ذكر القاضي الفرج بن كنانة

ومن الفقهاء المعدودين بالأندلس في صدور القضاة، الفرج بن كنانة الكناني، رحل إلى المشرق، وسمع من عبد الرحمن بن القاسم وغيره. ولما قدم من رحلته، استخلصه الأمير الحكم بن هشام، وولاه قضاء الجماعة بقرطبة. وهو كان القاضي بها أيام الهرج المعروف بوقيعة الربض. ومما جرى له حينئذ، أن بعض أصحاب الأمير الحكم، الذين أرسلهم على الناس، تعلقوا بجار الفرج بن كنانة، أتهموه بالحركة في الصبح، وتسوروا عليه. وصاح نساؤه؛ فسمع القاضي الصراخ؛ فقال: ما هذا؟ فقيل: جارك فلان! تعلق به الحرس؛ فأخرجوه ليقتل! فبادر الخروج، وكف القوم عن جاره، وقال لهم: إن جاري هذا بريء الساحة، سليم الناحية، وليس فيه شيء مما تظنون. فقال له رئيس الحرس، المرسل معهم: ليس هذا من شأنك! عليك بالنظر في أحباسك وحكومتك! ودع ما لا يعنيك! فغضب الفرج عند ذلك، ومشى إلى الأمير الحكم؛ فاستأذن عليه. فلما دخل، قال له بعد السلام: أيها الأمير! إن قريشاً حاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم! وناصبته العداوة في الله تعالى؛ ثم إنه صفح عنهم، لما أظفره الله تعالى بهم، وأحسن إليهم. وأنت أحق الناس بالاقتداء به، لقرابتك منه، ومكانك من خلافته في عباد الله! ثم حكى له قصة جاره، وما عرض له في الدفاع عنه. فأمر بتخليه سبيله، وبعقاب الناظر الذي عارض القاضي؛ وعفا عند ذلك عن بقية أهل قرطبة، وبسط الأمان بجماعتهم، وردهم إلى أوطانهم.


وكان القاضي فارساً شجاعاً، يقود الخيل، ويتصرف للسلطان في الولايات. وقد غزا مع عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، معقوداً له على جند شذونه بلده، إلى جليقية وقدمه عبد الكريم إلى جمع النصرانية؛ فعضهم؛ وقتل فيهم قتلاً ذريعاً. وبقي قاضياً وصاحب صلاة زماناً. ثم استعفى. وأخرجه الأمير إلى الثغر الأقصى؛ فقام مقام صدور الغزاة. وكان له قدر جليل في الناس.

وكذلك كان أسد بن الفرات بن سنان، أحد صدور الشجعان: ولاه زيادة الله القضاء بإفريقية، وقدمه على غزو صقلية؛ فخرج في عشرة آلاف رجل، منهم ألف فارس. فلما خرج إلى سوسة ليتوجه منها إلى صقلية، خرج معه وجوه أهل العلم، يشيعونه، وقد صهلت الخيل، وضربت الطبول، وخفقت البنود، قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له! يا معشر الناس! ما بلغت ما ترون إلا بالأقلام! فاجهدوا أنفسكم فيها، وثابروا على تدوين العلم، تنالوا به الدنيا والآخرة! قال عياض، وقد سماه في مداركه: حكى سليمان بن فارس أن أسداً القاضي لقي ملك صقلية في مائة ألف وخمسين ألفاً. قال الراوي: فرأيت أسداً، وفي يده اللواء، وهو يزمزم، وأقبل على قراءة يس؛ ثم حرض الناس، وحمل، وحملوا معه. فهزم جموع النصارى. وتوفي رحمه الله! في حصار سرقوسة من غزو صقلية وهو أمير الجيش وقاضيه، وذلك سنة 213.