الباب الرابع: في تقليد الإمارة على الجهاد

الأحكام السلطانية والولايات الدينية

الماوردي

علي بن محمد حبيب، أبو الحسن الماوردي المولود عام 364 هـ -974 م والمتوفي عام 450 هـ 1058 م


الباب الرابع: في تقليد الإمارة على الجهاد

والإمارة على الجهاد مختصة بقتال المشركين. وهي على ضربين: أحدهما أن تكون مصورة على سياسة الجيش وتدبير الحرب؛ فيعتبر فيه شروط الإمارة الخاصة. والضرب الثاني أن يفوض إلى الأمير فيها جميع أحكامها من قسم الغنائم وعقد الصلح، فيعتبر فيها شروط الإمارة العامة، وهي أكبر الولايات الخاصة أحكاماً وأوفرها فصولاً وأقساماً وحكمها إذا خصت داخل في حكمها إذا عمت، فاقتصرنا عليه إيجازاً.

والذي يتعلق بها من الأحكام إذا عمت ستة أقسام: القسم الأول في تسيير الجيش، وعليه في السير بهم سبعة حقوق: أحدها الرفق بهم في السير الذي يقدر عليه أضعفهم وتحفظ به قوة أقواهم، ولا يجد السير فيهلك الضعيف ويستفرع جلد القوي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى وشر السير الحقحقة".

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المضعف أمير الرفقة ".

يريد أن من ضعفت دابته كان على القوم أن يسيروا بسيره، والثاني أن يتفقد خيلهم التي يجاهدون عليها وظهورهم التي يمتطونها، فلا يدخل في خيل الجهاد ضخماً كبيراً ولا ضرعاً صغيراً ولا حطماً كسيراً ولا أعجف زارحاً هزيلاً، لأنها لا تقي وربما كان ضعفها وهناً، ويتفقد ظهور الامتطاء والركوب، فيخرج منها ما لا يقدر على السير ويمنع من حمل زيادة على طاقتها، قال الله تعالى: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارتبطوا الخيل، فإن ظهورها لكم عز، وبطونها لكم كنز".

والثالث أن يراعي من معه من المقاتلة وهم صنفان: مسترزقة ومتطوعة، فأما المسترزقة فهم أصحاب الديوان من أهل الفيء والجهاد، يفرض لهم العطاء من بيت المال من الفيء بحسب الغني والحاجة. وأما المتطوعة فهم الخارجون عن الديوان من البوادي والأعراب وسكان القرى والأمصار الذين خرجوا في النفير الذي ندب الله تعالى إليه بقوله: " انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ".

وفي قوله تعالى: " خفافاً وثقالاً ".

أربعة تأويلات: أحدهما شباناً وشيوخاً قاله الحسن وعكرمة. والثاني أغنياء وفقراء قاله أبو صالح. والثالث ركباناً ومشاة قاله أبو عمر. الرابع ذا عيال وغير ذي عيال قاله الفراء وهؤلاء يعطون من الصدقات دون الفيء من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور في آية الصدقات، ولا يجوز أن يعطوا من الفيء لأن حقهم في الصدقات ولا يعطى أهل الفيء المسترزقة من الديوان من مال الصدقات، لأن حقهم في الفيء ولكل واحد من الفريقين مال لا يجوز أن يشارك غيره فيه، وجوز أبو حنيفة صرف كل واحد من المالين إلى كل واحد من الفريقين بحسب الحاجة، وقد ميز الله تعالى بين الفريقين فلم يجز الجمع بين ما فرق: والرابع أن يعرف على الفريقين العرفاء. وينقل عليهما النقباء ليعرف من عرفائهم ونقبائهم أحوالهم ويقربون عليه إذا دعاهم، فقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في مغازيه وقال الله تعالى: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا".

وفيها ثلاثة تأويلات: أحدها أن للشعوب النسب الأقرب، والقبائل النسب الأبعد قاله مجاهد، والثاني أن الشعوب. عرب قحطان، والقبائل عرب عدنان والثالث أن الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب. والخامس أن يجعل لكل طائفة شعاراً يتداعون به ليصيروا متميزين وبالاجتماع متظافرين، روى عروة بن الزبير عن أبيه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل شعار المهاجرين يا بني عبد الرحمن وشعار الخزرج يا بن عبد الله، وشعار الأوس يا بني عبيد الله، وسمى خيله خيل الله ".

والسادس أن يتصفح الجيش ومن فيه ليخرج منهم من كان فيه تخذيل للمجاهدين وإرجاف للمسلمين أو عيناً عليهم للمشركين. فقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي سلول في بعض غزواته لتخذيله المسلمين، وقال تعالى: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ".

أي لا يفتن بعضكم بعضاً. والسابع أن لا يمالئ من ناسبه أو وافق رأيه ومذهبه على من باينه في نسب أو خالفه في رأي ومذهب، فيظهر من أحوال المباينة ما تفرق به الكلمة الجامعة تشاغلاً بالتقاطع والاختلاف، وقد أغضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين وهم أضداد في الدين، وأجرى عليهم حكم الظاهر حتى قويت بهم الشوكة وكثر بهم العدد وتكاملت بهم القوة، ووكلهم فيما أضمرته قلوبهم من النفاق إلى علام العيوب المؤاخذ بضمائر القلوب. قال الله تعالى: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".

وفيه تأويلان: أحدهما أن المراد بالريح الدولة قاله أبو عبيدة، والثاني أن المراد بها القوة فضرب الريح بها مثلاً لقوتها.

