مقدمة والمؤلف

نثر الدر

أبو سعد الآبي

منصور بن الحسين الرازي، أبو سعد الآبى المتوفي عام 421 هـ- 1030 م

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

بحمد الله نستفتح أقوالنا وأعمالنا ، وبذكره نستنجح طلباتنا وآمالنا ، إياه نستخير وبعدله نستجير ، وبحبله نعتصم ، ولأمره نستسلم وإليه نجأر ، وفضله نشكر ، وعفوه نرجو ، وسطوه نرهب ، وعقابه نخشى ، وثوابه نأمل ، وإياه نستعين ، عليه نتوكل ، وبنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نتوسل . له الحمد على مواهبه التي لا نحصيها عدداً ، ولا نعرف لها أمداً ، حمداً نبلغ به رضاه ، ونستدر به نعماه . وله الشكر على منائحه التي أولاها ابتداء ، ووعد على شكرها جزاء ، شكراً نبلغ به من جهدنا عذراً ، ونرتهن به ذخراً و أجراً ، ونستديم به من نعمة الراتب الراهن ، ونستدنى به الشاحط الشاطن ، ونستجر به وعده بالمزيد ، " وما ربك بظلامٍ للعبيد " اللهم كما علمتنا بالقلم ، وأنطقتنا بالسان الأفصح ، وأريتنا لفم الطريق الأوضح ، وهديتنا لصراطك المستقيم ، وفقهتنا في الدين ، وعلمتنا من تأولي الأحاديث ، فأوزعنا إن نطلب الزلفى لديك ، بالحمد لك والثناء عليك ، ووفقنا لارتباط آلائك بشكرها ، وأعذنا من أن يحل عقالها بكفرها ، وأيدينا بأيدك ، وأجرنا من كيدك ، وسددنا لقضاء حقك وأداء فرضك ، وشكر نعمتك ، ولزوم محجتك ، والتزام حجتك ، والاستضاءة بنورك الذي لا يضل من جعله معلماً لدينه ، وعلماً يتلقاه بيمينه . اللهم أنت المأمول ، وعدلك المأمون ، وفضلك المرجو . بإحسانك الملاذ ، وبك من سخطك العياذ . أعوذ بك من الخطل في القول ، كما أعوذ بك من الخطإ في العمل . أعوذ بك من زلل اللسان والقلم كما أعوذ بك من ذلل القدم ، وأعوذ بك من النطق الفاضح ، كما أعوذ بك من العي الفادح . فاجعل نطقنا ثناءً على عزتك ، وصمتاً فكراً في قدرتك . وجنبنا في جميع أحوالنا ومختلفات أقوالنا وأفعالنا ما نستجلب به غضبك ، ونحتقب به الشرك بك ، تشبيها لك بخلقك وتصويراً وتظليما لك في فعلك ، وتجويرا وعدولا في دينك عن الجدد ، وتنكبا للسنن الأرشد ، الذي هدانا إليه نبيّك محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، بوحيك الذي أوحيته إليه ، وكلامك الذي أنزلته عليه ، مبلغاً لرسالتك ، نادياً إلى عبادتك ، صادعا بالدعاء إلى توحيدك ، معلنا بتعظيمك وتمجيدك . ناصحاً لأمته وعبيدك . صلى الله عليه صلاتاً نامية زاكية وسلم سلاما طيبا كثيرا وعلى أصحابه وأهل بيته الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهير . وبعد فإني رأيتك - أمتع الله بأدبك ، وأمتع الأدب وأهله بك - حين سمعت بالمجموع الكبير الذي سميته " نزهة الأديب ، ظننتني قصدت به قصد من يؤلف كتاباً ، فيصنفه أصنافاً ويبوبه أبواباً ، حتى يتميز فيه النشر عن النظم ، والجد عن الهزل ، والسمين عن الغث ، والبارع عن الرذل ، وتكثر فيه الأشكال والنظائر ، وتتشابه منه الأوائل والأواخر ، ولم تعلم أنه جرى مجرى التعليق ، الذي يحتوي على الجليل والدقيق ، ويقرن بين القريب والسحيق ، ويكون كاتبه كحاطب الليل يجمع نبعا وقتادا ، وجارف السيل يجمل منافع وأزبادا ، ويكون قارئه كغائص البحر يغوص مرة على الدرة الثمينة ، وأخرى على الصدفة المهينة ، حتى يخرج من الجد الشريف إلى المزح السخيف ، ومن الجذل البديع إلى الهزل الشنيع ، ومن فصيح المقال إلى العى المحال ومن الموعظة التي تدنى إلى الرب إلى النادرة التي تغرى بالذنب . ورأيت ميلك من جميع ذلك الكلام الموجز ، واللفظ المختصر ، واليسير المستغرب ، والنادر المستطرف دون الكثير المبتذل ، والشائع المشتهر ، وإلى الخطب القصار دون الإسهاب والإكثار ، وإلى القرحة الواقفة من النثر دون الغرة السائلة من الشعر ، وتصورت إيثارك لأن يجمع كل شكل إلى شكله ، ويقرن كل فصل إلى مثله حتى يأخذ بعض الكلام برقاب كله ، ويتسق آخر الباب على أوله ، فصنفت لك هذا الكتاب محتذيا لتمثيلك ، مهتديا بدليلك . واقتصرت فيما أوردته