها مما تخاف وتحذرُ

ثم قام هاربا وتركني. فانصرفت ثم عدت في الغد فقلت: ما أشعر قيسا حيث يقول:

هبوني امرءاً إن تحسنوا فهو شكرٌ ... لذاك وإن لم تحسنوا فهو صافحُ
فأن يك قومٌ قد أساؤوا بهجرنا ... فإنَّ الذي بيني وبينك صالحُ

فبكى أيضاً طويلا ثم قال: أما والله أشعر منه حيث أقول: وأدنيني حتى إذا ما سبيتني " البيتين " . ثم فر عني وانصرف. وعدت من الغد فلم أجده فأخبرت قومه فانطلقوا يطلبونه فوجدوه بعد يومين ميتا في شعراء بين حجرين.
قلت: وفي البيتين المذكورين قال جرير لمّا أنشده إياها بعض أصحابه وهما متوجهان إلى الشام: لو كان النخير يصلح لنخرت حتى يسمعني هشام على سريره من هاهناوقال أبن الدمينة:

إلاّ يا حمى وادي المياه قتلتني ... أباحك لي قبل الممات مبيحي
ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروحِ
أبى علي الناس لا يشترونها ... ومن الذي يشتري ذا علة بصحيحِ

و الدوى: المريض الشديد المرض والمرض الشديد أيضاً والأحمق.
وينشد هذا الشعلا أيضاً على إسقاط البيت الأول وزيادة آخر وهو:

أئن من الشوق الذي في جوانحي ... أنين غصيص بالشراب جريحِ

و يحكى عن إبراهيم الموصلي المغني المشهور أنه قال: سألت الرشيد أن يهب لي يوما أخلو فيه بنفسي وكان أمره أن لا يتغيب عنه يوما أصلا قال: فقال لي إني أستثقل يوم السبت فآله فيه بما شئتقال: فأعددت يوما شرابا وأطعمة منتخبة وأصبحت عازما على أن لا آذن لأحد. فأمرت البواب بإغلاق الأبواب وجلست وحولي جواري والخدم يترددون بين يدي فإذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال حسن الثياب بيده عكازة مقمعة بفضة وقد سطع منه ريح المسك حتى ملأ البيت. قال: فامتلأت غيظا على البوابو عزمت على غقوبته. فسلم علي الشيخ بأحسن السلام فرددت عليه وأمرته بالجلوس. فجلس فأخذ في أحاديث العرب وذكر أيامها وأشعارها حتى أذهب ما بقلبي. وقلت: لعل البواب عرف أدبه فأراد مسرتي به فقلت له: هل لك في الطعام فأبى. فقلت: هل لك في الشراب فقال: ما أكرهه. فشربت وسقيته فقال: يا أبا إسحاق وهل لك أن تغني لنا من صنعك فقد نبغت فيها عند الخاص والعام وأحسن فيها ما استطعت حتى نكافئك بمثلهافأخذت العود وغنيته أصواتا حسانا في كلها يقول: أحسنت يا سيديويطرب ويستزيدني. ثم وضعت العود فقال: أتأذن لعبدك في الغناء فاستصعبت لكني أذنت له. فلما أخذ العود وجسه خلته والله ينطق بلسان عربي. ثم اندفع يغني:
ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني
إلى آخر الأبيات الثلاثة المتقدمه. فو الله لقد ظننت أنَّ الحيطان والأبواب وكل ما في البيت يغني معه حتى خلت عظامي وثيابي تجاوبه وبقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام لمّا خالط قلبي. ثم غنى:

ألا يا حمامات اللوى عدن عودة ... فأني إلى أصواتكن حزينُ
فعدن فلما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأسراري لهن أبينُ
دعون بترديد الهدير كأنما ... شربن الحميا أو بهن جنونُ
فلم تر عيني مثلهن حمائما ... بكين ولم تدمع لهن عيونُ

فكاد والله عقلي يذهب طربا وارتياحا لمّا سمعت. ثم غنى:

ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد. ... فقد زادني مسراك وجدا على وجدِ
لقد زعموا أنَّ المحب إذا دنا ... يمل وأنَّ النأي يشفي من المجدِ
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أنَّ قرب الدار خيرٌ من البعدِ
على أنَّ قرب الدار ليس بنافعٍ ... إذا كان من تهواه ليس بذي ودِ

ثم قال: يا إبراهيم هذا الشعر الماخوري فانح نحوه في غنائك وعلمه جواريكفقلت: أعده عليفقال: لست تحتاج إلى إعادته. فغاب عن بصري فارتعت وقمت إلى السيف فجردته وعدوت نحو الباب فوجدته مغلقا. فسألت البواب عن الشيخ فقال: والله ما دخل علي اليوم أحدفرجعت متحيرا فإذا هو هتف بي من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك أبا إسحاقفقال هو إبليس اخترت مندمتك اليوم فلا ترعفال إبراهيم: فركبت من فوري إلى الرشيد وقلت: لا أطرفه بطرفة أحسن من هذهفلما دخلت حدثته الحديث فقال: ويحك غن لي ما غناكفأخذت العود وغنيته إياها كأنها من محفوظاتي. فطرب الرشيد وجلس للشرب ولم يكن عزم عليه وأمر لي بصلة وقال: الشيخ كان أعلم حيث قال إنك أخذتها. فليته متعنا بنفسه يوما كما أمتعكانتهى. قوله الماخوري: هو نسبة إلى الماخور وهو بيت الريبة معرب. وقيل إنّه عربي من مخرت السفينة الماء لتردد الناس إليه. وقال أبن عبد المنان:
صبحته عند المساء فقال لي: ... ماذا الصباح وظن ذاك مزاحا
فأجبته: إشراق وجهك غرني ... حتى توهمت المساء صباحا

و سبب قوله هذا الشعر إنّه دخل وهو ثمل على السلطان أحمد المريني عشية فصبحه. فنظر السلطان إليه نظر منكر، وقال له:أي وقت هذا وأي معنى للصباح فيه فأفاق من سكره وانشد ما مر ارتجالا، وهذه بديهة لا بأس بها.
ومثله ما يحكى إنّه وقع ليحيى بن أكثم، وكان الأمين بن الرشيد شرب يوما مع عبد الله بن ظاهر، ومعهما يحيى. فتغامزا عليه، وأمر الساقي فأكثر له حتى أسكره. وكان بين أيديهم ردم من رياحين. فأمر يحيى فدفن فيه، وأمر قينة أنَّ تغني عند رأسه بيتين علمهما. فغنت:

ناديته وهو ميت لا حراك به ... مكفن في ثياب من رياحين
فقلت: قم قال: رجلي لا تطاوعني ... وقلت: خذ قال: كفي لا تواتيني

فأنتبه يحيى لصوت العود وصوت الجارية، فأخذ العود منها وغنى:

يا سيدي وأمير الناس كلهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما رأيت سليب العقل والدين
لا أستطيع نهوضا قد وهى بدني ... ولا أجيب لداع حين يدعوني

وقال أبو الفتح البستي:

أفد طبعك المكدود بالجد راحة ... يجم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بقدر الذي يعطى الطعام من الملح

وقال آخر في معناه:

ممازحة الصديق تزيد ودا ... إذا كانت تضاف إلى الملاحه
فمازح من تحب وتصطفيه ... فمزحك مع صديق في راحه

وقال الآخر في المدح:
إذا نزل الضيف ليلا بهم ... رأى أوجها لاح منها الصباح
كرام الوجوه لمن أمهم ... وعند وجوه الكرام السماح

و هذا من العكس، وهو عند أهل البديع قسمان: تعاكس الكلم وتعاكس الحروف.
فمن الأول في النثر قولهم: عادات السادات سادات العادات: وقولهم عقول الملوك ملوك العقول؛ وكلام الملوك ملوك الكلام؛ وفول بعضهم، وقد قيل له لا خير في السرف، لا سرف في الخير، ونحو هذا. وفي الشعر ما مر وقول صاحب الحلية:

خير الليالي ليالي الخير في إضمٍ ... والقوم قد بلغوا أقصى مرادهم

و قول أبي الطيب:

فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده

و قول أبن جابر:

عطفت قدها النضير فقالت: ... هل رأيتم لحسن هذا نظيرا
بذلت للمحب يوم وصالٍ ... فرأينا وصال يوم كثيرا

و نحوه وهو كثير.

