باب الخاء المعجمة

خبأة خير من يفعة سوء.

الخبأ الستر تقول: خبأت الشيء خبأ وخبيئة إذا سترته والخبأة على مثال همزة المرأة تلازم بيتها. وفي الصحاح: الخبأ المرأة تطلع ثم تختبئ. واليفع التل والمرتفع من الأرض ووصف للغلام. يقال: غلام يفع بفتحتين ويفعة.

والمعنى إنَّ بنتا تلزم بيتها تخبأ فيه خير من غلام يفعة لا خير فيه وهو واضح. والمسوغ للابتداء بالنكرة في هذا وما يشبهه نحو تمرة خير من جرادة القصد إلى العموم ذكره أبن مالك في شرحه على التسهيل. وهو أحسن من التعبير بأن المسوغ كونه مثلا إذ لا يكون مثلا إلاّ بعد حين. وهو مفتقر أول وهلة إلى المسوغ مع إنَّ كونه مثلا وإن حصل ابتداء لا يناسب أن يكون مسوغا بوجه كما لا يخفى إذ التسويغ إنّما هو بالتخصيص أو التعميم المخرج للقضية عن الإهمال المحض لفظا ومعنى. نعم المعنى قد يفهم بقرائن وإن لم يكن ثم مسوغ ظاهر فيكفي ذلك ويمكن أن يدعى إنَّ هذا المثل ونحوه من ذلك. مع إنّه في مثلنا يدعى إنَّ الميوغ كون المبتدأ وصفا لمحذوف هو المبتدأ حقيقة. فإنَّ المعنى امرأة خبأة خير من غلام يفعة. وفي المسألة كلام وليس من غرضنا ولا هذا محله.

خبط خبط عشواء.
الخبط: الضرب يقال: خبط البعير الأرض إذا ضربها برجله. والعشى بالقصر سوء البصر بالليل. يقال: عشى بالكسر يعشى وعشى أيضاً عشى فهو أعشى وهي عشواء. والعشواء في المثل الناقة الضعيفة البصر والتي لا تبصر أمامها وهي تضرب وتخبط بيديها كل شيء فيضرب بها المثل. ويقال: خبط فلان هذا الأمر خبط عشواء وذلك إذا دخل فيه بغير بصيرة وهو ظاهر.

خبقة خبقة ترق عين بقة.
الخبق على مثال هجف وعلى مثال فلز الطويل من الرجال والخيل. وقيل: الخبق من الخيل: السريع والخبق أيضاً الرجل الوثاب. وهكذا وقع هذا الكلام في القاموس. والذي في الصحاح: حزقة حزقة ترق عين بقة. والحزقة الرجل القصير أو الذي يقارب الخطو لضعف بدنه. يقال: رجل حزق على مثال عتل ورجل حزقة. قال الشاعر في الأول:

حزق إذا ما القوم ابدوا فكاهة ... تفكر آإياه بعون أم قردا

وقال امرؤ القيس في الثاني:

وأعجبني مشي الجزقة خالد ... كمشي أتان حلئت في المناهل

حلئت: منعت وطردت والترقي: الصعود والبق: البعوض أو أعظمها. قال ذو الرمة يذكر خيلا:

قياما تذوذ البق عن نخراتها ... بنهز كإيماء الرؤوس الموانع

النخرات بالنون والخاء المعجمة مخارج النفس من الأنوف ونهزات الدابة برأسها إذا ذبت به.
وروي في الحديث إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يرقص أحد سبطيه فيقول: حزقة حزقة ترق عين بقة وقوله: ثرق أي اصعد إلى النماء. ويقال أيضاً: رجل حبقة بالحاء المهملة وبسرتين مشددة القاف أي قصر. ورجل حبق على مثال صرد أي ضعيف العقل. وكذا امرأة حبقة. قل الراجز:

حبقة يتبعها شيخ حبق ... وإن يوفقها لخير لا تفق

أخدع من ضب.
الخدع: الختل. يقال: خدعه خدعا إذا ختله وأراد به المكروه من حيث لا يشعر واختدعه أيضاً اتداع فانخدع هو والاسم الخديعة. والضب تقدم ما فيه وهو يوصف بالخديعة والمكر. قال الشاعر:

وأخدع من ضب إذا جاء حارش ... أعد له عند الذنابة عقربا

و إنّما قال ذلك لأنهم يزعمون إنَّ بين الضب والعقرب ألفة فتأوي إلى حجره فمن مد يده إليه لسعته.
قال المبرد في الكامل: العرب تزعم إنّه ليس من ضب إلاّ في جحره عقرب. فهو لا يأكل ولد العقرب وهي لا تضربه فهي مسالمة له وهو مسالم لها. وأنشد البيت السابق.

مخرنبق لينباع.
الآخرنباق: انقماع الرجل المريب واللصوق بالأرض والسكوت والإطراق والانبياع: سيلان العرق. يقال: انباع العرق إذا سال ويقال: انباعت الحية إذا بسطت نفسها بعد تحويها لتساور.

ومعنى مخرنبق لينباع: مطرق وساكت ليثب إذا أصاب فرصة. والمعنى إنّه ساكت لداهية يريدها. ويضرب في الرجل يطيل الصمت حتى يسحب مغفلا وهو ذو نكراء. والمخرنبق: اللاصق بالأرض لينباع ليثب. أو المخرنبق: الساكت على ريبة لينباع ليظهر ما طوله من الشر. والمقصد واحد. ويروى: مخرنبق لينباع ومعناه ليندفع. وقيل ليأتي بالبائقة أي الداهية. ويروى لينباغ بالمعجمة أي ليتحرك بالشر الذي في طيه فيظهره كأنه من تبوغ الدم بمعنى هاج أو من تبوغ زيد إذا غلب.
وفي معنى هذا المثل قول النابغة الذبياني:

لقد نهيت بني ذبيان عن أقر ... وعن ترفعهم في كل أصفار
وقلت يا قوم إنَّ الليث منقبض ... على براثينه لوثبة الضاري

قوله: عن اقر هو موضع. وقوله: في كل أصفار هو جمع صفر بالتحريك اسم الشهر، وكان صفر يومئذ في زمن الربيع، وقيل غير ذلك. وأراد بالليث النعمان بن حارث الأكبر الغساني أو أخاه عمرو بن الحارث. وقوله: لوثبة الضاري - بالإضافة أي لوثبه الأسد الضاري، ويروى للوثبة الضار، فيكون الضاري وصفا لليث.
ومثل ذلك أيضاً قول أبن الرومي:

سكت سكوتا كان رهنا بوثبة ... عموسٍ كذاك الليث للوثب يلبد

و سيأتي أمثال من هذا المعنى كثيرة، وتقدم بعضها.

تخرسي يا نفس لا مخرس لك.
الخرس بالضم طعام الولادة. قال الراجز:

كل طعام تشتهي ربيعة ... الخرس والأعذار والنقيعه

و الخرسة بالضم أيضاً طعام النفاس نفسها. وتقول: خرست على المرأة تخريساً إذا أطعمت في ولادتها، وتخرست هي اتخذت ذلك لنفسها، وخرست جعل لها الخرسة. قال الهذلي:

إذا النفساء لم تخرس ببكرها ... غلاما ولم يسكت بحتر فطيمها

الحتر: الشيء القليل الحقير، أي لهم شيء يسكتون به الصبي من الطعام ولو قليلا لشدة المجاعة. وكانت امرأة ولدت ولم يكن لها من يهتم بأمره فقالت: تخرسي يا نفس لا مخرس لكفذهب مثلا يضرب عند اعتناء المرء بنفسه.

خرقاء ذات نيقةٍ.
الخرق بالضم عدم الرفق في الأمور، وعدم إتقان الصنعة والحمق. خرق الرجل بالكسر والضم فهو اخرق وهي خرقاء. قال:

إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ... سهيل أذاعت غزلها في القرائب

و يريد أنَّ المرأة الخرقاء لا تشتغل بالغزل في الصيف بل تتمادى على التسويق والتفريط، حتى إذا طلع سهيل وذلك حين يقبل البرد قامت إلى قرائبها ليعنها، وجعلت تفرق بينهن غزلها. فيسما سهيلا بكوكب الخرقاء لهذه العلاقة. وذات بمعنى صاحبة. والنيقة بكسر الأول اسم من التنوق. يقال: تنوق الرجل في الشيء يتنوق إذا تأنق فيه، أي تخير.
والمعنى إنّها خرقاء، ومع ذلك تتأنق. فيضرب في الجاهل بالشيء يدعي فيه المعرفة ويتخير في الإرادة.

الخرق شؤم.
تقدم أنَّ الخرق يكون عدم الرفق في الأمور بتناولها على غير وجهها، مع عجلة وإفراط تجاوز مقدار. والشؤم بضم الشين وسكون الهمزة ضد اليمن.

والمعنى أنَّ من خرق في أمر فلا بد أنَّ يعود عليه شؤمه. وهذا الكلام يروى حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنّه قال: " الرفق يمن والخرق شؤم " . وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله يحب الرفق في الأمر كله " . وقال: " ما كان الرفق في شيء قط إلاّ زانه، وما كان الخرق في شيء إلاّ شانه " . وقال: " يا عائشة، من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من خير الدنيا والآخرة " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا أحب الله تعالى أهل بيت أدخل عليهم الرفق " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله تعالى ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا احب الله تعالى عبدا أعطاه الرفق، وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلاّ قد حرموا " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف " . وقال صلى الله عليه وسلم: " يا عائشة ارفقي فإنَّ الله تعالى إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم علي باب الرفق " .وقال صلى الله عليه وسلم: " من يحرم الرفق يحرم الخير كله " . وقال صلى الله عليه وسلم: " التأني من الله والعجلة من الشيطان " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإنَّ المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " .

وما أحسن قول أبي الفضل بن النحوي في هذا:

والرفق يدوم لصاحبه ... والخرق يصير إلى الهرج

خرقاء عيابة.
العيابة: التي تعيب الناس كثيرا. وهذا مثل للأحمق وذي العيوب، يعيب غيره وينسى عيوبه. قال إسماعيل بن القاسم:

يا من يعيب وعيبه متشعب ... كم فيك من عيب وأنت تعيب
لله درك كيف أنت وغاية ... يدعوك ربك عندها فتجيب
و في الحديث: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس

أخرق من حمامةٍ.
الخرق مر، والحمام أيضاً تقدم ما فيه، ووصف بالخرق لأن الحمامة تبيض على أعواد ولا تحكم عشها، فربما وقع بيضها فتكسر. وقد تأتي إلى غصن شجرة فتبني عليه عشها في الموضع الذي يحركه الريح، فلا يكاد يسلم بيضها. قال عبيد بن الأبرص:

عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضها الحمامة
جعلت لها عودين من ... نش وآخر من ثمامة

و يقال أيضاً: أحمق من حمامةٍ.
خرقاء وجدت صوفاً.
تقدم أنَّ الخرق يكون بمعنى عدم الإتقان؛ والمرأة الخرقاء من هذا المعنى ضد الصناع؛ والصوف معروف، البعض منه صوفة.
ومعنى المثل أنَّ المرأة غير الصناع إذا وجدت صوفا عاثت فيه وودرته. يضرب مثلا للأحمق يجد مالا فيضيعه ويتلفه، أو لمن يخرق في كل ما وجده وتمكن منه.يحكى إنَّ الحسن رضي الله عنه لقي سباج وهو يسرع، فجل الحسن يومئ إليه بإصبعه كفعل الغازلة ويقول:

خرقاء وجدت صوفا.
وهذا المثل كالمثل الآخر الآتي: عبد وخلى في يديه.

أخسر صفة من أبي غبشان.
الخسارة ضد الربح. خسر الرجل بالكسر يخسر خسراً وخسارة: وأبو غبشان هو الخزاعي. وتقدم هذا المثل وما كان من قصته في حرف الحاء المهملة.

خش ذؤالة بالحبالة.
الخشية: الخوف، خشي بالكسر يخسى خشية؛ وخشية أنا تخشية: خوفة؛ وخشى فلانا تخشية: خوفه؛و ذؤالة بذال معجمة، على مثال ثمامة الذئب، مأخوذ من الذالان، وهو مشية فيها إسراع أو خفة وميس. يقال: ذال يذال ذال وذالانا إذا مشي تلك المشية؛ والحبالة: التي يصاد بها.

والمعنى: خوف الذئب بالحبالة. ويضرب عند الأمر بالتهديد والتبريق.

خشية خير من ملء وادٍ حباً.

أي: أن تخاف أرفع لمقدارك وأسمى لجانبك من أن تحب.

وهذا كقولهم: رهبوتى، خير من رحموتى؛ وقول الغضبان بن القبعثري للحجاج: أو فرق خير من حبين، وسيأتي.