فيه على الفقر الفصيحة ، والنوادر المليحة ، والمواعظ الرقيقة ، والألفاظ الرشيقة . . وأخليته من الأشعار ، ومن الأخبار الطوال التي تجري مجرى الأسماء . وسميته " نثر الدر " . فلا يعثر فيه من النظم إلا بالبيت الشارد ، والمصراع الواحد الذي يرد في أدراج الكلام يتم به مقطعه ، وأثناء خطاب يحسن منه موقعه . وهو كتاب ينتفع به الأديب المتقدم ، كما ينتفع به الشادي المتعلم ، ويأنس به الزاهد المتنسك ، كما يأنس به الخليع المتهتك ، ويحتاج إليه الملك في سياسة ممالكه ، كما يحتاج إليه المملوك في خدمة مالكه ، وهو نعم العون للكاتب في رسائله وكتبه ، وللخطيب في محاوراته وخطبه ، وللواعظ في إنذاره وتحذيره ، وللقاضي في إذكاره وتبصيره ، وللزاهد في قناعته وتسليه ، وللمتبتل في نزاهته وتخليه . فأما النديم فغير مستغنٍ عنه في مسامرة رئيسه ، وأما الملهى فمضطر إليه عند مضاحكته وتأنيسه . وقد جعلته سبعة فصول ، يشتمل كل فصل على أبواب يتشابه ما فيها ، وتتقارب معانيها ، وذكرت أبواب الفصول في أوائلها ، ليقرب الأمر فيه على متناولها . الفصل الأول وهذا هو " الفصل الأول " . ويشتمل على خمسة أبواب . الباب الأول: يشتمل على آيات من كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، بألفاظ متشابهة ، ونظائر متشاكلة ، يحتاج الكاتب إليها ليوشح بها كلامه ، ويزين برونقها ألفاظه ، ويحسن بإيرادها - في أثناء كتبه ومقاطع فصوله - بلاغته ، بل يسد بجمالها خلته ، ويتمم بكمالها نقيصته ، فيخرج الكلام عن أن يكون مخدجا بلا نظام ، وأبتر عن غير تمام ، وكالفتى العطل من حلية الأدب ، أو كالفتاة العاطل من حلى الذهب . فقدما سميت الخطبة التي تخلو من آيات القرآن بتراء ، ولقبت - وإن كانت رشيقة - شوهاء ، ولا غنى عنها فيما ينشأ من الفتوح والعهود ، والمواثيق والعقود ، وكتب الأمان والإيمان ، وسائر ما يعبر به عن السلطان من الأمر بالتقوى والطاعة ، وإقامة الصلوات وحفظ الجماعة ، واستنزال النصر عند الجهاد ، وسد الثغور بالعدد والأعداد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتسوية في الحكم بين الأقوى والأضعف ، والأكبر والأصغر ، وقسمة الصدقات والمغانم ، وتوخى العدل واجتناب المظالم ، وما يجانس هذه الأمور مما يجعله الكاتب وصلة لكلامه ، والخطيب توصلا إلى أقصى مرامه ، والواعظ إذكارا للناسي ، والقاصي استلانة للقلب القاسي ، وبالله التوفيق ، ومن عنده العصمة ، وعليه التكلان ، وإليه المهرب والملجأ . الباب الثاني : يشتمل على ألفاظ لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) موجزة فصيحة ، وأغراض في تأديب الخلف وإرشادهم صحيحة ، ينتفع بها الإنسان في معاشه ومعاده ، ويستضيء بها عند إصداره وإيراده ، إذ كانت أفصح الكلام بعد القرآن العظيم ، وأهداه إلى الطريق المستقيم ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " أنا أفصح العرب بيد أنى من قريش " الباب الثالث : يشتمل على نكت من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، إذ كان صنو كلام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتلوه ، يقتفى أثره ، ويحذو حذوه ، من ضوئه اقتبس ، ومن نوئه استمطر ، ومن سنائه استمد ، ومن سمائه استنزل ، فيه اقتداؤه واهتداؤه ، وإليه انتماؤه واعتزاؤه . الباب الرابع : يشتمل على نكت من كلام الأئمة من ولده رضى الله عنهم ، والأشراف من أهل بيته الذين هم سلالة النبوة ، وصفوة الخلق ، وأولو الأمر وأرباب الحق . فيهم محط الرسالة ، ومقر الإمامة ، ومهبط الوحي ، ومقتبس العلم ، ومنار الإسلام ، ومعلم الدين ، وشعار الإيمان . الباب الخامس : يشتمل على نكت من كلام سادة بني هاشم الذين هم عصبة الرسول عليه السلام ، وأولى الخلق بمد أولاده به ، والمشاركون له في شرف منصبه ، وكرم منتسبه ، سوى ما يخص بخلفائهم ، فإن ذلك يورد في باب يختص به ويفرد لذكره . وسنذكر عند ابتدائنا بكل فصل من فصول الكتاب ، ترجمة ما يحتوي عليه من الأبواب - بعون الله .