الباب الأول القضاء وما ضارعه

فصل لفظ القضاء يأتي في اللغة على أنحاء مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه. يقال: قضى الحاكم إذا فصل في الحكم؛ وقضى دينه أي قطع ما لغريمه قبله بالاداء؛ وقضيت الشيء أحكمت عمله؛ ومنه قوله تعالى: "إذا قضى أمراً" أي أحكمه وأنفذه.


وخطة القضاء في نفسها عند الكافة من أسنى الخطط؛ فإن الله تعالى قد رفع درجة الحكام، وجعل إليهم تصريف أمور الأنام، حكمون في الدماء والأبضاع والأموال، والحلال والحرام. وتلك خطة الأنبياء ومن بعدهم من الخلفاء: فلا شرف في الدنيا بعد الخلافة أشرف من القضاء. ولأجل منيف قدره في الأقدار، ولسمو خطره في الأخطار، اشترط العلماء في متوليه، من شروط الصحة والكمال، ما تقرر في كتبهم، واستبعد حصول مجموعه الأئمة المقتدى بهم. فقد نقل عن مالك بن أنس رحمه الله! أنه كان يقول في الخصال التي لا يصلح القضاء إلا بها: لا أراها تجتمع اليوم في أحد؛ فإذا اجتمع منها في الرجل خصلتان العلم والورع، قدم. قال عبد الملك بن حبيب في كتابه: وإن لم يكن علم، فعقل وورع! فبالعقل يسئل وبه تحصل خصال الخير كلها؛ وبالورع يعف؛ وإن طلب العلم وجده؛ وإن طلب العقل، إذا لم يكن عنده، لم يجده. وقد قيل: كثير العقل مع قليل العلم أنفع من كثير العلم مع قليل العقل. وليس العلم بكثرة الرواية والحفظ، كما قاله ابن مسعود رضي الله عنه!: وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب.

قال المؤلف أدام الله توفيقه!: ومن قلد الحكم بين الخلق والنظر في شيء من أمورهم: فهو أحوج الناس إلى هذا النور وإلى اتصافه بالتذكير والتيقظ والتفطن. ولذلك كان إسماعيل بن إسحاق، قاضي القضاة ببغداد، يقول: من لم تكن فيه، لم يكن له أن يلي القضاء. وقال ابن المواز: لا ينبغي أن يستقضى إلا ذكى، فطن، فهم، فقيه، متأن، غير عجول، وذكر أن عمر بن عبد العزيز قال: لا يصلح للقضاء إلا القوي على أمر الناس، المستخف بسخطهم وملامتهم في حق الله، العالم بأنه، مهما اقترب من سخط الناس وملامتهم في الحق والعدل والقصد، استفاد بذلك ثمناً ربيحاً من رضوان الله!.

فصل قال عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام: وقد أجمع المسلمون على أن الولاة أفضل من غيرهم. وتفصيل ذلك أن الولاية تشتمل على غرض شرعي، وغرض طبعي؛ فنهى عنها من يغلبه طبعه وهواه، وأمر بها من يكون قاهراً لطبعه، غالباً لهواه. فلا يتولاها من لا يملك هواه إلا أن يتعين لها؛ فيجب عليه أن يتولاها، وأن يجاهد نفسه في دفع هواه ما استطاع. ومما يشير إلى الترغيب في الحكم لمن قدر على العدل فيه، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم! "إن المقسطين عند الله يوم القيامة، على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوه." وقوله "عن يمين الرحمن" معناه في الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة؛ والعرب تنسب الفعل المحمود والإحسان إلى اليمين، وضده إلى الشمال أي المنزلة الخسيسة؛ وأما الأقساط، فهو العدل؛ يقال: أقسط إذا عدقال الله تعالى: "وأقسطوا إن الله يحب المقسطين!" وفي كتاب أبي حبيب، عن ابن شهاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: "ما من أحد أقرب مجلساً من الله يوم القيامة، بعد ملك مصطفى، أو نبي مرسل، من إمام عدل!" وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم! قال: "إن الله مع القاضي، ما لم يحف عمداً." وفي الصحيح: إذا حكم الحاكم، ثم اجتهد فأصاب، فله أجران؛ وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر واحد. قال أهل العلم: والمراد هنا بالحاكم، البصير بالحكومة، المتحري العدل. وقد استدل بهذا الحديث من يرى أن كل مجتهد مصيب، لأنه صلى الله عليه وسلم ! جعل له أجراً. واحتج به أيضاً أصحاب القول الآخر بأن المصيب واحد والحق في طرف واحد، لأنه، لو كان كل واحد مصيباً، لم يسم أحدهما مخطئاً، فيجمع الضدين في حالة واحدة. قال القاضي أبو الفضل بن موسى في إكماله: والقول بأن الحق في طرفين هو قول أكثر أهل التحقيق من المتكلمين والفقهاء؛ وهو مروى عن مالك والشافعي وأبي حنيفة، وإن كان قد حكى عن كل واحد منهم اختلاف في هذا الأصل. وهذا كله في الأحكام الشرعية. وأما ما يتعلق بأصل وقاعدة، من أصول التوحيد وقواعده، مما مبتناه على قواطع الأدلة العقلية، فإن الخطأ في كل هذا غير موضوع، والحق فيها في طرف واحد، بإجماع من أرباب الأصول والمصيب فيها واحد، إلا ما روى عن عبد الله العنبري، من تصويبه المجتهدين في ذلك، وعذره لهم؛ وحكى مثله عن داوود وكله لا يلتفت إليه، وقد حكى عن العنبري أن مذهبه في ذلك على العموم؛ وعندي أنه إنما يقول ذلك في أهل الملة دون الكفرة؛ والاجتهاد المذكور في هذا الباب هو بذل الوسع في طلب الحق والصواب في النازلة. انتهى.

وفي حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم! أذن له أن يجتهد برأيه فيما لم يكن في الكتاب والسنة؛ وقد ورد: ما من قاضٍ يقضي بالحق إلا كان عن يمينه ملك وعن شماله ملك، إلى غير ذلك مما جاء في هذا الباب.
فصل في الخصال المعتبرة في القضاة من التنبيهات وشروط القضاء، التي لا يتم للقاضي قضاؤه إلا بها، عشرة: الإسلام؛ والعقل؛ والذكورية؛ والحرية؛ والبلوغ؛ والعدالة؛ والعلم؛ وسلامة حاسة السمع والبصر من العمى والصمم؛ وسلامة حاسة اللسان من البكم؛ وكونه واحداً لا أكثر؛ فلا يصح تقديم إثنين على أن يقضيا معاً في قضية واحدة، لاختلاف الأغراض، وتعذر الاتفاق وبطلان الأحكام بذلك.