والقسم الثاني من أحكام هذه الإمارة في تدبير الحرب، والمشركون في دار الحرب صنفان: صنف منهم بلغتهم دعوة الإسلام فامتنعوا منها وتابوا عليها، فأمير الجيش مخير في قتالهم بين أمرين يفعل منهما ما علم أنه الأصلح للمسلمين وأنكاً للمشركين من بياتهم ليلاً ونهاراً بالقتال والتحريق، وأن ينذرهم بالحرب ويصافهم بالقتال. والصنف الثاني: لم تبلغهم دعوة الإسلام، وقل أن يكونوا اليوم لما قد أظهر الله من دعوة رسوله، إلا أن يكون قوم من وراء من يقابلنا من الترك والروم في مبادي المشرق وأقاصي المغرب لا نعرفهم فيحرم علينا الإقدام على قتالهم غرة وبياتاً بالقتل والتحريق وأن نبدأهم بالقتل قبل إظهار دعوة الإسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوة وإظهار الحجة بما يقودهم إلى الإجابة، فإن قاموا على الكفر بعد ظهورها لهم حاربهم وصاروا فيه كمن بلغتهم الدعوة، قال الله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ".

يعني ادع إلى دين ربك بالحكمة، وفبها تأويلان: أحدهما بالنبوة، والثاني بالقرآن قال الكابي: وفي الموعظة الحسنة تأويلان: أحدهما القرآن في لين من القول قاله الكابي، والثاني ما فيه من الأمر والنهي.

"وجادلهم بالتي هي أحسن".

أي يبين لهم الحق ويوضح لهم الحجة، فإن بدأ بقتالهم قبل دعائهم إلى الإسلام وإنذارهم بالحجة وقتلهم غرة وبياتاً ضمن ديات نفوسهم وكانت على الأصح من مذهب الشافعي كديات المسلمين، وقيل بل كديات الكفار على اختلافها اختلاف معتقدهم: وقال أبو حنيفة: لا دية على قتلهم ونفوسهم هدر، وإذا تقاتلت الصفوف في الحرب جاز لمن قاتل من المسلمين أن يعلمهم بما يشتهر به بين الصفين ويتميز به من جميع الجيش بأن يركب الأبلق وإن كانت خيول الناس دهماً وشقراً، ومنع أبو حنيفة من الإعلام بركوب الأبلق وليس لمنعه من ذلك وجه، روى عبد بن عون الله عن عمير عن أبي إسحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: " تسوموا فإن الملائكة قد تسومت ".

ويجوز أن يجيب إلى البراز إذا دعي إليه. فقد دعا أبي بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البراز يوم أحد فبرز إليه فتله، وأول حرب شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فبرز إليهم من الأنصار عرف ومسعود ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة فقالوا ليبرز أكفاؤنا إلينا فما نعرفكم، فبرز إليهم ثلاثة من بني هاشم، برز علي بن أبي طالب إلى الوليد فقتله، وبرز حمزة بن عبد المطلب إلى عتبة فقتله وبرز عبيدة بن الحارث إلى شيبة فاختلفا بضربتين أثبت كل واحد منهما صاحبه ومات شيبة لوقته واحتمل عبيدة حياً قد قدت رجله فمات بالصفراء فقال فيه كعب بن مالك من المتقارب:

أيا عين جودي ولا تبخلي

 

بدمعك وكفا ولا تنـزري

على سيد هدنا هـلـكـه

 

كريم المشاهد والعنصري

عبيدة أمسى ولا نرتجـي

 

ه لعرف غدا ولا منكـر

وقد كان يحمي عداة القتا

 

ل حامية الجيش بالمبتـر

ثم نذرت هند بنت عتبة لوحشي نذوراً إن قتل حمزة بأبيها يوم أحد فلما قتله بقرت بطنه ولاكت كبده رضوان الله عليه وأنشأت تقول من السريع:

نحن جـزينـاكـم بـيوم بـدر

 

والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبـر

 

ولا أخـي وعـمـه وبـكـر

سفيت نفسي وقضـيت نـذري

 

شفيت وحشي غليل صـدري

فشكر وحشي على عـمـري

 

حتى تضم أعظمي في قبـري

وهذا أقر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب أهله إليه من بني هاشم وبني عبد المطلب من مبارزة يوم بدر مع ضنه بهم وإشفاقه عليهم، وبارز أبياً بنفسه يوم أحد وأذن لعلي عليه السلام في حرب الخندق والخطب أصعب، وإشفاقه صلى الله عليه وسلم على علي أكثر بارز عمرو بن عبد ود لما دعا إلى البراز أول يوم فلم يجبه أحد ثم دعا إلى البراز في اليوم الثاني فلم يجبه أحد ثم دعا إلى البراز في اليوم الثالث وقال حين رأى الإحجام عنه والحذر منه: يا محمد ألستم تزعمون أن قتلاكم في الجنة أحياء عند ربهم يرزقون وقتلانا في النار يعذبون؟ فما يبالي أحدكم ليقدم على كرامة من ربه أو يقدم عدواً إلى النار وأنشأ يقول من الكامل:

ولقد دنوت إلـى الـنـدا

 

ء لجمعهم هل من مبارز

وقفت إذا جبن المشجـع

 

موقف القرن المناجـز

إنـي كـذلـك لـم أزل

 

متسرعاً نحو الهزاهـز

إن الشجاعة في الفـتـى

 

والجود من خير الغرائز

فقام علي عليه السلام، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المبارزة فأذن له وقال اخرج يا علي في حفظ الله وعياذه، فخرج وهو يقول من الكامل:

أبشر أتـاك يجـيب صـو

 

تك في الهزاهز غير عاجز

ذو نـية وبــصـــيرة

 

برجو الغداة نـجـاة فـائز

إنــي لأرجـــو أن أق

 

يم عليك نائعة الـجـنـائز

من طـعـنة نـجـلاء يب

 

هر ذكرها عند الـهـزائز

وتجاولا وثارت عجاجة أخفتهما عن الأبصار، ثم انجلت عنهما وعلي رضي الله عنه يمسح سيفه بثوب عمرو وهو قتيل، حكاه محمد بن إسحق في مغازيه، فدل هذان الخبران على جواز البراز مع التغرير بالنفس. فأما إذا أراد المقاتل أن يدعو إلى البراز مبتدئاً فقد منعه أبو حنيفة لأن الدعاء إلى البراز والابتداء بالتطاول بغي، وجوزه الشافعي لأنه إظهار قوة في دين الله تعالى ونصرة رسوله، فقد ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مثله وحث عليه وتخير له مع استظهاره بنفسه من أقدم عليه وبدأ به.

