الجزء الأول - الباب الثالث غرر من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام وخطبه

الباب الثالث غرر من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام وخطبه

حكى عن ابن عباس أنه قال : عقمت النساء أن يأتين بمثل علي بن أبي طالب ؛ لعهدي به يوم صفين وعلى رأسه عمامةٌ بيضاء ، وهو يقف على شرذمةٍ من الناس يحثهم على القتال ، حتى انتهى إلى وأنا في كنفٍ من الناس ، وفي أغيلمة من بني عبد المطلب ؛ فقال : يا معشر المسلمين تجلببوا السكينة ، وأكبروا اللأمة ، وأقلقوا السيوف في الأغماد ، وكافحوا بالظبا ، وصلوا السيوف بالخطا ، فإنكم بعين الله ، ومع ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وعاودوا الكر ، واستحيوا من الفر ؛ فإنه عارٌ في الأعقاب ، ونارٌ يوم الحساب ، وطيبوا عن الحياة نفساً ، وسيروا إلى الموت سيراً سجحا ؛ ودونكم هذا الرواق الأعظم ، فاضربوا ثبجه ؛ فإن الشيطان راكبٌ صعيديه . قد مد للوثبة رجلاً ، وأخر للنكوص أخرى ، فصمداً صمداً حتى يبلغ الكتاب أجله . " والله معكم ولن يتركم أعمالكم " . ثم صدر عني وهو يقول : " قتلوهم بعذابهم الله بأيديكم ويخرهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين " .

ومن كلامه عليه السلام : أيها الناس : إن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر عن عذاب الله . ومنه : كم بين عمل قد ذهب تعبه ، وبقي أجره ، وبين عملٍ قد ذهبت لذته ، وبقيت تبعته . وسئل عن بني هاشم فقال : أطيب الناس أنفسا عند الموت وذكر مكارم الأخلاق . وعن بني أمية فقال : أشدنا حجزاً ، وأدركنا للأمور إذا طلبوا ، وعن بني المغيرة فقال : أولئك ريحانة قريش التي تشمها . وسئل عن بطن آخر كنى عنهم فقال : ومن بقى من قريش . وقال : " خصصنا بخمس : فصاحةٍ ، وصباحةٍ ، وسماحةٍٍٍٍ ، ونجة ، وحظوة عن النساء . وقال : " رأى الشيخ أحب إلينا من مشهد الغلام . وقال الجاحظ قال أبو عبيدة : أول خطبة خطبها علي عليه السلام : حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال : أما بعد . فلا يرعين مرعٍ إلا على نفسه ؛ شغل من الجنة ، والنار أمامه ، ساعٍ مجتهدٌ ، وطالبٌ يرجو ، ومقصرٌ في النار . ثلاثةٌ . واثنان : ملكٌ طار بجناحيه ، ونبي أخذ الله بيده ولا سادس . هلك من ادعى ، وردى من اقتحم ؛ فإن اليمين والشمال مضلةٌ ، والوسطى الجادة . منهجٌ عليه باقي الكتاب والسنة وآثار النبوة . إن الله داوى هذه الأمة بدوائين : السوط والسيف ، لا هوادة عند الإمام فيهما . استتروا ببيوتكم، واصطلحوا فيما ينكم ، والتوبة من ورائكم . من أبدى صفحته للحق هلك . قد كانت أمور لم تكونوا فيها عندي محمودين . أما إني لو أشاء لقلت عفا الله عما سلف . سبق الرجلان ونام الثالث ؛ كالغراب همته بطنه . ويحه لو قص جناحه وقطع رأسه لكان هيرا له . انظروا فإن أنكرتم فأنكروا وإن عرفتم فأقروا ؛ حق وباطلٌ ، ولكل أهل ولئن أمر الباطل لقديماً فعل . ولئن قل الحق لربما ولعل ولقلما أدبر شيء فأقبل ولئن رجعت عليكم أموركم إنكم لسعداء ؛ وإني لأخشى أن تكونوا في فترةٍ . وما علينا إلا الاجتهاد . قال أبو عبيدة : وروى فيها جعفر بن محمد عليه السلام : ألا إن أبرار عترتي وأطايب أرومتي أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً . ألا وإنا من أهل بيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، ومن قول صادق سمعنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، وإن لم تفعلوا بهلككم الله بأيدينا . معنا راية الحق . من تبعها لحق ، ومن تأخر عنا غرق . ألا وبنا تدرك ترة كل مؤمن ، وبنا تخلع ربقة الذل من أعناقكم ، وبنا فتح لابكم ، وبنا يختم لا بكم . وخطبة أخرى له : أيها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم . كلامكم يوهى الصم الصلاب . وفعلكم يطمع فيكم عدوكم . تقولون في المجالس كيت وكيت ، فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد . ما عزت دعوة من دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم ، أعاليل بأضاليل . وسألتموني التأخير دفاع ذي الدين المطول ، لا يمنع الضيم الذليل ، ولا يدرك الحق إلا بالجد ، أي دارٍ بعد داركم تمنعون أم مع أي إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور والله من غررتمو ، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ، أصبحت والله لا أصدق قولكم ، ولا أطمع في نصركم . فرق الله بيني وبينكم وأعقبني من هو خيرٌ لي منكم . والله لو وددت أن لي بكل عشرةٍ منكم رجلا من بني فراس بن غنمٍ ، صرف الدينار بالدرهم . وذمٌ رجل الدنيا عنده ، فقال : الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار نجاة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها . مهبط وحي الله ، ومصلي ملائكته ، ومسجد أنبيائه ، ومتجر أوليائه ، ربحوا فيها الرحمة ، واكتسبوا فيها الجنة . فمن ذا يذمها ؟ وقد آذنت ببينها ، ونادت بفراقها ، وشبهت بسرورها السرور وببلائها البلاء ترغيباً وترهيباً . فبأيها الذام للدنيا المعلل نفسه ، متى خدعتك الدنيا ، أم متى استذمت إليك . أبمصارع آبائك في البلى أم بمضاجع أمهاتك في الثرى ، كم مرضت بيديك ، وعللت بكفيك ، تطلب له الشفاء ، وتستوصف له الأطباء ، غداة لا يغنى عنه دواؤك ، ولا ينفعه بكاؤك . ودعاه رجلٌ إلى طعام فقال عليه السلام : نأتيك على ألا تتكلف لنا ما ليس عندك ، ولا تدخر مما عندك . وقام إليه الحارث بن حوط الليثي وهو على المنبر فقال : أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على ضلال ؟ فقال : يا حار ؛ إنك ملبوسٌ عليك ؛ إن الحق لا يعرف بالرجال ، فاعرف الحق تعرف أهله . وكان عليه السلام يقول في دعائه : اللهم إن ذنوبي لا تضرك ، وإن رحمتك إياي لا تنقصك فاغفر لي ما لا يضرك ، وأعطني ما لا ينقصك . وقيل له : كم بين السماء والأرض ؟ فقال: دوةٌ مستجابةٌ وقيل له : كم بين المشرق والمغرب ؟ فقال : مسيرة يومٍ للشمس من قال غير هذا فقد كذب . وسئل عن عثمان ، فقال : خذله أهل بدر . وقتله أهل مضر ، غير أن من نصره لا يتسطيع أن يقول خذله من أنا خير منه . ووالله ما أمرت به ولا نهيت عنه ، ولو أمرت به لكنت قائلاً ، ولو نهيت عنه لكنت ناصراً . استأثر عثمان فأساء الأثرة ، وجزعتم فأفحشتم الجزع . وسأله الحسين عليه السلام عن النذالة ، فقال : الجرأة على الصديق ، والنكول عن العدو . وذكرت عنده عليه السلام الخلافة ، فقال : لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محل منها القطب ، ينحدر عني النسيل ولا تترقى إلى الطير . فصبرت وفي الحلق شجاً ، وفي العين قذى ، لما رأيت تراي نهباً . فلما مضى لسبيله صيرها إلى أخي عدي ، فصيرها إلى ناحيةٍ خشناء تسنع مسها ، ويعظم كلامها ، فمنى الناس بتلوم وتلون ، وزللٍ واعتذار ، فلما مضى لسبيله صيرها إلى ستة زعم أني أحدهم . فيالله وللشورى متى اعترض في الريب فأقرن بهذه النظائر ؟ فمال رجلٌ لضغنه ، وصغا آخر لصهره . وقام ثالث القوم نافجا خصييه بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يهضمون مال الله هضم الإبل نبات الربيع ، فلما أجهز عليه عمله ، ومضى لسبيله ما راعني إلا والناس إلى سراعاً كعنق الضبع ، وانثالوا على من كل فج عميق ، حتى وطيء الحسنان ، وانشق عطفاي؛ فلما نهضت بالأمر مرقت طائفىٌ ، ونكثت أخرى ، وفسق آخرون ، كأن لهم يسمعون الله يقول : " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علو في الآرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " . بلى والله قد سمعوه ، ولكن احلولت الدنيا في عيونهم ، وراعهم زبرجها . أما والله لولا حضور الناصر ، ولزوم الطاعة ، وما أخذ الله على العباد ألا يقروا كظة ظالمٍ ، ولا شغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيت دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز . شتان ما نومي على كورها . . . ونوم حيان أخي جابر فقام رجل من القوم فناوله كتابا شغل به ، فقال ابن عباس : فقمت إليه ، وقلت له : يا أمير المؤمنين ؛ لو أبلغت مقالتك من حيث قطعت . قال : هيهات إنها كانت شقشقةً هدرت فقرت . وقال : إن الله عز وجل فرض في أموال الأغنياء أوقات الفقراء ، فما جاع فقيرٌ إلا بما منع غني . وعلى الله أن يسألهم عن ذلك . وكان عليه السلام يقول : عليكم بالصبر : ، فإن به يأخذ الحازم وإليه يئول الجازع . وقال : لا خير في صحبة من إذا حدثك كذبك ، وإذا حدثته كذبك . وإن ائتمنته خانك ، وإن ائتمنك اتهمك ، وإن أنعمت عليه كفرك ، وإن أنعم عليك منّ عليك .

ومن كلامه عليه السلام : أعجب ما في هذا الإنسان قلبه ، وله مواد من الحكمة وأضدادٌ من خلافها ، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرس ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن هاج به الغضب استبد به الغيظ ، وإن أسعده الرضا نسى التحفظ ، وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن استع له الأمن استلبته الغرة ، وإن عادت له نعمةٌ أخذته العزة ، وإن امتحن بمصيبةٍ فضحه الجزع ، وإن أفاد ما لا أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقةٌ أضرعه البلاء ، وإن أجهده الجزع أقعده الضعف ، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة ؛ فكل تقصيرٍ ، وكل إفراطٍ له مفسد . وقال عليه السلام : يأتي على الناس زمانٌ لا يقرب فيه إلا الماحل ، ولا يظرف فيه إلا الفاجر ، ولا يعف فيه إلا المنصف . يتخذون الفيء مغنماً ، والصدقة مغرماً ، وصلة الرحم منا ، والعبادة استطالةً على الناس ؛ فعند ذلك يكون سلطان النساءئئن ومشاورة الإماء ، وإمارة الصبيان . وقال : عليكم بأوساط الأمورن فإنه إليها يرجع الغالي ، وبها يلحق التالي . وخطب فقال : اتقوا الله الذي إن قلتم سمع ، وإن أضمرتم علم ، واحذروا الموت الذي إن أقمتم أخذكم ، وإن هربتم أدرككم . فقال ابن عباس : والله لكأن هذا الكلام ينزل من السماء . وقال له رجل : عظني ، فقال: لا تكن ممن يرجو الجنة من غير عملٍ ، ويؤخر التوبة لطول الأمل ، ويقول في الدنيا بقول الزاهدين ، ويعمل فيها بعمل الراغبين ، إن أعطى منها لم يشبع ، وإن منع منها لم يقنع . يعجز عن شكر ما أوتى ، ويبتغي الزيادة على ما أولى ولا ينتهي . يقول : لا أعمل فأتعنى ؛ بل أجلس فأتمنى ؛ فهو يتمنى المغفرة ، ويدب للمعصية . وقد عمر ما يتذكر فيه من تذكر . وإلى الله المصير .