ثم من هذه الشروط ما إذا عدم فيمن قلد القضاء بجهل، أو غرض فاسد، ثم نفذ منه حكم، فإنه لا يصح ويرد؛ وهي الخمسة الأولى: الإسلام؛ والعقل؛ والبلوغ؛ والذكورية؛ والحرية. وأما الخمسة الأخرى، فينفذ من أحكام من عدمت منه ما يوافق الحق، إلا الجاهل الذي يحكم برأيه. وأما الفاسق، ففيه خلاف بين أصحابنا؛ هل يرد ما حكم به، وإن وافق الحق وهو الصحيح، أم يمضي إذا وافق الحق ووجه الحكم.

وشروط الكمال عشرة أيضاً: خمسة أوصاف ينتفي عنها، وخمسة لا ينتفي؛ منها أن يكون غير محدود؛ وغير مطعون عليه في نسبه بولادة اللعان والزنا؛ وغير فقير؛ وغير أمي؛ وغير مستضعف؛ وأن يكون فطناً، نزيهاً، مهيباً، حليماً، مستشيراً لأهل العلم والرأي.

قال القاضي أبو الأصبغ بن سهل: وللحكام الذين تجري على أيديهم الأحكام ست خططٍ: أولها القضاء، وأجله قضاء قاضي الجماعة؛ والشرطة الوسطى؛ والشرطة الصغرى؛ وصاحب مظالم؛ وصاحب رد، ويسمى صاحب رد بما رد عليه من الأحكام؛ وصاحب مدينة؛ وصاحب سوق. هكذا نص عليه بعض المتأخرين من أهل قرطبة، في تأليف له. وتلخيصه: القضاء، والشرطة، والمظالم، والرد، والمدينة، والسوق. وإنما كان يحكم صاحب الرد فيما استرابه الحكام، وردوه عن أنفسهم؛ هكذا سمعته من بعض من أدركته. وصاحب السوق كان يعرف بصاحب الحسبة، لأن أكثر نظره إنما كان يجري في الأسواق، من غش، وخديعة، وتفقد مكيال وميزان وشبه ذلك. ولا عجب للقاضي أن يرفع من عنده إلى غيره، كما يرفع غيره إليه.

وحدود القضاة، في القديم والحديث، معروفة، لا يعارضون فيها، ولا تكون إلى غيرهم من الحكام. وقد عددها علي بن يحيى، وفسرها في كتابه؛ فقال: ويشتمل نظر القاضي على عشرة أحكام: أحدها: قطع التشاجر والخصام من المتنازعين، إما بصلح عن تراض يراد به الجواز، وأما بإجبار بحكم بآية يعتبر فيه الوجوب. والثاني: استيفاء الحق لمن طلبه، وتوصيله إلى يده، إما بإقرار، أو ببينة. والثالث: إلزام الولاية للسفهاء والمجانين، والتحجر على المفلس، حفظاً للأموال. والرابع: النظر في الاحباس، والوقوف والتفقد لأحوالها وأحوال الناظر فيها. والخامس: تنفيذ الوصايا على شروط الموصى إذا وافقت الشرع؛ ففي المعينين يكون التنفيذ بالاقباض، وفي المجهولين يتعين المستحق لها بالاجتهاد فإن كان لها وصى، راعاه، وإلا تولاه. والسادس: تزوج الأيامى من الاكفاء، إذا عدم الأولياء وأردن التزويج. والسابع: إقامة الحدود؛ فإن كانت من حقوق الله تعالى، تفرد بإقامتها، إما بإقرار يتصل بإقامة الحد، وإما ببينة أو ظهور حمل من غير زوج؛ وإن كانت من حقوق الأدميين، فبطلب مستحقها. والثامن: النظر في المصالح العامة، من كف التعدي في الطرقات والأفنية. وإخراج مالا يستحق من الأجنحة والأفنية. والتاسع: تصفى الشهود، وتفقد الأمناء، واختيار من يرتضيه لذلك. والعاشر: وجوه التسوية في الحكم بين القوى والضعيف، وتوخي العدل بين الشريف والمشروف.

ومن الإكمال: لجمهور العلماء أن للقضاة إقامة الحدود، والنظر في جميع الأشياء، من إقامة الحقوق، وتغيير المناكير، والنظر في المصالح، قام بذلك قائم، أو اختص بحق الله. وحكمه عندهم حكم الوصي المطلق اليد في كل شيء، إلا ما يختص بضبط البيضة من إعداد الجيوش، وجباية الخراج. واختلف أصحاب الشافعي هل من نظره مال الصدقات، والتقديم للجمع والأعياد، أم لا، إذا لم يكن على هذا ولاة مخصصون من السلطنة، على قولين؛ إلا يختلفون، إذا كانت هذه مختصة بولاية من قبل السلطنة، أنه لا نظر له فيها. وذهب أبو حنيفة أنه لا نظر له في إقامة حد، ولا في مصلحة، إلا لطالب مخاصم، ولا تنطلق يده إلا على ما أذن له فيه، وحكمه حكم الوكيل الخاص. ومن كتاب الإعلام بنوازل الأحكام: خطة القضاء من أعظم الخطط قدراً، وأجلها خطراً، لا سيما إذا اجتمعت إليها الصلاة. وعلى القاضي مدار الأحكام، وإليه النظر في جميع وجوه القضاء فصل وكل من ولى الحكم بين المسلمين، من أمير، أو قاض، أو صاحب شرطة، مسلط اليد. وكل ما كان في عقوبتهم من موت، وكان في حد من حدود الله تعالى، وأدب لحق، فهو هدر؛ وما أتى من ظلم بين، مشهور، معتمد، فعليه العود في عمده، والعقل في خطائه. وكذلك ما تعمد من إتلاف مال بغير حق، ولا شبهة، فذلك في ماله، يأخذ به المظلوم إن شاء منه، أو من المحكوم له به. من كتاب الاستغناء لابن عبد الغفور. وفي المقنع: قال سحنون: وإذا قضى القاضي على رجل يجوز في الأموال، وكان الذي قضى له بالمال قد أكله، واستهلكه، ولم يوجد عنده، كان ما قضى به على الرجل على القاضي في ماله. وإذا لم يجر في قضائه، وهو عدل، رضىٍ، وإنما خطأ أخطأه، أو غلط غلطه، لم يكن عليه شيء من خطئه. وإذا أقر القاضي على نفسه أنه جار في قضائه، إذا كان قاضياً، في قتل نفس، أو قطع يد، أو قصاص، أو جراح، فما أقر به، أو ثبت عليه من غير إقرار، أقيد منه. قال أبو أيوب، في باب خطأ القاضي من الكتاب المسمى: وقد أقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما! من أنفسهم. ومما تقرر في الشريعة أن حكم الحاكم لا يحل الحرام، وأن الفروج والدماء والأموال سواء، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم!: إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضى له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار! فأجرى الله تعالى أحكام رسوله صلى الله عليه وسلم! على الظاهر الذي يستوى فيه هو وغيره من البشر، ليصح اقتداء أمته به في قضاياه، ويأتون ما أتوا من ذلك على علم من سنته، إذ البيان بالفعل أولى من القول وأرفع لاحتمال اللفظ: وقوله: "أقضي له على نحو ما أسمع" احتج به من لا يجيز حكم الحاكم بعلمه لقوله: فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض أي أفطن لها، وقوله: على نحو ما أسمع؛ ولم يقل: أعلم؛ ومن يرى حكم الحاكم بعلمه لا يلتفت إلى ما سمع، خالف أو وافق.