حكى محمد بن إسحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر يوم أحد بين درعين وأخذ سيفاً فهزه وقال. من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أنا آخذه بحقه، فأعرض عنه، ثم هزه الثانية وقال من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه الزبير بن العوام وقال أنا آخذه بحقه فأعرض عنه فوجدا في أنفسهما، ثم عرضه الثالثة وقال من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه أبو دجانة سماك بن خراشة فقال وما حقه يا رسول الله؟ قال أن تضرب في العدو حتى ينحني، فأخذه منه وأعلم بعصابة حمراء كان إذا أعلم بها علم الناس أنه سيقاتل ويبلي، ومشى إلى الحرب وهو يقول من السريع:

أنا الذي أخذته فـي رقـه

 

إذ قال من يأخذه بحـقـه

قبلته بعـدلـه وصـدقـه

 

للقادر الرحمن بين خلقـه

المدرك الفاض فضل رزقه

 

من كان في مغربه وشرقه

ثم جعل يتبختر بين الصفين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن".

ودخل في الحرب مبتدئاً بالقتال فأبلى وأنكى وهو يقول من السريع:

أنا الذي عاهدني خـلـيل

 

ونحن بالسفح من النخيل

لا أقو أم الدهر في الكبول

 

أخذت سيف الله والرسول

وإذا جازت المبارزة بما استشهدنا من حال المبتدئ بها وأجيب إليها كان لتمكين المبارزة شرطان: أحدهما أن يكون ذا نجدة وشجاعة يعلم من نفسه أنه لن يعجز عن مقاومة عدوه، فإن كان بخلافه منع، والثاني أن لا يكون زعيماً للجيش يؤثر فقده فيهم فإن الزعيم المدبر مفض إلى الهزيمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أقدم على البراز ثقة بنصر الله سبحانه وإنجاز وعده وليس ذلك لغيره؛ ويجوز لأمير الجيش إذا حض على الجهاد أن يحرض للشهادة من الراغبين فيها من يعلم أن مثله في المعركة يؤثر أحد أمرين إما تحريض المسلمين على القتال حمية له، وإما تخذيل المشركين بجراءة عليهم في نصرة الله.

حكى محمد بن إسحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من العريش يوم بدر فحرض الناس على الجهاد وقال: لكل امرئ ما أصاب؟ وقال والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة فقال عمير بن حمام من بني مسلمة وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، ما بقي بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء القوم ثم قذف بالتمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله، وهو يقول من السريع:

ركضاً إلى الله بغـير زاد

 

إلا التقى وعمل المـعـاد

والصبر في الله على الجهاد

 

وكل زاد عرضه النـفـاد

غير التقى والبر والرشاد

 

 

ويجوز للمسلم أن يقتل من ظفر به من مقاتلة المشركين محارباً وغير محارب.

واختلف في قتل شيوخهم ورهبانهم من سكان الصوامع والأديرة، فأحد القولين فيهم أنهم لا يقتلون حتى يقاتلوا لأنهم موادعون كالذراري. والثاني يقتلون وإن لم يقاتلوا لأنهم ربما أشاروا برأي هو أنكى للمسلمين من القتال، وقد قتل دريد بن الصمة في حرب هوازن وهو يوم حنين وقد جاوز مائة سنة من عمره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراه فلم ينكر قتله، وكان يقول حيث قتل من الطويل:

أمرتهم أمري بمتعرج الـلـوى

 

فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

فلما عصوني كنت منهم وقد أرى

 

غوايتهم وأني غـير مـهـتـد

ولا يجوز قتل النساء والولدان في حرب ولا في غيرها ما لم يقاتلوا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل العسفاء والوصفاء، والعسفاء: المستخدمون. والوصفاء: المماليك، فإن قاتل النساء والولدان قوتلوا وقتلوا مقبلين ولا يقتلوا مدبرين. وإذا تترسوا في الحرب بنسائهم وأطفالهم عند قتلهم يتوقى قتل النساء والأطفال، فإن لم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل النساء والأطفال جاز، ولو تترسوا بأسارى المسلمين ولم يوصل إلى قتلهم إلا بقتل الأسارى لم يجز قتلهم فإن أفضى الكف عنهم إلى الإحاطة بالمسلمين توصلوا إلى الخلاص منهم كيف أمكنهم وتحرزوا أن يعمدوا إلى قتل مسلم في أيديهم، فإن قتل ضمنه قاتله بالدية والكفارة إن عرف أنه مسلم وضمن الكفارة وحدها إن لم يعرفه. ويجوز عقر خيلهم من تحتهم إذا قاتلوا عليها ومنع بعض الفقهاء من عقرها، وقد عقر حنظلة بن الراهب فرس أبي سفيان بن حرب يوم أحد واستعلى عليه ليقتله فرآه ابن شعوب فبرز إلى حنظلة وهو يقول من السريع:

لأحمين صاحبي ونفسـي

 

