تقديم

الشيخ أحمد الحملاوي

ولد سنة "1273 هجرية - 1856م و أدركته الوفاة فى شهر ربيع الأول سنة 1351 هـ = 26 من يوليه سنة 1932م

تقديم

الحمد لله الذى علم القرآن، وخلق الإنسان، وعلمه البيان، وأصلى وأسلم على أفصح الخلق لسانا، وأبلغهم بيانا، وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.

وبعد، فإن من خصائص اللغة العربية التى عدها العلماء لها ما تمتاز به من اتساع الأبنية، وكثرة الصيغ التى تستوعب المعانى التى يمكن أن تجيش بها نفس إنسان فى وقت من الأوقات ولما كان التصريف هو سبيل الوصول إلى تلك الصيغ فقد قالوا: "أما التصريف فإن من فاته علمه فاته المعظم". ويعلل ابن فارس لتلك المقولة بأمثلة كثيرة تكشف عن فائدة التصريف فى التمييز بين المعانى التى تتحول بتصريف صيغها من الضد إلى الضد. "يقال: القاسط للجائر، والمقسط للعادل، فتحول المعنى بالتصريف من الجور إلى العدل...".

وثمة قصة وقعت لعمرو بن عبيد المعتزلى مع أبى عمرو بن العلاء تكشف عن التفات علماء اللغة القدامى لخطورة أمر الصيغ، والخلط بين بعضها وعدم التفريق الدقيق بين دلالاتها فقد أشارت المصادر إلى وفود أبى عثمان عمرو بن عبيد المعتزلى على أبى عمرو بن العلاء يسأله قائلا: "يا أبا عمرو؛ أيخلف الله وعده؟ قال أبو عمرو: لا. قال عمرو: أفرأيت من وعده الله على عمل عقابا، أيخلف الله وعده؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد ...".

فعمرو بن عبيد هنا - إن صحت الرواية - قد أخطأ فى التفريق بين الصيغتين فالوعد مصدر (وعد)، أما الوعيد فهو مصدر (أوعد) فالصيغة الأولى صيغة مصدر ثلاثى، والثانية صيغة مصدر رباعى. والخلط بين الصيغتين ومصدريهما قد أدى إلى الانتقال من الضد إلى الضد، وهذا المعنى الضدى هو ما يستفاد من المعنى الصيغى للكلمة، وفى اللغة نظائر كثيرة تنقل الصيغة فيها الكلمة من الضد إلى الضد كما فى (قسط) و (أقسط) و (حنث) و (تحنث)، و(أثم) و(تأثم) ...إلخ. مع اختلاف أنواع الصيغ الممثل بها. ويذكر السيوطى كذلك كلاما عن أبى حيان يدلنا على مدى الدور الذى تلعبه تلك الصيغ فى التعبير عن المعانى التى لا تكاد تتناهى والتى لولا الصيغ لضاقت اللغة عنها.

يقول أبو حيان: "وأنواع المعانى المتفاهمة لا تكاد تتناهى؛ فخصوا كل تركيب بنوع منها؛ ليفيدو بالتراكيب والهيآت أنواعا كثيرة، ولو اقتصروا على تغاير المواد، حتى لا يدلوا على معنى الإكرام والتعظيم إلا بما ليس فيه من حروف الإيلام والضرب؛ لمنافاتها لهما؛ لضاق الأمر جداً ولا حتاجوا إلى ألوف حروف لا يجدونها بل فرقوا بين (معتِق) و (معتَق) بحركة واحدة حصل بها تمييز بين ضدين.

وهذا كله يدلنا على خطورة أمر الصياغة والتصريف إذ إن الخطأ فيها يحول المعنى من الضد إلى الضد.

إن التصريف يثرى اللغة بما يتيحه لموادها من المعانى الوظيفية الكثيرة، التى تعبر عن المعنى محمولا على هيئة اللفظ دون إرهاق المنشئ بالبحث عن مواد جديدة لأداء تلك المعانى، ومن ثم فهى تحقق فى الوقت نفسه غاية عزيزة من أهم غايات البلاغة وهى الإيجاز.

فإذا نظرنا على سبيل المثال، إلى قوله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ".

