ذكر القاضي محمد بن عبد الله بن أبي عيسى

ومن القضاة، محمد بن عبد الله بن أبي عيسى. ولي قضاء عدة من الكور، ما بين طليطلة وبجانة، بسيرة عادلة، التزم فيها الصرامة في تنفيذ الحقوق، وإقامة الحدود، والكشف عن الشهود. قال ابن الفرضي: وكان حافظاً للرأي، معتنياً بالآثار، جامعاً للسنن، متصرفاً في علم الإعراب ومعاني الشعر. استقضاه الناصر؛ وكان آخر ما ولاه قضاء إلبيرة، وقلده مع القضاء أمانة الكورة، والنظر على عمالها؛ فكانوا لا يقدمون ولا يؤخرون إلا عن أمره، ولا يظلم أحد في جانب من جوانبها إلا نصره وكان معه. ثم نقله منها، فولاه قضاء الجماعة بقرطبة في ذي الحجة سنة 326. وأقر محمد بن أيمن على الصلاة، إلى أن ضعف ابن أيمن، فاستعفى، فعفاه الناصر لدين الله، وجمعها لابن أبي عيسى؛ فتولاها إلى أن مات. وكان الخليفة لا يخليه، مع قيامه له بالقضاء، من تصريفه في مهمات أموره، وإخراجه في السفارات إلى كبار الأمراء، والأمانات إلى الثغور والأطراف للإشراف عليها، وللإعلام بمصالحها، والبنيان لحصونها، وترتيب مغازيها، وإدخال جيوشها إلى بلد الحرب؛ وربما أقامه في ذلك مقام أصحاب السيوف من قواد جيوشه؛ فيغنى غناءهم بحسن تدبيره، وصحيح ديانته، وصريح مناصحته. فاستخلف في خرجه من خرجاته الفقيه ابن زونان؛ فصلى جمعة. ثم كتب إلى الخليفة عبد الرحمن بن محمد يقول: إنه شيخ من شيوخ المسلمين، ومن أهل العلم فيهم، وولاؤه أشرف الولاء، إذ كان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم!. فكيف يكون مع هذا مخالفاً لابن أبي عيسى؟ وهو صبي في عدد ولده! يسأل أمير المؤمنين أن يأنف له من هذا. فأعرض الخليفة عنه؛ ولم ير بابن أبي عيسى بديلاً. وانصرف القاضي من وجهته مستعجلاً، وقد اتصل به ما كان من ابن زونان؛ فأضرب عنه، واستخلف غيره.

وذكر ابن مفرج أن رجلاً من أصحاب ابن أبي عيسى أتاه ليلاً، فذكر له أن فقيهين مشهورين يقدمان عليه في قصة سماها له بشهادة مدخولة. فلما كان من الغد، أتاه أحدهما؛ فأعرض عنه القاضي، وتبسم في وجهه لعله يقوم، فيكفى شأنه. فتمادى. ولما رأى عزمه على أداء الشهادة، تناول القاضي سحاءة بين يديه؛ فكتب فيها، وطواها، وألقاها في حجره. فلما تصفحها، وجد مكتوباً فيها:  

أتتني عنك أخبـار

 

لها في القلب آثار

فدع ما قد أتيت به

 

ففيه العار والنار

فلم يكد يقرأها حتى قام منطلقاً، ولقى صاحبه؛ فقال له: النجاة! فقد شعر بنا! قال القاسم بن محمد، كاتبه أيام قضائه بإلبيرة: ركبنا مع القاضي في مركب حافل، مع وجوه البلد، إذ عرض لنا فتى متأدب، قد خرج لنا من بعض الأزقة يتمايد سكراً؛ فلما رأى القاضي، هابه، وأراد الفرار؛ فخانته رجلاه. فاستند إلى الحائط وأطرق. فلما قرب منه القاضي، رفع رأسه إليه، ثم أنشأ يقول:

ألا أيها القاضي الذي عم عـدلـه

 

فأضحى به في العالمين فـريدا

قرأت كتاب الـلـه ألـف مـرة

 

فلم أر فيه لـلـشـراب حـدودا

فإن شئت أن تجلد فدونك منكـبـاً

 

صبوراً على ريب الخطوب جليدا

وإن شئت أن تعفو تكن لك منـه

 

تروح بها في العالمين حـمـيدا

وإن كنت تختار الحدود فإن لـي

 

