ذكر القاضي ابن برطال والقاضي أبي العباس بن ذكوان

وتقدم بقرطبة قاضياً، بعد ابن زرب، محمد بن يحيى بن زكرياء التميمي، المعروف بابن برطال، خال المنصور محمد بن أبي عامر.

ثم تلاه أبو العباس أحمد بن عبد الله بن ذكوان، وتسمى بقاضي القضاة. قال ابن عفيف: وكان من خير القضاء نزاهة، وعلماً ومعرفة، ورزانة، وعدلاً، وحزامة. وقال غيره: كان القاضي أحمد بن عبد الله في ولايته موقر المجلس، مهيب الحضرة؛ ما رأيت مجلس قاض قط أوقر من مجلسه. وكان إذا قعد للحكم في المجلس، وهو غاص بأهله، لم يتكلم أحد منهم بكلمة، ولم ينطق بلفظة غيره وغير الخصمين بين يديه، وإنما كان كلام الناس بينهم إيماء ورمزاً، إلى أن يقوم القاضي؛ فصار حديثه في ذلك عجباً.

ولقد أتته، في بعض مجالسه، من الأديب أبي بحر أنس بن أحمد الجياني، داهية لم يبلغه بمثلها أحد، لفرط هيبته؛ وذلك أنه كلم بين يديه خصماً له، كلاماً استطال فيه عليه، بفضل أدبه، وطلاقة لسانه؛ وفارق عادة المجلس في التوقير، فرفع صوته، وعز عطفه وحسر عن ساعديه، وأشار بيديه، ماداً لهما إلى وجه خصمه، واعياً على الأعوان تقديمه. فتاوله القاضي بنفسه، وأنكر عليه إكثاره، وقال: مهلاً! عافاك الله! اخفض صوتك واقبض يدك! فقال له أنس: ومهلاً يا قاضي! أمن المحذرات أنا؟ فأخفض صوتي، وأستر يدي، وأغطي معصمي لديك! أم من الأنبياء أنت؟ فلا أجهر بالقول عندك! وذلك شيء لم يجعله الله تعالى إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم! لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون." ولست به ولا كرامة! وقد ذكر الله تعالى أن النفوس تجادل عنده يوم القيامة في الموقف الذي لا تعدله مقامات الدنيا في الجلالة والهيبة. قال الله تعالى "يوم تأتي نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون!" لقد تعديت، يا قاضي! طورك! وعلوت في منزلتك! وإنما البيان، بعبارة اللسان، وبالمنطق، يستبين الباطل من الحق؛ وإنما البوس، مع النحوس، ولا بد في الخصام، من إفساح كلام! قال: فبهت القاضي بقوله، وأغضى على تقريعه، وجعل يقول: الرفق أولى من الخرق! وانصرف أنس، والناس يعجبون من صبره له.

قال: وكان من أرفع خلال القاضي ابن ذكوان، صحة رأيه، وإمحاضه النصيحة لمن شاوره. ولاه القضاء المنصور بن أبي عامر؛ وكان من جلة أصحابه وخواصه؛ ومحله منه فوق محل الوزراء، يفاوضه في تدبير الملك وسائر شأنه.

