ذكر القاضي محمد بن السليم

وولي القضاء بعد البلوطي محمد بن إسحاق بن السليم. ونص ظهير ولايتهبسم الله الرحمن الرحيم! هذا كتاب أمر به أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله محمد بن إسحاق بن السليم؛ ولاه به خطة القضاء، واختاره للحكم بين جميع المسلمين، ورفعه إلى أعلى المراتب عنده في تنفيذ الأحكام، غير مطلق يده إلا بالحق، ولسانه إلا بالعدل! ورسم له في كتابه رسوماً بدأ فيه بأمانة الله عز وجل! إليه، وجعل الله الشهيد بها عليه؛ أمره بتقوى الله العظيم الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور؛ وأن يجعل كتاب الله أمامة ينظر فيه نظر المتفكر المعتبر؛ فإنه عهد الله الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم! فأحل حلاله، وحرم حرامه، وأمضى أحكامه، وفارق الأمة. على أنهم لن يضلوا ما اتبعوه؛ فهو العروة الوثقى، والطريقة المثلى والنهج المنير، ودين الله القويم.


وأمره أمير المؤمنين أن يقتدي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! التي بها عملت الأئمة، وعليها اتفقت الأمة، فالحق معروف؛ والباطل مكشوف؛ وبينهما مشتبهات فيها يحمد التوقف، وعندها يشكر التثبت، ففي كتاب الله تعالى اسمه! وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم! أصل الدين، وفرعه، ودليله، وتأويله، ومن يرد الله به خيراً يوفقه للاقتداء بهما، والاقتباس منهما.

وأمره أن يصلح سريرته فيها، يصلح الله علانيته؛ وأن يبرأ من الهوى؛ فإنه مضلة عن طريق الحق؛ وأن يجعل الناس في نفسه سواء، إذا جلس للحكم بينهم، حتى لا يطمع فيه الشريف، ولا ييأس منه الضعيف.

وأمره أن يعتبر أمره وما قلده؛ فيعلم أنه راكب طريقاً متهاها إلى الجنة أو النار: ليس عن أحدهما مصرف، ولا بينهما موقف، فحق لمن أراد النجاة أن يستكثر من الحسنات، ويمنع دينه ممن أراد أن يؤنسه في الشبهات، ويعلم أنه حاكم في ظاهره، محكوم عليه في باطنه، تطوى كل يوم صحيفته على ما أودعها، حتى ينظر فيها غداً بين يدي الله عز وجهه! "يوم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون!" فمن حاسب نفسه في الدنيا، كان أيسر حساباً في الآخرة.

وأمره أن يتحفظ في حين وقوع الشهادات عنده؛ فلا يقضي بين المسلمين منها إلا بما أقامه به التحقيق على ألسنة العدول، ذوي القبول، وإن استراب في شهادة أحدهم وقتاً ما، أن يبحث عنها، فإن ثبت أنه ارتشى، أو شهد بالهوى، فعليه أن يسقط شهادته، ويخل عدالته، وتنكيلاً له، وتشديداً لمن خلفه، وأن يحمل على الناس معاريض الوكلاء على الخصومات، ويطرح أهل اللدد الظاهر منهم، ولا يحمل فضل حجاجهم عمن لا يقوم بهم.

وأمره أن يحترس بأموال اليتامى، ولا يولي عليهم إلا أهل العفاف عنها وحسن النظر فيها؛ وأن يجدد الكشف والامتحان عن أموال الناس والأحباس واليتامى، ويمنع من قبالتها إلا على وجوهها مما لا بد منه من التنفيذ فيها، وطلب الزيادة عند ذوي الرغبة في قبالتها.

وأمره أن يختبر كاتبه وحاجبه وخدمته، ويتفقد عليهم أحوالهم إذا غابوا عن بصره.

وأمره أن لا يعجل في أحكامه؛ فمن العجل، لا يؤمن الزلل؛ وأن يرفع إلى أمير المؤمنين ما أشكل عليه الفصل فيه، ليصدر إليه من رأيه ما يعتمد عليه، إن شاء الله! والله يسأل أمير المؤمنين التوفيق بمنه وفضله! وكتب يوم الإثنين، للنصف من شعبان سنة 353.

ولما استمرت أيام ولاية أبي بكر بن السليم، عمدت الناس سيرته، واطمأنوا إلى عدله، ولم يعبه منهم عائب، إلا من طريق البطء بقضائه، والتطويل في أحكامه. وكان كثيراً ما يفعل ذلك فيما يتلبس عليه، ويحتذي طريق أحمد بن بقي القاضي؛ فكان ربما أفشى لومه بعض من لحقه ذلك، ممن يخاصم عنده؛ ثم، لما مات، أشفق الناس جميعاً من فقده، واجتمعوا على ثنائه والدعاء بالخير له. وكانت وفاته عشي يوم السبت لسبع بقين لجمادي الأولى سنة 367.