الباب السادس: في ولاية القضاء

الأحكام السلطانية والولايات الدينية

الماوردي

علي بن محمد حبيب، أبو الحسن الماوردي المولود عام 364 هـ -974 م والمتوفي عام 450 هـ 1058 م


الباب السادس: في ولاية القضاء

ولا يجوز أن يقلد القضاء إلا من تكاملت فيه شروطه التي يصح معها تقليده وينفذ بها حكمه وهي سبعة: فالشرط الأول منها أن يكون رجلاً وهذا الشرط يجمع صفتين البلوغ والذكورية، فأما البلوغ فإن غير البالغ لا يجري عليه قلم ولا يتعلق بقوله على نفسه حكم وكان أولى أن لا يتعلق به على غيره حكم. وأما المرأة فلنقص النساء عن رتب الولايات وإن تعلن بقولهن أحكام. وقال أبو حنيفة يجوز أن تقضي المرأة فيما تصح فيها شهادتها، ولا يجوز أن تقضي فيما لا تصح فيه شهادتها. وشذ ابن جرير الطبري فجوز قضاءها في جميع الأحكام، ولا اعتبار بقول يرده الإجماع مع قول الله تعالى: " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض".

يعني في العقل والرأي، فلم يجز أن يقمن على الرجال. والشرط الثاني وهو مجمع على اعتباره ولا يكتفي فيه العقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية حتى يكون صحيح التمييز جيد الفطنة بعيداً من السهو والغفلة يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل. والشرط الثالث الحرية، لأن نقص العبد عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته على غيره، ولأن الرق لما منع من قبول الشهادة كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم وانعقاد الولاية وكذلك الحكم فيمن لم تكمل حريته من المدبر والمكاتب ومن رق بعضه، ولا يمنعه الرق أن يفتي كما لا يمنعه الرق أن يروي بعدم الولاية في الفتوى والرواية. ويجوز له إذا عتق أن يقضي وإن كان عليه ولاء لأن النسب غير معتبر في ولاية الحكم. والشرط الرابع: الإسلام لكونه شرطاً في جراز الشهادة مع قول الله سبحانه وتعالى: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ".

ولا يجوز أن يقلد الكافر القضاء على المسلمين ولا على الكفار. وقال أبو حنيفة يجوز تقلده القضاء بين أهل دينه، وهذا وإن كان عرف الولاة بتقليده جارياً فهو تقليد زعامة ورئاسة وليس بتقليد حكم وقضاء، وإنما يلزمهم حكمة لالتزامهم له لا لزومه لهم، ولا يقبل الإمام قوله فيما حكم بينهم. وإذا امتنعوا من تحاكمهم إليه لم يجبروا عليه وكان حكم الإسلام عليهم أنفذ: والشرط الخامس العدالة وهي معتبرة في كل ولاية. والعدالة: أن يكون صادق اللهجة ظاهر الأمانة عفيفاً عن المحارم متوقياً المأثم بعيداً من الريب، مأموناً في الرضا والغضب مستعملاً لمروءة مثلة في دينه ودنياه، فإذا تكاملت فيه فهي العدالة التي تجوز بها شهادته وتصح معها ولايته وإن انخرم منها وصف منع من الشهادة والولاية فلم يسمع له قول ولم ينفذ له حكم. والشرط السادس السلامة في السمع والبصر ليصح بهما إثبات الحقوق ويفرق بين الطالب والمطلوب، ويميز المقر من المكر ليتميز له الحق من الباطل، ويعرف المحق من المبطل، فإن كان ضريراً كانت ولايته باطلة، وجوزها مالك كما حوز شهادته، وإن كان أصم فعلى الاختلاف المذكور في الأمانة فأما سلامة الأعضاء فغير معتبرة فيه وإن كانت معتبرة في الإمامة، فيجوز أن يقضي وإن كان مقعداً ذا زمانه وإن كانت السلامة من الآفات أهيب لذوي الولاية والشرط السابع أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية وعلمه بها يشتمل على علم أصولها والاوتياض بفروعها.

