قال أسلم بن عبد العزيز: سمعت أخي هاشماً يقول: إني لقاعد يوماً بين يدي الأمير، إذ دخل عليه فتاه بدرون الصقلبي وكان أثيراً لديه باكياً. فقال له: ما دهاك؟ فقال له: يا مولاي! عرض لي الساعة مع القاضي ما لم يعرض لي مثله قط! ولوددت أن الأرض انضمت علي ولم أقف بين يديه! قال: وما ذاك؟ قال: دست على امرأة تطالبني في دار في يدي، فأغفل ما كنت إذ جاءتني بطابع القاضي، وكنت أنت أمرتني بما تعلمه؛ فاعتذرت إليها وقلت: أنا اليوم مشغول بشغل الأمير أعزه الله! وسأكتب إلى القاضي، واستعلم ما يريد. ثم إني أقبلت إلى القصر وقد أتيت باب القنطرة؛ فإذا برسول من أعوان القاضي بادر إلي؛ فضرب على عاتقي، وصرفني عن طريقي إليه؛ فدخلت عليه في المسجد الجامع؛ فوجدته غضبان. فنبهني وقال: عصيتني، ولم تأخذ طابعي! فقلت له: لم أفعل! وقد عرفت المرأة بوجه تأخيري. فقال لي: ورب هذا البيت! لو صح عندي عصيانك، لأدبتك! ثم قال لي: أنصف هذه المرأة! فقلت: أوكل من يخاصمها عني! فأبى علي إلا أن أتكلم. فلما رأيت صعوبة مقامي، أعطيتها بدعواها، ونجوت بنفسي. أفيحسن عندك، يا مولاي! أن يركب مني قاضيك مثل هذا؟ ومكاني من خدمتك مكاني! قال: فتغير وجه الأمير محمد، وقال له: يا بدرون! اخفض عليك! فمحلك مني تعلمه؛ فسئلنا به حوائجك، نجبك إليها! ما خلا معارضة القاضي في شيء من أحكامه؛ فإن هذا باب قد أغلقناه؛ فلا نجيب إليه أحداً من أبنائنا، ولا من إخواننا، ولا من أبناء عمنا، فضلاً عن غيرهم. والقاضي أدرى بما فعل! فمسح بدرون عينيه، وانصرف.
قال القاضي أسلم: وإنما كان يحتمل مثل هذا من أولئك القضاة. وأما أمثالنا نحن فلا. وصدق أسلم رحمه الله! فالقهر بالحكم لا يحتمل في الغالب، إلا لمن تخلص نيته في القصد به وجه الله. وما تسرع ملامة الناس إلا لمن يتقيها ويتخوف عاقبة أمر أهلها. وسخط الله أكبر من ملامة الخلق. ونسأل الله الهداية والوقاية! وكثيراً ما كان ابن أسود ينشد:
تضحى على وجل تمسى على وجل |
|
بين الأقارب والجيران والـخـؤل |
كل التراب ولا تعمل لهم عـمـلاً |
|
فالشر أجمعه في ذلك الـعـمـل |
وكانت فيه دعابة تستحسن وتستظرف، منها أنه كان يعلم شدة شهوة إبراهيم بن يزيد في الصلاة بالناس، وترشيحه نفسه لها؛ وتربصه به الدوائر ليثبت عليها. فلم يشعر سليمان غداة يوم من بعض الجمع، وقد أحب الدعة في بيته، إذ استأذن عليه إبراهيم المذكور. فذهب إلى المداعبة به، وقال لغلامه: اخرج إليه متباكياً، وأظهر الإشفاق علي، وقل له: أحسب مولاي في الموت! ثم أدخله! فدخل، وقد اضطجع سليمان، وسجى على نفسه، وجعل يتنفس تنفس الهالك. فلما نظر إليه؛ ترجع واستغفر. ثم خرج عنه، فمضى من فوره إلى هاشم بن عبد العزيز قيم الدولة؛ فعرفه حال سليمان وأنه يعالج الموت، وما أظنه يبلغ وقت صلاة الجمعة؛ وإن بلغ دماؤه، فإنه لا يصليها! وحمله على إعلام الأمير محمد بذلك، والكتب إليه، ليرتاد الصلاة قبل الضيعة. فقال له هاشم: انظر ما تحكيه! فليست له عندنا مقدمة. أنت رأيته بعينك الساعة على هذه الحال؟ قال: نعم! هذا خروجي من عنده إليك. فقال هاشم: ما بعد هذا شيء! ثم وضع يده، وكتب إلى الأمير يخبره بما حكاه ابن يزيد، من شدة مرض القاضي سليمان، ويأسه من قيامه للصلاة، وتحركه للنظر فيمن يصلى مكانه. فلما قرأ الأمير كتابه، استراب فيه، وفكر في الأمر. فوقف على أن إبراهيم شديد الشهوة في الصلاة، واستحال عنده أن لم يسمع بأول مرض قاضيه ولا بانتهائه؛ فعلم بجودة نظره أن في الخبر خللاً. فقال لخادم من خدامه، من وجوه صقالبته: انطلق الساعة، وادخل على القاضي سليمان بن الأسود، وانظر حاله وما تجده عليه! فإن وجدته متخففاً، يتكلم، ويهين عن نفسه، فتسئله إن كانت به طاقة على الصلاة والخطبة أم لا؟ فأتى الفتى إلى سليمان، ودخل عليه؛ فوجده جالساً جلوس صحيح؛ فروى له عن بعض الخبر، وألطف مسألته؛ فأنكرها سليمان وقال: ها أنا رائح بحمد الله! ودعا بوضوئه بحضرة الرسول؛ فتوضأ، ولبس ثيابه، وخرج مع الرسول، ساعياً على قدميه، إلى المسجد الجامع. فرجع الفتى إلى الأمير، وأعلمه بالقصة على وجهها، وبخروجه معه. فضحك منه وقال: لقد طيب سليمان في ابن يزيد ولعب به لعب الصبا وحرك منه ساكناً! وصار يضحك مع هاشم بذلك عدة أيام، حتى شاع ذكره في العامة.
وعاش ابن أسود هذا تسعة وتسعين عاماً وعشرة أشهر. وكانت مدة قضائه منها، على ما حكاه ابن عبد البر، اثنين وثلاثين عاماً غفر الله لنا وله، وأرضى عنا خلقه وعنه!