قال عياض في مداركه: لم يتخلف عنه في غزوة من غزواته، ولا فارقه في ظعن ولا إقامة؛ وكذلك كان حاله مع ولديه المظفر والمأمون بعده: وقد تيمنوا برأيه، وعرفوا النجاح في مشورته. وكان له بداخل القصر بيت خاص به، يأتيه آخر النهار؛ فيجلس فيه إلى أن يخرج إليه ابن أبي عامر: فيفاوضه في جميع ما يحتاج إليه. وربما بات عنده بالنزاهة وخفة الوطأة، حتى قيل إنه ما سأله، على مكانته منه، حاجة لنفسه ولا لغيره بتصريح، مع كثرة ما انقضت على يديه من حوائج الناس؛ بل كان يعرض ما يحتاج إليه عرضاً بالمنكر والمستحسن، فيستطرد للبحث عنها. ولم يزل على هذا إلى أن توفي المنصور، وولى ابنه المظفر؛ فزاد أثره، إلى أن فسد ما بين القاضي وبين وزير الدولة عيسى بن سعيد، بسبب فسخ شراء ضيعة اشتراها عيسى من ولد ابن السليم السفيه؛ فقضى ابن ذكوان بردها إلى السفينة، وفسخ بيعه. فالتحمت بينهما العداوة، وعمل عيسى في طلب ابن ذكوان وجوه الحيلة، إلى أن أوقع المظفر بخادمه، الغالب على أمره، طرفة؛ فسعى به عيسى. وكانت لابن ذكوان من طرفة ألطف منزلة. ونسب عيسى طرفة وأصحابه إلى القدح في الملك؛ فقتل طرفة فاشتملت التهمة على ابن ذكوان خاصة؛ فوجد عيسى السبيل. وصرف المظفر أبا العباس بن ذكوان عن القضاء والصلاة، وصرف أخاه أبا حاتم عن المظالم؛ وساء رأيه فيهما. وولي القضاء والصلاة عبد الرحمن بن فطيس؛ فلم يقم، على استقامته واستقلاله، مقام ابن ذكوان لتبريزه. فحن القضاء إليه، وأسف الناس على فقده. وحسن رأي عبد الملك عما قريب منه؛ فصرف أبا العباس إلى خطته بعد تسعة أشهر من عزله؛ فازداد رفعة إلى رفعته، وسمت حاله عند المظفر، لا سيما عند اتهامه وزيره عيسى عدو ابن ذكوان بالقدح في دولته، وبطش المظفر به وقتله إياه؛ ففرغ مكانه لأبي العباس، واستراح منه. فلم يكن يجري شيء من أمور المملكة إلا عن مشورة ابن ذكوان، إلى أن هلك عبد الملك المظفر، وولى أخوه عبد الرحمن، فرفع منزلته، وولاه الوزارة مجموعة إلى قضاء القضاة. وبقي ذلك إلى أن انقرضت دولة بني عامر، بقيام المهدي بن عبد الجبار المرواني عليهم، أول ملوك الفتنة، وأحقد الناس على ابن ذكوان لخاصته من العامرية، ناقماً عليه أحكاماً أمضاها عليه في قضائه، فتوقف عنه لجلالته، وأزال عنه اسم قاضي القضاة واقتصر به على قضاء الجماعة. وعلى إثر ذلك قتل المهدي، وبايع الناس لهشام، خلافته الثانية. وقام واضح الصقلبي بأمره وحجابته؛ والبرابرة، مع سليمان المستعين، يأتون قرطبة، ويرومون دخولها؛ وكان ميل الناس وابن ذكوان إلى السلم وصلح البرابرة؛ فيقال إن ابن ذكوان نصح لهشام في واضح؛ فبلغته المناصحة؛ فسعى على بني ذكوان بعلة التهمة في الميل إلى البرابرة، وأن الناس تبع لاشارتهم. فنفذ أمر هشام بإخراجهم عن الأندلس، ونقيضهم إلى العدوة؛ فحملوا إلى المرية، وأجيزوا لحينهم البحر في الحال شدة ارتجاجه؛ وعنف بهم، وسلبوا دوابهم وثيابهم. فكتبت سلامتهم، وخرجوا إلى وهران؛ وقامت لنكبتهم بقرطبة القيامة. ثم قتل واضح وحسن الرأي فيهم، ووجه عنهم، وعادوا إلى وطنهم، إلا أنهم لم يتعاودوا العمل، ولا تقلدوه، مع تكرار الرغبة لهم.

وتمادى أبو العباس على حالته من السكون والانقباض، إلى أن توفي سنة 413. ثم تلاه أبو حاتم أخوه.

ورثى الأديب ابن الحناط الضرير أبا العباس بقصيدة فريدة، أولها:  

عفاء على الأيام بعد ابن ذكـوان

 

وقبحاً لدنيا غيرت كل إحسـان

سأبكي دماً بعد الدموع بعـبـرة

 

تغير إحساني وتعبر عن شأنـي

وإن حياتي اليوم بعـد وفـاتـه

 

دليل بأن العذر في كل إنسـان

أحقاً سراج العلم أخمده الـردى

 

وهدم ركن الدين من بعد شـان

وغودر في دار البلا علم الهدى

 

فزعزع آساس مضعضع أركان

فشقت عليه المكرمات جيوبهـا

 

وألقت رؤوس المجد عنها محان