وقال في وصية : لا يكبر عليك ظلم من ظلمك ؛ فإنما يسعى في مضرته ومنفعتك . وليس جزاء من سرك أن تسوءه. وقال له رجل : أوصني . فقال : لا تحدث نفسك بالفقر وطول العمر . وقال : الأمل على الظن آفة العمل على اليقين . وقال : ما مزح أحدٌ مزحةً إلا مج من عقله مجة . وخطب فقال : أيها الناس ، كان فيكم أمانان من عذاب الله ، قال الله عز وجل : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " . وقد قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبقي الاستغفار ؛ فتمسكوا به . وقال : أين من سعى واجتهد ، وأعد واحتشد ، وجمع وعدد ، وبنى وشيد ، وزخرف ونجد ، وفرش ومهد " . قال جعفر بن يحيى - وقد ذكر هذا الكلام - هكذا تكون البلاغة ، أن يقرن بكل كلمة أختها ، فتلوح الأولى بالثانية قبل ظلوعها ، وتؤكد الثانية الأولى قبل انفصالها ، وتزيد كل واحدة في نور الأخرى وضيائها . ومر في منصرفه من صفين بمقابر ، فقال : السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة ، والمحال المقفرة ، من المؤمنين والمؤمنات . يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين منا ، أنتم لنا سلفٌ فارطٌ . ونحن لكم تبعٌ ؛ وإنا بكم عما قليلٍ لاحقون . اللهم اغفر لنا ولهم ، وتجاوز عنا وعنهم . الحمد لله الذي منها خلقنا ، وعليها ممشانا ، وفيها معاشنا . طوبى لمن ذكر المعاد ، وأعد للحساب ، وقنع بالكفاف . ومن كلامه عليه السلام : التجارب لا تنقضي ، والعاقل منها في زيادةٍ . وقال من رضى عن نفسه كثر سخط الناس عليه .

وأخبر عليه السلام بقول الأنصار يوم السقيفة لقريش : منا اميرٌ ومنكم أميرٌ . فقال : أذكرتموهم قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) : " استوصوا بالأنصار خيرا ، اقبلوا من محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم " ؟ قالوا : وما في ذلك ؟ قال : كيف تكون الإمامة لهم مع الوصية بهم ؟ لو كانت الإمامة لهم لكانت الوصية إليهم . فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال : ذهبت والله عنا ، ولو ذكرناها ما احتجنا إلى غيرها . وقال عليه السلام : كن في الناس وسطاً ، وامش جانبا . وقال : أفضل العبادة الصمت وانتظار الفرج . وقال : أوصيكم بأربعٍ لو ضربتم إليها أباط افبل لكن لها أهلاً : لا يجون أحدكم إلا ربه ، ولا يخافن إلا ذنبه ، ولا يستحين أحدٌ إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم ، ولا يستحين أحدٌ إذا لم يعلم شيئاً أن يتعلمه . وقال : جمال الرجل في كمته ، وجمال المرأة في خفها . وقال : خذ الحكمة أنى أتتك ، فإن الحكمة تكون في صدر المنافق فتتلجلج في صدره ، حتى تخرج فتسكن مع صواحبها . وقال : كل الدنيا علىالعاقل ، والأحمق خفيف الظهر . وقال مصعب الزبيري : كان علي بن أبي طالب حذراً في الحروب ، شديد الروغان من قرنه ، لا يكاد أحدٌ يتمكن منع ؛ وكانت درعه صدراً لا ظهر لها . فقيل له : ألا تخاف أن تؤتى من قبل ظهرك ؟ فقال : إذا أمكنت عدوي من ظهري فلا أبقى الله عليه إن أبقى علي . وسمع حرورياً يقرأ بصوت حزين في الليل ، فقال : نومٌ على يقينٍ خيرٌ من صلاةٍ في شك . وقال له يودي : ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم . فقال : إنما اختلفنا عنه لا فيه ؛ ولكن ما إن جفت أرجلكم من البحر حتى قلتم : " اجعل لنا إلهاً كما ءالهةٌ قال إنكم قومٌ تجهلون " .