ومن التالي في النثر كقوله تعالى: ( كل في فلك) وقوله تعالى: ( وربك فكبر) وقول العماد الاصبهاني للقاضي الفاضل: سر، فلا كبا بك الفرسوقول بعضهم:
سرو حماة بربها محروس؛ وقولك أرض خضراء ورمح أحمر، ونحو ذلك وهو كثير.
ومن الشعر قول الشاعر:

مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم

و من النوع الأول قولي في أبيات:

نتائج أبناء كرام غطارفٍ ... كرام بنين ماجدين كبار

و قول الآخر:

إذا المرء لم يمدح بحسن فعاله ... فمادحه يهذي وإنَّ كان يفصح

و قول الآخر في معناه:

وما شرف أنَّ يمدح المرء نفسه ... ولكن أعمالاً تذم وتمدح

و قول الآخر يروي لأبن الفارض، رضي الله عنه:

خليلي إنَّ زرتما منزلي ... ولم ترياه فسيحا فسيحا،
وإنَّ رمتا منطقي من فمي ... ولم ترياه فصيحا فصيحا،

و قول أبي بكر بن عمار في الاستعطاف:

سجاياك إنَّ عافيت واسمح ... وعذرك إنَّ عاقبت أجلى وأوضح
وإنَّ كان بين الخطيتين مزية ... فأنت إلى الأدنى من الله أجنح

وقال أبو عيسى بن لبون في النسيب:

سقى أرضا نووها كل مزن ... وسايرهم سرور وارتياح
فما ألوى بهم ملل ولكن ... صروف الدهر والقدر المتاح
سأبكي بعدهم حزنا عليهم ... بدمع في أعنته جماح

وقال أيضاً:

يا رب ليل شربنا فيه صافية ... حمراء في لونها تنفي التباريحا
ترى الفراش على الأكواس ساقطة ... كأنها أبصرت منها مصابيحا

وقال أبو محمّد بن عبدون:

سقاها الحيا من مغان فساح ... فكم لي بها من معان فصاح
وحلى أكاليل تلك الربى ... ووشى معاطف تلك البطاح
فما أنس لا أنس عهدي بها ... وجري فيها ذيول المراح
ونومي على حبرات الرياض ... يجاذب بردي مر الرياح
ولم أعط أمرا النهى طاعة ... ولم أصغ سمعا إلى لحي لاح
وليل كراجعة طرف المريب ... لم أدرله شفقا من صباح

و قلت أنا:

أم والمهيمن إنني من بعدكم ... لكطائر قد قُدَّ منه جناح
أوديتم بمحبكم من بعدكم ... أو ليس على المضر جناح
قد كان فيهم أعصرا بوصالهم ... قد طبن روح للنفوس وراح
فكأنني صبرا سقيت فكيف لي ... صبر وقد زموا المطي وراحوا

و قلت أيضاً:

نقل النسيم عن الأراك محدثا ... عن ثغر سلمى الأشنب الوضاح
وحديثه المروي إنَّ رضابه ... عسل ومسك شوبا بالراح
صدقا أحاديث الصحيح قد اعتلت ... عن ريبة تعزى لها من لاح

وقال بعض السادات الصوفية رضي الله عنهم:

قد كنت أحسب إنَّ وصلك يشترى ... بنفائس الأموال والأرواح
حتى رأيتك تجتبي وتخص من ... تختاره بنفائس الأرباح
فعلمت انك لا تزال بحيلة ... ولويت رأسي تحت طي جناح
وجعلت في عشق الغرام إقامتي ... أبدا وفيه تحويلي ورواحي

وقال الآخر:

أبداً نحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى كمال جمالكم ترتاح
وارحمة للعاشقين تحملوا ... ألم المحبة والهوى فضاح
بالسير إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح

وقال الآخر:

راحوا فبانت راحتي ... صفرا وأضحى حبهم لي راحا
فتحوا على القلب الغموم وأغلقوا ... باب السرور وضيعوا المفتاحا