قال عياض: وقد اختلف العلماء في حكم الحاكم بعلمه، وما سمعه في مجلس نظره. فمذهب مالك وأكثر أصحابه أن القاضي لا يقضي في شيء من الأشياء بعلمه، إلا فيما أقر به في مجلس قضائه، خاصة في الأموال. وبه قال الأوزاعي، وجماعة من أصحاب ملك المدنيين، وغيرهم، وحكوه عن مالك. وقال الشافعي في مشهور قوليه، وأبو ثور، ومن تبعهما، أنه يقضي بعلمه في كل شيء من الأموال، والحدود، وغير ذلك، مما سمعه أو رآه قبل قضائه وبعده، وبمصره وغيره. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يقضى بما سمعه في قضائه وفي مصره، في الأموال، لا في الحدود. انتهى. ووقع كذلك في المسألة، بين الفقهاء بقرطبة، اختلاف؛ فذهب منهم أبو إبراهيم، ومحمد بن العطار، في آخرين، إلى أن القاضي له أن يقضي بعلمه دون شهود. ومال قوم إلى خلاف ذلك، وقالوا: إنما لم يقض بعلمه، دون بينة، لأن فيه تعريض نفسه للتهم، وإيقاعها في الظنون. وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم! الظن. قال القاضي أبو الأصبغ بن سهل: وهذا عندي القياس الصحيح المطرد لمن قال: لا يقضي القاضي بعلمه، ولا بما سمع في مجلس نظره، لكن الذي قاله أبو إبراهيم وابن العطار، وجرى به العمل، وهو عندي الاستحسان، ويعضده قول مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ في كتاب ابن حبيب، أن القاضي يقضي على من أقر عنده في مجلس نظره، بما سمع منهم، وإن لم تحضره بينة. وقاله ابن الماجشون في المجموعة، وبه أخذ أبو سعيد سحنون بن سعيد، وقاله أصبغ في كتابه؛ وهو ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم!: "إنما أنا بشر، وإنكم تخصمون إلي! فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له على نحو ما أسمع منه" الحديث. وقوله عليه الصلاة والسلام!: "إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي!" معناه حصره في البشرية بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم، لا بالنسبة إلى كل شيء؛ فإن للرسول صلى الله عليه وسلم! وصايا كثيرة. فللقاضي، على ما تقرر في المسألة من كلام ابن سهل وغيره، أن يقضي بما صح عنده وسمعه من أمر الخصمين، وأن له أن ينفذ ذلك بينهما، ويمضيه من نظره وحكمه. قال مالك: وإذا قضى بما اختلف العلماء فيه، فحكمه نافذ. وللحاكم المجتهد أن يتخير عن الاختلاف عليه، وأن يأخذ بما يراه أحوط لدينه وعرضه. قال: وإن لم يكن على ما قضى به مذهب العلماء بذلك الموضع، فليس لقاض بعده نقضه، ولا اعتراضه؛ وإنه نافذ تام؛ وإن ظهر له في نفسه أن قول غير من أخذ بقوله خير مما أخذ به، كان له نقضه هو خاصة، ولم يكن ذلك لأحد بعده. وفي كتاب الأقضية من المدونة: إذا تبين للقاضي أن الحق في غير ما قضى به، رجع عنده؛ وإنما لا يرجع به فيما قضت به القضاة مما اختلف فيه.

قال صاحب التنبيهات: حمل أكثرهم مذهبه في الكتاب على أن الرجوع له، كيف كان حاله من وهم أو انتقال رأى، وهو قول مطرف وعبد الملك.

ووقع في منتخب ابن مغيث: وتنقسم أحكام القضاة، على مذهب مالك وجميع أصحابه، على ثلاثة أقسام: أحدهما في الحكم العدل العالم: فأحكامه كلها نافذة على الجواز،ولا يتعقب له حكم؛ والوجه الثاني في الحكم العدل الجاهل المقلد: فللحكم الذي يلي بعده أن يتعقب أحكامه؛ فما وافق الحق. منها، نفذ ومضى، وما خالف الحق رده وفسخه؛ والوجه الثالث في الحكم الجائر المتعسف: فللحكم الذي يلي بعده أن يفسخ أحكامه كلها، ولا ينفذ له حكماً. ومن كتاب سليمان بن محمد بن بطال: قال ابن المواز: لو أن قاضياً نقض حكم قاض قبله قد كان حكم به، ثم ولى قاضٍ ثالث وعزل الثاني. نظر: فإن كان حكم القاضي الأول مما يحكم به، ومما يختلف فيه القضاء والفتيا، رأيت نقض الثاني له خطأ صراحاً؛ فأرى للثالث أن ينقض حكم الثاني، وينفذ حكم الأول، وإن كان خلافاً لما يحكم به الثالث؛ وإن حكم الأول خطأ صراحاً مما لا اختلاف فيه، لم أر للثالث أن يرد حكم الثاني إلى ما حكم به الأفصل في التحذير من الحكم بالباطل أو الجهل قال الله عز وجل!: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى." "ويجرمنكم" معناه يحملنكم. قاله ابن حبيب. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! أنه قال الحكام ثلاثة. إثنان في النار وواحد في الجنة. حَكَمٌ حَكَمَ بجهل، فخسر، فأهلك أموال الناس، وأهلك نفسه، ففي النار؛ وحكمٌ حكمَ فخدل أي جار، فأهلك أموال الناس وأهلك نفسه، ففي النار؛ وحكمٌ علم، فعدل فأحرز أموال الناس وأحرز نفسه، ففي الجنة! قال الهروي في كتاب الغريبين له في الحديث: ورجل علم فخدل أي جار يقال إنه لخدل غير عدل. ذكر ذلك في باب الخاء والدال. قال ابن سيدة في باب الخاء مع الدال: خدل على خدلاً: ظلمني، وخدل علىَّ خدولاً وخدلاً: جار. وفي الحديث: من ولى قاضياً، فقد ذبح بغير سكين. وفي رواية لابن أبي ذويب: فقد ذبح بالسكين. وفيه: الولاية أولها ملامة، ووسطها ندامة، وآخرها عذاب في القيامة، إلا من اتقى الله عز وجل. وفي الموطأ باب ما يكره من القضاء مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي أن: هلم إلى الأرض المقدسة! فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله وقد بلغني أنك جعلت طبيباً تداوي الناس: فإن كنت تبرى، فنعماً لك! وإن كنت متطبباً، فاحذر أن تقتل إنساناً، فتدخل النار! وكان أبو الدرداء، إذا قضى بين إثنين، ثم أدبرا عنه، قال: ارجعا! أعيد على قضيتكما متطبباً والله! ويحيى بن سعيد هو القائل: وليت قضاء الكوفة، وأنا أرى أنه ليس على الأرض شيء من العلم، إلا وقد سمعته. فأول مجلس جلست للقضاء، اختصم إلي رجلان ما سمعت فيه شيئاً! وفي المستخرجة: قال مالك: قال عمر بن الحسين: ما أدركت قاضياً استقضى بالمدينة إلا رأيت كآبة القضاء وكراهيته في وجهه!. وفي الصحيح عن أبي ذر: قلت: يا رسول الله، ألا استعملتني! فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها! فلا ينبغي أن يتقدم على العمل إلا من وثق بنفسه وتعين له وأجبره الإمام العدل عليه. وللإمام العدل إجباره إذا كان صالحاً، وله أن يمتنع عنه إلا أن يتحقق أنه ليس في تلك الناحية من يصلح للقضاء سواه؛ فلا يحل له الامتناع حينئذ لتعيين الفرض عليه.