أخطأت اسكت الحفرة.
الخطأ ضد الصواب. ويقال: أخطأ يخطئ إخطاء فهو مخطئ؛ ويقال خطئ بالكسر يخطأ إذا سلك سبيل الخطأ، عامدا أو غير عامد، فهو خاطئ. وقيل: الخاطئ هو المتعمد؛ والاست بهمزة الوصل والسته: الدبر أو حلقته؛ والحفرة بضم الحاء معروفة. وهذا المثل يضرب لمن يحيد عن الصواب في مقصده، ويضع الشيء في غير موضعه. ومعناه ظاهر.

أخطأ من ذبابٍ.
الخطأ مر، وكذا الذباب، ووصف بالخطأ لأنه يقع في الهلاك بنفسه: فقد يسقط في الماء الحار فيموت، أو في الشيء الذي يلتزق به ولا يخلص منه.

أخطأ من فراشٍ.
الفراش بفتح الفاء بوزن سحاب هو الذي يتهافت على السراج، واحده فراشة. ووصف بالخطأ أيضاً كما ذكر في الذباب، لأنه يلقي نفسه على السراج والنار كلها فيحترق. وقال الشاعر:

جهالة سنور وخطأ فراشةٍ ... وانك من كلب التهارش أجهل

و في الحديث: إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وما احسن من قول الأدباء:

لهيب الخدين بدا لطرفي ... هوى قلبي عليه كالفراش
فأحرقه فصار عليه خالا ... وها أثر الدخان على الحواشي

و قول الآخر:

جلت محاسنه عن كل تشبيه ... وجل عن واصف في الحسن يحكيه
أنظر إلى حسنه واستغن عن صفةٍ ... سبحان خالق سبحان باريه
النرجس الغض والورد الجني له ... والأقحوان النضير الضوء في فيه
دعا بألحاظه قلبي إلى عطبي ... فجاءه مسرعا طوعا يلبيه
مثل الفراشة تأتي إذ ترى لهبا ... إلى السراج فتلقي نفسها فيه

الخنفساء إذا مست نتنت.

الخنفساء:الدويبة السوداء المعروفة. يقال إنها خنفساء وخنفس وخنفسة ونونها زائدة. والنتن قبح الرائحة. يقال: نتن الشيء بالضم وأنتن فهو منتن. والخنفساء معروفة بالنتن فيضرب ذلك مثلا للرجل المشتمل على الخبث والعيب وإنّه يترك ويجتنب. والمعنى: لا تفتش ما عنده فانه يؤذيك بنتن معايبه أخف حلماً من بعير.

الخف ضد الثقل. خف الشيء يخف خفة فهو خفيف. والقياس خافٌ كدب يدب فهو داب. ولكن حملوا الخفة على ضدها وهو الثقل خفيف كما قالوا: ثقيل. والحلم تقدم. والبعير معروف. وهذا كما قال الحماسي:

لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعيرُ
يصرفه الصبي بكل وحهٍ ... ويحسبه على الخسف الجريرُ

أخف حلما من عصفورٍ.
الحلم مر، والعصفور: الطائر الصغير المعروف وهو على أنواع كثيرة. والأنثى عصفورة. قال الشاعر:

كعصفورة في كف طفلٍ يسومها ... حياض المنايا وهو يلهو ويلعبُ

و يضرب المثل في خفة الحلم بالعصفور ولا خفاء بذلك. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

لا باس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير

وقال الآخر:

إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا ... عني وما سمعوا من صالح دفنوا
مثل العصافير أحلاماً ومقدرةً ... لو يوزنون بزف الريش ما وزنوا

أخف رأساً من ذئبٍ.
الذئب معروف ويوصف بخفة الرأس ويعنون في النوم لمّا يزعمون من أنه لا ينام إلاّ بإحدى مقلتيه كما قيل:

ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجعُ

وقالوا أيضاً: أخف رأسا من الذباب ومن الطائر.

أخف من لا على اللسانِ.

الخفة مرت ولا: حرف نفي وهي خفيفة على اللسان. فيضرب المثل بذلك في الخفة وهو يحتمل أن تكون الخفة من جهة اللفظ لقلته وهو ظاهر، أو من جهة المعنى لملائمة الإنكار للطبع غالبا وخفة التبري والتنصل على النفس في أكثر الأمور أو منهما معا. ويقال أيضاً: كلا ولا في التعبير عن السرعة والخفة. قال:

يكون نزول القوم فيها كلا ولا ... غشاشاً ولا يدنون رحلاً إلى رحلِ

غشاشا: أي على عجل. وقال الآخر:

وأروع أهداه لي الليل والفلا ... وحس بمس الأرض لكن كلا ولا

أخف من يراعةٍ.

اليراعة بفتح الياء المثناة من تحت ثم راء ثم ألف ثم عين مهملة واحد اليراع وهو يطلق على طائر يطير بالليل كأنه نار. وهو في هذا المثل يجوز أن يراد به القصبة وأن يراد به الطائر.

والمعنى الأول هو مراد البلغاء والأدباء عند وصف أحد بالكتابة. وقولهم مثلا: إنَّ فلان من أرباب اليراعة وفرسان اليراعة وهذا في الشعر والنثر لا يحصى.

تخلصت قائبةٌ من قوبٍ.
التخلص: النجاة. خلص الرجل تخلصا فتخلص هو: نجا؛ والقابية: البيضه؛ والقوب: الفرخ ؛ وأما بالفتح فمصدر. يقال: قاب الطائر بيضته إذا فلقها ، قوبا، فانقابت هي وتقوبت.

ومعنى تخلصت قابية من قوب على هذا: تخلصت البيضة من الفرخ. يضرب لمن انفصل من صاحبه. وعليه ففي المثل قلب لأن الذي يتخلص هو الفرخ لا البيضة؛ غير أنه يصح إسناده إلى البيضة باعتبار كما تقول: تخلصت الحامل من ذي بطنها. وقيل إنَّ القائبة الفرخ والقوب البيضة؛ فلا قلب والأول أنسب.

ولفظ المثل عند الجوهري: برئت قائبة من قوبٍ. وهذا اللفظ لا يكون معه قلب على كلا التفسيرين لأن نسبة البراءة إليها معا صحيحة.

وحكي أنَّ أعرابيا استخفر أحداً فقال له: إذا بلغت بكل مكان كذا فبرئت قائبة من قوب أي فقد تخلصت من خفارتك.

اختلط الحابل بالنابل.
الاختلاط معروف؛ والحابل الذي يصيد بالحبل؛ والنابل الذي يصيد بالنبل فيضرب ذلك في اختلاط الرأي ويقال الحابل هنا هو السدى والنابل الطعمة وهذا كما مر في قولهم: حول حابله على نابله.

اختلط الخاثر بالزباد.
هذا المثل كالذي قبله. والخاثر ضد القيق. يقال: خثر اللبن بالضم والكسر فهو حاثر. والزباد على مثال رمان نبت والزباد أيضاً من اللبن ما لا خير فيه. فكأن المعنى أنه اختلط الجيد بالرديء والصحيح بالسقيم.

وقال البكري في شرح الأمثال: الزباد نبت كانوا يضعون ورقه على ظرف اللبن. ويقال أيضاً: زبدت المرأة الصوف والشعر إذا نفسته. فيحتمل أن يريد في المثل أنَّ خاثر اللبن اختلط بمنفوش الصوف فلا يؤكل. انتهى. وما ذكرناه أوّلاً أظهر والله أعلم.

خلع الدرع بيد الزوج.
هذا مثل يضرب عند الخطأ في وضع الأشياء غير موضعها وتقدمت قصته ومن قاله في حرف الجيم عند قولهم: التجريد لغير نكاح مثله، فأنظره هنالك.

أخلف من صقرٍ.
يقال: خلف فم الصائم بفتح الآم يخلف خلوفا وخلوفة بضمهما؛ وأخلف إذا تغير رائحته. ومنه: نومة الضحى مخلفة للفم.

وفي الحديث أيضاً: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. والصقر: الطائر المعروف وتقدم. ضربوا المثل بخبث رائحة فمه.

أخلف من عرقوبٍ.
أخلف اسم تفضيل من الإخلاف في الوعد. لكن المعروف فيه الرباعي. يقال: أخلفني فلان ما وعدني وهو أن يثول شيئا ولا يفعله على الاستقبال. وقد يقال: أخلفه إذا وجد وعده خلفا. قال الأعشى:

أثوى وفصر ليلة ليزودا ... فمضت وأخلف من قتيلة موعدا

أي مضت الليلة.
نعم يجوز بناء اسم التفضيل من الرباعي على أفعل عند بعض المحققين كأعطى. وعرقوب رجل من العمالقة وعد أخاه تمرا فأخلفه وسيأتي. قال علقمة:

وقد وعتك موعداً لو وفت به ... مواعيد عرقوبٍ أخاه بيثربِ

وقال كعب بن زهير رضي الله عنه:

كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلا ... وما مواعيده إلاّ الأباطيلُ

و قلت أنا من قصيدة:

فسيحتبيك بوعدٍ غانيةٍ ... أو وعد عرقوب جنى التمر

خله درج الضب
التخلية: الترك والدرج بفتحتين الطريق؛ والضب معروف.

والمثل يضرب في الأنفة من مصاحبة من يرغب عن صحبته.

والمعنى: خله يذهب حيث شاء وقيل معناه الذهاب ، كأنه قيل: يذهب ذهاب الضبأي خله كخلال الضبلأن الضب أسوأ الحيوان هداية ولذلك يضرب به المثل فيقال. أضل من ضب. ويقال أيضاً: خل درج الضبأي خل طريقه لئلا يمر بين يديك فتنتفخوهذا قريب في المعنى مما تقدم من قولهم: الخنفساء إذا مست نتنت، كما مر ذلك.

خلي سبيل من وهى سقاؤه
التخلية مرت، وتقول: خليت سبيل الرجل إذا تركته ولم تتعرض له. ووهى السقاء بالفتح يهي وهياً: تمزق. والسقاء بالكسر والمد القربة.

قال الشاعر:
أقول لعبد الله لمّا سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهي: شم أي أقول له حين وهى سقاؤنا ونحن بوادي عبد شمس: شم البرقأي انظر إليهفشم، في آخر البيت فعل أمر وهو معمول القول. وهذا المثل قد يروى رجزاً فيقال:

خل سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه

يقال: أرقت وهرقت بقلب الهمزة هاء فأنا مريق ومهريق بفتح الهاء وكان القياس حذف الهاء لأنها في مكان همزة أفعل وهي تحذف في المضارع لكنها لمّا صارت هاء ذهب الثقل فبقيت. قال الشاعر:

فظللت كالمهريق فضلة مائه ... في ظل هاجرةٍ للمع سرابِ

و قد يقال: أهرقته بتسكين الهاء والجمع بين الهمزة وبدلها تناسيا لأصل فأنا مهريق بالسكون أيضاً. قال:

فصرت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فرق رابية صلدِ

و الفلاة: القفرة والجمع فلى وفلوات.
وهذا المثل كالذي قبله مضربا. وقد قيل إنّه يضرب في الرجل لا يستقيم في أمره وإنّه لا ينبغي أن يعاني. وقيل إنه يضرب في اقتناء السر بمعنى إنّه إذا باح صاحبك بسرك ونضح به كما ينضح هذا السقاء الواهي بالماء فدعه عنك ولا تؤاخه ولا تصاحبه فلا خير لك فيهوهذا مناسب لتشبيههم من لا يكتم السر بالغربال كما قال الحطيئة:

أ غربالاً إذا استودعت سراً ... وكانونا على المتحدثينا

خلاؤك أقنى لحيائك.
الخلاء بفتح الخاء والمد يطلق مصدرا من قولك: خلا المكان وغيره يخلو خلاء وخلوا. ومكان حالٍ وخلاء: لا أحد به. قال حسان رضي الله عنه:

عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء

و قد يطلق على المتوضأ كما في الحديث ويطلق على المكان القفر لا شيء به وهو المراد. قال زهير:

فأما ما فريق العقد منها ... فمن أدماء مرتعها الخلاءُ

و الحياء بالمد معروف وقني الرجل الحياء وقناه بالكسر والفتح وأقناه واقتناه: لزمه وحفظه. قال عنترة:

قامت تخوفني الختوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزلِ
فأجبتها: إنَّ المنية منهل ... لا بد أن أسقى بكأس المنهلِ
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتلِ

أي: الزمي حياءك واحفظيه ولا تضيعيهوقال العطوي:

أيقني جميل الصبر من هد ركنه ... وهيض جناحاه وجد الأنامل
و معنى المثل أنَّ منزلك إذا خلوت به هو ألزم وأحفظ لحيائك.