وأصول الأحكام في الشرع أربعة. أحدهما علمه بكتاب الله عز وجل على الوجه الذي تصح به معرفة ما تضمنه من الأحكام ناسخاً ومنسوخاً ومحكماً ومتشابهاً وعموماً وخصوصاً ومجملاً ومفسراً والثاني علمه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله وطرق مجيئها في التواتر والآحاد والصحة والفساد وما كان عن سبب أو إطلاق. والثالث علمه بتأويل السلف فيما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه ليتبع الاجماع ويجتهد برأيه في الاختلاف والرابع علمه بالقياس الموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها حتى يجد طريقاً إلى العلم بأحكام النوازل وتمييز الحق من الباطل، فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة في أحكام الشريعة صار بها من أهل الاجتهاد في الدين، وجاز له أن يفتي ويقضي، وجاز له أن يستفتى ويستقضى، وإن أخل بها أو بشيء منها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد فلم يجز أن يفتي ولا أن يقضي فإن قلد القضاء فحكم بالصواب أو الخطأ كان تقليده باطلاً وحكمه وإن وافق الحق والصواب مردوداً، وتوجه الحرج فيما قضى به عليه وعلى من قلده الحكم والقضاء وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد ليستفتى في أحكامه وقضاياه والذي عليه جمهور الفقهاء أن ولايته باطلة وأحكامه مردودة، ولأن التقليد في فروع الشرع ضرورة فلم يتحقق إلا في ملتزم الحق دون ملزمه. قد اختبر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً حين بعثه إلى اليمن والياً وقال: " .... بم تحكم؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد برأيي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسوله ".

فأما ولاية من لا يقول بخبر الواحد فغير جائزة، لأنه تارك الأصل قد اجتمعت عليه الصحابة وأكثر أحكام الشرع عنه مأخوذ فصار بمنزلة من لا يقول بحجة الإجماع للذي لا تجوز ولايته لرد ما ورد النص به. وأما نفاة القياس فضربان: ضرب منهم نفوه واتبعوا ظاهر النص وأخذوا بأقاويل سلفهم فيما لم يرد فيه نص وطرحوا الاجتهاد وعدلوا عن الفكر والاستنباط، فلا يجوز تقليدهم الفضاء لقصورهم عن طرق الأحكام. وضرب منهم نفوا القياس واجتهدوا في الأحكام تعلقاً بفحوى الكلام ومفهوم الخطاب كأهل الظاهر. وقد اختلف أصحاب الشافعي رضي الله عنه في جواز تقليدهم القضاء على وجهين: أحدهما لا يجوز للمعنى المذكور. والثاني يجوز لأنهم يعتبرون واضح المعاني وإن عدلوا عن خفي القياس، فإذا ثبت ما وصفنا من الشروط المعتبرة في ولاية القضاء، فلا يجوز أن يولى إلا بعد العلم باجتماعها فيه؛ إما بتقدم معرفة، وإما باختيار ومسألة. قد قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام قضاء اليمن ولم يختبره لعلمه به ولكن وصاه تنبيهاً على وجه القضاء فقال: " إذا حضر خصمان بين يديك فلا تقض لأحدهما حتى تسمع كلام الآخر ".

ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي رحمه الله أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره، فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم، وهذا وإن كانت الساسية تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه لأن التقليد فيها محظور والاجتهاد فيها مستحق، وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد الاجتهاد فيه وقضى بما أداه اجتهاده إليه وإن خالف ما تقدم من حكمه فإن عمر رضي الله عنه قضى في المشركة بالتشريك في عام وترك التشريك في غيره فقيل له ما هكذا حكمت في العام الماضي، فقال تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي.

فلو شرط المولى وهو حنفي أو شافعي من ولاء القضاء أن يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عموماً في جميع الأحكام، فهذا شرط باطل سواء كان موافقاً لمذهب المولى أو مخالفاً له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطاً فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهى وقال قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهى كانت الولاية صحيحة والشرط فاسداً سواء تضمن أمراً أو نهياً ويجوز أن يحكم بما أداه اجتهاده إليه سواء وافق شرطه أو خالفه ويكون اشتراط المولي لذلك قدحاً فيها إن علم أنه اشترط ما لا يجوز؛ ولا يكون قدحاً إن جهل لكن لا يصح مع الجهل به أن يكون موالياً ولا والياً، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة كانت الولاية باطلة لأنه عقدها على شرط فاسد. وقال أهل العراق. تصح الولاية ويبطل الشرط، والضرب الثاني أن يكون الشرط خاصاً في حكم بعينه، فلا يخلو الشرط من أن يكون أمراً أو نهياً، فإن كان أمراً فقال له أقد من العبد بالحر ومن المسلم بالكافر واقتص في القتل بغير الحديد كان أمره بهذا الشرط فاسداً ثم إن جعله شرطاً في عقد الولاية فسدت وإن لم يجعله شرطاً فيها صحت وحكم في ذلك بما يؤديه اجتهاده إليه. وإن كان نهياً فهو على ضربين: أحدهما أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد، ولا يقضي فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه فهذا جائز لأنه اقتصر بولايته على ما عداه فصار ذلك خارجاً عن نظره، والضرر الثاني أن لا ينهاه عن الحكم وينهاه عن القضاء في القصاص.

