ذكر القاضي أبي بكر الباقلاني

ومن القضاة بالعراق أيضاً، أبو بكر محمد بن الطيب، المعروف بالباقلاني، المالكي، المتكلم على مذهب أهل الحديث وطريقة الأشعرية. إمام وقته، وعالم عصره، المرجوع إليه فيما أشكل على غيره. ومن كلام الصيرفي فيه: كان صلاح القاضي أكثر من علمه. وما نفع الله هذه الأمة بكتبه وبثها فيهم، إلا بحسن نيته، واحتسابه بذلك ما عند الله من الثواب. ونقلت من خط القاضي أبي الفضل، وقد ذكره في مداركه ما نصه: حكى أبو بكر الخطيب أن ورد القاضي كل ليلة، كان عشرين ترويحة؛ ما تركها في حضر ولا سفر. وكان كل ليلة، إذا صلى العشاء، وقضى ورده، أخذ الدواة بين يديه، وخمساً وثلاثين ورقة، تصنيفاً يكتبها عن حفظه. وكان يذكر أن كتابه بالمداد أسهل عليه من الكتاب بالحبر. فإذا صلى الفجر، دفع إلى بعض أصحابه ما ضبطه ليلته، وأمر بقراءته عليه، وأومأ إلى الزيادات فيه. وكان بعضهم يقول: جاء في الأثر إن الله تعالى يتعاهد عباده بأنبيائه ورسله؛ فلما ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم! تعاهد أمته برباني من علمائها، يحيي أحاديثها، ويجدد شريعتها. فكان إمام رأس الأربعمائة أبو بكر بن الطيب. أخذ عنه العلم جماعة لا تعد لكثرتها؛ ودرسوا عليه أصول الفقه والدين: منهم القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر؛ ومن أهل المغرب أبو عمران الفاسي رحل إليه ولازمه ببغداد، وأخذ عنه. وكان أعرف الناس بعلم الكلام، وأحسنهم فيه خاطراً، وأجودهم لساناً، وأوضحهم بياناً، وأصحهم عبارة.

وصار له اختصاص بعضد الدولة. ولما وجهه سفيراً عنه إلى ملك الروم، ليظهر به رفعة الإسلام، ويغض من النصرانية، وتهيأ للخروج، قال له وزير الدولة: أاخذت الطالع لخروجك؟ فسأله أبو بكر. فلما فسر مراده، قال: لا أقول بهذا، لأن السعد والنحس والخير والشر بيد الله! ليس للكواكب ها هنا مثقال ذرة من القدرة؛ وإنما وضعت كتب النجوم ليتمعش بها الجاهلون من العامة؛ ولا حقيقة لها. فقال الوزير: احضر إلى ابن الصوفي! وقد كان له تقدم في هذا الباب. فلما حضره، دعاه الوزير إلى مناظرة القاضي، ليصحح ما أبطله بزعمه فقال ابن الصوفي: ليست المناظرة من شأني، ولا أنا قائم بها. وإنما أحفظ علم النجوم وأنا أقول: إذا كان من النجوم كذا، يكون كذا! وأما تعليله، فهو من علم أهل المنطق وأهل الكلاموجرت له في ذلك الوجه بالقسطنطينية بين يدي ملكها، مع بطارقته ونبلاء ملته، مناظرات ومحاورات: منها أن الملك قال له: هذا الذي تدعونه في معجزات نبيكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ قلت: هو صحيح عندنا. وانشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! حتى رأى الناس ذلك، وإنما رآه الحضور ومن اتفق نظره له في تلك الحال. فقال الملك: وكيف لم يره جميع الناس؟ قلت: لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره. فقال: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة وقرابة. لأي شيء لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟ قلت: فهذه المائدة بينكم وبينها نسبة؛ وأنتم رأيتموها دون اليهود، والمجوس، والبراهمة، وأهل الإلحاد، وخاصة يونان جيرانكم؛ فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن! فتحير الملك وقال في كلامه: سبحان الله! وأمر بإحضار فلان القسيس ليكلمني، وقال: نحن لا نطيقه. فلم أشعر إذ جاءوا برجل كالدب أشقر الشعر؛ فقعد. وحكيت له المسألة؛ فقال: الذي قال المسلم لازم. ما أعرف له جواباً، إلا الذي ذكره. فقلت له: أتقول إن الكسوف، إذا كان، أيراه جميع أهل الأرض، أم يراه أهل الإقليم الذي في محاذاته؟ قال: لا يراه إلا من كان في محاذاته. قلت: فما أنكرت من انشقاق القمر، إذا كان في ناحية لا يراه إلا أهل تلك الناحية ومن تأهب للنظر له، فأما من أعرض عنه أو كان في الأمكنة التي لا يرى القمر منها، فلا يراه! فقال: هو كما قلت! ما يدفعك عنه دافع! وإنما الكلام في الرواة الذين نقلوا. وأما الطعن في غير هذا الوجه، فليس بصحيح! فقال الملك: وكيف يطعن في النقلة؟ فقال النصراني: تنبيه هذا من الآيات: إذا صح وجه أن ينقله الجم الغفير، حتى يتصل بنا العلم به، ولو كان كذلك، لوقع لنا العلم الضروري به. فلما لم يقع، دل على أن الخبر مفتعل باطل. فالتفت الملك إلي وقال: الجواب؟ قلت: يلزمه في نزول المائدة ما لزمني في انشقاق القمر؛ ويقال له: لو كان نزول المائدة صحيحاً، لوجب أن ينقله العدد الكثير؛ فلو نقله العدد الكثير، فلا يبقى يهودي ولا نصراني، إلا ويعلم هذا بالضرورة؛ ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة، دل على أن الخبر كذب! فبهت النصراني والملك ومن ضمه المجلس. وانفصل المجلس على هذا.