بطعنة مثل شعاع الشمس

ثم طعن حنظلة فقتله واستنقذ أبا سفيان منه فخلص أبو سفيان وهو يقول من الطويل:

وما زال مهري مزجر الكلب منهم

 

لدن غدوة حتى دنـت لـغـروب

أقاتلهم طـرا وأدعـو لـغـالـب

 

وأدفعهم عني بركـن صـلـيب

ولو شئت نجاني حصان طـمـرة

 

ولم أحمل النعماء لابن شـعـوب

فبلغ ذلك ابن شعوب فقال مجيباً له حين لم يشكره من الطويل:

لو لا دفاعي يا ابن حرب ومشهدي

 

لألفيت يوم النعف غير مـجـيب

ولو لا مكر المهر بالعنف قرقرت

 

ضياع على أوصالـه وكـلـيب

فأما إذا أراد المسلم أن يعقر فرس نفسه. فقد روى أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه اقتحم يوم مؤتة بفرس له شقراء حتى التحم القتال ثم نزل عنها وعقرها وقاتل حتى قتل رضي الله عنه فكان أول رجل من المسلمين عقر فرسه في الإسلام وليس لأحد من المسلمين أن يعقر فرسه لأنها قوة أمر الله تعالى بإعدادها في جهاد عدوه حيث يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم".

وجعفر إنما عقر فرسه بعد أن أحيط به فيجوز أن يكون عقره لها لئلا يتقوى بها المشركون على المسلمين فصار عقرها مباحاً كعقر خيلهم وإلا فجعفر أحفظ لدينه من أن يفعل ما يمنع منه الشرع، ولما عاد جيشه تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون يا فرار لم فررتم في سبيل الله؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس بفرار، ولكنه الكرار إن شاء الله.

والقسم الثالث من أحكام هذه الإمارة ما يلزم من أمير الجيش في سياستهم والذي يلزمهم فيهم عشرة أشياء: أحدها حراستهم من غرة يظفر بها العدو منهم، وذلك بأن يتتبع المكامن ويحوط سوادهم بحرس آمنون به على نفوسهم ورحالهم، ليسكنوا في وقت الدعة ويأمنوا ما وراءهم في وقت المحاربة. والثاني: أن يتخير لهم موضع نزولهم لمحاربة عدوهم، وذلك أن يكونوا أوطأ الأرض مكاناً وأكثر مرعى وماء وأحرسها أكنافاً وأطرافاً ليكون أعون لهم على المنازلة وأقوى لهم على المرابطة. والثالث: إعداد ما يحتاج الجيش إليه من زاد وعلوفة تفرق عليهم في وقت الحاجة حتى تسكن نفوسهم إلى مادة يستغنون عن طلبها، ليكونوا على الحرب أوفر وعلى منازلة العدو أقدر.

والرابع: أن يعرف أخبار عدوه حتى يقف عليها ويتصفح أحواله حتى يخبرها فتسلم من مكره ويلتمس الغرة في الهجوم عليه. والخامس: ترتيب الجيش في مصاف الحرب والتعويل في كل جهة يميل العدو عليها بمدد يكون عوناً لها. والسادس أن يقوي نفوسهم بما يشعرهم من الظفر ويخيل إليهم من أسباب النصر ليقل العد في أعينهم فيكون عليه أجرأ وبالجراءة يتسهل للظفر، قال الله تعالى: "إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر".

والسابع: أن يعد أهل الصبر والبلاء منهم بثواب الله لو كانوا من أهل الآخرة وبالجزاء والثقل من الغنيمة إن كانوا من أهل الدنيا، قال الله تعالى: "ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها".

وثواب الدنيا الغنيمة وثواب الآخرة الجنة، فجمع الله تعالى في ترغيبه بين أمرين ليكون أرغب الفريقين. والثامن: أن يشاور ذوي الرأي فيما أعضل ويرجع إلى أهل الحزم فيما أشكل ليأمن الخطأ ويسلم من الزلل فيكون من الظفر أقرب، قال الله تعالى لنبيه: "وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله".

واختلف أهل التأويل في أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع ما أمده به من التوفيق وأعانه من التأييد على أربعة أوجه. أحدها أنه أمره بمشاورتهم في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح فيه فيعمل عليه وهذا قول الحسن، وقال: "ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم".

والثاني أنه أمره بمشاورتهم تأليفاً وتطييباً لنفوسهم، وهذا قول قتادة. والثالث أنه أمره بمشاورتهم لما علم فيها من الفضل وعاد بها من النفع وهذا قول الضحاك، والرابع أنه أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنياً وهذا قول سفيان. والتاسع أن يأخذ جيشه بما أوجبه الله تعالى من حقوقه ومر به من حدوده حتى لا يكون بينهم تجوز في دين ولا تحيف في حق، فإن من جاهد عن الدين كان أحق الناس بالتام أحكامه والفصل بين حلاله وحرامه.

وقال روى حارث بن نبهان عن أبان بن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "انهوا جيوشكم عن الفساد، فإنه ما فسد جيش قط إلا قذف الله في قلوبهم الرعب وانهوا جيوشكم عن الغلول فإنه ما غل جيش قط إلا سلط الله عليهم الرجلة، وانهوا جيوشكم عن الزنا، فإنه ما زنا جيش قط إلا سلط الله عليهم المؤتان".

وقال أبو الدرداء. أيها الناس اعملوا صالحاً قبل الغزوة فإنما تقاتلون بأعمالكم والعاشر أن لا يمكن أحداً من جيشه أن يتشاغل بتجارة أو زراعة لصرفه الاهتمام بها عن مصايرة العدو، وصدق الجهاد، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت مرغمة ومرحمة ولم أبعث تاجراً ولا زارعاً وإن شر هذه الأمة التجار والزراع إلا من شح على دينه، وغزا نبي من أنبياء الله تعالى فقال: "لا يغزون معي رجل بنى بناء لم يكمله، ولا رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها ولا رجل زرع زرعاً لم يحصده".

