ذكر القاضي المصعب بن عمران

وقد تقدم الكلام في إباية المصعب بن عمران عن القضاء، أيام خلافة الأمير عبد الرحمن بن معاوية. فلما ولى ابنه هشام الملك، اختار المصعب للقضاء، واستحضره، وقال له: قد علمت أنه إنما منعك عن القبول من أبي رحمه الله! الأخلاق التي كانت فيه. وقد عرفت أخلاقي وبلوتها: فاحمل عني هم القضاء! فأباه واستعفاه؛ فغضب هشام عليه عزماً شديداً، وتهدده، وأوعده. وذكر بعضهم أنه قال: لئن لم تعمل على القضاء، لأسطون بك سطوة تزيل اسم الحلم عني! فلما رأى ذلك، وخاف على نفسه، تولى له العمل كرهاً؛ واشترط على هشام أن يأذن له في اطلاع ضيعته يومين في الجمعة: السبت والأحد، ويحكم لسائر الأيام. فأجابه إلى ذلك. ولم يزل على قضاء الأمير هشام إلى أن توفي؛ فأقره ابنه الحكم؛ وكان قد عرف صلابته وتنفيذه الأحكام؛ فاشتد معه، وصار يؤيده، ولا يسمع فيه مقالة طاعن، ويجيز أفعاله، وينفذ أحكامه، وإن وقعت بغير المحبوب منه. وفي كتاب الحسن بن محمد: إن العباس بن عبد الملك المرواني اغتصب رجلاً من أهل جيان ضيعته. فبينا هو ينازعه فيها، هلك الرجل، وترك أيتاماً صغاراً. فلما ترعرعوا، وسمعوا بعدل القاضي مصعب وقضائه، قدموا قرطبة، وأنهوا إليه مظلمتهم بالعباس، وأثبتوا ما وجب إثباته؛ فبعث القاضي في العباس، وأعلمه بما دفعه إليه الأيتام، وعرفه بالشهود عليه، وأعذر إليه فيهم، وأباح له المدافع، وضرب له الآجال فلما انصرمت، ولم يأت بشيء، أعلمه أنه ينفذ الحكم عليه. ففزع العباس إلى الأمير الحكم، وسأله أن يوصى إلى القاضي التخلي عن النظر في قصته، ليكون هو الناظر فيها. فأوصل إليه الأمير ذلك مع خليفة له من أكابر فتيانه؛ فلما أدى الوصية إليه، اشتدت عليه، وقال: إن القوم قد أثبتوا حقهم! ولزمهم في ذلك عناء طويل ونصب شديد، لبعد مكانهم، وضعف حالتهم. وفي هذا على الأمير أعزه الله! ما فيه! فلست أتخلى عن النظر وإنفاذ الحكم لوجهه. فليفعل الأمير بعده ما يراه صواباً من رأيه! فرجع الرسول إلى الأمير بجوابه، فوجم منه؛ وجعل العباس يغريه بمصعب، ويقول: قد أعلمت الأمير بشدة استخفافه وغلطه في نفسه، وتقديره أن الحكم له، ولا حكم للأمير عليه! فأعاد الإرسال إليه بعزمه منه، يقول: لا بد لك من أن تكف عن النظر في هذه القضية، لأكون أنا الناظر فيها! فلما جاءه بعزمته، أمره بالقعود؛ ثم أخذ قرطاساً، فسواه، وعقد فيه حكمه للقوم بالضيعة؛ ثم أنفذه لوقته بالاشهاد عليه. ثم قال للرسول: اذهب إلى الأمير أصلحه الله! فاعلمه أني قد أنفذت ما لزمني إنفاذه من الحق خوف الحادثة على نفسي، ورهبة السؤال عنه.وإن شاء نفذه، فذلك له! يتقلد منه ما شاء! فذهب مغضباً، وحرق كلام القاضي؛ وحكى عنه أنه قال: قد حكمت بالعدل؛ فلينقضه الأمير إن قدر! فاستشاط غيظاً، وأطرق ملياً، والعباس يهيج غضبه؛ وهم بمصعب، إلى أن تداركته عصمة من الله، ثبتت بصيرته، فسرى عنه، وقال للعباس: إربع على ظلعك! فما أشقاه من جرى عليه قلم القاضي! فقف عند أمره! فإنه أشبه بنا وأولى بك! وأقام على حسن رأيه في القاضي، ولم يعرضه.

وقول الأمير: إربع على ظلعك! معناه: إنك ضعيف فانته عما لا تطيقه! قال صاحب الأفعال: أربعت على الشيء: عطفت عليه؛ ومنه: إربع على نفسك: قال أبو عثمان: معناه: الزم أمرك وشأنك. قال: وتمثل المأمون، حين وضع رأس محمد المخلوع بين يديه، بقول الشاعر:  

يا صاحب البغي إن البغي مصرعة

 

فاربع عليك فخير القول أعـدلـه

فلو بغى جبل يوماً علـى جـبـل

 

لاندك منه أعـالـيه وأسـفـلـه

وقال الهروي: في حديث بعضهم، إنه لا يربع على ظلعك من ليس يحزنه أمرك. سمعت أبا محمد القرشي يقول: معناه: لا يقيم عليك، في حال ضعفك، من ليس يحزنه أمرك، أي لا يهتم بشأنك إلا من يحزنه حالك. قال: وأصله من ربع الرجل يربع ربوعاً إذا أقام بالمقام. والظلع العرج كأنه يقول: لا يقيم على عرجك، إذا تخلفت عن أصحابك، إلا من يهتم بشأنك.

وكان المصعب يشاور في شأنه صعصعة بن سلام، وعبد الرحمن بن موسى، وعبد الملك بن الحسن، والغازي بن قيس، وأمثالهم. وقال فيه ابن عبد البر، وقد ذكره: يكنى أبا محمد؛ شأمي الأصل، دخل الأندلس في أيام عبد الرحمن؛ واستقضاه هشام وكان يروى عن الأوزاعي وغيره. وكان لا يقلد مذهباً، ويقضى بما يراه صواباً. وكان خيراً فاضلاً.