ذكر القاضي عيسى بن مسكين

ومنهم عيسى بن مسكين بن منصور. سمع من سحنون بالقيروان، وسمع بمصر من الحارث بن مسكين، ومحمد بن المواز، وغيرهم. وكان رجلاً صالحاً، فاضلاً، طويل الصمت، رقيق القلب، متفنناً في العلوم. وكيفية ولايته القضاء أن الأمير إبراهيم بن أحمد بن الأغلب كان قد اضطر يحيى بن عمر إلى ولاية القضاء. فقال له: إن دللتك على من هو أفضل مني، في الوجه الذي تحب، تعفيني فقال له: نعم! فدله عيسى ابن مسكين. وكان بالحضرة حمديس؛ فقال: إنه، والله! أيها الأمير، صاحبنا عند سحنون. جمع الله فيه خلال الخير بأسرها! فأرسل فيه إبراهيم إلى كورة الساحل، وأوصله إلى نفسه، وقال: تدري لم بعثت لك؟ قال: لا. قال: لأشاورك في رجل قد جمع الله فيه خلال الخير. أردت أن أوليه القضاء، وألم به شعث هذه الأمة؛ فامتنع. قال: يلزمه أن يلي. قال: تمنع. قال: يجبر على ذلك! قال: تمنع. قال: يجلد! قال: قم! فأنت هو! قال: ما أنا الذي وصفت! وتمنع. فأخذ الأمير بمجامع ثيابه، وقرب السيف من نحره؛ فتقدم إليه بخنجره. قال حمديس: وكنت في المجلس؛ فقمت من مكاني، لئلا يصيبني من دمه. فلم يزل به حتى ولى على شروط، منها قال له: أستعفيك في كل شهر! قال: نعم! قال: وأجعلك، وبني عمك، وجندك، وفقراء الناس، وأغنياءهم في درجة واحدة. قال: نعم! قال: ولم توجه ورائي، وكذا وكذا. فمتى لم تف لي بشرط، عزلت نفسي. قال: نعم! وعرض عليه عند ذلك الكسوة والصلة. فامتنع وقال له: أنا رجل طويل الصمت، قليل الكلام، غير نشيط في أمور، ولا أعرف أهل البلد. فقال له الأمير: عندي مولى نشيط، قد تدرب في الأحكام. أنا أضمه إليك: يكون عنك كتاباً يصدر عنك في القول. فما رضيت منه، أمضيت؛ وما سخطت، رددت. فضم إليه عبد الله بن محمد بن مفرج. قال المخبر: فكثيراً ما كنت آتي مجلسه وهو صامت لا يتكلم؛ وابن مفرج يقضى. وسئل عن فرط انقباضه في قضائه. فقال: ابتليت بجبار عنيد، خفت أن يبعث إلي من طعامه، أو يدعوني إليه. ولا آتيه؛ فحملت نفسي على ذلك، ليقطع طمعه مني! ومن كلام هذا القاضي رحمه الله!: من قاس الأمور، علم المستور. من حصن شهوته، صان قدره. في تقلب الأحوال، علم جواهر الرجال. الحسن النية، يصحبه التوفيق. المعاش مذل لأهل العلم. كفاك أدباً لنفسك ما كرهته لغيرك. قارب الناس في عقولهم، تسلم من غوائلهم. وكان، إذا تحدث عن أيام قضائه، يقول: كنت في بليتي.، وكنت أيام تلك المحنة. ولما تاب الأمير وتخلى عن الملك وتوجه للجهاد، أتاه عيسى بن مسكين؛ فقال له: إن الله عافاك مما كنت فيه. فشاركني في الخروج عما أدخلتني فيه؛ فقد كبر سني، وضعف بدني. وعلى الأثر وقع انفصاله. وكانت ولايته ثمانية أعوام ونصف عام.