نجد أن لفظتى (صافات - ويقبضن) يمكن أن يعبر عن الحدث فيهما وهو أصل المعنى بأكثر من طريقة، ولذا اختير التعبير باسم الفاعل فى اللفظة الثانية، وكان يمكن التعبير عنها بغير اسم الفاعل كالفعل المضارع (يصفقن). وفى اللفظة الثانية كان يمكن التعبير عنها بغير الفعل المضارع، كأن يعبر عنها باسم الفاعل كسابقتها مثلا. ولكن الآية قد اختارت اسم الفاعل للتعبير عن الحدث فى اللفظة الأولى، واختارت الفعل المضارع للتعبير عن الحدث فى اللفظة الثانية، وما ذلك إلا رعاية للمعنى الفنى الدقيق الذى أرادت الآية أن ترمز إليه وتدل عليه.

قال الزمخشرى: "فإن قلت: لم قيل: (ويقبضن، ولم يقل: قابضات) (قلت): لأن الأصل فى الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران فى الهواء كالسباحة فى الماء والأصل فى السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجئ بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات، ويكن منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح".

فكأن الآية قد رمزت بذلك - فضلا عن إثبات حدثى الصف والقبض - إلى أن الصف هو غالب فعل الطير فى جو السماء وأن القبض يكون عارضا، وهذا المعنى وإن لم يكن مقصودا بالأصالة من الكلام، فإن اختيار الآية لهاتين الصيغتين قد شمل هاتين الدلالتين دون أن يزيد فى لفظ الكلام، بل عبر عن المعنى بهيئة اللفظ نفسه وليس بلفظ آخر، ولو خولفت تلك الصياغة وأريد التعبير عن تلك المعانى، لقيل: "يصففن غالبا وأحيانا قابضات"، وفيه من الركاكة والتطويل ما فيه، فضلا عن أن المعنى المراد إضافته ليس مقصودا من الكلام بالأصالة، وإنما هو متمم لبيان القدرة وتمام الحكمة فكان تضمينه فى هيئة الكلمة وبنيتها أولى من الإتيان بلفظ جديد يخصه.

والمقصد هنا بيان قيمة الصياغة والتصريف فى التعبير عن المعانى الفنية الدقيقة فى أوجز عبارة، عن طريق الإفادة من المعانى الوظيفية التى يمكن الحصول عليها من تصاريف المادة الواحدة.

لذا كانت عناية اللغويين بهذا العلم الشريف الذى لا تقف قيمته عند صون اللسان عن الخطأ فى المفردات، ومراعاة قانون اللغة فى الكتابة كما ذكروا، وإنما تتخطى ذلك إلى تحقيق أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، والإعانة على فهم الخطاب المعجز الذى لا يتأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

ولما كان كتاب (شذا العرف) من خير ما صنف فى علم الصرف، لما يمتاز به من السهولة والإيجاز وحسن العرض والتناول، فضلا عن تمكن مؤلفه فى علوم العربية وتقدمه فيها - لا جرم - سعدت أبلغ سعادة، وشرفت أيَّما شرف، حينما عهد إلىّ بالاعتناء بهذا الكتاب وشرحه وتحقيقه وفهرسته، وبذل الجُهد لإخراجه على الوجه اللائق به، فصادف ذلك هوًى فى نفسى لخدمة هذا الكتاب الذى كان من أوّل ما تمرست به فى علم الصرف، فجزى الله الجميع خير الجزاء، وأسأله سبحانه أن ينفع به عباده، وأن يجزل لنا فيه المثوبة.

د / عبد الحميد هنداوى
المدرس بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة

التعريف بالشيخ الحملاوى

هو الأستاذ اللغوى الثقة الحافظ، الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد الحملاوى نسبة إلى "مُنْيَة حَمَل" من قرى "بُلْبَيْس" بمحافظة الشرقية. وهو عربى الأرمة، ينمى إلى الدوحة العلوية الكريمة، كما صرح بذلك فى كثير من قصائده فى ديوانه.