فصل من المجموع المسمى؛ المقصد المحمود: القضاء محنة وبلية، ومن دخل فيه، فقد عرض نفسه للهلاك، لأن التخلص منه عسير؛ فالهروب منه واجب، لا سيما في هذا الوقت، وطلبه حمق وإن كان حسبة. قاله الشعبي. ورخص فيه بعض الشافعية: إذا خلصت نيته للحسبة، بأن يكون وليه من لا ترضى أحواله؛ والأول أصح لقوله عليه الصلاة والسلام!: إنا لا نستعمل على عملنا من أراده. وفي إكمال المعلم: اختلف العلماء في طلب الولاية مجرداً، هل يجوز أو يمنع، وأما إن كان الرزق يرتزقه، أو فائدة جائز يستحقه، أو لتضييع القائم بها أو خوفه حصولها في غير مستوجبها، ونيته في إقامة الحق فيها؛ فذلك جائز له. وقد قال يوسف عليه الصلاة والسلام!: "اجعلني على خزائن الأرض". ومن الحديث الصحيح: من ابتغى القضاء، واستعان عليه بالشفعاء، وكل إلى نفسه؛ ومن أكره عليه، أنزل الله عليه ملكاً يسدده. ومنه: من مال إلى الإمارة وكل إليها، ومعناه: لم يعن على ما يتعاطاه؛ والمتعاطى أبداً مقرون به الخذلان؛ فمن دعي إلى عمل، أو إمامه في الدين، فقص نفسه على تلك المنزلة، وهاب أمر الله، رزقه الله المعونة. وهذا مبني على من تواضع لله، رفعه الله. فمن الواجب على كل من ابتلى بالقضاء أن يكثر من التذلل لله، والمراقبة له عند أمر ونهيه، والأخذ بالشفقة على عباده. فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! أنه قال: "اللهم! من ولى من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم، فأشفق عليه! ومن ولى من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم، فارفق به!" وكل قاض مطلوب منه أن يحكم بالعدل على نفسه وعلى غيره، وأن يعتقد أنه حاكم في ظاهره، محكوم عليه في باطنه. روى الليث بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! أنه قال: من ولى ولاية، فأحسن فيها أو أساء، أتى به يوم القيامة، وقد غلت يمينه إلى عنقه؛ فإن كان عدلا في أحكامه، أطلق من أغلاله وجعل في ظل عرش الرحمن؛ وإن كان غير عدل في أحكامه، غلت شماله إلى يمينه، فيسبح في عرقه حتى يغرق في جهنم.

ولما تقرر من بلاء القضاء، فرَّ عنه كثير من الفضلاء وتغيبوا، حتى تركوا. وسجن بسببه عند الامتناع آخرون، منهم أبو حنيفة، وهو النعمان بن ثابت، دعاه عمر بن هبيرة للقضاء؛ فأبى؛ فحبسه وضربه أياماً، كل يوم عشرة أسواط، وهو متماد على ابايته إلى أن تركه. وقد نقل عن عثمان بن عفان أنه قال لعبد الله بن عمر بن الخطاب: اقض بين الناس. قال: لا أقضي بين رجلين ما بقيت! قال: لتفعلن! لا أفعل! فإن أباك كان يقضي. قال: كان أبي أعلم مني وأنقى! ومن غريب ما يحكى عن مسلمة بن زرعة، وقد تكلم في تباعات القضاء، أنه قال رأيت في الأندلس قاضياً يدعى مهاجر بن نوفل القرشي، ما رأيت مثله في العبادة والورع. ولقد بلغني في موته أعظم العجب. أخبرني به ثقات من أهل بلده. وذلك أنه لما مات دفن في مقبرتهم ليلاً، وأظنه عهد بذلك، فلما أهيل التراب عليه، سمعوا من القبر كلاماً فاستمعوا له؛ فسمعوه ينادي: أنذركم ضيق القبر وعاقبة القضاء! قال: فكشفوا عنه، وظنوه حياً؛ فوجدوه مكشوف الوجه، ميتاً، بحالته التي قبر بها رحمه الله وغفر لنا وله! وقال الحسن بن محمد في كتابه، عند ذكر من عرض عليه القضاء، فأبى من قبوله: استشار الأمير عبد الرحمن بن معاوية، أول الخلفاء بالأندلس من بني أمية أصحابه، في قاض يوليه على قرطبة. فأشار عليه ولده هشام، وحاجبه ابن مغيث، فالمصعب بن عمران؛ ووقف الاختيار عليه. فوقع بنفس الأمير، وأمر بالإرسال إليه؛ فلما قدم مصعب، أدخله على نفسه، بحضرة ولده هشام، وحاجبه، وخاصة أصحابه؛ فعرض عليه القضاء. فأبى من قبوله، وذكر أعذاراً تعوقه عنه؛ فردها الأمير وحمله على العزيمة، وأصر مصعب على الإباية البتة؛ فاغضب الأمير، وهاج غضبه، وأطال الإطراق؛ ثم رفع رأسه إلى مصعب وقال: اذهب! عليك العفا وعلى الذين أشاروا بك! ولما أراد هشام للقضاء بقرطبة زياد بن عبد الرحمن، وعزم عليه، خرج منها فاراً بنفسه، على ما حكاه ابن حارث. فقال هشام عند ذلك: ليت الناس كلهم كزياد، حتى ألغى أهل الرغبة في الدنيا! وممن عرض عليه القضاء من الفقهاء بالأندلس فأبى من قبوله، إبراهيم بن محمد ابن بار، دعاه إليه الأمير محمد بن عبد الرحمن لقصة رفعت من قدره عنده؛ فأباه فأرسل إليه بذلك هاشم بن عبد العزيز صاحبه؛ فامتنع عليه ولم يجد فيه حيلة؛ فأعاد إليه الأمير هاشماً بوصية يقول: إذا لم تقبل قضاءنا، فاحضر مجلسنا، وكن أحد الداخلين علينا، الذين نشاورهم في أمورنا، ونسمع منهم في رعيتنا. فلما استمع رسالته، قال: يا أبا خالد، إن ألح علي الأمير في هذا ومثله، هربت والله! بنفسي من بلده! فما لي وله؟ فأعرض عنه الأمير عند ذلك، وعلم أنه ليس من صيده.