فقد اختلف أصحابنا في هذا النهي هل يوجب صرفه عن النظر فيه على وجهين أحدهما أن يكون صرفاً عن الحكم فيه وخارجاً عن ولايته فلا يحكم فيه بإثبات قود ولا بإسقاطه. والثاني أنه لا يقتضي الصرف عنه ويجري عليه حكم الأمر به ويثبت صحة النظر إن لم يجعله شرطاً في التقليد ويحكم فيه بما يؤديه اجتهاده إليه.

وولاية القضاء تنعقد بما تنعقد به الولايات مع الحضور باللفظ مشافهة ومع الغيبة مراسلة ومكاتبة لكن لا بد مع المكاتبة من أن يقترن بها من شواهد الحال ما يدل عليها عند المولى وأهل عمله.

والألفاظ التي تنعقد بها الولاية ضربان: صريح وكناية. فالصريح أربعة ألفاظ: قد قلدتك ووليتك واستخلفتك واستنتك، فإذا أتى بأحد هذه الألفاظ انعقدت ولاية القضاء وغيرها من الولايات وليس يحتاج معها إلى قرينة أخرى إلا أن يكون تأكيداً لا شرطاً. فأما الكناية فقد ذكر بعض أصحابنا أنها سبعة ألفاظ: قد اعتمدت عليك وعولت عليك ورددت إليك وجعلت إليك وفوضت إليك ووكلت إليك وأسندت إليك، فهذه الألفاظ لما تضمنته من الاحتمال تضعف في الولاية عن حكم الصريح حتى يقترن بها في عقد الولاية ما ينفي عنها الاحتمال فتصير مع ما يقترن بها في حكم الصريح مثل قوله فانظر فيما وكلته إليك واحكم فيما اعتمدت فيه عليك فتصير الولاية بهذه القرينة مع ما تقدم من الكناية منعقدة، ثم تمامها موقوف على قبول المولي، فإن كان التقليد مشافهة فقبوله على الفور لفظاً، وإن كان مراسلة أو مكاتبة جاز أن يكون على التراخي، ويجوز قبوله بالقول مع التراخي. واختلف في صحة القبول بالشروع في النظر؛ فجوزه بعضهم وجعله كالنطق وأباه آخرون حتى يكون نطقاً لأن الشروع في النظر فرع لعقد الولاية فلم ينعقد به قبولها. ويكون تمام الولاية مع ما ذكرنا من لفظ التقليد معتبراً بأربعة شروط: أحدها معرفة المولي للمولى بأنه على الصفة التي يجوز أن يولى معها، فإن لم يعلم أنه على الصفة التي تجوز معها تلك الولاية لم يصح تقليده، فلو عرفها بعد التقليد استأنفها ولم يجز أن تعول على ما تقدمها. والشرط الثاني: معرفة المولي بما عليه المولى من استحقاق تلك الولاية بصفاته التي يصير بها مستحقاً لها وأنه قد تقلدها وصار مستحقاً للإنابة فيها إلا أن هذا شرط معتبر في قبول المولي وجواز نظره وليس بشرط في عقد تقليده وولايته، بخلاف الشرط المتقدم وليس يراعى في هذه المعرفة المشاهدة بالنظر. وإنما يراعى انتشار يتتابع الخبر والشرط الثالث ذكر ما تضمنه التقليد من ولاية القضاء أو إمارة البلاد أو جباية الخراج لأن هذه شروط معتبرة في كل تقليد فافتقرت إلى تسمية ما تضمنت ليعلم على أي نظر عقدت فإن جهل فسدت، والشرط الرابع ذكر تقليد البلد الذي عقدت الولاية عليه ليعرف به العمل الذي يستحق النظر فيه، ولا تصح الولاية مع الجهل به فإذا انعقدت تم تقليد الولاية بما ذكرنا من الشروط واحتاج في لزوم النظر إلى شرط زائد على شروط العقد وهو إشاعة تقليد المولى في أهل عمله ليذعنوا بطاعته وينقادوا إلى حكمه وهو شرط في لزوم الطاعة وليس بشرط في نفوذ الحكم، فإذا صحت عقداً ولزوماً بما وصفنا صح فيها نظر المولي والمولى كالوكالة لأنهما معاً استنابة ولم يلزم المقام عليها من جهة المولى ولا من جهة المولي وكان للمولي أن يعزله عنها متى شاء، وللمولى عزل نفسه عنها إذا شاء غير أن الأولى بالمولي أن يعزله إلا بعذر، وأن لا يعتزل المولى إلا من عذر لما في هذه الولاية من حقوق المسلمين، فإذا عزل أو اعتزل جب إظهار العزل كما وجب إظهار التقليد حتى لا يقدم على إنفاذ حكم ولا يغتر بالترافع إليه خصم، فإن حكم بعد عزله وقد عرف عزله لم ينفذ حكمه، وإن حكم غير عالم بعزله كان في نفوذ حكمه وجهان كاختلافهما في عقود الوكيل.