والقسم الرابع من أحكام هذه الإمارة ما يلزم المجاهدين معه من حقوق الجهاد وهو ضربان: أحدهما ما يلزمهم في حق الله تعالى، والثاني ما يلزمهم في حق الأمير عليهم، فأما اللازم لهم في حق الله تعالى فأربعة أشياء: أحدها مصابرة العدو عند التقاء الجمعين بأن لا ينهزم عنه من مثليه فما دونه، وقد كان الله تعالى فرض في أول الإسلام على كل مسلم أن يقاتل عشرة من المشركين، فقال: " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون".

ثم خفف الله عز وجل عنهم عند قوة الإسلام وكثرة أهله، فأوجب على كل مسلم لاقى العدو أن يقاتل رجلين منهم، فقال: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ".

وحرم على كل مسلم أن ينهزم من مثليه إلا لإحدى حالتين: إما أن يتحرف لقتال فيولي لاستراحة أو لمكيدة ويعود إلى قتالهم، وإما أن يتحيز إلى فئة أخرى يجتمع معها على قتالهم لقول الله تعالى: " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ".

وسواء قربت الفئة التي يتحيز إليها أو بعدت فقد قال عمر رضي الله عنه لأهل القادسية حين انهزموا إليه أنا فئة لكل مسلم، ويجوز إذا زادوا على مثليه ولم يجد إلى المصابرة سبيلاً أن يولى عنهم غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة، هذا مذهب الشافعي. واختلف أصحابه فيمن عجز عن مقاومة مثليه وأشرف على القتل في جواز انهزامه، فقالت طائفة: لا يجوز أن يولي عنهم منهزماً وإن قتل للنص فيه وقالت طائفة: يجوز أن يولي ناوياً أن يتحرف لقتال أو بتحيز إلى فئة ليسلم من القتل وما ثم خلاف، فإنه وإن عجز على المصابرة فليس يعجز عن هذه النية. وقال أبو حنيفة لا اعتبار بهذا التفصيل والنص فيه منسوخ وعليه أن يقاتل ما أمكنه ونهزم إذا عجز وخاف القتل. والثاني أن يقصد بقتاله نصره دين الله تعالى وإبطال ما خالفه من الأديان:  

ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ".

فيكون بهذا الاعتقاد حائزاً لثواب الله تعالى ومطيعاً له في أوامره ونصرة دينه ومستنصراً به على عدوه ليستسهل ما لاقى، فيكون أكثر ثباتاً وأبلغ نكاية، ولا يقصد بجهاده استفادة المغنم فيصير من المكتسبين لا من المجاهدين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمع أسرى بدر وكانوا أربعة وأربعين رجلاً بعد أن قتل في المعركة من أشراف قريش مثلهم شاور أصحابه فيهم. فقال عمر: يا رسول الله اقتل أعداء الله أئمة الكفر ورؤوس الضلالة فإنهم كذبوك وأخرجوك، وقال أبو بكر: هم عشيرتك وأهلك تجاوز عنهم يستنقذهم الله بك من النار، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبل الأسرى بيوم. فمن قائل القول ما قال عمر ومن قائل القول ما قال أبو بكر ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وقال: " ما قولكم في هذين الرجلين؟ إن مثلهما كمثل إخوة لهما كانوا من قبلهما قال نوح " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " وقال موسى. " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم " وقال عيسى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وقال إبراهيم: " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " إن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، ويلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن يكن منكم عيله فلا ينقلب أحد منكم إلا بفداء أو ضربة عنق ".

وفاداه كل أسير بأربعة آلاف درهم وكان في الأسرى العباس بن عبد المطلب أسره أبو اليسر وكان العباس رجلاً جسماً وأبو اليسر رجلاً مجتمعاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر: " كيف أسرت العباس يا أبا اليسر؟ قال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قط، هيئته كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه ملك كريم وقال للعباس: أفد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمر. فقال يا رسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعلم بإسلامك. فإن كان ما قلت فإن الله سبحانه يجزيك. ففدي العباس نفسه بمائة أوقية وفدى كل واحد من ابني أخيه وحليفه بأربعين أوقية. ونزل في العباس قوله تعالى: " يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ".

فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء أسرى بدر لفقراء المهاجرين وحاجتهم عاتب الله تعالى نبيه على ما فعل فقال: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " يعني به القتل " تريدون عرض الدنيا " يعني مال الفداء " والله يريد الآخرة " يعني العمل بما يوجب ثواب الآخرة " والله عزيز حكيم " يعني عزيز فيما كان من نصركم. حكيم فيما أراه لكم، " لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم".

يعني به مال الفداء المأخوذ من الأسرى. وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها لو لا كتاب من الله سبق في أهل بدر أن لا يعذبهم لمسكم فيما أخذتم من فداء أسرى بدر عذاب عظيم، وهذا قول مجاهد. والثاني لو لا كتاب من الله سبق في أنه تستحل الغنائم لمسكم في تعجيلها من أهل بدر عذاب عظيم، وهذا قول ابن عباس رضوان الله عليه. والثالث لو لا كتاب من الله سبق أن لا يؤاخذ أحداً بعمل أتاه على جهالة لمسكم فيما أخذتموه عذاب عظيم، وهذا قول ابن إسحاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية: " لو عذبنا الله في هذه الآية يا عمر ما نجا غيرك".