ومنهم أبان بن عيسى بن دينار، ولاه الأمير محمد بن عبد الرحمن قضاء كورة جيان؛ فأبى ولح. فأمر الأمير بإكراهه على العمل وأن يوكل به نفراً من الحرس، يحملونه إلى حضرة جيان، فيجلسونه هناك مجلس القضاء، ويأخذونه بالحكم بين الناس. فأنفذ الوزراء أمره، وسار به الحرس، فأقعدوه بجيان؛ فحكم بين الناس يوماً واحداً. فلما أتى الليل، هرب على وجهه؛ فأصبح الناس يقولون: هرب القاضي! فرفع الخبر إلى الأمير محمد؛ فقال: هذا رجل صالح فر بدينه! فليسئل عن مكانه ويؤمن مما أكره! ومن أهل سرقسطة، قاسم بن ثابت بن عبد العزيز الفهري، صاحب كتاب الدلائل في شرح غريب الحديث. دعي للقضاء ببلده؛ فامتنع من ذلك. فلما اضطره الأمير وعزم عليه، استمهله ثلاثة أيام، يستخير فيها الله عز وجل! فمات خلال تلك المدة. فكان الناس يرون أنه دعا الله تعالى في الاستكفاء؛ فكفاه وستره. وصار حديثه موعظة في زمانه. قاله أحمد بن محمد.

وممن عرض عليه القضاء، في عصرنا هذا المستأخر، فأباه وامتنع من قبوله، الفقيه أبو عيسى أحمد بن عبد الملك الإشبيلي، عرضه عليه المنصور محمد بن أبي عامر مدبر أمر الخليفة هشام المؤيد بالله، عن أمر الخليفة مرتين؛ فلم يجد فيه حيلة. أولاهما إذ توفي قاضي قرطبة محمد بن يبقى بن زرب، سنة 381؛ أحضره وخاطبه مشافهة بمحضر الوزراء؛ فقال له: إن أمير المؤمنين المؤيد بالله اختارك للقضاء، ورأى تقديمك مباركاً لك فيه. فقال: أعوذ بالله من ذلك! لست، والله الذي لا إله إلا هو! اتهم إلى هذا ولا أقبله البتة! فإني لا أستطيع ولا أصلح وما أفتى الناس في ذلك إلا وأنا مضطجع أكثر أوقاتي لكبرى وضعفي. و والله! لقد صدقتك! فانظر للمسلمين وانصح لإمامك وفقه الله! فتركه.

وممن جاهر بالإصرار على الإباية من القضاء، محمد بن عبد السلام الخشني، أراده الأمير محمد لتقليد القضاء بجيان؛ وأمر الوزراء أن يجلسوه ويلزموه ذلك؛ ففعلوا وأدوا إليه رسالة الأمير. فأبى عليهم ونفر نفوراً شديداً؛ فلاطفوه وخوفوه بادرة السلطان؛ فلم يزد إلا أباء ونفوراً. فكتبوا إلى الأمير محمد بلجاجه واعياء الحيلة عليهم في إجابته. فوقع الأمير توقيعاً غليظاً معناه: إن من عاصانا، فقد أحل بنفسه ودمه. فلما قرأوه على الخشني، نزع قلنسوته من رأسه ومد عنقه وجعل يقول: أبيت كما أبت السموات والأرض، إباية إشفاق، لا إباية نفاق! فكتبوا إلى الأمير بلفظه؛ فكتب إليهم أن سلموا أمره وأخرجوه عن أنفسكم! فقالوا له: انصرف! فانطلق عنهم ولم يهيجوه بعد.
وقد شدد بعض العلماء على الفار منه، إذا كان ممن توفرت فيه دواعيه. فنقل عن سحنون أنه قال: إذا كان الرجل أهلا لخطة القضاء، فاستعفى منها، عوفى منها إن وجد لها عوض منه؛ وإن لم يوجد، أجبر عليها؛ فإن أبى، سجن؛ فإن أبى، ضرب. قال الشعباني: فإن لم يوجد غير واحد ممن يشكل للقضاء، أجبر عليه بالسجن والضرب. ومن جامع كتاب الاستغناء: وإن كان الداعي له إلى العمل غير عدل، لم يجز لأحد إعانته على أموره، لأنه متعد في فعله؛ فيجب له أن يصبر على المكروه، ويدع العمل معه؛ وإن كان عدلاً، جاز بالعمل معه، ويستحب له إعانته. انتهى. والذي يظهر من كلام مالك، الأخذ بالترك، والتحذير من الولاية على كل تقدير، فقد روى عنه ابن وهب في الرجل يدعى للعمل، فيكره أن يجيب إليه، وخاف على دمه، وجلد ظهره، وهدم داره. كيف ترى في ذلك؟ فقال: أما هدم داره وجلد ظهره وسجنه، فإنه يصبر على ذلك، ويترك العمل خير له، وأما أن يباح دمه ولا أدري ما حد ذلك، ولعله في سعة من ذلك إن عمل. وقال الأبهري: إن دعي إلى العمل، فأبى، وخشي ضرب ظهره أو على دمه أو سجنه، فأما الضرب والسجن، فإن صبر، فهو أفضل؛ وأما دمه، فإن عمل، فعله في سعة أن يجري العدل والإنصاف؛ وإن لم يمكنه، لم يجز له أن يتعدى الحق، ويصبر على ما يلحقه من المكروه، إذ لا يجوز له أن يبطل حق المسلمين وحريمهم لنفسه.

ومن كتاب ابن حارث. لما توفي يحيى بن معن، بقي الناس بلا قاض نحواً من ستة أشهر، روى فيها الأمير عبد الرحمن في الإيتاء للقضاء. فقلق الناس لذلك؛ فقال: والله! ما يمنعني من التعجيل إلا النظر لهم! فإني لا أجد رجلاً أرضاه، غير واحد، وهو لا يجيبني! فقال له أحد جلسائه: فإذا أرضيته للقضاء، وأباه، فإلزمه أن يدلك على سواه. فأحضر يحيى بن يحيى وألزمه أن يشير عليه، إذ لم يجبه. فامتنع من الوجهين معاً، الولاية والدلالة، وقال: قد صدقت عن نفسي لمعرفتي بها؛ ولن أتقلد الدلالة على غيري، فإنه، إن جار، شاركته في جوره! فاغضب ذلك الأمير ولح في أن لا يعفيه. وألزمه صاحب رسائل غدابه إلى المسجد الجامع، فأجلسه مجلس الحكم، وقال للخصوم: هذا قاضيكم! فلبث يحيى على تلك الحال ثلاثاً، وهو لا يمد يده لكتاب، ولا يتكلم مع أحد، إلى أن ضاق صدره؛ فكتب إلى الأمير يشير بإبراهيم ابن العباس؛ فقلده، وكف عن يحيى. وممن تخلف عن قبول خطة القضاء، الإمام محمد بن إدريس الشافعي. فراجع أمير المؤمنين، عند العزم عليه في التولية، بأمور منها أن قال له: إن هذا الأمر لا يصلح له من يشركك في نسبك. وتوقف عن العمل حتى ترك. وهو القائل: من ولي القضاء، ولم يفتقر، فهو سارق؛ ومن لم يصن نفسه، لم ينفعه العلم. وبمثل مقالة الشافعي في الاعتذار عن قبول القضاء، أشار عبد الملك بن حبيب على عبد الرحمن ابن الحكم، في نازلة القاضي إبراهيم بن العباس القرشي؛ وهي النازلة التي تنسب له. وللفقيه يحيى بن يحيى السورة على الخليفة؛ فقال له ابن حبيب وأما القاضي، فلا ينبغي للأمير أعزه الله! أن يشرك في عدله من يشركه في حسبه. فعزل الأمير القرشي قاضيه، وذلك آخر سنة 213. وولي القضاء مكانه محمد بن سعيد.