ولا تخلو ولاية القاضي من عموم أو خصوص، فإن كانت ولايته عامة مطلقة التصرف في جميع ما تضمنته فنظره مشتمل على عشرة أحكام: أحدها فصل في النازعات وقطع التشاجر والخصومات، إما صلحاً عن تراض ويراعي فيه الجواز أو إجباراً بحكم بات يعتبر في الوجوب. والثاني استيفاء الحقوق ممن مطل بها وإيصالها إلى مستحقها بعد ثبوت استحقاقها من أحد وجهين: إقرار، أو بينة.

واختلف في جواز حكمه فيها بعلمه، فجوزه مالك والشافعي رضي الله عنهما أصح قوليه، ومنع منه في القول الآخر. وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز أن يحكم بعمله فيما علمه في ولايته ولا يحكم بما علمه قبلها. والثالث ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرف بجنون أو صغر والحجر عل من يرى الحجر عليه لنفسه أو فليس حفظاً للأموال على مستحقيها وتصحيحاً لأحكام العقود فيها. والرابع النظر في الأوقات بحفظ أصولها وتنمية فروعها والقبض عليها وصرفها في سبيلها، فإن كان عليها مستحق للنظر فيها راعاه وإن لم يكن تولاه، لأنه لا يتعين للخاص فيها إن عمت، ويجوز أن يقضي إلى العموم وإن خصت، والخامس تنفيذ الوصايا على شروط الموصي فيما أباحه الشرع ولم يحظره وإن كانت لمعينين كان تنفيذها بالإقباض، وإن كانت في موصوفين كان تنفيذها أن يتعين مستحقوها بالاجتهاد ويملكوا بالإقباض فإن كان فيها وصي راعاه وإن لم يكن تولاه. والسادس تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عد من الأولياء ودعين إلى النكاح، ولا يجعله أبو حنيفة رضي الله عنه من حقوق ولايته لتجويز تفرد الأيم بعقد النكاح. والسابع إقامة الحدود على مستحقيها، فإن كان من حقوق الله تعالى تفرد باستيفائه من غير طالب إذا ثبت بإقرار أو بينة، وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفاً على طلب مستحقه. وقال أبو حنيفة لا يستوفيها معاً إلا بخصم مطالب. والثامن النظر في مصالح عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأقبية وإخراج مالا يستحق من الأجنحة والأبنية، وله أن ينفرد بالنظر فيها وإن لم يحضره خصم. وقال أبو حنيفة لا يجوز له النظر فيها إلا بحضور خصم مستعد، وهي من حقوق الله تعالى التي يستوي فيها المستعدي وغير المستعدي فكان تفرد الولاية بها أخص. والتاسع تصفح شهوده وأمنائه واختيار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم والتعويل عليهم مع ظهور السلامة والاستقامة وصرفهم والاستبدال بهم مع ظهور الجرح والخيانة. ومن ضعف منهم عما يعانيه كان موليه بالخيار في أصلح الأمرين: إما أن يستبدل به من هو أقوى منه وأكفى، وإما أن يضم إليه من يكون اجتماعه عليه وأنفذ وأمضى. والعاشر التسوية في الحكم بين القوي والضعيف والعدل في القضاء بين المشروف والشريف، ولا يتبع هواه في تقصير المحق أو ممايلة مبطل، قال الله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذي يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ".