قال القاضي: سألني الملك في مجلس آخر فقال: ما تقولون في المسيح عيسى ابن مريم؟ عليه الصلاة والسلام! قلت: روح الله، وكلمته، وعبده، ونبيه، ورسوله، كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: "كن فيكون!" وتلوت عليه النص. فقال: يا مسلم! تقولون: المسيح عبد؟ فقلت: نعم؟ كذا نقول وبه ندين! قال: ولا تقولون إنه ابن الله؟ قلت: "معاذ الله! ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله" الآيتان. "إنكم لتقولون قولاً عظيماً". فإذا جعلتم المسيح ابن الله، فمن كان أبوه، وأخوه، وجده وخاله، وعمه؟ وعددت عليه الأقارب. فتحير وقال: يا مسلم! العبد يخلق ويحيى ويميت ويبرئ الأكمة والأبرص؟ فقلت: لا يقدر العبد على ذلك. وإنما ذلك كله من فضل الله تعالى! قال: وكيف يكون المسيح عبد الله، وخلقاً من خلقه، وقد أتى بهذه الآيات، وفعل ذلك كله؟ قلت: معاذ الله! ما أحيي المسيح الموتى، ولا أبرأ الأكمة والأبرص! فتحير وقل صبره، وقال: يا مسلم! تنكر هذا، مع اشتهاره في الخلق، وأخذ الناس له بالقبول! فقلت: ما قال أحد من أهل الفقه والمعرفة إن الأنبياء يفعلون المعجزات من ذاتهم؛ وإنما هو شيء يفعله الله تعالى على أيديهم، تصديقاً لهم، يجري مجرى الشهادة! فقال: قد حضر عندي جماعة من أولى دينكم والمشهورين فيكم وقالوا إن ذلك في كتابكم. فقلت: في كتابنا إن ذلك كله بإذن الله تعالى! وتلوت عليه منصوص القرآن في المسيح "بإذني" وقلت: إنما فعل المسيح ذلك كله بالله وحده لا شريك له، لا من ذات المسيح. ولو كان المسيح يحيي الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص من ذاته وقوته، لجاز أن يقال إن موسى فلق البحر، وأخرج يده بيضاء من غير سوء من ذاته! وليست معجزات الأنبياء عليهم السلام! من ذاتهم دون إرادة الخالق! فلما لم يجز هذا، لم يجز أن تسند المعجزات التي ظهرت على يد المسيح، للمسيح! وذكر ابن حيان، عمن حدثه أن الطاغية وعد القاضي أبا بكر بالاجتماع معه في محفل من محافل النصرانية، ليوم سماه. فحضر أبو بكر، وقد احتفل المجلس، وبولغ في زينته. فأدناه الملك، وألطف سؤاله، وأجلسه على كرسي دون سريره بقليل، والملك في أبهته؛ وخاصته ورجال مملكته على مراتبهم. وجاء البطرك، قيم ديانتهم، آخر الناس، وحوله أتباعه يتلون الأناجيل ويبخرون بالعود الرطب، في زي حسن. فلما توسط المجلس، قام الملك ورجاله، تعظيماً له؛ فقضوا حقه، ومسحوا أعطافه. وأجلسه إلى جنبه، وأقبل على القاضي أبي بكر؛ فقال له: يا فقيه! البطرك قيم الديانة، وولي النحلة! فسلم القاضي عليه أحفل سلام، وسأله أحفى سؤال، وقال له: كيف الأهل والولد؟ فعظم قوله هذا عليه وعلى جميعهم وطبقوا على وجوههم، وأنكروا قول أبي بكر عليه. فقال: يا هؤلاء! تستعظمون لهذا الإنسان اتخاذ الصاحبة والولد، وتربون به عن ذلك، ولا تستعظمونه لربكم عز وجهه! فتضيفون إليه ذلك سدة لهذا الرأي! ما أبين غلطه! فسقط في أيديهم، ولم يردوا جواباً، وتداخلتهم له هيبة عظيمة، وانكسروا. ثم قال الملك للبطرك: ما ترى في أمر هذا الرجل؟ قال: تقضى حاجته، وتلاطف صاحبه، وتخرج هذا العراقي عن بلدك، من يومك إن قدرت؛ وإلا لم تأمن الفتنة على النصرانية منه! ففعل الملك ذلك، وأحسن جواب عضد الدولة وهداياه، وعجل تسريح الرسول. وبعث معه عدة من أسرى المسلمين، ووكل به من جنده من يحفظه حتى يصل إلى مأمنه.

قال غيره: وكان سير القاضي إلى ملك الروم سنة نيف وثمانين وثلاثمائة.