وعرض أمير المؤمنين الرشيد على المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي قضاء المدينة، وجائزته أربعة آلاف دينار. فامتنع؛ فأبى الرشيد أن يلزمه، فقال: والله! يا أمير المؤمنين! لأن يحنقني الشيطان أحب إلي من أن ألي القضاء! فقال الرشيد: ما بعد هذا شيء! وأعفاه، وأجازه بألفي دينار.

ورأيت في كتاب ترتيب المدارك تصنيف القاضي عياض بن موسى بن عياض ومن خطه نقلت، وقد ذكر عبد الله بن فروخ الفارسي، فقيه القيروان في وقته؛ فقال: كان أكره الناس في القضاء. وكان يقول: قلت لأبي حنيفة: ما منعك أن تلي القضاء؟ فقال لي: يا ابن فروخ! القضاة ثلاثة: رجل يحسن العوم، فأخذ البحر طولاً، فما عساه أن يعوم، يوشك أن يكل فيغرق؛ ورجل بعومه، عام يسيراً فغرق؛ ورجل لا يحسن العوم، ألقى بنفسه على الماء، فغرق من ساعته.

ومن الكتاب المسمى أن روح بن حاتم أرسل إلى ابن فروخ ليوليه القضاء فامتنع؛ فأمر به أن يربط ويصعد به على سقف الجامع؛ فقيل له: تقبل؟ فقال: لا! فأخذ ليطرح؛ فلما رأى العزم قال: قبلت. فأجلس في الجامع ومعه حرس؛ فتقدم إليه خصمان؛ فنظر إليهما وبكى طويلاً؛ ثم رفع رأسه، فقال لهما: سألتكما بالله! ألا أعفيتماني من أنفسكما، ولا تكونا أول مشوش علي! فرحماه، وقاما عنه. فأعلم الحرس بذلك روحاً؛ فقال: اذهبوا إليه، فقولوا له يشير علينا بمن نولي أو ما قبل. فقال: إن يكن، فعبد الله بن غانم؛ فإني رأيته شاباً له صبابة يعني بمسائل القضاة. فعليك به! فإنه يعرف مقدار القضاء. فولى ابن غانم؛ فكان يشاوره في كثير من أموره وأحكامه؛ فأشفق ابن فروخ من ذلك، وقال له: يا ابن أخي! لم أقبلها أميراً أقبلها وزيراً! وخرج إلى مصر هرباً من ذلك وورعاً، ومات هنالك.
وممن عرض عليه القضاء بإفريقية، فامتنع منه، أبو ميسرة أحمد بن نزار. فلما عرض عليه قال: اللهم! إنك تعلم أني انقطعت إليك، وأنا ابن ثماني عشرة سنة! فلا تمكنهم مني! فما جاء العصر إلا وقد توفي. فغسل وكفن وخرج به. فوجه إليه الأمير إسماعيل العبدي كفناً وطيباً في الأطباق؛ فوافاه الرسول على النعش؛ فجعل عليه الكفن من فوق. ومن غريب ما حكى عنه أنه بينا هو يتهجد ليلة من الليالي ويبكي ويدعو، إذا بنور عظيم، خرج له من حائط المحراب، ووجه كأنه البدر. فقال: تملأ، يا أبا ميسرة! من وجهي: فإني ربك الأعلى! فبصق في وجهه وقال له: اذهب يا ملعون! يا شيطان! لعنك الله! قال المؤلف رضي الله عنه!: التوفيق صحب ابن نزار عند مشاهدته لما أخبر عنه بحائط محرابه؛ فثبتت المعرفة قدمه، وأنطقت بالصواب لسانه. فذات القديم سبحانه ذات موصوفة بالعلم، مدركة بلا إحاطة، ولا مرءية بالأبصار في دار الدنيا؛ وهي موجودة بحقائق الإيمان، من غير حد، ولا إحاطة، ولا حلول؛ فالقلوب تعرفه، والعقول لا تدركه؛ ينظر إليه المؤمنون في الآخرة بالأبصار، بغير إحاطة، ولا إدراك نهاية.

ومن باب التمنع عن المسارعة إلى الأمور التي يخاف من الدخول فيها، السقوط في الفتنة، ما جرى لجعفر بن الحسن بن الحسن الأمدي قاضي بلنسية آخر أيام قضائه بها. وذلك أنه بويع لمروان بن عبد العزيز ببلنسية، عند انقراض الدولة اللمتونية، طلب بالشهادة في بيعته فقال: والله! لا أفعل وبيعة تاشفين في عنقي! ثم قال: اللهم! اقبضني إليك! قال ابن الأبار في تكملته، وقد ذكره: فتوفي في ليلته ودفن في الغد. وكان رجلاً صالحاً. ورعاً، مجاب الدعوة. وكانت بيعة مروان في صفر سنة 540. وذكر يحيى بن إسحاق أن هشاماً، لما ولي، قيل له: لا يتعدل ما تريد إلا بولاية زياد بن عبد الرحمن على القضاء! فبعث إليه؛ فتمنع؛ فألح عليه هشام، وأحضر الوزراء؛ وكلموه في ذلك عن الأمير وعرفوه عزمه. فقال لهم: أما إذ عزمتم، وأكرهتموني على القضاء، فأخبركم ما أبدأ به على المشي إلى مكة. إن وليتموني، وجاءني أحد متظلماً منكم، إلا أخرجت من أيديكم ما يدعيه، ورددته عليه، وكلفتكم البينة لما أعرف من ظلمكم! فلما سمعوا ذلك، عرفوا صدقه؛ فعلموا عند الأمير في معافاته. فقيل ليحيى بن يحيى: أهو وجه القضاء؟ قال: نعم! فيمن عرف بالظلم والقدرة! فصل هذه المسألة، التي هي إخراج ما يدعيه الطالب من يد المطلوب الموسوم بالظلم، وقع من أمثالها في أمهات الكتب نظائر؛ منها في العتبية قال في سماع يحيى: قلت: فقوم عرفوا بالغصب لأموال الناس من ذوي الاستطالة بالسلطان؛ ثم جاء الله بوال أنصف منهم وأعدى عليهم؛ فلا يجد الرجل من يشهد على معاينة الغصب، ويجد من يشهد على حق أنهم يعرفونه ملك المدعي، ثم رأوه بيد هذا الظالم، لا يدرون بماذا صار إليه إلا أن الطالب كان يشكو إليهم ذلك، أو لا يشكوه. قال: إذا كان من أهل القهرة والتعدي ومن يقدر على ذلك، والبينة عادلة، فذلك يوجب للمدعي أخذ حقه منه، إلا أن يأت الظالم ببينة عادلة على شراء صحيح، أو علمية لمن كان يأمن ظلمه، أو يأت بوجه حق ينظر له فيه. قال: فإن جاء ببينة عادلة على شرائه، وزعم البائع أن ذلك البيع عن فوق من سطوته، وهو لا يقدر عليه؛ قال: يفسخ البيع إن ثبت أنه من أهل الظلم والاستطالة.

