ذكر القاضي محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن النباهي

ومن القضاة بالأندلس، أيام الأمير محمد بن يوسف بن هود، أبو عبد الله محمد بن الحسن ابن محمد بن الحسن الجذامي النباهي. ذكره محمد بن خميس في التكملة؛ فقال فيه إنه كان من علية الفقهاء، ونبهائهم، ذكياً، فطناً، بارع الخط، كاتباً، بليغاً، أديباً، شاعراً مطبوعاً، عالي الهمة، سني المحل، كثير الاتباع. ولي القضاء بمالقة في سنة 626 نحواً من أربع سنين، ثم إن أهل مالقة بغوا عليه، وشنعوا عليه القيام على الأمير ابن هود؛ فخرج عن مالقة قاصداً لابن هود إلى إشبيلية، ليعرفه بذلك، ويطلب منه الإقالة؛ فلقي أبا عبد الله الرميمي، وزير ابن هود، فرده عن الطريق إلى مالقة، ثم ذهب معه إلى غرناطة، فأمسك بها في أحد أبراجها مدة، ثم سرح بعد ذلك، على شرط المقام هنالك. قال: وامتحن رحمه الله! في حياته كثيراً. وانتقم الله له ممن ظلمه وبقي عليه؛ فكان في أمرهم عبرة للمعتبرين؛ فما منهم إلا من مات بالسيف والسوط، ورأواهم في أنفسهم، من البلايا والمحن، ما يقصر المعتبر عنه. فنسأل الله العافية! ومن شعره، أيام اعتقاله بغرناطة، يصف روضة ونهراً:  

أيا روضة تبـدى نـجـوم أزاهـر

 

وتختال في ثوب من الحسـن رائق

لقد سال فيك النهر بيضاً كـأنـهـا

 

بياض الشيب في سواد المـفـارق

إذا انساب ما بين الربيع تـخـالـه

 

سنى البدر حسناً أو وميض البوارق

كأن أليل الماء إذ يخصم الحـصـى

 

مدافع محزون ورنـات عـاشـق

وتوفي رحمه الله! بغرناطة، وسيق منها ميتاً إلى مالقة، ودفن بجبانة جبل فاره؛ وذلك عام 631. وذكره القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك المراكشي في صلته.

وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير عنه، إنه أخذ عن أهل بلده مالقة، وتفقه بهم. وولي القضاء به. ثم إن أهل مالقة بغوا عليه، ونسبوا إليه ما أوجب خروجه عن مالقة. وتوفي بعد سنة 630. وكان القاضي أبو عبد الله بن الحسن جزلاً في أحكامه، رماء في تصرفاته، غليظاً على ولاة الجور، شديداً في ردع أهل الأهواء والأراء الفاسدة. ورامه ابن هود عندما ولاه قضاء بلدته، ا، يصرف إليه أمانة كورتها، حسبما كانت قبل ذلك، لنظر أبي علي القاضي؛ فتمنع، واستعفى؛ فأعفاه من الأمانة. وتفرد بالقضاء، والنظر في الأحباس؛ فصانها، واسترجع ما كان منها قد ضاع، أيام دول الموحدين، إلى الألقاب المخزنية؛ وقدم لضبطها، والشهادة فيها، ووضعها في أماكنها، الفقيه المقرئ الورع أبا محمد عبد العظيم بن الشيخ، وأجراها على منهاج السداد. واستكتب أبا عبد الله بن علي، المشتهر بابن عسكر، مؤلف الكتاب المسمى بالمشرع الروي، في الزيادة على كتاب الهروي في غريبي القرآن والحديث. ثم استنابه في بعض أعماله، ورشح من الفقهاء كابن الشيخ المذكور، وابن دحمان، وابن ربيع، وابن لب، وأمثالهم. وتثبت في الحكم، وتحفظ في شهود زمانه، وتعفف عن قبول تحف أقاربه، فضلاً عن أجانبه. وكان قد انتهى هو وقومه، برية، من سعة الحال، وكثرة المال، وتعدد الرجال، إلى ما يشابه حالة آل حماد بن زيد بالعراق، الذين منهم القاضي إسماعيل بن إسحاق؛ وكانوا قد بلغوا من تنوع الرباع، وكثرة الضياع والآلة والماشية والحرث، إلى محل لا غاية لعهده من الثروة بالنسبة لأمثالهم من أهل زمانهم، حسبما نقلته الثقة عنهم. ولما استقل ابن الحسن برياسة بلدته، رشقته سهام حسدته، وسلقته ألسنة تعديه، ونسب إليه عداته ما كان بريئاً منه، من القيام على ابن هود؛ فاعتقل بغرناطة، على ما تقدم، واستخلصت ملاكه، وسيرت للجانب السلطاني؛ وعاثت أيدي الولاة في سائر ماله، وشملت النكبة جملة ناسه. وأخر أخوه عما كان يتولاه من القضاء بالجزيرة الخضراء، وابن عمه عن الجهة الغربية؛ فاستقرا معاً بمدينة سبتة. وتعدت العلة إلى الفقية ابن عسكر كاتبه؛ فأنزلته عن محله من الشورى والنيابة؛ وبقى رسم الأحكام الشرعية معطلاً جملة. وخلا لعبد الله بن زنون، أحد البغاة، عن محمد بن الحسن، الجو منه ومن قومه.