الخلة تدعو إلى السلة.
الخلة بفتح الخاء الحاجة والخصاصة والفقر. قال:

رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلتِ

و يقال للرجل إذا مات: اللهم أخلف على أهله بخير واسدد خلتهأي فرجته التي تركها. قال أوس بن حجر:

لهلك فضالة لا تستوي ... الفقود ولا خلة الذاهب

يقول: إنّه كان سيدا فلما مات ترك ثلمة لم تسد. تقول: خل الرجل وأخل به بالضم إذا احتاج. ورجل مخل ومختل وخليل أي فقير. قال زهير:

وإن أتاه خليلٌ يوم مسألة ... يقول: لا غائبٌ مالي ولا حرم

و اختل إليه: احتجاج. وفي كلام أبن مسعود: عليكم بالعلمفإنَّ أحدكم لا يدري متى يختل، أي متى يحتاج الناس إلى ما عنده، وما أخلك إليه، أي ما أحوجكوالأخل الأفقر. ويقولون: " الأخل فالأخل، أي الأفقر فالأفقر " . والسلة بفتح السين: السرقة وكذا الاسلال. ويقال في بني سلة أي سرقة. والمعنى أنَّ الحاجة والخصاصة تدعوا إلى السرقة وتلجئ إليها، عياذاً بالله تعالىوأما الخلة بضم الخاء فهي الصداقة. والصديق أيضاً للذكر والأنثى، ورجل خلة لي وامرأة خلة. وقال امرؤ القيس:

وكان لها في سالف الدهر خلة ... يسارق بالطرف الخباء المسترا

أي خليل. وقال الآخر:

ألا أبلغها خلتي جابراً ... بأن خليك لم يقتل

وقال الآخر:

شبعت من نوم وزاحت علتي ... وطرفي في المنام خلتي
ما علمت إنّها ألمت ... حتى قضت حاجتها وولت
أي خليلتي.

خلا لك الجو فبيضي واصفري
الجو معروف، وباضت الدجاجة ونحوها، تبيض؛ وصفر الطائر، يصفر، صفيراً: صوت.
وهذا المثل يضرب للأمر يقدر عليه الإنسان متمكنا. وأوّل من قاله كليب بن ربيعة التغلبي الوائلي في شعر له، وذلك إنّه كان له حمي لا يقرب، فباضت فيه قبرة؛ والقبرة بضم القاف وفتح الباء المشددة الطائر المعروف؛ فأجاره وقال يخاطبها:

يالك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
وانقري ما شئت أنَّ تنقري

و ذلك إنّه إنّما يصفر الطائر ويتغنى في الخصب. فدخلت ناقة البسوس الحمى، فوطئت بيض القبرة، فرمى كليب ضرعها، فقتل جساس كليبا، وهاجت من ذلك حرب البسوس بين بني وائل أربعين سنة. وفي ذلك يقول الشاعر:

كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وايسر جرما منك ضرج بالدم
رمى ضرع ناب فأسمر بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليماني المسهم

و سيأتي تتمة هذا الحديث.
وقيل إنَّ أوّل من قاله طرفة بن العبد وذلك إنّه قال لأمه وهو غلام: إني أريد صيد القنابر، فابعثي أمتك مع البهمالقنابر جمع قنبرة وهي القبرة، فقالت له أمه: يا بني إنَّ المضيع من وكل ماله وأضاع عياله. ثم إنّها أرسلت أمتها مع البهم. وخرج طرفة وصاحب له معهما فخ، حتى أتيا مكانا كانا يعهدان به القنابر كثيرة. فنصب الفخ، وتنحيا غير بعيدين. فجعلت قبرة تحوم حول الفخ، ثم فقرته فأخطأها. فأقبل طرفة نحو فخه وهو يقول: قد يعثر الجواد، وتمحل البلاد، ويذهب التلاد، ويضعف الجلاد. ثم نصب فخه، فوقعت القنابر حول الفخ، وهي تحيد عنه وتلقط ما أصابت. فلما طال ذلك به، ضجر وانتزع فخه وهو يقول:

قاتلكن الله من قنابر ... مهتديات بالفلا نوافر
ولا سقيتن معين الماطر ... ولا رعيتن جنوب الحاجر

و انصرف هو وصاحبه راجعين. ثم التفت فإذا القنابر قد سقطن بالموضع الذي نصب فيه فخه يلتقطن، فقال: يا لك من قبرة . . الأبيات المذكورة. فلما أتى منزله، ورأته أمه لم شيئاً، فقالت له: حدك اليوم حاد، وصدك صادفقال لها طرفة:

ما كنت محدوداً إذا غدوت ... وما رأيت مثل ما لقيت
من طائر ظل بنا يحوت ... ينصب في اللوح فما يفوت
يكاد من رهبتنا يموت

فقالت أمه: إني لأرجو أنَّ تكون شاعرا، وأنَّ تشبه خالكوحات، ويحوت: أسرع. ورد أنَّ أبن عباس رضي الله عنهما، تمثل بهذا المثل، وذلك حين خرج الحسين، رضي الله عنه، إلى العراق، فلقي أبن عباس أبن الزبير، فقال له: خلا لك الجو فبيضي وأصفري. وهذا حسين يخرج إلى العراق ويخلي لك الحجاز
خامري أم عامر
خامري: معناه تستري وتغطي، كأنه من التخمير وهو التغطية والستر. ومنه الخمرو الخمار؛ وأم عام: الضبع. قال:

ومن يجعل المعروف من دون أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر

و سيأتي. وللضبع كنى كثيرة: يقال لها أم عامر وأم عمرو، وأم الهنبر وأم خنور؛ ويقال لها أيضاً: حضاجر بفتح الحاء على وزن الجمع، وجعار، وجيال؛ ويقال لها الموقفة. قال معاوية بن زهير:

فدونكم بني لأيٍ أخاكم ... ودوني مالكا يا أم عمر
فلولا مشهدي قامت عليه ... موقفة القوائم أم أجر

أردنا موقفة القوائم أنَّ في قوائمها الأوقاف، وهي الخلاخل، جمع وقف، ويعني السواد الذي في قوائمها. ويقال: الجارية موقفة: لبست الوقف. والاجري جمع حرو، وهب أولادها. ومثلها قول الهذلي:

وغودر ثاويا وتأوبته ... موقفت أميم، لها فليل

وقال لها عرفاء والخامعة أي العرجاء قال الشنفري:

ولي دونكم أهلون: سيد عملس ... وأرقط زهول وعرفاء جيئل

وقال الآخر:

يا لهف من عرفاء ذات فليلةٍ ... جاءت إلي على ثلاث تخمع
وتظل تنشطني وتلحم أجريا ... وسط العرين وليس حي يدفع
لو كان سيفي باليمين دفعتها ... عني ولم أوكل وجنبي الأضيع

وقال عنترة:

إنَّ يعقرا مهري فإنَّ أباهما ... جزر لخامعة ونسر قشعم

و لذلك قال أبن المهلب: الضبعة العرجاء، فلحن في قوله الضبعة، إذ لا قال كما مر.
ويقال إنَّ الذي بها من العرج ليس عرجا حقيقة، وإنّما يتخيل كذلك للناظر من إفراط الرطوبة في أحد جانبيها. الضبع أحمق الحيوان، كما مر ذلك في الحاء. وهي أفسقها أيضاً وأشبقها. ويزعمون إنّها لا يمر بها حيوان من نوعها إلاّ علاها، وإنّها تقلب الميت على قفاه وتستعمل كمرته، ولذلك يقال لها حين تصطاد: أبشري أم عامر بجراد عضال، كمر الرجالويخدعونها بذلك. وقال الشاعر:

فلو مات منهم جرحنا لأصبحت ... ضباع بأكناف الشريب عرائسا

و قولهم في هذا المثل: خامري أم عامر، تقدم انهم يقولونه للضبع عند الاصطياد يخدعونها به. فبقي مثلا للمغرور ومن عرف الدنيا وتقلبها ونقضها ما أبرمت وسلبها ما وهبت، ثم يسكن إليها مع ذلك ويغتر بها كما تغتر الضبع بقول القائل: خامري أم عامر. وقال البهاء زهير يشير إليه:

يا هذه لا تغطي ... والله مالي فيك خاطر
خدعوك بالقول المحا ... ل فصح انك أم عامر

الخنق يخرج الورق.
الخنق بفتح الخاء وكسر النون، كالكذب مصدر. يقال: خنقته بفتح النون خنقا، فهو خنق أيضاً وخنيق ومخنوق؛ وخنقته فاختنق.
والخناق بالكسر الحبل يختنق به وبالضم: داء يمتنع معه نفوذ النفس إلى الرئة والقلب. والورق بوزن كتف: الدراهم المضروبة، ويقال لها الرقة بحذف الواو على مثال عدة، والورق بفتحتين والورق بسكون وتثليث الواو.
والمعنى انك إذا اشتدت على الرجل وضيق عليه أعطاك وهذا دأب الدنيء لا يسمح إلاّ رهبة أو رغبة، كما قيل:

رأيتك مثل الجوز يمنع لبه ... صحيحا ويعطا لبه حين يكسر

خير الأمور أوساطها.
الخير هنا اسم تفضيل. يقال: فلان أخير من فلان. وتحذف الهمزة غالبا فيقال: خيرٌ منه. فإن أطلق تناول جميع أوصاف المدح، وإن قيد بشيء تقيد؛ والأمور جمع أمر وهو عام؛ والأوساط جمع وسط بمعنى متوسط بين طرفين.
وهذا الكلام يروى حديثا وهو من جوامع كلمه التي أعطيها صلى الله عليه وسلم وهو متناول لأمور من الديانات والأخلاق والآداب والسياسات والمعاشرات والمعاملات تعجز عقول الخلق عن إحصائها. وقد صنف ذوو البصائر من أهل العلم في تفاصيل ذلك دواوين. وهو بحر لا ساحل له، جمع له صلى الله عليه وسلم في جملة واحدة كما قال صلى الله عليه وسلم : أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا.
قال الجاحظ: ينبغي للرجل أن يكون سخيا لا يبلغ التبذير حائطا لا يبلغ البخل شجاعا لا يبلغ الهوج محترسا لا يبلغ الجبن حييا لا يبلغ العجز ماضيا لا يبلغ القحة قوالا لا يبلغ الهذر صموتا لا يبلغ العي حليما لا يبلغ الذل منتصرا لا يبلغ الظلم وقورا لا يبلغ البلادة نافذا لا يبلغ الطيش. قال: ثم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع ذلك في كلمة واحدة وهي قوله عليه السلام: خير الأمور أوساطها وما ذلك إلاّ لأنّه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم. انتهى. وإلى هذا أشار بعض الشعراء بقوله:

عليك بأوساط الأمور فإنها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا

و الآخر بقوله:

لا تذهبن في الأمور فرطا ... وكن من الناس جميعاً وسطا

و المعري في قوله:

فإن كنت تهوى العيش فبالغ توسطا ... فعند التناهي يقصر المتطاولُ
توقى البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كواملُ

 

خير العشاء سوافره.
خير: تقدم؛ والعشاء بالفتح والمد طعام العشي. ولا يخرجه التأخير عن كونه عشاء كما قال الحطيئة:

وآنيت العشاء إلى سهيلٍ ... أو الشعرى فطال بي الإناء

و آنيته: جعلت أناه أي وقته ذلك الزمان المتأخر. ويروى: وأكريت العشاء . . الخ فطال بي الكراء أي أخرت؛ والسوافر جمع سافرة يقال أسفرت الشمس وسفرت إذا أضاءت وسفرت المرأة عن وجهها: كشفت عنه. والمراد أنَّ خير العشاء ما أكل منه بضوء النهار وكأن اللقمة حينئذ تسفر للظلام عن وجهها.
وهذا المثل يكلم به الأصمعي للرشيد. ذكر بعض الأدباء عن أبي بكر بن شقير النحوي قال: دخلنا على محمد اليزيدي وهو يتغدى فقال: يا أبا بكر خير الغداء بواكره فما خير العشاء فقلت: لا أدري. فقال: دخلت على عبيد الله بن سليمان وهو يتغدى فقال: خير الغداء بواكره فخير العشاء ماذا فقلت لا أدري. فقال: دخلت على حسين الخادم وهو يتغدى فقال: يا أبا القاسم خير الغداء بواكره فخير العشاء ماذا فقلت: لا أدري. فقال: كنت بحضرة الرشيد وهو يتغدى فدخل الأصمعي فقال: يا أصمعي خير الغداء بواكره فخير العشاء مادا فقال: بواصره ومعناه ما يبصر من الطعام. انتهى.
وزعما أنَّ تأخير العشاء يورث ضعفا بالبصر. ومن ثم قال أبو بكر بن دريد:

وأرى العشا في العين ... أكثر ما يكون من العشاءِ

العشا الأول بألف مقصورة وهو ضعف البصر وبالمد الطعام. وقال كشاجم:

ونديم مخالفٍ ... لا يشاء الذي أشا
هو في الصحو لي أخ ... وعدوٌ إذا انتشا
اقترحت العشاء يو ... ماً عليه فاندهشا
ساعة ثم قال لي: ... العشا يورث العشا

و ورد في بعض الأحاديث نهيا عن ترك العشاء: لا تدعوا العشاء ولو بكف من حشف فإن تركه مهرمةٌ.