وقد ذكر على مبارك باشا فى كتابه الخطط التوفيقية (ج 9 ص 77) أنه ولد سنة "1273 هجرية - 1856م" وتربى فى حجر والده، وقرأ وتلقى كثيراً من العلوم الشرعية والأدبية عن أفاضل عصره، ثم دخل مدرسة دار العلوم، وتلقى الفنون المقررة بها. ونال الشيخ إجازة التدريس من دار العلوم سنة (1306هـ - 1888م) فعين مدرسًا بالمدارس الابتدائية بوزارة المعارف. وبعد مديدة أعلنت دار العلوم بحاجتها إلى مدرس للعلوم العربية، وعقدت لذلك امتحان مسابقة كان الشيخ من أوائل المبرزين فيه، فنقل إلى دار العلوم. وفى سنة 1897م ترك الأستاذ التدريس بالمدارس الحكومة، مؤثرًا الإشتغال بالمحاماة فى المحاكم الشرعية، وفى أثناء ذلك أقبل على التحضير لنيل شهادة العالمية من الأزهر فنال بغيته، وكان أول من جمع بين العالمية وإجازة التدريس فى دار العلوم وعلى إثر ذلك عهدت إليه الجامعة الأزهرية فى تدريس التاريخ والخطابة والرياضيات لطلابها وفى سنة 1902م أضيفت إليه مع ذلك نظارة مدرسة المرحوم عثمان باشا ماهر وهى مدرسة حديثة، كان يعلم بها القرآن والتجويد، ثم العلوم الدينية والعربية والعلوم الحديثة، على نحو ما يجرى فى بعض أقسام الأزهر التى نظمت حينئذ تنظيما حديثًا، وكان المنتهون منها يلحقون لإتمام دراساتهم بمدرسة القضاء الشرعى أو دار العلوم أو الأزهر. وقد قضى المترجم فى نظارة هذه المدرسة خمسا وعشرين سنة، انتفع به فيها طلاب كثيرون، كان يمدهم بمعارفه المتفننة الواسعة، ويتعهدهم بالتربية الإسلامية والتربية القومية ويزودهم بنصائحه وتجاربه الكثيرة، إلى أن علت سنه، فآثر الراحة، وترك العمل سنة 1928م. ثم أدركته الوفاة فى (22 من شهر ربيع الأول سنة 1351 هـ = 26 من يوليه سنة 1932م).

وقد كسب الشيخ معارفه العلمية فى بيئتين: الأولى الأزهر، درس فيه علوم الدين؛ من تفسير وحديث وعقائد وفقه على مذهب الشافعى، الذى خالط حبه شفاف قلبه وتمكن من نفسه ودرس العلوم اللسانية: من نحو، وصرف، وعروض، وبلاغة، ووضع ...إلخ، على شيوخ عصره، وأحرز من كل ذلك قسطا موفوراً، دل عليه تمكنه منها فى كتبه ودروسه، وإحرازه درجة العالمية، بعد تركه خدمة الحكومة.

والبيئة الثانية: دار العلوم، التى أنشأها على مبارك باشا وزير المعارف المصرية، لتخريج معلمين، يحسنون تعليم اللغة العربية والدين لتلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية. وكان طلابها حينئذ ينتخبون بامتحان مسابقة من صفوة الطلاب الأزهريين، الذين أنهوا دراساتهم أو كادوا ينتهون منها، وكانوا يدرسون فيها العلوم الدينية والعربية لزيادة التمكن. إلى جانب العلوم التى لم تكن فى الأزهر: من بيداجوجيا، وأدب، ولغة، وكتابة، وخطابة، ورياضيات، وطبيعيات، وتاريخ، وجغرافيا، وخط، ورسم... إلخ. وكانت عناية المدرسين بها تجمع بين المحاضرة والتطبيق العملى.