وقد استوفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهده إلى أبي موسى الأشعري شروط القضاء وبين أحكام التقليد فقال فيه: أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر؛ والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم، لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل؛ الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك ما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه، ثم اعرف الأمثال والأشباه؛ وقس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة امداً ينتهي إليه، فمن أحضر بينة أخذت له لحقه وإلا استحلل القضية عليه، فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى؛ والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات. وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر، والسلام.

فإن قيل ففي هذا العهد خلل من وجهين: أحدهما خلوه من لفظ التقليد الذي تنعقد به الولاية. والثاني اعتباره في الشهود عدالة الظاهر والمعتبر فيه عدالة الباطن بعد الكشف والمسألة. قيل أما خلوه عن لفظ التقليد ففيه جوابان: أحدهما أن التقليد تقدمه لفظاً وجعل العهد مقصوراً على الوصاية والأحكام والثاني أن ألفاظ العهد تتضمن معاني التقليد مثل قوله " فأفهم إذا أدلي إليك " وكقوله " فمن أحضر بينة أخذت له بحقه " وإلا استحللت القضية عليه فصار فحوى هذه الأوامر مع شواهد الحال مغنياً عن لفظ التقليد.

وأما اعتباره في الشهود عدالة الظاهر ففيه جوابان: أحدهما أنه يجوز أن يكون ممن يرى ذلك فذكره إخباراً عن إعتقاده فيه لا أمراً به. والثاني معناه أنهم بعد الكشف والمسألة عدول ما لم يظهر جرح إلا مجلوداً في حد، وليس لهذا القاضي وإن عمت ولايته جباية الخراج، لأن مصرفه موقوف على رأي غيره من ولاة الجيوش. فأما أموال الصدقات فإن اختصت بناظر خرجت عن عموم ولايته، وإن لم يندب لها ناظر فقد تدخل في عموم ولايته فيقبضها من أهلها ويصرفها في مستحقيها لأنها من حقوق الله تعالى فيمن سماه لها. وقيل لا تدخل في ولايته ويكون ممنوعاً من التعرض لها لأنها من حقوق الأموال التي تحمل على اجتهاد الأئمة وكذلك القول في إمامة الجمع والأعياد، فأما إن كانت ولايته خاصة فهي منعقدة على خصوصها ومقصورة النظر على ما تضمنته كمن قلد القضاء في بعض ما قدمناه من الأحكام أو في الحكم بإقرار دون البينة أو في الديون دون المناكح أو في مقدر بنصاب فيصح هذا التقليد ولا يصح للمولى أن يتعداه لأنها استنابة فصحت عموماً وخصوصاً كالوكالة.

ويجوز أن يكون القاضي عام النظر خاص العمل، ليقلد النظر في جميع الأحكام في أحد جانبي البلد أو في محلة منه فينفذ جميع أحكامه في الجانب الذي قلده والمحلة التي عينت له، وينظر فيه بين ساكنيه وبين الطارئين إليه، لأن الطارئ إليه كالساكن فيه إلا أن يقتصر به على النظر بين ساكنيه دون الغريبين والطارئين إليه فلا يتعداهم. ولو قلد جميع البلد ليحكم في أحد جانبيه أو في محلة منه أو في دار من دوره جاز له الحكم في كل موضع منه لأنه لا يمكن الحجر عليه في مواضع جلوسه مع عموم ولايته، فإن أخرج ذلك خرج الشرط في عقد الولاية أبطلها وكان مردود الحكم في ذلك الموضع وغيره، ولو قلد الحكم فيمن ورد إليه في داره أو في مسجده صح ولم يجز أن يحكم في غير داره ولا في غير مسجده، لأنه جعل ولايته مقصورة على من ورد إلى داره أو مسجده وهم لا يتعينون إلا بالورود إليهما فلذلك صار حكمه فيهما شرطاً. قال أبو عبد الله الزبيري: لم تزل الأمراء عندنا بالبصرة برهة من الدهر يستقضون قاضياً على المسجد الجامع يسمونه قاضي المسجد يحكم في مائتي درهم وعشرين ديناراً فما دونها ويفرض النفقات ولا يتعدى موضعه ولا ما قدر له.