خير العلم ما حوضر به
المحاضرة: المذاكرة. والمعنى أنَّ خير العلم ما حصل الإنسان في صدره فوجده عند المحاضرة وكان عدة له عند المذاكرة. ويقال حرف في قلبك خير من ألف في كتبك. ويقال: لا خير في علم لا تعبر به الأودية ولا تعمر به الأندية. ويقال: حفظ سطرين خير من حمل وقرين ومذاكرة اثنين خير من هذين. وينسب للشافعي:

علمي معي حيثما مشيت يتبعني ... وعاؤه القلب لا بيتي وصندوقي
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... أو كنت في السوق كان العلم في السوق

وقال الآخر:

عليك بالحفظ دون الكتب تجمعها ... فإن للكتب آفات تفرقها
الماء يغرقها والنار تحرقها ... والفأر يخرقها واللص يسرقها

لكن قد يولع المرء بالحفظ حتى يفوته تصور المعاني فيكون كالحمار يحمل أسفارا. ولذلك روي في الخبر: همة السفهاء الرواية وهمة العلماء الدراية. وقال أبن مسعود: كونوا للعلم وعاة ولا تكونوا له رواة فقد يروى ما لا يدرى ويدرى ما لا يروى. وحدث الحسن البصري بحديث. فقال له رجل: عمن فقال: وما تصنع بعمن قد نالتك عطيته وقامت عليك حجته. وربما وثق بصدره ولم يقيد فيطرأ عليه النسيان ويضيع علمه ولذلك ورد في الخبر: قيدوا العلم بالكتاب.
وورد أنَّ رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كثرة النسيان فقال له استعمل يدك أي اكتب وشاع في أمثال الناس: ينسى الرأس ولا ينسى الكراس.

خير الغداء بواكره.
الغداء بالفتح والمد والدال مهملة ضد العشاء وتقدم هذا. والمراد أنَّ خير الغداء أيضاً ما ابتك به. ولهذا علة وتحقيق يذكر في الطب. ومنهم من رأى في الغداء التأخير. ويروى قول علي كرم الله وجهه أو غيره من الحكماء: من أراد النساء ولا نساء فليكر الغداء وليبكر العشاء وليخفف الرداء وليقلل غشيان النساء. انتهى. قوله فليكر الغداء: أي يؤخره كما في بيت الحطيئة. وأراد بتخفيف الرداء أن يجنب نفسه ثقل الدين: فإن هم الدين يهرم كما قال: لا هم إلاّ هم الدين ولا وجع إلاّ وجع العين.

خير الغنى القنوع وشر الفقر الخضوع.
الغنى بكسر الغين وألف مقصورة ضد الفقر. قال:

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلتِ
و قد يمد للضرورة. قال:
سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناءُ

و القنوع: السؤال والتذلل للمسؤول. وقد قنع الجل بالفتح قنوعا فهو قانع وقنيع. قال:

لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أخف من القنوع

و المفاقر جمع فقر على غير قياس مثل مذاكير لذكر ومحاسن لحسن على ما في ذلك من كلام عند النحويين. ومنه قول النابغة:

فأهلي فداء لامرئ إن أتيته ... تقبل معروفي وسد المفاقرا

وقال عدي بن زيد العبادي:

وما خنت ذا عهد وأنت بعهده ... ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا

أي سائلا. وفي كلامهم: نسال الله القناعة ونعوذ به من القنوع.
وقلت في هذه المادة من قصيدة:

إن دعا القنوع ليس بشافيه ... هذا المرء نيل اقصى الأماني
ومن اعتز بالقناعة أمسى ... في نعيم وعزة وأمانِ

و قد يكون القنوع بمعنى القناعة وهو الرضى بالقسم على الضد وهذا هو المراد في المثل. قال الشاعر:

وقالوا قد ذهبت فقلت كلا ... ولكن أعزني القنوعُ

و القانع: الراضي. قال لبيد:

فمهم سعيد آخذٌ بنصيبه ... ومنهم شقى بالمعيشة قانعُ

و يقال إنما سمي السائل قانعا لنه يرضى بما أعطي وإ، كان قليلا. فيكون معنى القنوع والقناعة واحد أبدا؛ غير أنَّ فعل القناعة هو بالكسر يقال قنع بالكسر يقنع قناعة فهو قنع وقانع وقنوع وقنيع. ة الفقر بفتح الفاء الحاجة: والخضوع: التذلل.
ومعنى المثل واضح في صيانة الحر نفسه عن خسيس المكاسب. وهو من كلام أوس بن حارثة.
روي أنه عاش دهرا وليس له إلاّ ابنه مالك. وكان لأخيه الخزرج خمسة أولاد: عمرو وعوف وجشم والحارث وكعب. فلما احتضر أوس قال له قومه: كنا نأمرك بالزواج في شببك فلم تتزوج حتى حضرك الموت. فقال: الأوس: لم يهلك هالك ترك مثل مالك يعني مالك بن أوس ولده وإن كان الخزرج ذا عدد وليس لمالك ولد. فلعل الذي استخرج العذف من الجريمة والنار من الوثيمة أن يجعل لمالك مسلا ورجالا بسلا يا مالك المنية ولا الدنية والعتاب قبل العقاب والتجلد لا التبلدو أعلم أنَّ القبر خير من الفقر؛ وشر شارب المشتف وأقبح طاعم المقتف؛ وذهاب البصر خير من كثير من النظر؛ ومن كرم الكريم الدفاع عن الحريم ومن قل ذل ومن أمر فل. وخير الغنى القناعة وشر الفقر الضراعة؛ والدهر يومان: فيوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصبر فكلاهما سينحسر.فإنما تعز من ترى ويعزك من لا ترى. ولو كان الموت يشترى لسلم منه أهل الدنيا ولكن الناس فيه مستوون: الشريف الأبلج واللئيم المعلهج؛و الموت المفيت خير من أن يقال لك هبيت. وكيف بسلامة من ليست له إقامة وشر من المصيبة سوء الخلف وكل مجموع إلى تلف. حياك إلاهك انتهى.
فنشر الله من مالك بعدد بني الخزرج. والعذق بالفتح النخلة نفسها وبالكسر كباستها كما مر في الهمزة؛ والجريمة النواة؛ والوثيمة الموطوءة من الحجارة بحوافر الخيل ونحوها من الوثم وهو الكسر كما قال عنترة:

خطارة غب السرى موارة ... تطس الاكام بذات خف ميثمِ

و هذا الكلام يحلف به العرب يقولون: لا والذي أخرج العذق من الجريمة والنار من الوثيمةومن أيمانهم أيضاً: لا والذي شقهن خمسا من واحدأي الأصابع ولا والذي أخرج قابية من قوبأي فرخا من بيضة كما مر؛ و: لا والذي وجهي زمم بيتهبفتحتيناي تلقاءه وتجاهه؛ والبسل: الشجعان وأحدهم باسل والبسالة: الشجاعة؛ والمشتف هو المستقصي ما في إنائه ومنه حديث أم زرع: إن شرب اشتف. والمقتف: الآخذ للشيء بعجلة؛ وأمر الرجل: كثر عدده؛ وتعز: تغلب؛ والمعلهج: المتناهي في الدناءة واللؤم، وقيل هو العريق فيه اللئيم بن اللئيم، والهبيت: الأحمق الضعيف، ويقال له الجبان المخلوع القلب. وضده الثبيت. قال طرفة:

فالهبيت لا فؤاد له ... والثبيت قلبه قيمه

و يروى: فهمه قيمه.
وقد علمت أنَّ لفظ المثل في هذه الوصية التي سردنا من كلام أوس: خير الغنى والقناعة، وشر الفقر الضراعة. ورواية المثل على هذا الوجه هو رأي من لا يرى أنَّ القنوع يكون بمعنى القناعة، وبذلك اعترض البكري على أبي عبيد في إيراده المثل على الالفظ السابق، وقد علمت مما مر إنّه صحيح ومثل هذا المثل قول الفارعة بنت طريف ترثي أخاها:

فتى لا يعد الزاد إلاّ من التقى ... ولا مال إلاّ من قنى وسيوف

و قول الأبيرد اليربوعي:

فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
و قول إبراهيم بن العباس الصولي:

أسد ضار إذا استنجدته ... وأب بر إذا ما قدرا
يعرف الأبعد إنَّ أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا

و قوله أيضاً:

ولكن الجواد أبا هشام ... نقي الجيب مأمون المغيب
بطي عنك ما استغنيت عنه ... وطلاع عليك مع الخطوب

و قول الآخر:

إذا أعطشتك اكف اللئام ... كفتك القناعة شبعا وريا
فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
فإنَّ إراقة ماء الحيا ... ة دون إراقة ما المحيا

و تقدم ما في ذكر القناعة من الشعر وسيأتي أيضاً كثيرا، إن شاء الله تعالىووصية أوس المذكورة مشتملة على أمثال عدة، وقد نبهنا على غريبها، والباقي واضح
خير ما رد في أهلٍ ومالٍ
هذا يستعمل في الدعاء بالخير للقادم من سفر. والمعنى: جعل الله ما جئت به خير ما رجع به الغائبوقيل: المعنى أنَّ مجيئك بنفسك خير مارد في أهلك ومالك.

خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة.
المال معروف؛و السكة بالكسر: الحديد التي تضرب عليها الدراهم، والتي يحرث بها. وتطلق أيضاً على السطر من الأشجار؛ والمأبورة: المصلحة، يقال: أبر نخلة، يأبره، أبارا وغبارة ككتب كتبا وكتابا وكتابة؛و أبرة تأبير: ألقحه وأصلحه؛ وأئتبر الرجل: طلب غيره أنَّ يأبره له. فقال طرفة:

ولي الأصل الذي في مثله ... يصلح الآبر زرع المؤتبر

و تأبرت النخل: قبلت الإبار. قال الراجز:

تأبري يا خير فسيل ... إذ ضن أهل النخل بالفحول

و المهرة معروف، والمأمورة: كثيرة النسل والنتاج. تقول: آمرته بالمد: كثرته. فكان القيلس أنَّ يقال مؤمرة، كما تقول أعمرتها فهي معمرة؛ ولكنه قيل مأمورة إتباعا لمأبورة، كما قيل لا دريت ولا تليت أي تلوت وأرجعن مازورات، غير ما جورات أي مزورات. على إنّه قد يقال أمرته كنصرته فهو مامور، كثرته، وهو لغية. وقد قيل بذلك في قوله تعالى: ) وإذا أردنا أنَّ نهلك قرية أمرنا مترفيها(. أي كثرنا. ويقال:أمر القوم بالكسر أي كثروا ومنه قول أوس بن حارثة السابق: من أمر فل، وقول الآخر:

نعلهم كلما يبني لهم سلف ... بالمشرفي ولولا ذاك قد أمروا

و قول أبي وجرة: أمرون لا يرثون سهم القعدد أي كثيرون اسم فاعل أمر. وقول الآخر: أم جوار ضنؤها غير أمر أي نسلها. وقول الآخر:

والإثم من شر ما يصال به ... والبر كالغيث نسله أمر

و السكة هنا أريد بها الأشجار. والمعنى أنَّ خير المال نخيل قمت عليه وأصلحته، أو فرس ولود. وقيل: أريد بالسكة الحديدة التي يحرث بها. ومعنى مأبورة: مصلحة. والمعنى أنَّ خير المال الحرث والبطن. وأعلم أن هذا الكلام ذكره اللغويون، وظاهر كلامهم إنّه من كلام العرب. وفي الصحاح إنّه حديث، والله أعلمووري في الحديث أيضاً من هذا المعنى: خير المال عين ساهرة لعين نائمة. وروي: تسعة أعشار الرزق في التجارة.و وري إنّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، ويأمر الفقراء باتخاذ الدجاج. وقات ابنه الخس: مائة من المعز قني، ومائة من الضأن غنى، ومائة من الإبل مني.

الخيل تجري على مساويها.
الخيل جماعة الأفراس. قال عنترة:

والخيل تقتحم الغمار عوابسا ... ما بين شيظمة وأجرد شيظم

و لا واحد لها. وحكى بعض اللغويين في واحده خائل من الختيال وهو التبختر. والخيل أيضاً جماعة الفرسان. قال امرؤ القيس:

فيا رب مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا

وقال الآخر:

علام تقول الرمح يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت

و الجري معروف والمساوي: المعائب قيل لا واحد لها وقيل جمع مسوء على غير قايس والإظهار إنّه جمع مساءة كما تقول في منارة منائر قال الشاعر في المفرد:

لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك

و قول الآخر في الجمع:

وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا

يقال ساء يسوؤه سوءا بالفتح وسوءا وسوائية كعلانية وسواية بحذف الهمزة ومساء ومساءة ومسائية ومساية إذا فعل به ما يكره. وهذا المثل يضرب في حماية الحريم والدفاع عنه مع الضرر والخوف. والمعنى أن الخيل وإن كانت بها أواصب وعيوب فإنَّ كرمها مع ذلك يحملها على الجري. فذلك الحر من الرجال يحمي حريمه على ما فيه من علة. وقيل إنَّ المراد بالمثل إنَّ الرجل يستمع به وفيه الخصال المكروهة وهو ظاهر.

