ذكر القاضي أبي المطرف عبد الرحمن الشعبي

ومنهم الفقيه الحافظ أبو المطرف عبد الرحمن بن قاسم الشعبي المالقي. ولي القضاء ببلده نيابة، ثم استقلالاً. وكان عالماً، متفنناً، بصيراً بالنوازل، حافظاً للمسائل؛ وعليه كانت الفتيا تدور بقطره، أيام حياته، وجرت بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي، عند اجتيازه على مالقة، مناظرات في ضروب من العلوم. وكانت له في الأقضية مذاهب من الاجتهاد، لم تكن لغيره من أهل طبقته، ولا سيما فيما يرجع إلى راوية أشهب؛ ونظره من ذلك أنه كان يقول في اللصوص المحاربين، إذا أخذوا ومعهم أموال؛ فجاء قوم يدعون ملك الأموال، وليست لهم بينة، إن القول قولهم في أن المال لهم بعد الاستيناء قليلاً. وروجع في ذلك فقال: المروى عن مالك أنه قال: يقبل قولهم على اللصوص، ودعواهم بغير بينة. وما أعطاهم مالك ذلك، إلا بسيئة الحال التي عليهم من أنفسهم بالفساد؛ فكانت حالهم السيئة في السعي في الأرض، بغير الحق بينة عليهم. وكذلك كان يقول في الظالم المعروف بأخذ أموال الناس، واستباحتها لغير حق؛ ويردد قول عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، ولا فجور أعظم من الظلم والتسلط على أموال الناس وأبشارهم بغير الحق؛ وقد جعل الله عليهم بذلك السبيل فقال: "إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق". فإذا كان للمظلوم سبيل، فالقول قوله وعلى المدعى عليه؛ فإن البينة في لسان العرب مشتقة من البيان، فكيفما تبين الأمر، فهو بينة كله، فظلم الظالم بينة عليه. ألا ترى أن مدعى اللقطة إنما بينته الوصف للعفاص والوكاء؟ ورب رمية من غير رام؟ وإرخاء الستور بينة، يجب بها للمرأة أخذ صداقها، وتصدق في دعواها؛ فقد صار الستر بينة لها؛ فظلم الظالم يدعى عليه بعد عزله مقبول عليه من مدعيه، لأن ظلمه شاهد بما يدعى عليه، كما كانت معرفة العفاص والوكاء شاهداً لوصفها، والستر شاهد للمرأة. وقد مر طرف من الكلام عند ذكر زياد بن عبد الرحمن من هذا الكتاب على الغاصب والمغصوب.


وكان يحكم في الرجل يريد أن ينتقل عن الأندلس بعياله، إلى غيرها من عدوة البحر، فتأبى زوجته الخروج معه، لمكان البحر، وشدته على ركوبه؛ بأن له أن يخرجها، ويسيرها حيث شاء، إذا كان مأموناً في غيبته عليها. وكذلك كان يقول في الأب، إذا أراد أن يرتحل إلى بلده ليسكن فيه، فله أخذ بنيه، ولا يكلف بينة أنه قد استوطن وسكن مدة، لأنه لو تمكن أن يكلف الرجل ذلك فيها قرب، لم يتكلف فيما بعد: فقد يريد أن يرتحل من الأندلس إلى مكة أو مصر أو خراسان، وهذا مالا يستطاع إلا بذهاب المدد المتطاولة. وقد ذكر ابن الهندي في هذه المسألة وقال ما حاصله: فيجب على النظر أن يكون القول قوله في الانتقال للسكنى وفي الموضع الذي يريد أن يتخذه موطناً، مع يمينه على ذلك. والذي عليه العمل طلب الحاضن، أباً كان أو غيره، ثبوت الانتقال بماله، واستمرار استيطانه في البلد الذي ارتحل إليه. وذكر ابن مغيث أن أقل مدة الاستيطان ستة أشهر، وليس للأب فيما دونها أخذ الولد.

ويذكر عن الفقيه أبي المطرف أنه كان يستحضر كتابي الموطأ والمدونة عن ظهر قلب حرفاً حرفاً ونصاً نصاً. وله مجموع نبيل في نوازل الأحكام، يقرب من مفيد ابن هشام، إلى جملة تقاييد في مسائل. وتوفي في رجب سنة 499.