والثالث من حقوق الله تعالى أن يؤدي الأمانة فيما حازه من الغنائم ولا يغل أحد منهم شيئاً حتى يقسم بين جميع الغانمين ممن شهد الواقعة وكان على العدو يداً لأن لكل واحد منهم فيها حقاً؛ قال الله تعالى: "وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة".

وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها وما كان لنبي أن يغل أصحابه ويخونهم في غنائمهم، وهذا قول ابن عباس رضوان الله عليه، والثاني وما كان لنبي أن يغله أصحابه ويخونوه في غنائمهم وهذا قول الحسن بن قتادة. والثالث ما كان لنبي أن يكتم أصحابه ما بعثه الله تعالى به إليهم لرهبة منهم ولا لرغبة فيهم، وهذا قول محمد بن إسحاق.

والرابع من حقوق الله تعالى أن لا يمايل من المشركين ذا قربى ولا يحابي في نصرة دين الله ذا مودة فإن حق الله أوجب ونصرة دينه ألزم. قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق " الآية.

نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وقد كتب كتاباً إلى مكة حين هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم يعلمهم فيه حال مسيره إليهم وأنفذه مع سارة مولاة لبني عبد المطلب فأطلع الله نبيه عليها فأنفذه علياً والزبير في أثرها حتى أخرجاه من قرن رأسها، فدعا حاطباً وقال ما حملك على ما صنعت؟ فقال والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله ما كفرت ولا بدلت ولكني امرؤ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم أهل وولد فطالعتهم بذلك وعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما يلزمهم في حق الأمير عليهم فأربعة أشياء: أحدها التزام طاعته والدخول في ولايته لأن ولايته عليهم انعقدت وطاعته بالولاية وجبت، قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ".

وفي أولي الأمر تأويلان: أحدهما أنهم الأمراء، وهذا قول ابن عباس رضوان الله عليه. والثاني أنهم العلماء، وهذا قول جابر بن عبد الله والحسن وعطاء؛ وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني".

والثاني أن يفوضوا الأمر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره حتى لا تختلف آراؤهم فتتلف كلمتهم ويفترق جمعهم، قال تعالى: " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستبطونه منهم ".

فجعل تفويض الأمر إلى وليه سبباً لحصول العلم وسداد الأمر، فإن ظهر لهم صواب خفي عليه بينوه له وأشاروا به عليه، ولذلك ندب إلى المشاورة ليرجع بها إلى الصواب. والثالث أن يسارعوا إلى امتثال الأمر والوقوف عند نهيه وزجره، لأنهما من لوازم طاعته فإن توقفوا عما أمرهم به وأقدموا على ما نهاهم عنه فله تأديبهم على المخالفة بحسب أحوالهم ولا يغلظ. فقد قال الله تعالى: " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ".

وروى سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير دينكم أيسره ".

والرابع أن لا ينازعوه في الغنائم إذا قسمها ويرضوا منه بتعديل القسمة عليهم فقد سوى الله تعالى فيها بين الشريف والمشروف، وماثل بين القوي والضعيف . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " إن الناس اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين يقولون اقسم علينا فيئنا حتى ألجأه إلى شجرة فاختطف عنه رداؤه: فقال ردوا علي ردائي أيها الناس والله لو كان لكم عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم. وما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذوباً. ثم أخذ وبرة من سنام بعيره فرفعها وقال: يا أيها الناس والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود فيكم. فأدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول يكون على أهله عاراً وناراً وشناراً يوم القيامة. فرآه رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر، فقال: يا رسول الله أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بغير لي قد برد فقال: أما نصيبي منها فلك، فقال أما إذا بلغت هذا فلا حاجة لي فيها ثم طرحها بين يديه".

والقسم الخامس من أحكام هذه الإمارة مصابرة الأمير قتال العدو ما صابر وإن تطاولت به المدة، ولا يولي عنه وفيه قوة قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ".

وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها؛ اصبروا على طاعة الله وصابروا أعداء الله ورابطوا في سبيل الله، وهذا قول الحسن. والثاني: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدكم ورابطوا عدوي وعدوكم وهذا قول محمد بن كعب والثالث: اصبروا على الجهاد وصابروا العدو ورابطوا بملازمة الثغر وهذا قول زيد بن أسلم. وإذا كنت مصابرة القتال من حقوق الجهاد فهي لازمة حتى يظفر بخصلة من أربع خصال: إحداهن أن يسلموا فيصير لهم بالإسلام ما لنا وعليهم ما علينا ويقروا على ما ملكوا من بلاد وأموال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ".

وتصير بلادهم إذا أسلموا دار الإسلام يجري عليهم حكم الإسلام، ولو أسلم في معركة الحرب منهم طائفة قلت أو كثرت أحرزوا بإسلامهم ما ملكوا في دار الحرب من أرض ومال فإن ظهر الأمير على دار الحرب لم يغنم أموال من أسلم وقال أبو حنيفة: يغنم ما لا ينقل من أرض ودار، ولا يغنم ما ينقل من مال ومتاع وهو خلاف السنة.

وقد أسلم في حصار بني قريظة ثعلبة وأسيداً ابنا شعبة اليهوديان فأحرز إسلامهما أموالهما ويكون إسلامهما إسلاماً لصغار أولادهم ولكل حمل كان لهم. وقال أبو حنيفة إذا أسلم كافر في دار الإسلام لم يكن إسلاماً لصغار ولده، ولو أسلم في دار الحرب كان إسلاماً لصغار ولده ولا يكون إسلاماً للحمل وتكون زوجته والحمل فيئاً، ولو دخل مسلم دار الحرب فاشترى فيها أرضاً ومتاعاً لم يملك عليه إذا ظهر المسلمون عليها وكان مشتريها أحق بها. وقال أبو حنيفة يكون ما ملكه من أرض فيئاً، والخصلة الثانية أن يظفره الله تعالى بهم مع مقامهم على شركهم فتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم ويقتل من لم يحصل في الأسر منهم.