وقال عليه السلام : لله امرؤ راقب ربه ، وخاف ذنبه ، وعمل صالحاً ، وقدم خالصا . احتسب مذخوراً واجتنب محذوراً ، رمى غرضاً ، وأخر عوضاً . كابر هواه ، وكذب مناه . ودخل عليه كعب بن مالك الأنصاري ، فقال : يا أمير المؤمنين بلغك عنا أمرٌ لو كان غيرك لم يحتمله ، ولو كان غيرنا لم يقم معك عليه . ما في الناس من هو أعلم منك ، وفي الناس من نحن أعلم منه . وأوضع العلم ما وقف عليه اللسان ، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان . ونحن أعرف بقدر عثمان من قاتليه ، وأنت أعلم بهم وبخاذليه . فإن قلت إنه قتل ظالماً قلنا بقولك ، وإن قلت إنه قتل ظالماً قلنا بقولك ، وإن قلت إنه قتل مظلوماً قلت بقولنا ، وإن وكلتنا إلى الشبهة أيأستنا بعدك من إصابة البنة . فقال عليه السلام : عندي في عثمان أربعٌ : استأثر فأساء الأثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، ولله عز وجل حكم عادلٌ في المستأثر والجازع . قال ابن عباس : ما انتفعت بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانتفاعي بكلام علي عليه السلام . كتب إلي : أما بعد ؛ فإن المرء يشره درك ما لم يكن يفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بما أدركت من الآخرة ، وليكن أسفك على ما فاتك منها ، وما أتاك من الدنيا فلا تكن به فرحاً ، وما فاتك فلا تكن عليه جزعا ، وليكن همك لما بعد الموت والسلام . وقال : لسان الإنسان يخطر على جوارحه . وقيل له : ألا تخضب - وقد خضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه . فقال : أنا أعلم بشجر أرضي . كان ذلك والإسلام قل . فأما إذا اتسع نطاق الإسلام فامرؤ وما اختار .

وقال في خطبته بصفين : قدموا الدراع . وأخروا الحاسر ، وأميتوا الأصوات والتووا في أطراف الأسنة ، واردعوا العجاج . وقيل له : كيف الرزق والأجل ؟ فقال : إن لك عند الله رزقاً ، وله عندك أجلاً ، فإذا وفاك مالك عنده أخذ ماله عندك . ونزل به رجل ، فمكث عنده أياما ، ثم تغوث إليه في خصومة ، فقال علي : أخصم أنت ؟ نعم . قال : تحول عنا . فإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نهى أن يضاف الخصم إلا ومعه خصمه . وقال عليه السلام : ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن يعظم حلمك ويكثر علمك . وقال : أشد خلق ربك عشرة أشياء ، فأشدها الجبال فإن الحديد ينحت الجبال ، والنار تأكل الحديد ، والماء يطفئ النار ، والسحاب يحمل الماء ، والريح يفرق السحاب ، والرجل يتقي من الريح بيده فيبلغ حاجته ، والسكر يغلب الإنسان والنوم يذهب بالسكر ، والهم يمنع النوم ، فأشد خلق ربك الهم . وقال : إن الله أعان الكذابين بالنسيان . وقال عليه السلام : المدة قصيرةٌ وإن طالت ، والماضي للمقيم عبرةٌ ، والميت للحي عظة ، وليس لأمس إذا مضى عودة ، ولا المرء من غده على ثقة ، والأول للأوسط جابذٌ ، والأوسط للآخر آخذ ، وكل لكل مفارقٌ ، وكل بكل لاحقٌ ، واليوم الهائل لكل آزفٌ ، وهو اليوم الذي لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ . اصبروا على عملٍ لا غنى بكم عن ثوابه ، واصبروا عن عملٍ لا صبر لكم على عقابه ، إن الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله . اعلموا أنكم في نفسي معدود ، وأجلٍ محدود ، ولا بد للأجل أن يتناهى ، وللنفس أن يحصى ، وللسبب أن يطوى : " وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون " . وكان إذا نظر إلى الهلال قال : اللهم اجعلنا أهدى من نظر إليه ، وأزكى من طلع عليه .

وقال له الحسن عليه السلام : أما ترى حب الناس للدنيا ؟ قال : هم أولادها . أفيلام المرء على حب والدته ؟ وقال في القرآن : خير من قبلكم ونبأ من بعدكم وحكم ما بينكم وكان من دعائه : اللهم لا تجعل الدنيا لي سجناً ، ولا فراقها علي حزناً . أعوذ بك من دنيا تحرمني الآخرة ، ومن أملٍ يحرمني العملن ومن حياة تحرمني خير الممات . وقال : الكريم لا يلين على قسرٍ ، ولا يقسو على يسرٍ وقال : الدهر يومان ؛ يوم لك ويم عليك ؛ فإذا كان لك فلا تبطر ، وإذا كان عليك فاصبر ، فبكليهما أنت مختبرٌ . وقال له رجل : متى أضرب حماري ؟ قال : إذا لم يذهب في حاجتك كما ينصرف إلى البيت . وقال عليه السلام : النكبات لها غاياتٌ لا بد أن تنتهي إليها . فيجب للعاقل أن ينام لها إلى وقت إدبارها . فالمكابرة لها بالحيلة زيادةٌ فيها . وقال : تعطروا بالاستغفار لا تفضحكم روائح الذنوب . ومن كلامه الموجز عليه السلام : قيمة كل امرئ ما يحسن . إعادة الاعتذار تذكيرٌ بالذنب . النصح بين الملإ تقريعٌ . إذا تم العقل نقص الكلام . الشفيع جناح الطالب . من كتم علماً فكأنه جهله . أهل الدنيا كصورٍ في صحيفة كلما نشر بعضها طوى بعضها . المسئول حر حتى يعد إذا طرت فقع قريباً لا يرضى عنك الحاسد حتى يموت أحدكما . أكبر الأعداء أخفاهم مكيدةً . السامع للغيبة أحد المغتابين . الصبر على المصيبة مصيبةٌ على الشامت بها . أتستبطئ الدعاء بالإجابة وقد سددت طريقه بالذنوب ؟ عبد الشهوة أذل من عبد الرق . لا أدري أيهما أمر ، موت الغني أو حياة الفقير . العلم لا ينقطع ولا ينفذ كالنار لا ينقصها ما يؤخذ منها . من كثر حقده قل عتابه . كفى بالظفر شفيعاً للمذنب. الساعي ظالمٌ لمن سعى به ، خائنٌ لمن سعى إليه . التواضع سلم الشرف . التجارب عقلٌ مكتسبٌ .

