ذكر القاضي أبي محمد عبد الله الوحيدي

ومنهم، الشيخ أبو محمد عبد الله بن عمر بن أحمد الوحيدي، أحد أعلام زمانه جلالة، وجزالة، ونباهة، ووجاهة، ولي القضاء برية سنة 531، فقام بأعبائه أجمل قيام، فذهب إلى انتقاء الشهود، والتسوية في الأحكام بين الشريف والمشروف، وأخذ في تجديد ما كان قد درس من رسم الأحباس، وتحفظ من جميع الناس. واستمرت ولايته مدة من نحو ثمانية عشر عاماً. ثم استشعر من نفسه قصور ملالة، وفتور شاخة؛ فآلى إلى الزهادة، وقبض يده عن أخذ الجراية المتعادة لأمثاله من القضاة، وأكثر من الإفصاح بالإستعفاء، فترك لشأنه، وسمع منه قوله يخاطب أحد طلبته:  

صن الكتاب ولا تجعله منـديلاً

 

ولا يكن صونه للدرس تعطيلا

وسل فقيهك فيما أنت جاهلـه

 

فربما كنت بعد اليوم مسؤولا

وله، يراجع الخطيب ابن أبي العيش، وقد تكلم معه في خصومه أحد اللائذين به: وهبك الله وأياي من نعمة السوابغ الضوافي! وأوردك من نسمة العذاب الصوافي! ولا زلت بصيراً بمكايد الناس، خبيراً بظاء خدعهم، ولو كنت في الكناس! فإنهم، كما تدريهم، يريشهم الباطل ويريهم، والعاقل يعظهم ولا يغريهم. ومثلك من الإخوان، ممن علم تلون الزمان، وعرف سير العجم والعرب، ولم يغب عنه الفرق بين السمع والضرب. لا سيما والدنيا الآن قد صارت مكشوفة، وأخلاق أهلها مفصوحة معروفة، فهناك وجب أن يعذر المرء أخاه، وينصر ما قصده من وهيه وتوخاه، والولى تكفيه الإشارة، وإن قصرت عن الغرض المطلوب العبارة، ولقد أقسم ما رفع إلى ذلك الحضم شاهداً بدعواه، ولا أخاً ارتدع عن المسارعة إلى ما قاده إليه هواه. وبالجملة فإنما هو دهر ملامات وشؤوم وابتداء عورة ولدود خصوم، وقد رفعت، أيها الأخ الأمر، إلى الذي طال في مثل هذا العمل العمر؛ فهو سبحانه يقضى بالحق، ويمضي حكمه على جميع الخلق، لا إله إلا هو! والسلام.

وأكثر أخذه عن القاضيين أبي الوليد الباجي، وأبي المطرف الشعبي. توفي بعد انقطاعه للعبادة، وإيثار الزهادة، ودفن بمسجد حكمه، المنسوب له إلى هذا العهد، من داخل سور مالقة. ومشى أمير وطنه في جنازته على رجله، وذلك سنة 542.