وقال بشار:

خليلي ما بال الدجى لا تزحزح ... وما لعمود الصباح لا يتوضح
أضل النهار المستنير طريقه ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح
وطال علي الليل حتى كأنه ... بليلين موصول فما يتزحزح

و اعلم إنَّ الشعراء في الليل قديما وحديثا مقصدين مختلفين لباعثين متباينين: فتارة يستطيلونه ويستبطئون الإصباح وذلك لأجل الاختناق بتباريح الأشواق عند احتساء كأس الفراق المر المذاق وتارة يستقصرونه ويودون أن لو دام وذلك عند اجتناء ثمرات الوصال والاشتغال بلذات الإقبال. فمن الأول قول مهلهل:

أليلتنا بذي حسم أنبري ... إذا أنت أنقضيت فلا تحوري

و لم يحضرني لمن قبله شيء في هذا الباب. وقول امرئ القيس:

وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطا بجوزه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
إلاّ أيّها الليل الطويل إلاّ أنجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل

و قوله أيضاً:

أعني على التهمام والذكرات ... يبتن على ذي الهم معتكرات
بليل التمام أو وصلن بمثله ... مقياسة أيامها نكرات

و هو أوّل من أبدع في هذا الباب فيما علمنا. وقول النابغة:

فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طورا وطورا تراجع

و قوله أيضاً:

كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنص ... وليس الذي يرعى النجوم بآءب
وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف في الحزن من كل جانب

و قوله أيضاً:

كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا ... وهمين هما مستكنا وظاهرا
أحاديث نفس تشتكي ما يربها ... وورد هموم لن يجدن مصادرا

و قوله أيضاً:

أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي أهتم منها وأنصب
فبت كأن العائدات فرشنني ... هراسا به يعلى فراشي ويقشب

و قول جندح:

في ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما ليله بالليل موصل
لا فارق الصبح كفي إن ظفرت به ... وإن بدت غرة منه وتحجيل
لساهر طال في صول تململه ... كأنه حية بالسوط مفتول
حتى أرى الصبح قد لاحت مخائله ... والليل قد مزقت عنه السراويل
ليل تحير ما ينطح في جهة ... كأنه فوق متن الأرض مشكول
نجومه ركد ليست بزائلة ... كأنما هن في الجو القناديل
ما أقدر الله أن يدنى على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول
الله يطوي بساط الأرض بينهما ... حتى يرى الربع منه وهو مأهول

و قول الحصري:

يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده

و قول الآخر:

إلاّ هل على الليل الطويل معين ... إذا نزحت دار وحن حزين
أكابد هذا الليل حتى كأنما ... على نجمه إلاّ يغور يمين
وتالله ما فارقتكم قاليا لكم ... ولكن ما يقضي فسوف يكون

و قول الآخر:

ما لنجوم الليل لا تغرب ... كأنها من خلفها تجذب
روادك ما غار في غربها ... ولا بدا من شرقها كوكب

و قول العباس بن الأحنف:

أيّها الراقدون حولي أعينوني ... على الليل حسبه وآئتجارا
حدثوني عن النهار حديثا ... أوصفوه فقد نسيت النهارا

وقال السويد بن أبي كاهل:

وإذا ما قلت ليل قد مضى ... عطف الأول منه فرجع
يسحب الليل نجوما ظلعا ... فتواليها بطيآت التبع
ويزجيها على إبطائها ... مغرب اللون إذا الليل انقشع

و قول أبن الرومي:

رب ليل كأنه الدهر طولا ... قد تناهى فليس فيه مزيد
ذي نجوم كأنهن نجوم الشيب ... ليست لكن تزيد

و قول سعيد بن حميد:

يا ليل بل يا أبد ... أنام عندك غد
يا ليل لو تلقى الذي ... ألقى بها أو تجد
قصر من طولك أو ... ضعف منك الجلد
أشكو إلى ظالمة ... تشكو الذي لا تجد
وقف عندها ناظري ... وقف عنها السهد

و قول الآخر:

يخيل إلي إنَّ الشهب في الدجى ... وشدت بأهداب إليهن أجفان

و قول الآخر:

رب ليل أمد من نفس العاشق ... طولا قطعته بآنتحاب
وحديث ألذ ممن نظر الوامق ... بدلته بسوء العتاب

و قول أبن شهيد:

وبتنا نراعي الليل لم يطو برده ... ولم يجن شيب الصبح في فزعه وخطا
تراه كملك الزنج من فرط كبره ... إذا رام مشيا في تبختره أبطا
مطلا على الآفاق تاجه ... وقد علق الجوزاء من أذنه قرطا

وقال بعضهم: كان علي بن الجهم يستنشدني شعر خالد الكاتب فأنشده فيقول: ما صنع شيئاً حتى أنشدته يوما له:

رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر
ولم تدر بعد ذهاب الرقاد ... ما صنع الدمع من ناظري

فقال: قاتله الله لقد أدمن الرمي حتى أصاب الغرة.
ومن الاعتبار الثاني قول الأعرابي:

وليل لم يقصره رقاد ... وقصر طوله وصل الحبيب

و قول أبن المستوفي:

حسد الليل الصباح لمّا ضمنا ... غيظا ففرق بيننا داعيه

و قول الآخر:

رأيت في المنام أقل بخلا ... وأطوع منك في غير المنام
فليت الصبح زال فلا نراه ... وليت الليل يبقى ألف عام
ولو إنَّ النعاس يباع حينا ... لأغليت التعاس على النيام

و قول القاضي الفاضل وهو السحر حقا:

بتنا جميعا كيف شاء الهوى ... وربما لا يمكن الشرح
بوابنا الليل وقلنا له: ... إن غبت عنا دخل الصبح

و قول أبن الصمد بن المعذل:

أقول وجنح الدجى ملبد ... ولليل في كل فج يدُ
ونحن ضجيعان في مسجدٍ ... فلله ما ضمنا المسجدُ:
قيا ليلة الوصل لا تبعدي ... كما ليلة الهجر لا تنفدُ
ويا غد إن كنت لي راحما ... فلا تدن من ليلتي يا غدُ

و قول الآخر:

شباب المرء ثوبٌ مستعار ... وأيام الصبا أبداً قصارُ

و لأجل الاعتبالرين كان قول الأعرابي:

تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بأرض الغضا ليلي علي يطولُ

و قول أبي الوليد بن زيدون:

أجل إنَّ ليلي فوق شاطئ بيطة ... لأقصر من ليلي بآنة فالبطحا

و قول عمر بن أبي ربيعة:

فيالك من ليلٍ تقاصر طوله ... وما كان ليلي قبل ذلك يقصرُ

و من الثاني أيضاً قال الآخر:

لله أيام الشباب وعصره ... لو يستعار جديده فيعارُ
ما كان أقصر ليله ونهاره ... وكذاك أيام السرور قصارُ

و قول أبي بكر بن دريد:

يا رب يومٍ جمعت قطريه لي ... بنت ثمانين عروساً تجتلى

و قد شرح الاعتبارين الوليد بن يزيد في قوله:

لا أسأل الله تغييراً لمّا فعلت ... نامت وقد أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء حين أفقدها ... والليل أقصر شيء حين ألقاها

و الآخر في قوله:

أخو الهوى يستطيل الليل من أرقٍ ... والليل في طوله جارٍ على قدر
ليل الهوى سنةٌ في الهجر مدته ... لكنه سِنةٌ في الوصل من قصر

والآخر في قوله:

ليلي وليلى سواءٌ في اختلافهما ... قد صيراني جميعاً في الهوى مثلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا

و قول جميل:

وقالوا: لا يضرك نأي شهرٍ ... فقالت صاحبي: فمن يضيرُ
يطول اليوم إن شحطت نواها ... وحولٌ نلتقي فيه قصيرُ

و قول بشار:

لا أظلم الليل ولا أدعي ... أنَّ نجوم الليل ليست تغيورُ
ليلي كما شاءت فإن لم تجد ... طال وإن جادت فليلي قصيرُ
تصرف الليل على حكمها ... فهو على ما صرفته يدورُ

و قول الآخر:

تعالوا أعينوني على الليل إنه ... على كل عينٍ لا تنام طويل

و قول الآخر:

لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيفٌ ألم

و قول الفرزدق:

يقولون طال الليل والليل لم يطل ... ولكن من يبكي من الشوق يسهرُ

و هذا المعنى أكثر من أن يستقصى. وترقى عن الاعتبارات قول بعض العارفين المحبين:

لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من...
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلا
إنَّ للعاشقين عن قصر الليل ... وعن طوله من الهم شغلا

وقال أبن حمديس الصقلي في مجونه:

قم هاتها من كف ذات الوشاح ... فقد نعى الليل بشير الصباح
باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المراح
من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الاقاح

وقال أيضاً:

بت منها مستعيراً قبلاً ... كن لي منها على الهر اقتراح
وأروى غلل الشوق بما ... لم يكن في قدرة الماء القراح

وقال الآخر:

سل المفتي المكي هل في تزاور ... وضمة مشتاق الفؤاء جناحُ
فقال: معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراحُ

و المعنى هنا بالمفتي هو عطاء بن أبي رباح الإمام الفقيه المشهور أحد الكبراء من التابعين. وكان بمكة مفتيا.
قال شمس الدين بن خلكان في تأريخه: لمّا بلغه هذان البيتان قال: والله ما قلت شيئا من هذاوقال فخر الدين التكريتي:

وما ذات طوق في فروع أراكةٍ ... لها رنةٌ تحت الدجى وصدوحُ
ترامت بها أيدي النوى وتمكنت ... لها فرقةٌ من أهلها ونزوحُ
فحلت بزوراء العراق وزغبها ... بعسفان ثار منهم وطليحُ
تحن إليهم كلما ذر شارقٌ ... وتسجع في جنح الدجا وتنوحُ
إذا ذكرتهم هيجت ذا بلابل ... وكادت بمكتوم الغرام تبوحُ
بأبرح من وجدي بذكراكم متى ... تألق برقٌ أو تنسم ريحُ

وقال أبن الزيات:

سماعاً يا عباد الله مني ... وكفوا عن ملاحظة الملاحِ
فإنَّ الحب آخره المنايا ... وآخره يهيج بالمزاحِ
وقالوا: دع مراقبة الثريا ... ونم فالليل مسود الجناحِ
فقلت: وهل أفاق القلب حتى ... أفرق بين ليلي والصباحِ

وقال مؤيد الدين الموصلي:

يا قالة الشعر قد نصحت لكم ... ولست أدهى إلاّ من النصحِ
فقد ذهب الدهر بالكرام وفي ... ذاك أمورٌ طويلة الشرحِ
وأنتم تمدحون بالحسن والظرف ... وجوها في غاية القبحِ
وتطلبون السماح من رجلٍ ... قد طبعت نفسه على الشحِّ
من هاهنا تحرمون كدكم ... لأنكم تكذبون في المدحِ
صونوا القوافي فما أرى أحداً ... يعثر فيه الرجاء بالنجاحِ
فإن شككتم فيما أقول لكم ... فكذبوني بواحد سمحِ

و نحو هذا البيت في المعنى ما حكي أنَّ بعض ظرفاء السؤال مر بقوم يأكلون فقال لهم: يا بخلاءفأنكروا عليه. فلما سمع إنكارهم قال لهم: كذبوني بلقمةوقال أبن ميادة:

فنظرن من خلل الحجال بأعينٍ ... مرضى يخالطها السقام صحاحِ
وأرشن حين أردن أن يرمينني ... نبلاً بلا ريشٍ ولا بقداحِ

وقال آخر يخاطب الناس:

تبعتم السابح في لجه ... ورعتم في الجو ذات الجناح
هذا وأنتم غرضٌ للردى ... فكيف لو خلدتم يا قباحِ

وقال أبن الساعاتي:

وكم فيك من عذراء زفت ... لفهمك في غدو أو رواحِ
من الغيد الحسان بلا شبيهٍ ... فكيف يفوتها حظ القباحِ

وقال الآخر:

وإذا الفتى من دهره كملت له ... خمسون وهو إلى التفى لم يجنحِ
طلعت عليه المخزيات وقلن قد ... أرضيتنا فكذاك كن لا تبرحِ
وإذا رأى إبليس صورته بدت ... حيى وقال: فديت من لم يفلحِ

و مثله قول التهامي:

إذا بلغ الفتى عشرين عاماً ... وأعجزه الفخار فلا اعتذارُ
إذا ما أوّل الخطي أعطى ... فما يرجى لآخره انتظارُ

و قول الآخر:

وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف ولم تنغر بها ساعة قدرُ
أتاني بها يحيى وقد نمت نومةً ... وقد غابت الشعرى وقد طلع النسرُ
فقالت اغتبقها أو لغيري فاسقها ... فما أنا بعد الشيب ويحك والخمرُ
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياءٌ ولا سترُ
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ... ولو جر أسباب الحياة له الهرُ

وقال الآخر:

وقولوا: في الهجاء عليك إثمٌ ... وليس الإثم إلاّ في المديح
لأني إن مدحت كذباً ... وأهجو حين أهجو بالصحيحِ

وقال الآخر:

قالوا: تعشقها عمياء قلت لهم: ... ما شأنها ذاك في عيني ولا قدحا
بل زاد وجدي فيها أنها أبداً ... لا تعرف الشيب في فودي إذا وضحا
إن يجرح السيف مسلولا فلا عجبٌ ... وإنّما العجب سيفٌ مغمدٌ جرحا
كأنما هي بستان خلوت به ... ونام حارسه سكران قد طفحا
تفتح الورد فيه من كمائمه ... والنرجس الغض فيه بعد ما انفتحا

و مثله قول أبن سناء الملك:

فتنتني مكفوفةٌ ناظرها ... كتبا لي من الجراح أمانا
فهي لم تسلل الجفون حساماً ... لا ولم تحمل الفتور سنانا
وهي بكر العينين محصنة الأجفان ... ما افتض ميلها الأجفانا
قصرت عشقها علي فلم تع ... شق فلاناً إذ لم تعلين فلانا
عميت من الهوى وأرتحل الانسا ... ن من عينها وأخلى المكانا
علمت غيرتي عليها فخافت ... أن تسمي غيري لها إنسانا

وقال أبن قاضي ميلة:

وكيف لا تدركه نشوةٌ ... واللحظ راح وجنى الريق راح
لو لم تكن ريقه خمرةً ... لمّا تثنى عطفه وهو صاح

وقال أبن نباتة السعدي:

وغانية هذه الدنيا فسادٌ ... فكيف نكون منها في صلاحِ
هي الخرقاء تنقص بعد نسجٍ ... فما فيها لحيي من فلاحِ

و سيأتي هذا المعنى مستوفي في الحكم إن شاء الله تعالى.
وقال الآخر وكان أبو بكر بن دريد يتمثل به كثيرا أو هو قائله:

فواحزناً إنَّ الحياة لذيذةٌ ... ولا عملٌ يرضي به الله صالحُ

و قلت أنا:

تصبر إن أصابك نبل عوض ... وضاق عليك متسع البراح
فإنَّ الدهر ليس بذي اصطبار ... عليك بل التول والبراح
وإنَّ الخطب أسرع من ذناب ... بمنسجم يسيل إلى سراحي
وما أمر يضيق عليك إلاّ ... بآخره يصير إلى سراح
فكم أمسيت ذا حزن وأصبحت ... تصبح مسرور كؤوس راح

العوض: الدهر كما قال الحماسي:

ولولا نبل عوض في ... خضماتي وأوصالي
لطاعنت صدور الخيل ... طعنا ليس بالآلي

و البراح: المتسع من الأرض لا زرع فيها ولا شجر والبراح في البيت الثاني: الزوال مصدر برح مكانه أي زال عنه والذناب مسيل بين التلعتين والسراحي بالياء الكثمانية جمع سرحان وهو هنا وسط الحوض والسراح في البيت بعده الانسراح والانفراج وتصبح تستقي تقول: صبحت زيدا إذا سقيته الصبوح فهو مصبوح وقولي مسرور فحذفت نون من وهو جائز فصيح.

ولنكتف بهذا القدر والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.