ومنهم يحيى بن معمر. له رحلة إلى المشرق، لقي فيها أشهب بن عبد العزيز، وسمع منه ومن غيره. وكان في مذهبه ورعاً، زاهداً، فاضلاً. استقصاه الأمير عبد الرحمن.
وكان صليب القناة، قليل المبالاة بالعتب في سبيل الحق؛ وكان، إذا أشكل عليه أمر من أحكامه، كتب فيه إلى أصبغ بن الفرج ونظرائه بمصر: فكشفهم عن وجه ما يريد علمه؛ فيحقق عليه ذلك فقهاء الأندلس. وكان هو قليل الرضا عن طلبه قرطبة، شديد التقضي عليهم، لا يلين لهم في شيء مما يريدون، ولا يصغى إليهم؛ وبلغ من تجاهله عليهم أن سجل بالسخطة على تسعة عشر منهم؛ فنفروا عنه بأجمعهم. ونشأت بينه وبين يحيى بن يحيى لأجل ذلك عداوة؛ فسعى في عزله عند الأمير، وأقام عليه بما زعمه الشهود: فعزله.
ولما احتضر ابن معمر، وهو ببلد إشبيلية، وأيقن بالموت، قال لمولى له، على ما حكاه الزاهد عثمان بن سعيد أقسمت عليك، إذا أنا مت، إلا ما ذهبت إلى قرطبة؛ فقف بيحيى بن يحيى، وقل له: يقول لك ابن معمر: "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون!." ففعل ذلك مولاه لما مات سيده، وبلغ يحيى ما تقرعه به. قال: فبكى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ما أظن الرجل إلا خدعنا فيه ثم ترحم عليه، واستغفر له!