قال: وإن زعم البائع أنه باع وقبض منه الثمن ظاهراً، ثم دس إليه سراق، أخذه منه. ولو لم يفعل له ذلك لقي منه شراً قال: لا يقبل منه هذا؛ وعليه دفع الثمن إليه، بعد أن يحلف الظالم أنه ما ارتجعه، ولا أخذه منه بعد أن دفعه إليه.

قال ابن رشد: أما ما ذكره من أن الظالم، المعروف بالغضب لأموال الناس والقهرة لهم عليهم، لا ينتفع بحيازته مال الرجل في وجهه، ولا يصدق من أجلها على ما يدعيه من شراء أو هبة، أو صدقة يريد، وإن طال ذلك في يده أعواماً: أما إذا أقر بأصل الملك لمدعيه، وقامت له بينة بذلك، فهو صحيح لا أعلم فيه اختلافاً، لأن الحيازة لا توجب الملك؛ وإنما هي دليل عليه بوجه تصديق غير الغاصب فيما ادعاه من تصييره إليه، لأن الظاهر أنه لا يجوز أخذ مال أحد، وهو حاضر لا يدعيه ولا يطلبه، إلا وقد صار إلى الذي بيده، إذا حازه في وجهه العشرة الأعوام ونحوها! لقول النبي صلى الله عليه وسلم!: من حاز شيئاً عشر سنين، فهو له! معناه عند أهل العلم بدعواه مع يمينه؛ وأما الغاصب فلا دليل له في كون المال بيده؛ وإن طالت حيازته له في وجه صاحبه لما يعلم من غصبه لأموال الناس والقهرة لهم عليهم. قال: وأما إن أثبت الغاصب الشراء ودفع الثمن، فادعى البائع أنه أخذه منه في السر، بعد أن دفع إليه، فهو مدع لا دليل له على دعواه، فوجب أن يكون القول قول الغاصب المدعى عليه، كما قال في الرواية لقوله عليه الصلاة والسلام!: البينة على المدعى، واليمين على من أنكر. وقد روى عن يحيى بن يحيى أنه قال: إذا قال البائع إنه أعطاه الثمن بالظاهر، فدس عليه من أخذه منه، فإنه ينظر إلى المشتري؛ فإن عرف بالعداء والظلم والتسلط، فإني أرى القول قول البائع، مع يمينه لقد دفع المال إليه قهرة وغلبة، ويرد ماله عليه بغير أن يرد إليه الثمن. وقاله ابن القاسم. دفع ذلك في بعض الروايات، وهو إغراق. فإذا أقر أنه دفع إليه، ثم أدعى أنه أخذه منه، وأما لو لم يقر أنه قبض الثمن؛ وقال: إنما أشهدت له على نفسي بقبضه، تقية وخوفاً منه! لا شبه أن يصدق في ذلك مع يمينه في المعروف بالغصب والظلم؛ وإنما يكون ما قال يحيى من تصديق البائع فيما ادعاه من أنه دس إليه في السر من أخذ الثمن منه، إذ أشهد له أنه فعل ذلك بغيره. ونرجع إلى ما كنا بسبيله؛ فنقول: وممن عرض عليه القضاء فأباه، الشيخ الصالح بقي بن مخلد. كانت له خاصة بالأمير المنذر بن محمد بن عبد الرحمن قبل ولايته الملك؛ وكان قد قدم إليه في حياة والده البشرى بالخلافة، لرؤيا قصها عليه. فلما ولي الخلافة، ضاعف له البر والكرامة والإعظام والتبجلة، وأحضره وأراده لولاية القضاء. فأبى عليه. فذهب إلى استكراهه. فقال الشيخ بقي: ما هذا جزاء محبتي وانقطاعي وصاغيتي؟ فقال له المنذر: أما إذ أبيته، فأشر علي بقاض ترضاه للمسلمين! فأبى عليه؛ فضايقه، وعزم عليه؛ فقال: لا بد أن تلى أو تشير! فقال: أشير عليك برجل من آل زياد، يسكن برية، يعرف بعامر بن معاوية. فقبل منه، وأرسل في عامر؛ فولاه.

ومنهم أبو غالب عبد الرؤوف بن الفرج بن أبي كنانة. كان الأمير عبد الله بن محمد به معجباً، وله مفضلاً؛ وكان قد اشتهى رؤيته من غير أن يستدعيه؛ فتعرض لذلك يوم الجمعة من طاق الساباط: فرآه عند رواحه إلى المسجد الجامع، وأعجبه سمته، وأحب اجتذابه إليه، وقال: لا بد أن أضمه إلى الوزارة أو القضاء! فذاكر بشأنه الوزير ابن أبي عبدة، وكان صديقاً لأبي غالب؛ فقال: ينبغي للأمير أن لا يهجم على الرجل بالاستدعاء، حتى يعرف ما عنده في ذلك. فقال له: فكن أنت الذي يتعرف ذلك.قال الكاتب المدعو بسكن بن إبراهيم: فأرسلني الوزير إليه؛ فعرضت عليه مراد الأمير؛ فتلقى ذلك مني بالنطق والتضاحك، حتى أطمعني في نفسه؛ وجعل يقول: كيف كان تنبهكم لنا بعد طول الغفلة؟ وما نرى هذا منكم عن صحة نية: فانتم أشح بدنياكم من أن تعطوا منها أحداً شيئاً، وتشركوا فيها صديقاً! قال سكن: فلما صرت به إلى الجد، تنمر لي، وقال آخر قوله: بالله الذي لا إله إلا هو! لئن عاودتني أو غيرك، أو بلغتني فيه عن الأمير عزيمة، لأخرجن عن الأندلس! فلا أعودن إليها آخر الدهر! فترك عن ذلك.
وقدم للقضاء بالجزيرة الخضراء وما يرجع إليها، عبد الله بن أحمد بن الحسن الجذامي النباهي، وذلك بإشارة شيخه الأستاذ أبي القاسم بن إبراهيم بن محمد الزهري الإفليلي، أيام ولايته الوزارة للمستكفي بالله. والمستكفي هو محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن عبد الرحمن الناصر من بني أمية. فأبى من القبول؛ وقع العزم عليه في العمل من الأمير، فنفر، وقصد الوزير وخلابه. وكان من جملة مقاله له: سألتك بالله! أتعلم أن الولاية لمثلي أولى من الإباية؟ فأقف عند إشارتك؟ أم تعلم أن الأمر بخلاف ذلك؟ فقال له: يا ابن أخي! حاصل ما أراه أن الولاية في الوقت كرامة وترك العمل سلامة.