إياك والكسل والضجر ؛ فإنك إن كسلت لم تؤد حقاً ، وإن ضجرت لم تصبر على حق لا ترج إلا ربك ، ولا تخش إلا ذنبك ، وكن بما في يد الله أوثق منك بما في يدك . كفى بالمرء شراً أن يعرف من نفسه فساداً فيقم عليه ، وكفى به أدباً أن يترك أمرا يكرهه من غيره . من ساس نفسه بالصبر على جهل الناس صلح أن يكون سائساً العقل يأمرك بالأنفع ، والمروءة تأمرك بالأجمل . ما ضاع امرؤ عرف قدر نفسه . الفقر يخرس الفطن عن حجته . الأدب حللٌ جددٌ . التثبت حزمٌ . الفكر مرآة صافيةٌ . الاعتبار منذرٌ ناصحٌ . البشاشة فخ المودة . تنقاد الأمور في المقادير ، حتى يكون الحتف في التدبير . القلب إذا أكره عمى . من لانت كلمته وجبت محبته . لا راحة لحسود ، ولا وفاء لملول ، ولا مروءة لكذوبٍ . الدنيا كلها يد إلا ما سد جوعةً ، وستر عورةً ، وهو الذي استثنى عز وجل لآدم حيث قال : " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى " . الدنيا والآخرى كالمشرق والمغرب ، كلّما قربت من أحد بعدت من الآخر . ومن أمثاله عليه السلام : خسر مروءته من ضيّع يقينه ، وأزرى بنفسه من استشعر الطّمع ، ورضى بالذلّ من كشف ضرّه ، وهانت عليه نفسه من أمّر عليها لسانه . ولما فرغ - رضى اللّه عنه - من حرب الخوارج مرّ بإيوان كسرى، فقال : " أتبنون بكلّ ريع ءاية تعبثون وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين " ، فقال رجل كان معه : دار تخيره لطيب مقيلها . . . كعب بن مامة وابن أم إياد جرت الرّياح على رسوم ديارهم . . . فكأنّما كانوا على ميعاد فقال عليه السلام : ألا قلت كما قال اللّه عز وجل : " كم تركوا من جنّت وعيون وزروع ومقامكريم ونعمة كانوا فيها فكهين كذلك وأورثنها قوماً آخرين " .

ثم قال : إن هؤلاء كانوا وارثين فصاروا مورثين ، ولم يكونوا شاكرين ، فأصبحوا مسلوبين ، ولم يكونوا حامدين ، فأصبحوا محرومين ، وكفروا النعم فحلّت بهم النقم . وكتب إلى عامل له : أما بعد ، فاعمل بالحقّ ليوم لا يقضى فيه إلا بالحق والسلام . وقال عليه السلام : ربّ حياة سببها التّعرض للموت ، وربّ ميتة سببها طلب الحياة . وقال عليه السلام : إياكم ومحّقرات الذنوب ، فإن الصغير منها يدعو إلى الكبير . أتى عليه السلام - بفالوذج ، فقال لأصحابه : كلوا فوالله ما اضطرب الغاران إلا عليه . وقال : لا يكون الرجل سيد قومه ، حتى لا يبالي أي ثوبيه لبس . وقال له ابن دودان الأسدي : كيف دفعتهم يا أمير المؤمنين عن هذا الموضع وأنتم الأعلون نسباً ، الأكرمون حسباً ، الأتمون شرفاً ، نوطاً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقاربةً به ؟ فقال له : يا ابن دودان . إنك لقلق الوضين ، ترسل عن غير ذي مسدٍ ، ولك مع ذلك حق القرابة وذمام الصهر . وقد استعلمت فاعلم ، كانت أمورٌ شحت عليها نفوس قومٍ وسخت بها نفوس آخرين ، ونعم الحكم العدل ، وفي الساعة ما يؤفكون . " لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون " . ودع عنك نهيا صيح في حجراته وهلم إلى الخطب الجليل ، إلى ابن أبي سفيان ، فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه ، ولا غرو ، يئس القوم من هيبتي ، وجدحوا بيني وبينهم شرباً وبيئاً ؛ فإن تك للإيام عاقبةٌ أحملهم من الأمر على محضه ، وإن تكن الأخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ ، ولا تأس على القوم الفاسقين . وقال : الفقيه كل الفقيه من لم يرخص في معصية الله ، ولم يوئس من رحمة الله . وأخذ قوما في سرقٍ فأمر بحبسهم ، فجاء رجلٌ آخر ، فقال : يا أميرالمؤمنين ؛ إني كنت معهم ، وقد تبت ، فأمر بأخذه وقال متمثلا : ومدخلٍ رأسه لم يدعه أحدٌ . . . بين الفريقين حتى لزه القرن . وقال : الحاسد مغتاظٌ على من لا ذنب له . وقال : من ترفع بعلمه وضعه الله بعمله . وقال: من لم يحسن ظنه بالظفر لم يجد في الطلب . وقال علي السلام : إن أخيب الناس سعياً ، اخسرهم صفقةً رجلٌ أتعب بدنه في آماله ، وشغل بها عن معاده ، فلم تساعده المقادير على إرادته ، وخرج من الدنيا بحسرته ، وقدم بغير زادٍ على آخرته . وقال : إن أخوف ما أخاف عليكم إذا تفقه لغير الدين ؛ وتعلم لغير العمل ، وطلبت الدنيا بعمل الآخرة . وروى الشعبي عنه أنه قال : تجنبوا الأماني ؛ فإنها تذهب بهجة ما خولتم ، وتصفر مواهب الله عندكم ، وتعقبكم الحسرات على ما أوهمتكم أنفسكم . وقال : الهيبة مقرونة بالخيبة ، والحياء مقرونٌ بالحرمان ، والفرصة تمر مر السحاب .