الخيل اعلم بفرسانها.
الخيل تقدم والفرسان جمع فارس والفارس صاحب الفرس كما قالوا لابن وتامر لصاحب اللبن والتمر. ويجمع على فوارس. قال عنترة:

فإنَّ يك عبد الله لاقى فوارس ... يردون خال العارض المتوقد

و الفراسة بالفتح والفروسة والفروسية الحذق بركوب الخيل وأمورها. وقد فرس الرجل بالضم يفرس. قال أبن ظفر: وليس من ركب الفرس له حكم الفراسة عند العرب ولكن الفارس عندهم من أحسن الجلاد على الفرس واشتهر بالشجاعة كعمرو بن معدي كرب وربيعة بن مكدم وملاعب الأسنة وعنترة العبسي وأضرابهم. فهؤلاء فرسان العرب. قال الشاعر:

لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس

فلم يمتدح بنفس الركوب. انتهى.
والمثل يضرب لمن يظن إنَّ عنده غنى ولا غنى عنده.

الخيل أعلم من فرسانها.
هذا المثل يضرب لمن تظن به ظنا فتجده على ما ظننت هكذا قال بعض العلماء. ويحتمل إنَّ هذين المثلين واحد وإنّما وقع التحريف في أحدهما. والتفسير الثاني انسب بالأول كما لا يخفى.

أخيل من مذالة.
يقال: خال الرجل يخال واختال إذا تكبر وتبختر عجبا فهو خال وخائل وخال كقاص مقلوبا ومختال. والإذالة بالذال المعجمة: الإهانة. يقال: أذلت الرجل فهو مذال. قال زيد الخيل يخاطب بني الصيداء وكان غزا غزوة فطلع بعض خيله فأدركوه فأخذوه:

يا بني الصيداء ردوا فرسي ... إنّما يصنع هذا بالذليل
لا تذيلوه فإني لم أكن ... يا بني الصيدا لمهري بالمذيل
عودوه كالذي عودته ... دلج الليل وإطاء القتيل

و يحكى إنَّ أبا تمام الطائي خرج قاصدا البصرة وفيها عبد الصمد بن المعذل. فلما سمع عبد المد بقدومه إليه كتب إليه:

أنت بين اثنتين تبرز للناس ... وكلتاهما بوجه مذال
لست تنفك راجيا لوصال ... من حبيب أو طالبا لنوال
أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذل الهوى وذل السؤال

فلما وقف أبو تمام على الأبيات رجع وقال: شغل هذا ما وراءه ولا حاجة لنا فيه. وقريب من هذا قول بعضهم في هجو أبي الطيب المتنبي:

أي فضل لشاعر يطلب الفضل ... من الناس بكرة وعشيا
عاش حينا يبيع في الكوفة الماء ... وحينا يبيع ماء المحيا

و إنّما قال: ذلك لمِا يحكى إنَّ أبا الطيب المتنبي كان سقاء بالكوفة والله اعلم.
ونحو الأول قول الإسعري في مجونه الهجوية:

أنت بين اثنين يا نجل يعقوب ... وكلتاهما مقر السيادة
لست تنفك راغبا عرد عبد ... مستبطرا أو حاملا خف عادة
أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذل البغا وذل القيادة

و المذالة في هذا المثل أرادوا بها الأمة لأنها تذال أي تمتهن بالخدمة ويرها وهي أكثر خلق الله اختيالا وتبخترا وعجبا وذلك من ضعف عقلها وسقاطة نفسها ونقصان همتها فإنَّ الهموم بقدر الهمم.

ومما يلتحق بهذا الباب قولهم:
أخرجت له حريشتي

أي ملك يدي. وقولك مثلا:
أخشن من ليفة.
والخشونة ضد اللين والليف بالكسر ليف النخل وهو معروف والواحدة ليفة بالهاء وهذا المعنى مطرد كما مر في نظائره.

ومن هذا الباب قولهم:
خفة الظهر أحد اليسارين.
جعلوا خفة الظهر كنية عن عدم أو قلة الحقوق اللازمة والنفقات الواجبة فإنّها للزومها كالشيء المحمول على الظهر يخف ويثقل. ولا فرق في إنَّ الأحمال المحسوسة يحملها البدن المحسوس والحقوق تحملها اللطيفة الروحانية من البدن وهي القلب وهذه أقل صبرا على الثقل للطافتها. واليسار: الغنى. وثنى بحسب حقيقته ومجازه لا تفاق اللفظ. وقد قالوا من هذا النحو: الغربة أحد السباءين واللبن أحد اللحمين وتعجيل اليأس أحد اليسرين والشعر أحد الوجهين أي النظر إلى الشعر كالنظر إلى الوجه والحمية إحدى الموتتين أي امتتاع الطعام والقلم أحد اللسانين والخال أحد الأبوين والراوية أحد الهاجيين أي رواية الهجو كقائله. وهذا كله من تثنية الحقيقة والمجاز. وفي ذلك خلاف عند النحويين والمشهور المنع والصحيح جوازه وإنّه لا يشترط اتفاق معنى المثنيين بل اللفظ فقط.
ومما يشهد لصحته هذا الذي ذكرناه من الأمثلة فإنّها أمثال من كلام العرب ودليله من الشعر قول الشاعر:

كم ليث اعتنى لي أشبل غرثت ... فكأنني أعظم الليثين إقداما

أي كان أعظم الليثين إقداما إياي. وقول الآخر:

يداك كفت إحداهما كل بائس ... وأخراهما كفت أذى كل معتد

و إن كان في هذا المثل ضعيف. ومما يدل عليه قول جحدر: ليث وليث في محل ضنك إذ لا فرق بين نحو هذا العطف وبين التثنية فانه أصلها. وليس هذا محل تحرير المسألة والاحتجاج لها.

وقولهم أيضاً:
خفيف الحاذ.
الحاذ بالذال المعجمة الظهر. وألفه عن واو والذال لام الكلمة ومحل الأعراب وليس بعدها ياء كما يصحف. ومعنى خفيف الحاذ: قليل الماء والعيال. وفي الحديث: مؤمن خفيف الحاذ. وقولهم:

خفيف الرداء.
أي قليل العيال والدين. والرداء بالكسر والمد يطلق على الملحفة المعروفة وعلى السيف والقوس وعلى الجهل وعلى ما زان وما شان وعلى الضد وعلى الوشاح وعلى الدين. ومما يحسن أن يتمثل به في هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد:

خلط عليك الأمر.
والقصة مشهورة وقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
هو يخبأ وأبوه يكنز.
وذلك إنَّ خبيئة بن كناز ولي في خلافته الابلة فقال عمر رضي الله عنه: لا حاجة لنا وهو يخبأ وأبوه يكنز.
ومن الأمثال المولدة قولهم:

اخط الحسن يزيد من الحق وضوحا.
بمعنى إنّه إذا أجيد الخط وبينت الحروف تبينت الألفاظ المؤدية للمعاني وانشرحت النفس وانبسطت إليها وأقبلت عليها فكان قبولها للمعاني أتم وفهمها لها أكثر. وقد قالوا: الخط الحسن أحد اللسانين. وقالوا حسن الخط إحدى الفصاحتين. وقال جعفر بن يحيى: الخط بسط الحكم: به تفصل شذورها وينتظم منثورها. وقال المبرد: رداءة الخط زمانة الأدب. وقال الإمام الماوردي: خطوط العلماء في الأغلب رديئة لاشتغالهم بالعلم حتى قال الفضل أبن سهل: من سعادة المرء رداءة خطه أي لئلا يشغله تعلم الخط عن تعلم العلم. قيل: والأسباب المخلة بالخط ثمانية: إسقاط ألفاظ منه أو زيادة ألفاظ فيه أو إسقاط بعض حروف الكلم أو زيادة حروف أثناءها أو وصل المفصول أو فصل الموصول أو تغيير الحرف حتى يشتبه حرف بغيره أو ضعف الخط جملة أو إهمال النقط أو الشكل.
قيل: وقد استقبح الكتاب النقط والشكل في مكاتبهم ورأوا ذلك من تقصير الكتاب وسوء نظرتهم في فهم المكتوب لا سيما مكاتبات الرؤساء. كما حكي إنَّ بعض كتاب الديوان حاسب عاملا فشكاه في رقعته إلى عبيد الله بن سليمان فوقع فيها: هذا هذاء. فظن العامل إنَّ عبيد الله أراد: هذا هذا إثباتا لذلك القول كما تقول في إثبات الشيء هو هو. فحمل الرقعة للذي يحاسبه فخفي عليه ما يقتضي التوقيع فطيف به على الكتاب فلم يفهموه. فرد إلى عبيد الله. فشدد الثانية وكتب تحتها: والله المستعان استعظاما لقصور نظرهم.
واستحسن آخرون لنقط والشكل، وقالوا: المعجمة كالبرود المعلمة. وقالوا: إعجام الخط يمنع استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله. وقيل، رب علم لم تعجم فصوله فاستعجم محصوله.

آلات الكتابة وأصناف الكتب.
وإذ أنجز بنا الكلام في الخط فلنكمل الغرض بذكر ما تيسر من آلات الكتابة، ومعنى الكتاب، والبراءة، والطبع، والتوقيع، والعنوان، وأصناف الكتاب، وجملة من شعر الأدباء في ذلك، وهذا باب واسع ألف فيه الناس. لكن نشير نحن إلى جملة يسيرة على وجه الاختصار وينتفع بها.
فمن الآلات الدواة ووزنها فعلة كالشجرة، ثم قلبت الياء ألفا فصارت كفتاة وقناة، الجمع دويات كقنوات ودوي كقنى. قال الشاعر:

لمن الدار كخط باللدوى ... أنكر المعروف منها وأمحى

و دوي بضم الأول على فعول كما يقال قني وعصي في الجمع. قال الشاعر

عرفت الديار كرقم الدوي ... حبره الكتاب الحميري

وقال الآخر:

وكم تركت ديار الشرك تحسبها ... تلقى الدوي على أطلالها ليقا

واشتقاقها من الدواء، لأن بها صلاح أمر الكاتب. واشتقها بعض الأدباء من قولك: دوي الرجل بالكسر دوي إذا مرض فقال:

أما الدواة فأدوى حملها جسدي ... وحرف الحظ تحريف من القلم

أي أمرضه. ونحو هذا الاشتقاق لا يعتمد عليه. ويقال لصانعها مدو، كما يقال لصانع القني مقني، ولبائعها دواء كحناط لبائع الحنطة، ولحاملها داوٍ كسائف لصاحب السيف ولمتخذها مدو، وقد أدوى دواة. ولمّا تصان به صوان وغشاء وغلاف وما تسد به صمام وسداد وعفاص، وكذا غيرها يقال لصفوتها إذ أنفشت لتعمل فيها قبل أنَّ تبلّ، البوهة بالضم، وإذا بلت فهي الليقة، وقد تسمى به قبل ذلك مجازاً. ولقت الدواة فهي ملقية، وألقتها فهي ملاقة. فإنَّ كانت من قطن فهي العطبة والكرسفة، والقطن كله يقال له ذلك. ولمدادها نقس بكسر الأول، ويفتح. والمداد يذكر ويؤنث. ومددت الدواة مداً: جعلته فيها؛ وأمددتها: زدتها منه؛ واستمددت: أخذت بالقلم من المداد؛ وأمددت فلانا من دواتي: أعطيته. ويقال للدواة محبرة بالفتح لأنها محل الحبر بالكسر وهو النقس؛ ويقال لها النون والجمع أنوان ونينان؛ ويقال لها الرقيم أيضا. وأمهت الدواة وموهتها جعلت فيها ماء.
ومنها القلم، والجمع قلام وأقلام كجبال وأجبال. ويقال له المزبر والمذبر بالذال المعجمة لأنه يزبر به ويذر أي يتب وقيل الذبر، بمعنى القراءة. ويقال للقصبة يراعة وأباءة والجمع يراع واباء؛ ويقال لعقدة الكعوب: فإنَّ كانت فيه عقدة تشينه فهي الابنة؛ ولمّا بين العقد الأنابيب، وكذا في الرماح. ويقال لطرفي القلم اللذين يكتب بهما السنان والشعيرتان، والواحد سن وشعيرة. فإنَّ سويا في القطع فهو قلم مبسوط، وإنَّ جعل أحدهما أطول فهو محرف.
ومنها السكين والمقص. قال أبن عبد ربه: ينبغي للكتاب أنَّ يصلح آلته التي لا بد له منها، وأداته التي لا تتم صناعته إلاّ بها، وهي دواته. فلينعم ربها وإصلاحها، وثم يتخير من أنابيب القصب أقله عقدة، وأكتافه لحما، وأصلبه قشرا، وأعد له استواء. ويجعل لقرطاسه سكينا ليكون عونا على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصب. انتهى.