ويكون في الأسرى مخيراً في استعمال الأصلح من أربعة أمور. أحدها: أن يقتلهم صبراً بضرب العنق، والثانية أن يسترقهم ويجري عليهم أحكام الرق من بيع أو عتق، والثالث: أن يفادي بهم على مال أو أسرى. والرابع: أن يمن عليهم ويعفو عنهم، قال الله تعالى: " إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ".

وفيه وجهان: أحدهما: أنه ضرب رقابهم صبراً بعد القدرة عليهم. والثاني: أنه قتالهم بالسلاح والتدبير حتى يفضي إلى ضرب رقابهم في المعركة، ثم قال: " حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق".

يعني بالإثخان: الطعن ويشد الوثاق: الأسر.

" فإما منا بعد وإما فداء ".

وفي المن قولان: أحدهما: أنه العفو والإطلاق كما من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال بعد أسره. الثاني: أنه العتق بعد الرق، وهذا قول مقاتل. وأما الفداء ففيه ههنا قولان: أحدهما: أنه المفاداة على مال يؤخذ أو أسير يطلق كما فادى الرسول صلى الله عليه وسلم أسرى بدر على مال وفادى في بعض المواطن رجلاً برجلين.

والثاني: أنه البيع وهو قول مقاتل: " حتى تضع الحرب أوزارها ".

وفيه تأويلان. أحدهما: أوزار الكفر بالإسلام. والثاني: أثقال الحرب وهو السلاح وفي المقصود بهذا السلاح الموضوع وجهان: أحدهما سلاح المسلمين بالنصر. والثاني سلاح المشركين بالهزيمة ولهذه الأحكام الأربعة شرح يذكر مع قسمة الغنيمة بعد.

والخصلة الثالثة أن يبذلوا مالاً على المسالمة والموادعة؛ فيجوز أن يقبل منهم ويوادعهم على ضربين: أحدهما أن يبذلوه لوقتهم ولا يجعلوه خراجاً مستمراً، فهذا المال غنيمة لأنه مأخوذ بإيجاف خيل وركاب، فيقسم بين الغانمين ويكون ذلك أمان لهم في الانكفاف به عن قتالهم في هذا الجهاد ولا يمنع من جهادهم فيما بعد، والضرب الثاني أن يبذلوه في كل عام فيكون هذا خراجاً مستمراً ويكون الأمان به مستقراً والمأخوذ منهم في العام لأول غنيمة تقسم بين الغانمين وما يؤخذ في الأعوام المستقبلة يقسم في أهل الفيء، ولا يجوز أن يعاود جهادهم ما كانوا مقيمين على بذل المال لاستقرار الموادعة عليه، وإذا دخل أحدهم إلى دار الإسلام كان له يعقد الموادعة لأمان على نفسه وماله، فإن منعوا المال زالت الموادعة وارتفع الأمان ولزم جهادهم كغيرهم من أهل الحرب، وقال أبو حنيفة، لا يكون منعهم من مالك الجزية والصلح تقضا لأمانهم، لأنه حق عليهم فلا ينتقض العهد بمنعهم منهم كالديون، فأما حمل أهل الحرب هدية ابتدوها لم يصر لهم بالهدية عهد وجاز حربهم بعدها، لأن العهد ما كان عن عقد. والخصلة الرابعة أن يسألوا الأمان والمهادنة، فيجوز إذا تعذر الظفر بهم وأخذ المال منهم أن يهادنهم على المسالمة في مدة مقدرة يعقد الهدنة عليها إذا كان للإمام قد أذن له في الهدنة أو فوض الأمر إليه، قد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً عام الحديبية عشر سنين. ويقتصر في مدة الهدنة على أقل ما يمكن ولا يجاوز أكثرها عشر سنين، فإن هادنهم أكثر منها بطلت المهادنة فيما زاد عليها، ولهم الأمان فيها إلى انقضاء مدتها، ولا يجاهدون فيها ما أقاموا على العهد، فإن نقضوه صار حرباً يجاهدون من غير إنذار. قد نقضت قريش صلح الحديبية فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح محارباً حتى فتح مكة صلحاً عند الشافعي وعنوة عند أبي حنيفة، ولا يجوز إذا نقضوا عهدهم أن يقتل ما في أيدينا من رهائنهم. قد نقض الروم عهدهم زمن معاوية وفي يده رهائن فامتنع المسلمون جميعاً عن قتلهم وخلو سبيلهم وقالوا وفاء بغدر خير من غدر بغدر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أد الأمانة لمن ائتمنك، ولا تخن من خانك ".

فإذا لم يجر قتل الرهائن لم يجز إطلاقهم ما لم يحاربهم فإذا حاربهم وجب إطلاق رهائنهم ثم ينظر فيهم، فإن كانوا رجالاً وجب إبلاغهم مأمنهم، وإن كانوا ذراري نساء وأطفالاً وجب إيصالهم إلى أهاليهم لأنهم أتباع لا ينفردون بأنفسهم، ويجوز أن يشترط لهم في عقد الهدنة رد من أسلم من رجالهم، فإذا أسلم أحد منهم رد إليهم إن كانوا مأمونين على دمه ولم يرد إليهم أن يؤمنوا عليه، ولا يشرط رد من أسلم من نسائهم لأنهن ذوات فروج محرمة، فإن اشترط ردهن لم يجز أن يردوا ودفع إلى أزواجهن مهورهن إذا طلقن. وإذا لم تدع إلى عقد المهادنة ضرورة لم يجز أن يهادنهم، ويجوز أن يوادعهم أربعة أشهر فما دون ولا يزيد عليها، لقوله تعالى: " فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ".

