ذكر عبد السلام بن سعيد بن حبيب الملقب بسحنون قاضي إفريقية

وتقدم لولاية القضاء بإفريقية، بعد ابن غانم بزمان، أحد الآخذين العلم بها عنه، وهو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي الملقب بسحنون؛ وذلك سنة 234. قال عياض بن موسى، ومن خطه نقلت: وسنه إذ ذاك أربع وسبعون سنة. فلم يزل قاضياً إلى أن مات. ثم ذكر عن أبي العرب أنه قال: لما عزل ابن أبي الجواد، قال سحنون: اللهم! ولِّ هذه الأمة خيرها وأعدلها! فكان هو الذي ولي بعده. وقال: لم أكد أرى قبول هذا الأمر حتى كان من الأمير معنيان، أحدها: أعطاني كل ما طلبت، وأطلق يدي في كل ما رغبت، حتى أني قلت أبدأ بأهل بيتك وقرابتك وأعوانك؛ فإن قبلهم ظلامات للناس وأموالاً منذ زمان طويل! فقال لي: نعم! لا تبدأ إلا بهم، وأجر الحق على مفرق رأسي. وجارني من عز منه مع هذا ما يخاف منه المرء على نفسه، وفكرت؛ فلم أجد لنفسي سعة في رده.


ولما تمت ولايته، سار حتى دخل على ابنته خديجة؛ وكانت من خيار النساء. فقال لها: اليوم ذبح أبوك بغير سكين! فعلم الناس قبوله للقضاء؛ ويومئذ كتب له عبد الرحمن الزاهد بما نصه: أما بعد، فإني عهدتك وشأن نفسك إليك مهما تعلم الخير وتؤدب عليه. وأصبحت، وقد وليت أمر هذه الأمة، تؤدبهم على دنياهم، يذل الشريف بين يديك والوضيع؛ وقد اشترك فيك العدو والصديق. ولكل خطة من العدل: فأي حالتيك أفضل؟ الحالة الأولى أم الثانية؟ والسلام. فراجعه سحنون بأن قال له: أما بعد، فإنه جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه؛ وإني أجيبك إنه لا حول ولا قوة في شيء من الأمور إلا بالله تعالى! عليه توكلت وإليه أنيب! وما كتبت إنك عهدتني وشأن نفسي إلي مهما أعلم الخير وأودب عليه، وقد أصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة وأود بهم على دنياهم. ولعمري إنه من لم تصلح دنياه، فسدت أخراه. وفي صلاح الدنيا إذا صح المطعم والمشرب، صلاح الآخرة. وقد حدثني ابن وهب ورفع سحنون سنده أن النبي صلى الله عليه وسلم! قال: نعم المطية الدنيا! فارتحلوها! فإنها تبلغكم الآخرة! ولن تبلغ الدنيا الآخرة من عمل في الدنيا بغير الواجب من حق الله! وأما قولك وليت أمر هذه الأمة، فإني لم أزل مبتلى، ينفذ قولي منذ أربعين سنة في أبشار المسلمين وأشعارهم. ومن كلام عبد الله بن أبي جعفر: لن تزالوا بخير ما تعلمتم. فإذا احتيج إليكم، فانظروا كيف تكونون. وإنما المفتي قاض يجوز قوله في أبشار المسلمين وأموالهم. فعليك بالدعاء! فألزم ذلك نفسك! والسلام.

وكان سحنون يؤدب الناس على الإيمان التي لا تجوز، من الطلاق والعتاق، حتى لا يحلفوا بغير الله؛ ويؤدبهم على سوء الحال في لباسهم وما نهى عنه، ويأمرهم بحسن السيرة والقصد. وتخاصم إليه رجلان صالحان من أصحابه؛ فأقامهما، وأبى أن يسمع منهما، وقال: استر عني ما ستر الله عليكما! وهو أول من نظر في الحسبة من القضاة، وأمر بتغيير المنكر؛ وأول من فرق حلق البدع من الجامع، وشرد أهل الأهواء منه؛ وأول من جعل الودائع عند الأمناء؛ وكانت قبل في بيوت القضاة. قال عيسى بن مسكين: فحصل الناس بولايته على شريعته من الحق؛ ولم يل قضاء إفريقية مثله ويقال إنه ما بورك لأحد، بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما بورك لسحنون في أصحابه؛ فإنهم كانوا أئمة بكل بلدة. وكان الذين يحضرون مجلسه من العباد أكثر من طلاب العلم. وكان يقول: ما أحب أن يكون عيش الرجل إلا على قدر ذات يده. ولا يتكلف ما في وسعه؛ وأكل أموال الناس بالمسكنة والصدقة خير من أكله بالعلم والقرآن. وهو القائل: من لم يعمل بعلمه، لم ينفعه العلم، بل يضره وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب، فإذا عمل به، نور الله قلبه؛ وإن لم يعمل به، وأحب الدنيا، أعمى حب الدنيا قلبه، ولم ينوره العلم! وكان يقول: ترك الحلال أعظم من جميع عبادة الله؛ وترك الحلال لله أفضل من أخذ وإنفاقه في طاعة الله! وقال: ترك دانق مما حرم الله أكثر من سبعين ألف حجة، يتبعها سبعون ألف عمرة مبرورة متقبلة، وأفضل من سبعين فرساً في سبيل الله بزادها وسلاحها، ومن سبعين ألف بدنة يهديها إلى بيت العتيق، وأفضل من عتق سبعين ألف رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل! قال صاحب المدارك: فبلغ كلامه هذا لعبد الجبار بن خالد؛ فقال: نعم! وأفضل من ملء الأرض إلى عنان السماء ذهباً وفضة كسبت وأنفقت في سبيل لا يراد بها إلا وجه الله! وهذا القول بناء على أن التروك لا توازيها الأفعال. وكذلك القول في مسألة ترك الحلال لله إنه أفضل من أخذه وإنفاقه في طاعة الله مما وقع فيه الاختلاف بين العلماء. قال عز الدين أبو محمد بن عبد السلام السلمي: فقالت طائفة تركها أفضل. وقال آخرون: بل! فعله مع السلامة أولى. قال صاحب الرعاية: لأنه قد اكتسب من العمل ما لم يكتسب غيره وإنما يسأل عن ذلك كما يسأل عن الصلاة والصيام ليثاب عليه وإنما أمر بالترك خوفاً أن لا يسلم.

وتوفي سحنون رحمه الله! صدر شهر رجب سنة 240 ودفن من يومه. وصلى عليه الأمير محمد بن الأغلب. ولم يأخذ لنفسه، مدة قضائه، من السلطان شيئاً.