وسمع رجلا يغتاب آخر عند ابنه الحسن عليه السلام ، فقال : يا بني نزه سمعك عنه ؛ فإنه نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك . وقال : أول عوض الحليم عن حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل . وقال : لا تؤاخ الجاهلن فإنه يزين لك فعله ، ويحب لو أنك مثله ، ويحسن لك أسوأ خصاله ، ومخرجه من عندك ومدخله عليك شينٌ وعارٌ ؛ ولا الأحمق ، فإنه يجهد لك نفسه ولا ينفعك ، ولربما أراد أن ينفعك فضرك ، فسكوته خيرٌ من نطقه ، وبعده خيرٌ من قربه ، وموته خيرٌ من حياته ؛ ولا الكذاب ؛ فإنه لا ينفعك معه عيشٌ ، ينقل حديثك وينقل الحديث إليك ، حتى إنه ليحدث بالصدق ولا يصدق . لما كان يوم الجمل طاف علي عليه السلام على القتلى فبصر بعبد الله ابن حكيم بن حزام وليس لأبي غيره ، وبصر بأبي سفيان بن حويطب ابن عبد العزى وليس لأبيه غيره يومئذ ، فقال : لقد اجتمعت على قريش ، حتى هذان اللذان لم يبق من أجل كل واحد منهما إلا ظمء الدابة ، ثم أرسل إلى كل واحد منهما ودمعت عيناه ، ثم قال أهون علي بشكل الشيخين وروى عنه عليه السلام ي قوله تعالى : " فاصفح الصفح الجميل " . قال : صفحٌ بلا عتابٍ . ومرّ بدارٍ في مراد تبنى ، فوقعت شظية منها على صلعته فأدمته ، فقال : ما يومي من مراد بواجد . فقال رجل : لقد رأيت تلك الدار بين الدور كالشاة الجمّاء بين العنم ذوات القرون . ورأى عليه السلام رجلا معه ابنة فقال : من هذا معك ؟ فقال : اابني - قال : أتحبه ؟ قال : إي واله حبا شديدا . فقال : لا تفعل فإنه إن عاش كدك . وإن مات هدك . وذكروا أنه مر بقوم من الأنصار ، فسلم عليهم ووقف ؛ فقالوا : ألا تنزل يا أمير المؤمنين ، فنطعمك الخريزة . فقال رضي الله عنه : إما حلفتم علينا أو انصرفنا .

وقال القناعة سيفٌ لا ينبو ، والصبر مطيةٌ لا تكبو ، وأفضل عدةٍ الصبر على شدةٍ . وقيل له : كيف صرت تقتل الأبطال ؟ قال : لأني كنت ألقى الرجل فأقدر أني أقتله ، ويقدر أني أقتله ، فأكون أنا ونفسه عونين عليه . وقال عليه السلام : من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف ، والتنفيس عن المكروب . وخرج عليه السلام إلى الكوفة فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد يا أهل العراق ، فغنما أنتم كأم مجالد ، حملت فلما أتمت أملصت ومات قيمها ، وطال تأيمها ، وورثها أبعدها ، والله ما أتيتكم اختياراً مني ، ولكن سقت إليكم سوقاً ؛ وإن وراءكم عشرةٌ يهلك دينكم بينهم ودنياكم ، ليس الآخر بأرأف بكم من الأول ؛ حتى يستخرجوا كنوزكم من حجالكم . والله لقد بلغني أنكم تقولون: يكذب ، فعلى من أكذب ؟ أعلى الله أكذب وأنا أول من آمن به ؟ أم على نبيه وأنا أول من صدقه . كلا والله، ولكنها لهجة غبتم عنها ويل أمة كيلاً بلا ثمن لو كان له وعاءٌ " ولتعلمن نبأه بعد حينٍ " . قال بعضهم : رأيته عليه السلام بالكوفة اشترى تمراً فحمله في طرف ردائه ، فبادره الناس وقالوا : يا أمير المؤمنين ، نحمل عنك . فقال : رب العيال أحق بحمل متاعه . وقال : لن يهلك امرؤ عرف قدره . وقال : نعم المؤازرة ، وبئس الاستعداد الاستبداد. وقال للأشعث بن قيس : " أد وإلا ضربتك بالسيف ، فأدى ما كان عليه ، فقال له : ما كان عليك لو كنا ضربناك بعرض السيف . فقال : إنك ممن إذا قال فعل . وقال عليه السلام : " عليكم بالأبكار فإنهن أطيب أفواهاً ، وأنتق أرحاماً ، وأشد حباً ، وأقل خباً " . ومن كلامه عليه السلام : توق ما تعيب ؛ لا ات ما تعيب ، ولا تعب ما تأتي . إنما يستحق السيادة من لا يصانع ولا يخادع ولا تغره المطامع . وقال يوما : ما أحسنت إلى أحد قط ، فرفع الناس رءوسهم تعجباً ، فقرأ : " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها " . وقال : إذا قدرت على عدوك ، فاجعل العفو شكر قدرتك . مرض عليه السلام ، فقالوا : كيف نجدك ؟ فقال : بشر . فقالوا : أتقول ذلك ؟ قال : نعم ، إن الله يقول: " ونبلوكم بالشر والخير فتنةً " ؛ فالخير الصحة ، والشر المرض . وقال : من تجر بغير فقهٍ فقد ارتطم في الربا . وقال : الحلف ينفق السلعة ويمحق البركة ، والتاجر فاجرٌ إلا من أخذ الحق وأعطاه . وقال : أنكأ الأشياء لعدوك ألا تعلمه أنك اتخذته عدوا . وقال : لله در الحسد ما أعدله يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود . وقال : لا يلقح الغلام ، حتى يتفلك ثدياه ، وتسطع إبطاه . وروى أنه ملك أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا ؛ وبآخر نهاراً ، وبدرهم سرا ؛ وبآخر علانية ؛ فأنزل الله تعالى فيه : " الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم " .

وقال : شر الإخوان من يحتشم ويتكلف . وقيل له : أنت محربٌ مطلوبٌ ، فلو اتخذت طرفاً . قال : أنا لا أفر عمن كر ولا أكر على من فر ؛ فالغلة تكفيني . وقيل له في بعض حروبه : إن جالت فأين نطلبك ؟ قال : حيث تركتموني. ومن كلامه عليه السلام : الكفاف خيرٌ من الإسراف . ما أدرك النمام ثاراً ولا محا عاراً . الخيرة في ترك الطيرة . الاهتمام بالأمر يثير لطيف الحيلة . الرد الجميل خيرٌ من المطل الطويل . شفيع المذنب إقراره ، وتوبته اعتذاره . المنية ولا الدنية . الحيلة أبلغ من الوسيلة . لسان المرء من خدم عقله . أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس . كفى من أمر الدين أن تعرف ما لا يسع جهله . ليس النجاح مع الأخف الأعجل . الهوى عدو العقل . وقال له رجل وهو يخطب : يا أمير المؤمنين ؛ صف لنا الدنيا . فقال : ما أصف من دار أولها عناء ، وآخرها فناء ، في حلالها حسابٌ ، وفي حرامها عقابٌ ، من صح فيها أمن ، ومن مرض فيها ندم ، ومن استغنى فيها فتن ، ومن افتقر حزن . وقال : لا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ؛ فإنه إن يكن من أجلك يأت فيه رزقك واعلم أنك لاتكتسب من المال شئاً فوق قوتك إلا كنت فيه خازناً لغيرك . وقال : من سره الغنى بلا مالٍ ، والعز بلا سلطانٍ ، والكثرة بلا عشيرة ، فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله ؛ فإنه واجدٌ ذلك كله . وقال : ثلاثٌ لا يعرفون إلا في ثلاثة مواشع ؛ لا يعرف الشجاع إلا في الحرب ، ولا الحليم إلا عند الغضب ، ولا الصديق إلا عند الحاجة .

وتمثل عليه السلام في طلحة بن عبيد الله : فتى كان يدنيه الغنى من صديقه . . . إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر ولما انقضى يوم الجمل خرج في ليلة ذلك اليوم ، ومعه قنبر ومعه شعلة نارٍ يتصفح وجوه القتلى ، حتى وقف عليه ، فقال : أعزز على أبا محمد أن أراك معفراً تحت نجوم السماء ؛ وفي بطون الأودية شفيت نفسي وقتلت معشري . إلى الله أشكو عجري وبجري . وقال : العجب لمن يهلك والنجاة معه . فقيل : ما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال : الاستغفار . وقال : الدنيا دار ممر لا دار مقر ، والناس فيها رجلان ؛ رجلٌ باع نفسه فأوثقها ، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها . وقال : مكابرة النكبات بالحيلة قبل انتهائها زيادةٌ فيها . وقال لرجل : كيف أنت ؟ قال : أرجو الله وأخافه . فقال : من رجا شيئاً طلبه ، ومن خاف شيئاً توقاه . وقال : قصم ظهري رجلان : جاهلٌ متنسك ، وعالمٌ متهتك . وسمع حالفاً يقول : والذي احتجب بسبع ، فقال : ويلك . إن الله لا يحجبه شيءٌ ، فقال : هل أكفر عن يميني ؟ فقال : لا ، لأنك حلفت بغير الله . وقال : من وضع معروفاً في غير موضعه عاد عليه وبالاً . وروى عن المسيب بن نجبة الفزاري قال : خطبنا علي عليه السلام ، فقال : ألا أخبركم بذات نفسي ؟ أما الحسن ففتى من الفتيان صاحب جفنةٍ وخوان . ولو قد التفت حلقتا البطان لم يعن عنكم في الحرب حبالة عصفورٍ .