وإذا قلد قاضيان على بلد لم يخل حال تقليدهما من ثلاثة أقسام: أحدها أن إلى أحدهما موضعاً منه وإلى الآخر غيره فيصح، ويقتصر كل واحد منهم على النظر في موضعه، والقسم الثاني أن يرد إلى أحدهما نوع من الأحكام وإلى الآخر غيره كرد المداينات إلى أحدهما والمناكح إلى الآخر فيجوز ذلك ويقتصر كل واحد منهما على النظر في ذلك الحكم الخاص في البلد كله. والقسم الثالث أن يرد إلى كل واحد منهما جميع الأحكام في جميع البلد. فقد اختلف أصحابنا في جوازه، فمنعت منه طائفة لما يفضي إليه أمرهما من التشاجر في تجاذب الخصوم إليهما، وتبطل ولايتهما إن اجتمعت، وتصح ولاية الأول منهما إن افترقت. وأجازته طائفة أخرى وهم الأكثرون لأنها استنابة كالوكالة، ويكون القول عند تجاذب الخصوم قول الطالب دون المطلوب، فإن تساويا اعتبر أقرب الحاكمين إليهما، فإن استويا فقد قيل يقرع بينهما وقيل يمنعان من التحاكم حتى يتفقا على أحدهما.

ويجوز أن تكون ولاية القاضي مقصورة على حكومة معينة بين خصمين فلا يجوز أن ينفذ النظر بينهما إلى غيرهما من الخصوم وتكون ولايته على النظر بينهما باقية ما كان التشاجر بينهما باقياً، فإذا بت الحكم بينهما زالت ولايته، وإن تجددت بينهما مشاجرة أخرى لم ينظر بينهما إلا بإذن مستجد، فلو لم يعين الخصوم وجعل النظر مقصوراً على الأيام وقال قلدتك النظر بين الخصوم في يوم السبت وحده جاز نظره فيه بين الخصوم في جميع الدعاوي، وتزول ولايته بغروب الشمس منه، ولو قال قلدتك النظر في كل يوم سبت جاز أيضاً وكان مقصور النظر فيه. فإذا خرج يوم السبت لم تزل ولايته لبقائها على أمثاله من الأيام وإن كان ممنوعاً من النظر فيما عداه، ولو قال ولم يسم أحداً: من نظر في يوم السبت بين الخصوم فهو خليفتي لم يجز للجهل بالمولى، ولأنه قد يجوز أن ينظر فيه من ليس من أهل الاجتهاد، فلو قال من نظر فيه من أهل الاجتهاد فهو خليفتي لم يجز أيضاً للجهل به، ولأنه يصير تمييز المجتهد موكولاً إلى رأي غيره من الخصوم، ولو قال من نظر فيه من مدرسي أصحاب الشافعي أو مفتي أصحاب أبي حنيفة لم يجز، وكذلك لو سمى عدداً فقال من نظر فيه من فلان أو فلان فهو خليفتي لم يجز سواء قل العدد أو كثر، لأن المولى منهم مجهول لكن إذا قال رددت النظر فيه إلى فلان وفلان وفلان جاز سواء قل العدد أو كثر، ،لأن جميعهم مولى فإذا نظر فيه أحدهم تعين وزال نظر الباقين لأنه لم يجمعهم على النظر وإنما أفرد به أحدهم، فإن جمعهم على النظر فيه لم يجز إن كثر عددهم، وفي جوازهم إن قل وجهان من اختلاف أصحابنا في الجمع بين قاضيين.