قال ابن خميس في كتابه: وبقي ابن زنون يشتغل بالطائفة الأخرى التي كانت معه على ابن الحسن، إلى أن أفناهم واحداً بعد واحد، بين النفي والقتل والسجن الطويل؛ وبقى البلد في حكمه؛ فلم يكن ينفذ أمر من الأمور إلا بمشورته. وتمادى أمره إلى أن هلك ابن هود؛ فضبط هو البلد، ورام المقام به؛ فلما خالفت البلاد ورجعت للأمير أبي عبد الله بن نصر، فرَّ ابن زنون؛ فدرك في الطريق، وانتهبت دياره وديار قرابته، ورد إلى مالقة، ليخرج منها مالاً أتهم أنه كان عنده؛ وما زال يتعاقب عليه بالضرب، حتى مات. وقيل إنه تناول موسى كانت لديه؛ فذبح بها نفسه. نسأل الله العافية! قال المؤلف أبقى الله بركته! ورب قائل يقول، إذا وقف على ما تضمنه هذا المجموع، من ذكر بني الحسن المالقيين، ونبذ أخبارهم: ما لهذا المصنف أطاق في ميدان القوم عنانه، وأدر من سماء فكره عنانه، وأدمج طي كلامه مدح قومه، وقطع في معرض الثناء عليهم سواد ليلته وبياض يومه، حتى وقع في التشطيط، وأتى بالغريب من التخطيط؟ ولو أخذ بالإمساك عن ذلك كله، لكان من الأجمل بمثله! والجواب أني ما رسمت من أسمائهم، إلا بعض ما علمت من أنبائهم، وأثبتته الأئمة في مصنفاتهم، ودفاتر مروياتهم؛ ومن داخله ريب في محصوله، فليحققه، إن شاء من أصوله! وبالجملة، فإذا كان ذكر الأموات بالخير من الأجانب، فضلاً عن الأقارب، قد تعين شرعاً، واستحسن طبعاً، وتبين أنه على الخير من آكد الحقوق، وأن الإضراب عن إثباته في محله ضرب من العقوق؛ فلا لوم على مثلي، في الإخبار عن قومه، بما يدعو إلى الترحم على أمواتهم، ويبعث على الاعتبار في طوارق أوقاتهم، والمحن التي أصيبوا بها أيام حياتهم. ولو ذهبت إلى التعريف بجملة من يرجع إلى عمود نسبى في هذا الديوان، وشرح ما حدث لهم من النوازل في ماضي الزمان، لخرجت عن الحد الذي قصدته من الاختصار؛ فلذلك اقتصرت من القول على هذا المقدار تجاوز الله عن الجميع؛ وختم لنا بخير؛ وسار بنا في الطريق التي لا بد من سلوكها أوطا سير، بمنّه وفضله!