ويقال السكين والمدية والمجزاة والمبراة والفالية والشلقاء بالكسر والمد، وغير ذلك ويقال المقص والمقراض والمقطع بكسر أوائلها والجلم، وأكثر ما يقال بالتثنية. قال الشاعر:

ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصوت في حافاتها الجلمان

يعني لحيته. وجاء فيه الأفراد. قال سالم بن وابصة:

داويت صدرا طويلا غمرة حقداً ... منه وقلمت أظفارا بلا جلم

وقال أعرابي:

فعليك ما استطعت الظهور بلمتي ... وعلي أنَّ ألقاك بالمقراض

و أما الكتاب فهو مكتوب ويقال له الزبور والزبير والذبير. قال امرؤ القيس:

... كخط زبور في مصاحف رهبانِ

وقيل: الزبور في هذا البيت هو الكتاب وهو الظاهر. فإن كان ما يكتب فيه من جلود فهو رق وقرطاس بكسر القاف وضمها؛ وإن كان من خرق فهو كاغد بدال مهملة وروي بمعجمة. وقد يستعمل القرطاس في الكل. ويقال لمّا يكتب الصحيفة والمهرق على وزن مكرم والجمع مهارق. قال الأعشى:

ربي كريم لا يغير نعمة ... وإذا تنوشد بالمهارق أنشدا

و القضيمة. قال امرؤ القيس:

... وبين شبوبٍ كالقضيمة قرهبِ

والسجل والصك والقط. وكذا كتب الجوائز والصلات والجمع صكوك وقطوط. قال الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفقُ
وقال المتلمس:

ألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك أقنو كل قط مضللِ

فإن كتب فيها بعد محو فهي طرس. ونمقت الكتاب نمقا ونمقته تنميقا، وحبرته ورقشته وزورته تحبيرا وترقيشا وتزويرا؛ وكذا زبرجته وزخرفته زبرجة وزخرفة أي كتبته كتابة حسنة. فإذا نقطه قلت وشمه وشما، وأعجمته إعجاما ورقشته ترقيشا. قال طرفة:

كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشيمه

فاا أفسد الخط قلت مجمجه وشرمجه وهلهله ولهلهه مجمجة وشرمجة وهلهلة ولهلهة وثبجه تثبيجا. وإذا لم يبينه قلت دحمسه دحمسة ومجمجه وعقمه عقما وعقله عقلا. فإذا أدق الحرف وقارب بعضها بعض قلت قرمط وقرصع قرمطة وقرصعة. فإذا مد الحروف قلت مشق مشقا وقيل المشق سرعة الكتابة وخفتها. فإن نقص شيئا فألحقه فهو لحق وجمعه إلحاق. قال الشاعر:

عورٌ وحولٌ وثالثٌ لهم ... كأنه بين أسطر لحقُ

فإن وضعت عليه بعد الكتب ترابا قلت تربته تتريبا وأتربته إترابا؛ أو نشارة قلت نشرته تنشيرا.
وأما البراءة فهي في الأصل مصدر قولك: برئت من الأمر بالكسر براءة أي تبرأت؛ وأما هذه البراءة المستعملة في صناعة الكتاب فقال أبو محمد بن السيد رحمه الله: سميت بذلك لمعنيين: أحدهما أن يكون من قولهم برئت إليه من الدين براءة إذا أعطيته ما كان له عندك وبرئت إليه من الأمر براءة إذا تخلف عنه فكأن المرغوب إليه يتبرأ إلى الراغب مما أمله لديه ويتخلى له عما رغب فيه إليه. وقيل إنّما كان الأصل في ذلك أنَّ الجاني كان إذا جنى جناية يستحق عليها العقاب ثم عفا عنه الملك كتب له أمانا مما كان يتوقعه ويخافه فكان يقال: كتبت لفلان براءة أي أمانا ثم ضار مثلا واستعار في غير ذلك. قال: وقد جرت عادة الكتاب ألا يكتبوا في صدر البراءة: بسم الله الحمن الرحيم اقتداء بسورة براءة التي كتبت في المصحف من غير بسملة.
وأما الطبع فهو طبع الكتاب. تقول: طبعت الكتاب طبعا وختمته ختما وأفقته أفقا ومن ذلك قول الأعشى السابق: يعطي القطوط ويأفق أي يختم ويقال لمّا يطبع به طابع. قيل: وأول من طبع الكتب عمرو بن هند وذلك أنه لمّا أعطى المتلمس الصحيفة ليقتل ثم استقرأها فهرب كما سيأتي حديثه أمر عمرو بعد ذلك بالكتب تختم. فكان يؤتى بالكتاب مطبوعا فقيل من عني به فلذلك سمي العنوان عنوانا. ثم لمّا كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى ملك الروم ولم يختمه قيل له إنه لا يقرؤه إن لم يكن مختوما. فأمر أن يعمل له خاتم وينقش على فصه: محمد رسول الله فصار الختم سنة في الإسلام. وقيل أول من ختم الكتاب سليمان أبن داود عليه السلام. وقيل في تأويل قوله تعالى: إني ألقي إلي كتاب كريم أي مختوم. وأكرمت الكتاب ختمته وهو أول من افتتح كتابه بالبسملة. قيل: وكانت العرب تقول في افتتاح كتبها وكلامها. باسمك اللهمفجري الأمر على ذلك في صدر الإسلام حتى نزلت: بسم الله مجراها ومرساها فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله حتى نزلت قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فكتب: بسم الله الرحمن. ثم نزلت: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فصارت سنة إلى يومنا هذا.
وأوّل من كتب من فلان إلى فلان رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار ذلك سنة يكتب الكتاب ويبدأ باسمه قبل اسم من يخاطبه ولا يكتب لقبا ولا كنية حتى ولي عمر بن الخطاب وتسمى بأمير المؤمنين فكتب من أمير المؤمنين عمر. فجرت السنة بذلك إلى أيام الوليد بن عبد الملك فكان الوليد أوّل من اكتنى في كتبه وأوّل من عظم الخط والكتب وجود القراطيس. ولذلك قال أبو نواس:

سبط مشارفها رقيق جطمها ... وكأن سائر خلفها بنيانُ
واحتازها لون جرى في جلدها ... يقف كقرطاس الوليد هجانُ

فجرت سنة الوليد بذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز ويزيد الكامل فإنهما لمّا وليا ردا الأمر إلى ما كان عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن أحابه رضوان الله عليهم. فلما ولي مروان رجع إلى أمر الوليد فجرى الأمر عليه. ذكر ذلك أبو محمد بن السيد رحمه الله تعالى.
وأما التوقيع فهو ما يلحق بالكتاب بعد الفراغ منه ممن رفع إليه كالسلطان ونحوه من ولاة الأمر كما إذا رفعت إلى السلطان أو إلى الوالي شكاة فكتب تحت الكتاب أو على ظهره: ينظر في أمر هذا أو: يستوفى لهذا حقه أو نحو ذلك. فهذا توقيع.

ورفع إلى جعفر بن يحيى كتاب يشتكى فيه بعامل فكتب على ظهره: يا هذا قد قل شاكروك وكثر شاكوك فإما اعتدلت وإما اعتزلتورفع إلى الصاحب بن عباد كتاب فيه: إنَّ إنسانا هلك وترك يتيما وأموالا جليلة لا تصلح لليتيم وقصد الكاتب إغراء الصاحب. فأخذها فوقع الصاحب فيها: الهالك رحمه الله وو اليتيم أصلحه الله والمال ثمرة الله والساعي لعنه اللهونحو هذا من التوقيعات. والتوقيع في الأصل التأثر في الشيء. يقال: حمار موقع الظهر أي أصابته في ظهره دبرة فسمي هذا توقيعا لنه تأثر في الكتاب حسنا أو في الأمر معنى؛ أو في الوقوع لأنه سبب لوقوع الأمر المذكور أو لأنه إقاع لذلك المكتوب: فتوقيع كذا بمعنى إيقاعه. وأما العنوان فهو ما يجعل عليه ليستدل به عليه ويقال قيه: عنوان وعنيان بضم الأول فيهما وكسره. وأصله عنان على مثل رمان لأنّه مشتق من قولك: عن لي الأمر يعن إذا عرض لأنّه هو يعرض للكتاب من ناحية وعننه وعنونه وعناه: كتب عنوانه. ويقال فيه أيضاً علوان باللام وعلون الكتاب وعلاه تعلية: كتب عنوانه وكل ظاهر شيء استدلت به على باطنه فهو عنوان له. قال الشاعر:

رأيت لسان المرء رائد عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون

وقال الآخر:

ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

و ما أصناف الكتب فكثيرة منها: كاتب التدبير وهو أجلها وأعلاها درجة وهو كاتب السلطان الذي يكتب سره؛ ومنها كاتب أرباب الأحكام وأجلها كاتب القاضي ثم كاتب صاحب المظالم ثم كاتب صاحب الديوان وهو الخراج ثم كاتب صاحب الشرطة؛ ومنها كاتب العامل وكاتب المجلس إلى غير وكل واحد منها له أحكام وآداب ذكرت في محلها.

ولهم أقلام مختلفة اصطلحوا عليها في الكتابة. انتهى. مجموعها بحسب ما ذكروا إلى أحد وعشرين وهي الجليل والسجلى ويسمى قلم الثلثين والقلم الرئاسي والنصف وخفيف النصف والثلث وخفيف الثلث والمسلسل وغبار الحلبة وصغير الغبار وهو قلم المؤامرات وقلم القصص والحوائجي والمحدث والمدمج وثقيل الطومار وخفيف الطومار والشامي ومفتح الشامي والمنثور وخفيف المنثور وقلم الجزم.
واختلف في أوّل من كتب: فقيل آدم عليه السلام كتب الصحف قبل موته بثلاثمائة سنة في طين ثم طبخه. فلما كان بعد الطوفان أصاب كل قوم كتابهم؛ وقيل أوّل من كتب إدريس عليه السلام؛ وقيل أوّل من وضع الكتابة إسماعيل عليه السلام وضعها بلفظه ومنطقه؛ وقيل أوّل من كتب قوم من الأوائل أسمائهم أبجد هوز حطي إلى آخرها. وكانوا ملوك مدين وقيل هم أبجد هوز إلى قرست ملوك مدين فوضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم وكان سيدهم كلمن فهلكوا يوم الظلة فقالت ابنة كلمن ترثيه:

كلمن هدم ركني ... هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه ... الحتف نارٌ وسط ظله
جعلت نارٌ عليهم ... دراهم كالمضمحله

و يروى أيضاً:

ألا يا شعيب قد نطقت مقالةً ... سبقت بها عمراً وحي بني عمرِ
ملوك بني حطي هوز منهم ... وسعفص أهل للمكارم والفخرِ

و قيل هم ملوك الجن الذين سكنوا الأرض قبل آدم عليه السلام فألقيت إلى العرب؛ وقيل أسماء ملوك الجبابرة.
وقيل أوّل من وضع الخط العربي نفر من طيء من بولان وهم: مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن حدرة. فساروا إلى مكة فتعلمه منهم شيبة بن ربيعة بن حرب بن عبد شمس وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهشام بن المغيرة المخزومي. ثم أتوا الأنبار فتعلمه نفر منهم. ثم أتوا الحيرة فتعلمه منهم جماعة منهم: سفيان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم وولده يسموه بالكوفة بني الكاتب. ثم أتوا الشام فعلموه جماعة فانتهت الكتابة إلى رجلين من أهل الشام يقال لهما الضحاك وإسحاق بن حماد واخترع منه خطا أخف فسماه الثلثين السابق. ثم جعل الناس يختصرون ويغيرون حتى انتهى إلى ما مر. وليس هذا محل تفصيل هذا.
وأما ما قيل من الشعر في وصف الكتاب أو الأقلام أو المحابر أو تفضيل القلم على السيف أو العكس فأكثر من أن يحصى. وقد وضعت في ذلك موضوعات مستقلة. فمن مستحسن ذلك قول أبي الفتح البستي:

إن هز أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كل كمي هز عاملهُ
وإن أقر على رقٍّ أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام لهُ

وقال الآخر:

يمسك الفرس رمحا بيدٍ ... وأنا أمسك فيه قصبه
فكلانا فارسٌفي شأنه: ... إنَّ الأقلام رماحُ الكتبه

و قول الآخر:

وما روض الربيع وقد زهاه ... ندى الأشجار يأرج بالغداةِ
بأوضاع أو بأبسط من نسيمٍ ... توديه الأفاوه من دواةِ

و قول الآخر في خلاف هذا:

دعي في الكتابة لا رويٌ ... له فيما يعد ولا بديهُ
كأن دواته من ريق فيه ... تلاق فريحها أبداً كريهُ

و قول بعضهم وقد نظر إلى فتى عليه أثر المداد وهو يستره:

لا تجزعن من المداد فإنه ... عطر الرجال وحلية الكتاب

و يقال: أثر المداد دليل على الفضل حتى إنَّ عبيد الله بن سليمان رأى صفرة زعفران في ثوبه فطلاها بالحبر وقال: المداد أحسن بنا من الزعفرانوأنشد:

إنما الزعفران عطر العذارى ... ومداد الدوات عطر الرجالِ

و قول الآخر يهجو كاتبا:

حمارٌ في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حربٍ في زيادِ
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرقت ثوبك في المدادِ

وقال بعضهم: كنت عند إبراهيم بن العباس وهو يكتب كتابا فوقعت من القلم نقطة مفسدة فمسحها بكمه فتعجبت فقال: لا تعجبالمال فرع والقلم أصل والأصل أحوج من الفرع إلى المراعات وبهذا السواد جاءت الثياب. ثم أطرق قليلا فأنشد:

إذا ما الفكر ولد حسن لفظٍ ... وأسلمه الوجود إلى العيانِ
ووشاه فنمنمه مشدٍ ... فصيحٌ في المقال بلا لسانِ
ترى حلل البيان منشراتٍ ... تجلى بينها صور المعاني

و كتب سليمان بن وهب بقلم صلب واعتمد عليه فصر تحت يده فقال:

إذا ما التقينا وانتضينا صوارماً ... يكاد يصم السامعين صريرها
تساقط في القرطاس منها بدائعٌ ... كمثل اللآلي نظمها ونثرها
تقود أبيات البيان بفطنةٍ ... يكشف عن وجه البلاغة نورها
تظل المنايا والعطايا شوارعاً ... تدور بما شئنا وتمضي أمورها
إذا ما خطوب الدهر أرخت ستورها ... تجلت بنا عما تسر ستورها
و قول أبي تمام يمدح محمد بن عبد الملك الزيات من قصيدة:
لك القلم الأعلى الذي بشباته ... يصاب من الأمر الكلى والمفاصلُ
له الخلوات اللاء لولا نجيها ... لمّا اختلفت للملك تلك المحافلُ
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجنا اشتارته أيدٍ عواسلُ
له ريقٌ طل ولكن وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابلُ
فصيحٌ إذا استنطقته وهو راكبٌ ... وأعجم إن خاطبته وهو راجلُ
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافلُ
اطاعته أطراف القنى وتقوضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافلُ
إذا استغزر الذهن الذكي وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافلُ
وقد رفدته الخنصران وسددت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأناملُ
رأيت جليلاً شأنه وهو مرهقٌ ... ضنى وسميناً خطبه وهو ناحلُ

و قول أبي الفتح البستي:

إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب مجداً ورفعةً ... مدى الدهر أنَّ الله أقسم بالقلم

و قول البحتري:

تعنو له وزراء الملك قاطبةً ... وعادة السيف أن يستخدم القلما

و قول الآخر:

إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأممُ
فالموت والموت لا شيء يقابله ... ما زال يتبلع ما يجري به القلمُ
بذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أنَّ السيوف لها مذ أرهفت خدمُ

و قول أبي الطيب مناقضا لهذا:

حتى رجعت وأقلامي قوائل لي: ... المجد للسيف ليس المجد للقلمِ
اكتب بذا أبداً بعد الكتاب لها ... فإنما نحن للأسياف كالخدمِ

و قول سليمان بن جرير النمري في نحوه:

جهابذةٌ وكتابٌ وليسوا ... بفرسان الكريهة والطعانِ
ستذكرني وتعرفني إذا ما ... تلاقى الحلقان من الباطنِ


و قول كشاجم:

هنيئاً لأصحاب السيف بطالةً ... تقضى بها أيامهم في التنعمِ
وكم فيهم من دائم الأمن لم يرع ... بحربٍ ولم ينهد لقرن مصممِ
وكل ذوي الأقلام في كل ساعةٍ ... سيوفهم ايست تجف من الدمِ

و قول الآخر في مدح القلم وأهله:

قومٌ إذا أدخلوا الأقلام من قصبٍ ... ثم استمدوا بها ماء المنياتِ
نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لا ينال بحد المشرفياتِ

و قول البحتري يمدح الحسن بن وهب ويصف أقلامه:

وإذا تألق في الني كلامه ... المصقول خلت لسانه من عضبهِ
وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى في كتبهِ
فاللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله في قربهِ
حكمٌ فسائحها خلال بنانه ... متدفق وقليلها من قلبهِ
فكأنها والسمع معقودٌ بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبهِ

و قوله أيضاً في أبن الزيات:

لتصرفت في الكتابة حتى ... عطل الناس فن عبد الحميدِ
في نظام من البلاغة ما شك ... امرؤ أنه نظام فريدِ
وبديع كأنه الزهر الضا ... حك في رونق الربيع الجديدِ
ما أعيرت منه بطون القراطيس ... وما حملت طهور البريدِ
حزن مستعمل الكلام أخباراً ... وتجنبن ظلمة التعقيدِ
كالعذارى غدون في الحلل الصفر ... إذا رحن في الخطوب السودِ

و من أمثال الأدباء قولهم:
أخف من دينار يحيى.
وهو يحيى بن علي أعطى بعض الأدباء دينارا خفيفا فقال فيه عدة مقاطع منها:
دينار يحيى زائد النقصان ... فيه علامة سكة الحرمانِ
قد راق منظره ورق خياله ... فكأنه روح بلا جثمان
أهداه مكتتما إلي برقعةٍ ... فوجدته أخفى من الكتمان

و من أمثال العامة قولهم:

خالف تعرف
ونحوه قول الشاعر:

خلافا لرأي من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم: خالف فتذكر

و يظهر من هذا البيت إنَّ المثل قديم، والبيت انشده الجاحظ.
ولنلم الآن بشيء في هذا الباب. قال الشاعر:

تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وأصبحت أشرب ماء نقاخا
شراب النبيئين والمرسلين ... ومن لا يحاول منه اطباخا
رأيت النبيذ يدل العزيز ... ويكسو التقي النقي اتساخا
فهبني عذرت الفتى جاهلا ... فما العذر فيه إذا المرء شاخا

قوله ماء نقاخا، أي بارداً عذبا صافيا، وهو بضم النون وبالقاف على مثال غراب. وقال الآخر:

نعوذ بالله من أناسٍ ... تشيخوا قبل إنَّ يشيخوا
تقوسوا وانحنوا رياء ... فأحذرهم: انهم فخوخ

و أشار بهذا التمثل في الرياء إلى نحو ما حكي في الإسرائيليات إنَّ عصفورة على فخ فقالت له: مالي اراك منحنيا قال:: لكثرة صلاتي انحنيت. قالت: فمالي أراك بادية عظامك قال: لكثرة صيامي، بدت عظاميقالت: فما هذا الصوف عليك قال: لزهادتي لبست الصوف. قالت: فما هذه العصا عندك قال: أتوكؤ عليها وأقضي بها حوائجي. قالت: فما هذه الحبة في يدك قال: قربان إنَّ مر بي مسكين أناوله إياها. قالت: فإني مسكينة. قال: خذيهافقبضت على الحبة فإذا الفخ في عنقها، فصاحت: قعىقعىوتفسيره: لا غرني مراءٍ بعدك أبداًومما جاء في الرياء، أعاذنا الله منه، قوله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " . قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال: " الرياء " . يقول عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم في الدنيا، فانظروا كيف تجدون عندهم الجزاء. وقوله صلى الله عليه وسلم: " من راأى، راأى الله به، ومن سمع، سمع الله به " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " من أسر سريرة ألبسه الله رداءها، خيرا فخير وإنَّ شرا فشر. والآيات والأحاديث والآثار في ذم الرياء والتنفير عنه لا تحصى وهي مشهورة. وفي معنى ذلك قول الشاعر:

وإذا أظهرت شيئاً حسنا ... فليكن أحسن منه ما تسر
فمسر الخير موسم به ... ومسر الشر موسوم بشر

و قول الآخر في المتشابهين:

أهل الرياء لبستهم ناموسكم ... كالذئب يدلج في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقستم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب البغال بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم

و قول الآخر:

قل للأمام سنا الأئمة مالكٍ ... نور العيون ونزهة الأسماع:
لله درك من همام ماجد ... قد كنت راعينا فنعم الراعي
فمضيت محمود النقيبة طاهرا ... وتركتنا قنصا لشر سباع
أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزلٍ ... طاوي الحشا متكفت الأضلاع
تشكوك دنيا لم تزل بك برة ... ماذا رفعت بها من الأوضاع

وقال محمود الوراق لابن أخته:

تصوف كي يقال له أمين ... وما معنى التصوف والأمانة
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانة

و قول الآخر:

صلى وصام لأمر كان يطلبه ... ومذ حواه فما صلى ولا صاما

و قول الآخر:

شمر ثيابك واستعد لقابل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم
وعليك بالغنوي فاجلس عنده ... حتى تصيب وديعة ليتيمِ

و قول الآخر:

لا شيء أخسر صفقة من عالمٍ ... لعبت به الدنيا مع الجهالِ
فغدا يفرق دينه أيدي سبا ... ويديه حرصاً بجمع المالِ
لا خير في كسب الحرام وقلما ... يرجى الخلاص لكاسب الحلالِ
فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلةٍ ... فالفضل تسأل عنه أي سؤالِ

و قول بعضهم وقد رأى ثم افتضح نعوذ بالله:

بينا أنا في توبتي مفبلاً ... قد شبهوني بابن روادِ
وقد حملت العلم مستظهراً ... وحدوثوا عني بإسنادِ
الله تعالى خطر الشيطان بي جطوة ... نكست منها في أبي جادِ

وقال آخر يخاطب معزولا:

ولوك إذ علموا بجهلك منصباً ... علموا بأنك عن قليل تبرحُ
طبخوا بنار العزل قلبك بعد ذا ... وكذا القلوب على المناصب تطبخُ

وقال الآخر في حمام:

حمامكم قيمته أسود ... هربت منه وأنا صارخُ
قد سلخت جسمي أظافره ... يا قوم هذا الأسود السالخُ

و في هذين الشعرين التورية وهي إن يذكر الشاعر لفظاله مهنيان: قريب وبعيد. ويريد البعيد نحو قوله تعالى: الرحمن على العرشِ استوى فإنَّ المراد أحد معنيي الاستواء وهو الاستيلاء قهرا وغلبة وهو المعنى الأبعد لأنّه مجاز وتسمى التورية إيهاما. فإن كان المعنيان مستويين سمي ذلك توجيها. وقد تقدم في ذلك جملة من الشعر في الأبواب السابقة ونحن نريد هنا من مستحسن ذلك قول بعضهم يهنيءبعيد النحو:

تهن بعيد النحو وابق ممتعاً ... بأمثاله سامي العلى نافذ الأمرِ
تقلدنا فيه قلائد أنعمٍ ... واحسن ما تبدو القلائد في النحرِ

و قول الآخر:

بروحي أفدي خاله فوق خده ... وما أنا في الدنيا فأفديه بالمالِ
تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخالِ

و قول الآخر:

مهفهف القد إذا ما انثنى ... قال ولا يخشى من الود
ما أنت كفلي يا كثيب اللوى ... ولست يا غصن النقا قدي
لو نلت من خده تقبيلةً ... تزين الريحان بالوردِ

و قول الآخر:

قلت للأهيف الذي فضح الغصن ... كلام الوشاة ما ينبغي لك
قال: قول الوشاة عندي ريحٌ ... قلت: أخشى يا غصن أن تستميلك

و قول الآخر:

تهاون شمس الين بي وهو صاحبٌ ... وأظهر لي أضعاف ما يظهر العدا
نزلت به أبغي النا وهو طالعٌ ... وعند طلوع الشمس يرتفع الندا

و قول الآخر في حق النبي صلى الله عليه وسلم :

يا عين إن بعد الحبيب وداده ... ونأت مرابعه وشط مزارهُ
فلقد ظفرت من الزمان بطائلٍ ... إن لم تريه فهذه آثارهُ

و قول الآخر:

عاينته ودموعي غير جاريةٍ ... لأن دمعي من طول البكا نشفا
فقال: لم أدر وكف الدمع قلت له: ... حسيبك الله يا بدر الجا وكفا

و قول الصفدي مع حسن التضمين:

ملكت كتابا أخلق الدهر جلده ... وما أحدٌ في دهره بمخلدُ
إذا عاينت كتبي الصحيحة حاله ... يقولون: لا تهلك أسى وتجلد

و قول أبي بكر بن حجة:

عزمت على السلو لطول هجري ... فجاءتني عوارضه تعارض
وكان العذر يقبل في سلوي ... ولكن ما سلمت من العوارض

وقول البدر الدماميني:

وبي وجنةٌ حمراء زاد صفاؤها ... فأبدت صفات أبع الحسن كونها
فدع لائمي فيها عن الحب جهده ... فما أنا بالسالي صفاها ولونها

و قول أبن جعفر العسقلاني:
قد جئت في علم الأصول لنا وفي ... علم الفروع بخالص الابريز
برزت في هذا وفي هذا على ... الرازي بالإحسان والتبريزي

و قوله:

خليلي ولى العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا
فحتى متى نبني بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنا

و قول المعمار:

إنَّ قام يتلو سورة الشمس المنيرة في ضحاها
يا حسنه فكأنه القمر المنير إذا تلاها

وقوله:

تملك قلبي صارم قد هويته ... من الهند معسول اللمى أهيف القد
أقول لصاحبي حين يرنو بلحظه: ... خذوا حذركم قد سل صارمه الهندي

و قول الآخر:

يا من تولى قاضيا ... هذا قضاء أم قدر
عذرك في نسياننا ... أنَّ القضا يعمي البصر

و قول أبن العفيف:

ليس خليليا ولكنه ... يضرم في الأحشاء نار الخليل
يا ردفه جرت على خصره ... وفقا به ما أنت إلاّ ثقيل

و قوله مما يكتب على كأس:

أدور لتقبيل الندامى ولم أزل ... أجود للندامى وأنفاسي
وأكسو أكف الشرب ثوبا مذهب ... فمن أجل هذا لقبوني بالكأس

و قوله في مليح خيالي:

خيالي أخاف الهجر منه ... وليس أراه يرغب في وصالي
وكنت عهدتني قدما شجاعا ... فمالي صرت أفزع من خيالي

و ما قيل في التورية والتوجيه أكثر من إنَّ يحصى. ولولا خوف الإطالة لأوردنا من مستحسن ذلك ما يكون جزءا مستقلا، وليس ذلك من غرضنا. وأنا أذكر هنا بعض ما اتفق لي نظمه في باب التورية أو التوجيه من غير تعبئة لنزول هذا الميدان، ومطاردة هؤلاء الفرسان. فمن ذلك قولي:

بنفسي من أضحى فؤادي طائرا ... على غصن من قده اللدن ميال
على روضة من خده الخال عارض ... وأبهج روض ما علا عارض الخال

و فيه التورية بالطائر من حيث إنّه اسم فاعل أو اسم ذي الجناح على التشبيه وحرف الجر بعده للتعليل على الأول والاستعلاء على الثاني، والتوريه بالخال من حيث إنّه النقطة أو الغيم المخيل بالمطر مع الجناس بين على وعلا والعكس.
وقولي:

مررت على بالٍ من الربع دارس ... بكل ربابٍ عارض اسحم خال
ففاضت شؤون الجفن من ذكر حيرتي ... وثار هواهم إذ مررت على البال

و فيه التورية بالخال من حيث إنّه وصف للدارس من الخلو أو وصف للرباب بمعنى المخيل كما مر. والتورية بالبال آخراً من حيث إنّه راجع إلى الربع من البلى أو إنّه الفكر والخاطر ومعمول مررت عليهن محذوف عي عليه.
وقولي:

وعاذل عن الهوى عادل ... يدعو لأمر في الهوى إمر
قال أسلهم واصبر فكم ذائق ... أمر في الهجر من الصبر
وزع عنان القلب عما جرى ... عليه من بلواء أو يجري
فأي عذر في اتباع الصبا ... قلت له إنَّ الهوى عذري

و فيه التورية بالصبر من حيث إنّه معناه أو إنّه المر المعروف. وأصله صبر ثم خفف بالتسكين والتورية يجري من حيث إنّه من الجريان بقرينة العنان أو إنّه من الوقوع. والمعنى عليهما واضح. والتورية بالعذر من حيث إنّه الاعتذار أضيف إلى ياء المتكلم أونسوب إلى بني عذرة، وهو الهوى الشديد، والمعيان ظاهران وقولي:

قال العذول إذ بدا ... بعارض معذر:
الوجه الاعتزال عن ... هذا الوجيه الأشعر
فقلت: ذلك الوجه ... يبقى فيه فضل نظر

و فيه التورية في الاشعر مع الاعتزال من حيث إنّه وصف كأحمر أي ذو شعر أو بياء النسبة، والتورية في النظر والوجه من حيث إنّه نظر البصر أو نظر البصيرة، والوجه وجه الحبيب أو وجه الدليل.
وقولي من قصيدة زمن الصبا أخاطب شيخنا الإمام الهمام أمتعني الله به:

وفينا معان بينت قدم الهوى ... فليس لعمري بالبديع إلى الصدر
وقد أعربت جزما بنصب أدلة ... فيرفع ما بينى على الظن من هجر
فإنَّ لم يكن عن ذلك فعلي معربا ... تغنيت بالماضي من الحال والأمر

و هذه التوريات واضحة كلها، وقد وقع لي مثل هذا النوع كثيرا ولم أذكره.
وقولي من قصيدة أخرى موريا بالعباب و " الجوهري " من كتب اللغة:

وعبرت من لجج العلوم عبابها ... حتى أنثنيت بمنفسات الجوهر

و هذه القصيدة خاطبت بها بعض فضلاء العصر. فلما وقف عليها استحسنها هو وجماعة من الفضلاء الواقفين عليها غاية. وكان من أغبياء الطلبة بعضهم من لم يرتق فهمه إلى ألفاظها، فضلاً عن معاينتها، فتعلل لنفسه القاصرة بأنها مشتملة على الوحشي من اللغة. فلما بلغني ذلك قلت:

تسامى لأذيالي مذال ولم أكن ... لكل ذليل بالذلول ولا السهل
ورام مرامات امرئ طالما علا ... على الحزن من فيح البلاغة والسهل
وأرسلتها غراء ليس يذيمها ... سوى العمي عن شمس الظهيرة والجهل
فأنكر جهلا ما حوته رسالتي ... ولا غرو فالتكذيب شان أبي جهل

و فيه التورية بابي جهل مع الجناسات الكثيرة. والجهل بضم فسكون جمع جاهل. وتخلف بعض أصحابي عن مجلس الدرس في اليوم المسمى بالعجوز، وآخر ينير، حبسه البرد، فكتبت إليه على سبيل المطايبة:

أعجزت عنا العجوز ولم يكن ... رجل لتمنعه عجوز عائده
وعدلت عن أبكار فكري بكرة ... اتباع بكر بالعجوز الباردة

و فيه التورية بالعائدة من حيث إنّه وصف للعجوز أي صارفة وعائقة وإنّه معمول المنع بمعنى العطية والصلة، وفي العجوز أيضاً بين اليوم والمرأة بقرينة ذكر الرجل. وينشد أيضاً عجوز جالدة أو فائدة، وفي كليهما التورية: فالجالدة إما بمعنى ذات الجليد، من قولك جلدت الأرض بالكسر، تجلد فهمي جلدة والجالدة، اعتباراً للعجوز بمعنى اليوم على قصد الليلة أو الصبيحة أو البكرة؛ وإما بمعنى المدافعة والمقاتلة، من قولك جلدته بالعصا: ضربته، اعتبارا للعجوز بمعنى المرأة؛ والفائدة إما بمعنى الإفادة وهو معمول المنع، أو بمعنى الهالكة، من قولك: فاد يفيد، فيدا، إذا هلك ومات، اعتبارا للعجوز بمعنى المرأة وإنّها هرمة فانية، فكيف تغلب الرجل والتورية في العجوز الباردة واضحة وأعلم أنَّ التورية والتوجيه أعلى فنون البديع وأجلها وأدقها، وهو أحد معاريض البلغاء الذي يرفلون به في الحلل الرقائق، وينجون بفسحتها من المضائق. فمن أظرف ما وقع من ذلك ما روي عن خالد بن الوليد، رضي الله عنه، إنّه لمّا نزل على الحيرة أتاه عبد المسيح الغساني، وهو أبن ثلاثمائة وخمسين سنة. فلما مثل بين يديه قال له: انعم صباحا أيها الأميرفقال له خالد: قد أغنى الله عن تحيتكم بسلام عليكم. ثم قال له خالد: من أين أقصى أثرك أيّها الشيخ قال: من ظهر أبي. قال: من أين خرجت قال من بطن أمي. قال: فعلام أنت قال: على الأرض. قال: فيم أنت قال: في ثيابي. قال: أتعقل قال: أي والله، وأقيد. قال: أبن كم أنت قال: أبن رجل وامرأة. قال: كم سنك قال: اثنان وثلاثون بيض ضرس وغضيض. قال: كم لك من السنين قال: السنون كلها لله. قال: كم أتى عليك قال: لو أتى علي شيء لقتلني. قال: كم عمرك قال: لا يعلمه إلا الله. فقال خالد: ما رأيت كاليوم إنسانا أسأله عن شيء وهو ينحوا في غيره. فقال: ما أجبتك إلا عن مسألتك. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له الأعرابي: من أنتم فقال صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، والقصة مشهورة.

وما روي من أنَّ رجلا وقف بباب المأمون ليشكو فلم يجد من يدخله فصاح: أنا أحمد المصطفى النبي المبعوثفأخذ وأدخل على المأمون وقيل له إنّه تنبأ عن أمره فذكر شكواه فقال له: ما هذا الذي حكي عنك قال: ما هو قال: انهم قالوا إنك تنبأت. قال: معاذ اللهإنّما قلت: أنا أحمد المصطفى النبي المبعوث، وأنت يا أمير المؤمنين تحمده، وكذلك هؤلاء. فاستظرفه المأمون وأمر بأنصافه.
وما روي عن بشار بن برد من أنه خاط له رجل أعور يعرف بعمرو بردا فلم يعجبه فقال له: ما هذه الخياطة قال له: خطته لك كذلك لتلبسه إنَّ شئت على وجهه، وإنَّ شئت من باطنه. فقال له بشار: وأنا قد قلت فيك شعرا، إنَّ شئت جعلته مدحا وإنَّ شئت جعلته هجوا، ثم انشد:

خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
فأحاجي الناس طرا ... أمديح أم هجاء

و يروى:

خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
فسل الناس جميعا ... أمديح أم هجاء

و هو على نصب الجزأين بليت.
وما روي إنّه نشأ ببغداد غلامان أحدهما أبن حجام والآخر أبن مراق، فبرعا في الأدب. فخرجا ليلة وهما ثملان من نبيذ. فأخذهما العسس فأتوا بهما إلى صاحبهما. فلما مثلا بين يديه قال لهما: ما أخرجكما جوف الليل فقالا: القدر والقضاء. فقال من أنتما فقال أبن المراق:

أنا أبن الذي لا تنزل الدهر قدره ... وإنَّ نزلت يوما فسوف تعود
ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود

وقال أبن الحجام:

أنا أبن من ذلت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها
تأتيه طوعا إليه خاضعة ... يأخذ من مالها ومن دمها

فقال في نفسه: الأول من أبناء الكرام، والثاني من أبناء الملوك. فقال لأعوانه: خلوا عنهما، فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه قال: اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. فلما انصرفا أخبر بأمرهما، فاسترجعهما بالغد وقال لهما: ويحكماخدعتماني. فقالا: ما خدعناك إلاّ بما هو صفة والدينا. فلما تأمل كلامهما وجده صدقا وقال: انطلقامن لم ين منكما شريف فلقد كان ظريفا. وما روي عن أبي الفرج الجوزي، رضي الله عنه، إنّه كان في مجلسه في السنية والشيعة، فسأله سائل، أي الناس كان احب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بكر أم علي فتغافل، فقيل ما عندكفقال: أحبهما إليه من كانت ابنته تحته. ويروى: أفضلهما من كانت ابنته تحته على إنَّ السؤال كان على الأفضلية. ففهم السنية أبا بكر وفهم الشيعة عليا ورضي الفريقان. ومحاسن هذا النوع أكثر من أن تحصى. وقد خرجنا عن الغرض فلنعد إلى المقصود. وقال أبو محمّد الحريري:

يقولون إنَّ جمال الفتى ... وزينته أدب راسخ
وما أن يزين سوى المكثرين ... ومن طود سودده شامخ
فأما الفقير فخير له ... من الأدب القرص والكامخ
وأي جمال له أن يقال ... أديب يعلم أو ناسخ

الكامخ: شيء يؤتدم به أو طعام يتخذ من الحنطة واللبن على أنواع والعرب كانت لا تعرفه. وقدم لأعرابي فقال: ما هذا فقيل له: كامخ. فقال: مم صنع فقيل: من الحنطة واللبن. فقال: أبوان كريمان وما أنجبا وقلت:

إذا المرء إن أرضيته كان لي أخا ... وإن أس عادني فما هولي بأخ
فلا خير في ود امرئ ليس صافيا ... تراه بأدران المساوي قد اتسخ
ولا خير في ود يكون تكلفا ... ولا في ودود حيث لنت له شمخ
وما الود إلاّ ما تكنفه الحشا ... متى تهزز الأحداث أغصانه رسخ

و قلت أيضاً في هذا المعنى:

ولا تبت من فتى على ثقة ... ولا يغرن حجاك من آخى
حتى تراه لدى النوائب إن ... قاضيه في الحاجات هل ساخى
وعند سعي الوشى هل ثبتت ... رجلا حشاة في الود أم ساخا

سخى الأول فاعل من السخاء وهو الكرم وساخ الثاني من ساخ يسوخ ويسيخ إذا هوى في الطين ونحوه وفيهما يكون الجناس التام.

ولنكتف بهذا القدر من هذا الباب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.