فقال له ابن الحسن: أبقاك الله! أختار السلامة! وليس يجمل بك أن تكون نتيجة معرفتي بك تكليفي ما يصعب علي تحمله! فحاول استبداله بغيره. وانقطع هو للاشتغال بإصلاح حاله، والاقتصاد على التعيش من ماله. وقد ذكره خلف بن عبد الملك في صلته لكتاب القاضي أبي الوليد بن الفرضي؛ فقال فيه بعد اسمه: يكنى أبا محمد؛ أخذ عن أبي القاسم بن الإفليلي كثيراً. وكان عالماً بالآداب واللغات والإشارات؛ وله رد على أبي محمد بن حزم فيما انتقده على ابن الإفليلي في شرحه لشعر المتنبي؛ أخذ عنه أبو عبد الله محمد بن سليمان شيخنا رحمه الله! وعن سحنون قال: مات بعض قضاة إفريقية. فقدم رسول الخليفة، وجمع العلماء، واستشارهم في قاض يوليه، فقيل لشيخه أبي الحسن بن زياد: هذا رسول الخليفة، يشتشيرك في قاضٍ يوليه. فحول وجهه إلى القبلة؛ فقال: ورب هذه القبلة! ما أعرف بها أحداً يستوجب القضاء. قوموا عني! قال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: لا يستقضي إلا من يوثق به في عفافه، وصلاحه، وفهمه، وعلمه بالسنة والآثار ووجه الفقه؛ ولا يصلح أن يكون صاحب حديث لا فقه له، أو فقيهاً لا حديث عنده. ولا يفتى إلا ما كان هذا وصفه إلا أن يخبر بشيء سمعه؛ ولا ينبغي، وإن كان صالحاً عفيفاً. أن يولي إلا أن يكون له علم بالقضاء.

وممن عرضت عليه الولاية بمالقة، من أهلها، فأبى وتمنع منها، الحسن بن محمد بن الحسن الجذامي النباهي. واعتذر بأمور، منها كثرة ولده، وتعدد ذوي رحمه وقد ورد: لا يحكم القاضي إلا لمن تجوز له شهادته من قومه؛ واستثقل مع ذلك القهرة لأهل بلده بالحكم من قبله؛ وكان قد جرى لوالده محمد بن الحسن، آخر أيام ولايته القضاء بكورة رية، ما هو معروف عند الكثير، من إعمال الحيلة في غدره، والإقدام على قتله. فقبل الأمير عند ذلك معاذيره، وترك سبيله ثم جدد العزم عليه في الولاية. قال ابن فريد في كتابه: فاستقضى بغرناطة؛ وكان من أهل النباهة والجلالة، توفي سنة473. وذكره ابن بشكوال في صلته.

ومن الفقهاء المتأخرين، المتقدمين في العلم والدين، أبو عبد الله محمد بن عياش الأنصاري ثم الخزرجي، أحد أشياخ بلدنا مالقة، وفريد عصره بها عقلاً، وفضلاً، وورعاً وزهداً؛ استدعاه أمير المسلمين أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن نصر رحمه الله وأرضاه! لحضرته؛ فقلده بها قضاء الجماعة والخطبة أيام الجمعة بمسجد حمرائها؛ فخطب جمعة واحدة، وأقام رسم القضاء ثلاثة أيام حسبة، إذ كان أولا قد عزم على تركه، والخروج عن عهدته؛ فلم يقبل كسوة، ولا أخذ جراية، وأفصح رابع يومه بالاستعفاء عن خطة القضاء. وكان أعلم قضاة زمانه بالأحكام، وأحفظهم للمسائل، وأبصرهم بالنوازل؛ لاكنه نفعه الله بقصده! هاب أمر الله، وأثر مع ذلك راحة بدنه، وخلاص نفسه من تبعاته. وعلم الأمير صدق مقالته، وصحة عزيمته؛ فأعفاه. وارتحل عند ذلك بقية يومه إلى بلده، وتقدم للخطبة والصلاة بالجامع منه. وتولى ذلك إلى وفاته، ولم يأخذ عليه مرتباً. مدة حياته. فكان في انقباضه عن الولاية أشبه الناس بموسى بن محمد ابن زياد، إذ ولاه الأمير عبد الله من بني أمية القضاء بقرطبة، والصلاة معاً بأهلها؛ فصلى بالناس جمعة واحدة، واستعفى في الثانية، والتزم القعود بداره والتقوت من فائد عقاره.
وإضافة لفظ القضاء إلى الجماعة، جرى التزامه بالأندلس منذ سنين إلى هذا العهد. والظاهر أن المراد بالجماعة جماعة القضاة، إذ كانت ولايتهم قبل اليوم غالباً من قبل القاضي بالحضرة السلطانية، كائناً من كان؛ فبقي الرسم كذلك. وأما قاضي الخلافة، بالبلاد المشرقية، فيدعى بقاضي القضاة. وممن دعى بهذا اللقب بالأندلس من قضاة قرطبة، وكتب له بذلك عند اسمه في السجلات المنعقدة عليه والمخاطبات الموجهة إليه، أبو العباس أحمد بن عبد الله بن ذكوان الأموي، وأبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن وافد اللخمي؛ ولم يكن الأمر بحدثان ذلك كذلك. قال الحسن بن محمد، وقد ذكر في كتابه يحيى بن يزيد اللخمي: لما دخل عبد الرحمن بن معاوية قرطبة، وقام بالإمامة، ألفى فيها يحيى بن يزيد قاضياً؛ فأثبته على القضاء، ولم يعزله إلى أن مات. قال: وكان يقال له وللقضاة قبله بقرطبة، قاضي الجند. قال محمد بن حارث: وقد رأيت سجلاً عقده سعيد بن محمد ابن بشير بقرطبة، يقول فيه: حكم محمد بن بشير قاضي الجند بقرطبة. قال: وإن تسمية القاضي اليوم بقاضي الجماعة اسم محدث، لم يكن في القديم.

هذا ما ظهر لي رسمه صدر هذا الكتاب، من الكلام. وفيه، بحسب الغرض المقصود من الاختصار، غنية كافية لمتأمله بعين الإنصاف. والله الموفق للصواب!