فأما طلب القضاء وخطبة الولاة عليه: فإن من غير أهل الاجتهاد فيه كان تعرضه لطلبه محظوراً وصار بالطلب مجروحاً، وإن كان من أهله على السفة التي يجوز معها نظره فله في طلبه ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون القضاء في غير مستحقه، إما لنقص علمه، وإما لظهور جوره فيخطب القضاء دفعاً لمن لا يستحقه ليكون فيمن هو بالقضاء أحق فهذا سائغ لما تضمنه من دفع منكر، ثم ينظر، فإن كان أكثر قصده إزالة غير المستحق كان مأجوراً، وإن كان أكثره اختصاصه بالنظر فيه كان مباحاً: والحالة الثانية أن يكون القضاء في مستحقه ومن هو أهله ويريد أن يعزله عنه إما لعداوة بينهما وإما ليجر بالقضاء إلى نفسه نفعاً؛ فهذا الطلب محظور وهو بهذا الطلب مجروح. والحالة الثالثة أن لا يكون في القضاء ناظر وهو خال من وال عليه؛ فيراعي حاله في طلبه، فإن كان لحاجته إلى رزق القضاء المستحق في بيت المال كان طلبه مباحاً، وإن كان لرغبة في إقامة الحق وخوفه أن يتعرض له غير مستحق كان طلبه مستحباً، فإن قصد بطلبه المباهاة والمنزلة فقد اختلف في كراهية ذلك مع الانفاق على جوازه، فكرهته طائفة لأن طلب المباهاة والمنزلة في الدنيا مكروه، قال الله تعالى: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ".

وذهبت طائفة أخرى إلى أن طلبه لذلك غير مكروه، لأن طلب المنزلة مما أبيح ليس بمكروه، وقد رغب نبي الله يوسف عليه السلام إلى فرعون في الولاية والخلافة فقال: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".

فطلب الولاية وصف نفسه بما يستحقها به من قوله " إني حفيظ عليم " وفيه تأويلان: أحدهما حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد، والثاني أنه حفيظ للحساب عليم بالألسن، وهذا قول إسحاق بن سفيان. وخرج هذا القول عن حد التزكية لنفسه والمدح لها لأنه كان لسبب دعا إليه. واختلف لأجل ذلك في جواز الولاية من قبل الظالم، فذهب قوم إلى جوازها إذا عمل بالحق فيما يتولاه، لأن يوسف عليه السلام تولى من قبل فرعون ليكون بعدله دافعاً لجوره.

وذهبت طائفة أخرى إلى حظرها والمنع من التعرض لها لما فيها من تولى الظالمين والمعونة لهم وتزكيتهم بالتقليد أو أمرهم.

وأجابوا عن ولاية يوسف عليه السلام من قبل فرعون بجوابين: أحدهما أن فرعون يوسف كان صالحاً وإنما الطاغي فرعون موسى. والثاني أنه نظر في أملاكه دون أعماله.

فأما بذل المال على طلب القضاء فمن المحظورات لأنها رشوة محرمة يصير الباذل لها والقابل لها مجروحين.

روى ثابت عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي والرايش".

والراشي: باذل الرشوة: والمرتشي قابلها. والرايش: المتوسط بينهما.

وليس لمن تقلد القضاء أن يقبل هدية من خصم ولا من أحد من أهل عمله وإن لم يكن له خصم لأنه قد يستعديه فيما يليه.

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هدايا الأمراء غلول".

فإن قبلها وعجل المكافأة عليها ملكها، وإن لم يعجل المكافأة عليها كان بيت المال أحق بها إن تعذر ردها على المهدي لأنه أولى بها منه، وليس للقاضي تأخير الخصوم إذا تنازعوا إليه إلا من عذر. ولا يجوز له أن يحجب إلا في أوقات الاستراحة، وليس له أن يحكم لأحد من والديه ولا من أولاده لأجل التهمة ويحكم عليهم لارتفاعها، وكذلك لا يشهد لهم ويشهد عليهم، ويشهد لعدوه ولا يشهد عليه، ويحكم وإن وطئ من لم يدخل في السبي حد، لأن وطأها زنا، ولم يلحق به ولدها إن علقت. فإذا عقدت هذه الإمارة على غزوة واحدة لم يكن لأميرها أن يغزو غيرها سواء غنم فيها أو لم يغنم، وإذا عقدت عموماً عاماً بعد عام لزمه معاودة الغزو في كل وقت يقدر على غزو فيه ولا يفتر عنه مع ارتفاع الموانع إلا قدر الاستراحة وأقل ما يجزيه أن لا يعطل عاماً من جهاد ولهذا الأمر إذا فوضت إليه الإمارة على المجاهدين أن ينظر في أحكامهم ويقيم الحدود عليهم وسواء من ارتزق منهم أو تطوع، ولا ينظر في أحكام غيرهم ما كان سائراً إلى ثغرة، فإذا استقر في الثغر الذي تقلده جاز أن ينظر في أحكام جميع أهله من مقاتلته ورعيته، وإن كانت إمارة خاصة أجرى عليها حكم الخصوص.