لساناً على هجو الرجـال حـديدا

قال: فلما سمع القاضي شعره، وتبين له أدبه، أعرض عنه ومضى لشأنه، كأن لم يره. فصل الظاهر من القاضي ابن أبي عيسى أنه ذهب إلى الأخذ بالقضية التي تضمنتها أبيات الفتى المتأدب بقول زفر إن حد الخمر لا يقوم بالإقرار مرة واحدة حتى يقر الشارب على نفسه بالشرب مرتين، أو يقول الشافعي والكافي أنه لا يحد إلا من الشهادة على شربها أو قيئها، لا من الرائحة، أو يتخيل السكر أو ظن القاضي أن الفتى ممن لم يبلغ سن التكليف، أو قيل له عنه إنه كان مكرهاً وحسب النازلة من باب درء الحدود بالشبهات. والله أعلم أي ذلك كان؛ فلا وجه لحكم في إسقاط حد لغير عذر ولا تأويل؛ فإجماع المسلمين منعقد على تحريم خمر العنب النئ قليله وكثيره، وعلى وجوب الحد فيه. وإنما الخلاف في التفصيل والقدر: فمذهب الجمهور من السلف والفقهاء: مالك، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم أن حده ثمانون جلدة وقال قوم منهم أهل الظاهر، أن حده أربعون. قال الشافعي: بالأيدي والنعال وأطراف الثياب. وعند مالك وغيره: الضرب فيه بسوط بين سوطين وضرب ضربين؛ والحدود كلها سواء. وعند الزهري، والثوري، وإسحاق، وأحمد، والشافعي أن حد الخمر أضعف الحدود. قال صاحب الإكمال: ورأى مالك وبعض أصحابنا في المدمن عليه التغليظ بالفضيحة، والطواف، والسجن. واختلفوا في المريض الذي لا يرحى برؤه: فمذهب مالك والكوفيين وجمهور العلماء أنه لا يجري فيه إلا ما يجري في الصحيح، ويترك حتى يبرأ أو يموت. وقال الشافعي: يضرب بمثكول نخل يصل جميع شماريخه إليه، أو ما يقوم مقامه. والمذهب إلزام السكران جميع أحكام الصحيح، لأنه أدخل ذلك على نفسه وهو حقيقة مذهب الشافعي وفرق بين الشارب مختاراً وبين المستكره. وأكثر العلماء ذهب إلى أن الحدود كفارة؛ ومنهم من وقف، واحتج بقوله تعالى "لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم." وفي حديث ما عز الثابت في الصحيح، ما يدل على أن التوبة لا تسقط حد الزنا والسرقة والخمر، وإنما تنفع عند الله. وروى عن الشافعي أن التوبة حد الخمر. وعلى كل تقدير، فمن الواجب على من وقع في معصية، وترتب بسببها قبله حق لله والناس، من دم، أو مال، أو عرض، أو انتهاك حرمة، أن يبادر أولاً إلى التوبة، ثم يرجع بعدها إلى الإقادة من نفسه للخلق، والتحلل من التبعات بجهده، على الوجوه المقررة في الفقهيات، وأن يكثر مع ذلك مدة حياته من العمل الصالح ومن الدعاء والبكاء، وبخصوص فيما يرجع إلى الدماء. فالمنقول عن مالك. وقد سئل عمن كتب إليه والٍ في قتل رجل، فقتله، ثم أراد التنصل والتوبة، فعرض نفسه على أولياء المقتول، وأخبرهم، فقالوا: لسنا بقاتليك! إنا نخاف إن قتلناك عاقبة ذلك! وعرض عليهم الدية، فأبوا أن يقبلوها؛ فكان من جوابه رضي الله عنه! أن قال: أحب إلي أن يؤدى ديته إليهم، وأن يعتق الرقاب، ويتصدق، ويكرر الحج والغزو، وإن استطاع أن يلحق بالثغور، ويكون فيها أبداً حتى يموت، فهو أحب إلي! وفي الحديث: "أقيلوا ذوي الهئيات عثارهم" والمراد بذلك أهل المروة والصلاح. ويبينه ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: تجافوا عن عقوبة ذوي المروة والصلاح! والمأمورون بالتجافي عن زلات ذوي الهئيات عند العلماء هم الأئمة الذين إليهم إقامة العقوبات على ذوي الجنايات. والإقالة هي فيما عدا الحدود والزلات التي أمر بالتجافي عنها، هي ما لم يخرج بها فاعلها من أن يكون من ذوي المروءات والهيئات التي هي الصلاح. فأما من أتى ما يوجب حداً ما قذف محصنة أو ما سوى ذلك من الأشياء التي توجب الحدود، فلا يجب التجافي عنه، لأنه قد خرج بذلك عن ذوي الهيئات والصلاح، وصار من أهل الفسق؛ فوجب إقامة الحد عليه، ليكون ذلك ردعاً له ولغيره رزقنا الله الاستقامة!