وكان بين أساتذتها نخبة من علماء الأزهر، أمثال الشيخ حسن المرصفى والشيخ حسن الطويل، والشيخ محمد عبده، والشيخ سليمان العبد، وأضرابهم من الفحول. وكان الجمع فى دار العلوم بين العلوم الإسلامية والعربية القديمة، وبين العلوم المدرسية الحديثة (كما كانوا يسمونها)، ثم بين المنهجين النظرى والتطبيقى خليقا أن يطبع خريجى دار العلوم وقتئذ بطابع وسط بين القديم المتمثل فى الدراسات الأزهرية، والحديث المتمثل فيما يُدَرَّس بالمدارس المصرية الحديثة والجامعات الأوربية. وقد جنت مدارس وزارة المعارف ثمرات هذه المدرسة القديمة الحديثة، التى وصلت ماضى الأمة العربية بحاضرها، فكانت من العوامل فى النهضة الأدبية والعلمية، التى ظهرت بواكيرها فى وادى النيل منذ بدء القرن التاسع عشر. لذلك أقبل كثير من أذكياء الطلاب الأزهريين على دار العلوم، ينهلون من ثقافتها المختلطة، وكان المؤلف من الرعيل الأول الذى استبق إليها، فنهل وعل من معارفها وآدابها. ونال إجازة التدريس منها سنة 1888م كما أشرنا إليه فى صدر هذه الكلمة.

كان الشيخ رحمه الله ضليعًا فى علوم العربية: نحوها وصرفها ولغتها وعروضها وبلاغتها وأدبها، وكان يروى من ذلك كله ويحفظ الشئ الكثير، مع حسن اعتناء بفهم ما يحفظ وجودة نقد لما يروى، وبراعة استخراج للعبرة والفائدة. وكان النحو والصرف واللغة والشعر الميدان المحبب إليه، يجول فيها فيتمتع ويتتبع أقوال الأوائل والأواخر، فلا يكتفى ولا يشبع. ويظهر لى أنه كان معجبا بابن هشام الأنصارى من النحاة المصريين (708 - 761هـ) وبما جمع شرحه لألفية ابن مالك الموسوم "بأوضح المسالك، إلى ألفية ابن مالك". من مادة غزيرة. فحفظ مسائله، وجعله أساس دراساته النحوية والصرفية وتحقيقاته اللغوية، التى كان ينثرها بين يدى تلاميذه فى دروسه ومحاضراته. ومنه التقط أغلى دُرره التى ألف منها كتابه هذا: "شذا العرف فى فن الصرف" مع ما أضاف إليها من شذرات أخرى، من مفصل الزمخشرى، ومن شافية ابن الحاجب، وشرحها لرضى الدين الاستراباذىّ، وغيره من محققى الأعاجم المتأخرين، الذين عنوا بالدراسات الصرفية، وأشبعوها تأليفا وتوضيحًا وتصنيفًا. وقد أسبغ الشيخ على هذه المادة التى أحسن اختيارها من كتب العلماء، كثيراً من ذوقه وخبرته بأساليب التعليم والتصنيف، فتصرف فيها توضيحا وتهذيبا، وتنسيقا وتبويبا، حتى جاء هذا الكتاب محكم الطريقة، واضح الأسلوب، جامعا للعناصر الضرورية التى لا بد منها لدارسى اللغة وفنونها ممثلا ما وصلت إليه الثقافة اللغوية فى مدارس البصرة والكوفة وبغداد والفسطاط والأندلس. ثم ما انتهت إليه أخيرًا على يد ابن مالك وأبى حيان وتلاميذها من رجال المدارس النحوية الأخيرة التى لا تزال آثارها قوية باقية.

وإجمال القول، أن كتاب "شذا العرف" من أنفع الكتب لطلاب الدراسات الصرفية فى المدارس والمعاهد وبعض الكليات. وهذه الطبعة الحادية عشرة من طبعاته، دليل على استمرار النفع به، وعلى قيمة ما أودع من مادة صحيحة مهذبة ملائمة لعقول الطلاب.

مؤلفات الشيخ وآثاره العلمية والأدبية:

1- شذا العرف، فى فن الصرف. (طبع أول مرة سنة 1312هـ = 1894م).
2- زهر الربيع، فى المعانى والبيان والبديع (طبع أول مرة سنة 1327هـ = 1909م) بالمطبعة الأميرية.
3- مورد الصفا، فى سيرة المصطفى (طبع أول مرة سنة 1358هـ = 1939م) بمطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بالقاهرة.
4- قواعد التأييد، فى عقائد التوحيد، رسالة صغيرة طبعت بمطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بالقاهرة سنة (1372هـ = 1953).
5- ديوان شعره. تم طبع الجزء الأول منه فى أول يونية سنة 1957م، بمطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بالقاهرة.