وأما الأمان الخاص فيصح أن يبذله كل مسلم من رجل وامرأة حر وعبد لقول صلى الله عليه وسلم: " المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم ".

يعني عبيدهم، وقال أبو حنيفة: لا يصح أمان العبد إلا أن يكون مأذوناً في القتال.

والقسم السادس من أحكام هذه الإمارة السيرة في نزال العدو وقتاله. ويجوز لأمير الجيش في حصار العدو أن ينصب عليهم العرادات والمنجنيقات. قد نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف منجنيقان ويجوز أن يهدم عليهم منازلهم ويضع عليها البيات والتحريق، وإذا رأى في قطع نخالهم وشجرهم صلاحاً يستضعفهم به ليظفر بهم عنوة أو يدخلوا في السلم صلحاً فعل، ولا يفعل إن لم ير فيه صلاحاً، قد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم كروم أهل الطائف فكان سبباً في إسلامهم، وأمر في حرب بني النضير بقطع نوع من النخال يقال له الأصفر يرى نواه من وراء اللحاء وكانت اللحاء منها أحب إليهم من الوضيع فقطع بهم وحزنوا له وقالوا إنما قطعت نخلة وأحرقت نخلة، ولما قطع نخلة قال سماك اليهودي في ذلك من المتقارب:

ألسنا ورثنا الكـتـاب الـحـك

 

يم على عهد موسى فلم نصرف

أنتم رعـاء لـشـاء عـجـاف

 

بسهـل تـهـامة والأحـنـف

يرون الرعاية مـجـداً لـكـم

 

كذا كل دهر بكم مـجـحـف

فيا أيها الشـاهـدون انـتـهـو

 

عن الظلم والنطق المـوكـف

لعل الليالي وصـرف الـدهـو

 

ر تديل من العادل المنـصـف

بقتل الـنـضـير وإجـلائهـا

 

وعقر النخيل ولم تـخـطـف

أجابه حسان بن ثابت من الوافر:

هم أوتوا الكتاب فضيعـوه

 

فهم عمي عن التوراة بور

كفرتم بالقرآن وقد أتاكـم

 

بتصديق الذي قال النـذير

فهان على سراة بني لوى

 

حريق بالبويرة مستطـير

فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم جل في صدور المسلمين وقالوا يا رسول الله: هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركناه من وزر؟ فأنزل الله تعالى: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين".

وفي لينة أربعة أقاويل: أحدها أنها النخلة من أي الأصناف كانت؟ وهذا قول مقاتل. والثاني أنها كرام النخل وهذا قول سفيان، والثالث أنها الفسيلة، لأنها ألين من النخلة، والرابع أنها جميع الأشجار للينها بالحياة، ويجوز أن يغور عليهم المياه ويقطعها عنهم وإن كان فيهم نساء وأطفال، لأنه من أقوى أسباب ضعفهم والظفر بهم عنوة وصلحاً، وإذا استسقى منهم عطشان كان الأمير مخيراً بين سقيه أو منعه كما كان مخيراً فيه بين قتله أو تركه. ومن قتل منهم واراه عن الأبصار ولم يلزم تكفينه، قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى بدر فألقوا في القليب؛ ولا يجوز أن يحرق بالنار منهم حياً ولا ميتاً.

روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تعذبوا عباد الله بعذاب الله ".

وقد أحرق أبو بكر رضي الله عنه قوماً من أهل الردة، ولعل ذلك كان منه والخبر لم يبلغه، ومن قتل من شهداء المسلمين زمل في ثيابه التي قتل فيها ودفن بها ولم يغسل ولم يصل عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: " زملوهم بكلومهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك".

وإنما فعل ذلك بهم تكريماً لهم إجراء لحكم الحياة في ذلك قال الله تعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ".

وفيه تأويلان: أحدهما أنهم أحياء في الجنة بعد البعث وليسوا في الدنيا بأحياء. والثاني وهو قول الأكثرين أنهم بعد القتل أحياء الاستعمال لظاهر النص فرقاً بينهم وبين من لم يوصف بالحياة. ولا يمنع الجيوش في دار الحرب من أكل طعامهم وعلوفة دوابهم غير محتسب به عليهم، ولا يتعدوا القوت والعلوفة إلى ما سواهما من ملبوس ومركوب، فإن دعتهم الضرورة إلى ذلك كان ما لبسوه أو ركبوه أو استعملوه مسترجعاً منهم في المغنم إن كان باقياً ومحتسباً عليهم من سهمهم إن كان مستهلكاً؛ ولا يجوز لأحد منهم أن يطأ جارية من السبي إلا بعد أن يعطاها بسهمه فيطأها بعد الاستبراء، فإن وطئها قبل القسمة عزر ولا يحد لأن له فيها سهماً ووجب عليه مهر مثلها ويضاف إلى الغنيمة، فإن أحبلها لحق به ولدها وصارت به أم ولد له إن ملكها. لعدوه ولا يحكم عليه لأن أسباب الحكم ظاهرة وأسباب الشهادة خافية فانتفت التهمة عنه في الحكم وتوجهت إليه في الشهادة، وإذا مات القاضي انعزل خلفاؤه، ولو مات الإمام لم تنعزل قضاته، ولو اتفق أهل بلد قد خلا من قاض على أن قلدوا عليهم قاضياً، فإن كان إمام الوقت موجوداً بطل التقليد، وإن كان مفقوداً صح التقليد ونفذت أحكامه عليهم، فإن تجدد بعده نظره إمام لم يستدم النظر إلا بإذنه ولم ينقض ما تقدم من حكمه.