وأما عبد الله بن جعفر فصاحب لهوٍ وظل باطلٍ . وأما أنا والحسين فنحن منكم وأنتم منا ، ولقد خشيت أن يدال هؤلاء القوم عليكم ، وليس ذاك : ألا أن تكونوا أولى بالحق منهم ، ولكن بطاعتهم إمامهم وعصيانكم إمامكم ، وإصلاحهم في أرضهم وإفسادكم في أرضكم ، واجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ، حتى لا يدعون بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخلوه ظلمهم ؛ حتى يقوم الباكيان ، باكٍ لدينه وباكٍ لدنياه ، وحتى لا تكون نصرة أحدكم منهم إلا كنصرة العبد من سيده ، إن شهده أطاعه ، وإن غاب عنه سبه ، فإن أتاكم الله بعافيةٍ فاقبلوها ، وإن ابتليتم فاصبروا ؛ فإن العاقبة للمتقين . ويروى عنه أنه قال : الحرص مقدمة السكون . وقال في قوله تعالى : " أكلون للسحت " هو الرجل يقضي لأخيه حاجته ثم يقبل هديته . قال الحارث الأعور : مما رأيت أحداً أحسن من علي عليه السلام ، أتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ؛ مات رجل وخلف ابنتين ، وأبوين ، وزوجة ، فقال : صار ثمنهما تسعا . هذه الفريضة من أربعة وعشرين سهما ، للبنتين الثلثان ، ستة عشر سهما ، وللأبوين السدسان ثمانية أسهم ، وكمل المال وعالت الفريضة واحتيج للمرأة إلى ثمن الأربعة والعشرين سهما ، وصار الثمن من أربعة وعشرين تسعا من سبعة وعشرين . هذا معنى قوله . وخطب فقال : أما بعد ؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله الذل ، وسم الخسف ، وديث بالصغار وقد دوتكم لحرب هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً ، وسراً وإعلاناً ، وقلت لكم : اغرزوهم من قبل أن يغزوكم ؛ فو اللذي نفسي بيده ما غزى قومٌ قط في عقر دارهم إلا ذلوا ؛ فتخاذلتم وتواكلتم ، وثقل عليكم قولي ، واتخذتموه وراءكم ظهريا ؛ حتى شنت عليكم الغارات . هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار ، وقتلوا حسان بن حسان ورجالاً منهم كثيراً ونساء ، والذي نفسي بيده لقد بلغني أن كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة ، فينزع حجالهما ورعثهما ، ثم انصرفوا موفورين لم يكلم أحدٌ منهم كلما . فلو أن ارمءاً مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان فيه عندي ملوماً ؛ بل كان به جديراً . يا عجبا كل العجب من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم وفشلكم عن حقكم إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قر وسر ، وإن قلت لكم : اغزوهم في الصيف قلتم : هذه حمارة القيظ ، أنظرنا ينصرم الحر عنا ؛ فإذا كنتم من الحرّ والبرد تفرّون ، فأنتم واللّه من السيف أفرّ . يا أشباه الرجال ولا رجال ، ويا طغام الأحلام ، ويا عقول ربّات الحجال ، واللّه لقد أفسدتم علىّ رأيى بالعصيان ، ولقد ملأتم جوفى غيظا ، حتى قالت قريش : ابن أبى طالب رجل شجاع ، ولكن لا رأى له في الحرب . للّه درّهم ، ومن ذا يكون أ علم بها منّى أو أشدّ لها مراسا ؟ فواللّه لقد نهضت فيها وبلغت العشرين ، ولقد نيّفت اليوم على الستين . ولكن لا أرى لمن لاّ يطاع ، لا أرى لمن لاّ يطاع - يقولها ثلاثا . ومن كلامه رضى اللّه عنه : من لانت كلمته وجبت محبته . وقال له قائل : أين كان ربّنا قبل أن خلق السموات والأرض ؟ فقال رضى اللّه عنه : " أين " سؤال عن مكان وكان اللّه ولا مكان . وقال : من أكثر النظر في العواقب لم يتشجّع . وقال لابنه الحسن رضى اللّه عنه : لا تبدأ بدعاء إلى مبارزة ، وإن دعيت إليها فأجب ؛ فإن طالبها باغ والباغي مصروع . وقال : وما ابن آدم والفخر ، وإنّما أوّله نطفة ، وآخره جيفة ، لا يرزق نفسه ولا يدفع حتفه . جاء الأشعث بن قيس إلى أمير المؤمنين على عليه السلام يتخطّى رقاب الناس ، وعلىّ على المنبر ؛ فقال : يا أمير المؤمنين ، غلبتنا هذه الحمراء على قربك - يعني العجم - قال : فركض على المنبر برجله ، فقال صعصعة بن صوحان : ما لنا ولهذا ؟ - يعني الأشعث - ليقولن أمير المؤمنين اليوم في العرب قولاً لا يزال يذكر . فقال رضي الله عنه : من يعذرني من هؤلاء الضياطرة ؟ يتمرغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار ، ويهجر قومٌ الذكر فيأمرونني أن أطردهم . ما كنت أطردهم فأكون من الجاهلين ؛ والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ؛ ليضربنكم على الدين عوداً ، كما ضربتموهم عليه بدءاً . وسئل عليه السلام : كيف كان حبكم للرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقال : كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وأمهاتنا وآبائنا ، ومن الماء البارد على الظمأ . وكان عليه السلام يقول : إذا لقيتم القوم فاجمعوا القلوب ، وعضوا على النواجذ ؛ فإن ذلك نبي السيوف عن المهام . وروى أنه كان يتمثل إذا رأى عبد الرحمن بن ملجمٍ المرادي ببيت معد يكرب : أريد حياته ويريد قتلي . . . عذيرك من خليلك من مراد فقيل له عليه السلام : كانك قد عرفته وعرفت ما يريده . أفلا تقتله ؟ فقال : كيف أقتل قاتلي ؟ . ولما سمع بصفين نداءهم : لا حكم إلا لله ، قال : كلمة عادلةٌ يراد بها جورٌ . إنما يقولون : لا إمارة ، ولا بد من إمارةٍ برةٍ أو فاجرةٍ . وكان أبو نيزر من أولاد بعض ملوك الأعاجم . وقيل : إنه كان من ولد النجاشي ، فرغب في الإسلام صغيراً ؛ فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأسلم وكان معه . فلما توفي عليه السلام صار مع فاطمة وولدها رضي الله عنها ، فقال أبو نيزر : جاءني علي عليه السلام وأنا أقوم بالضيعتين: عين أب ينيزر والبغيبغة ، فقال لي : هل عندك من طعامٍ ؟ فقلت : طعامٌ لا أرضاه لك يا أمير المؤمنين ؛ قرعٌ من قرعٍ الضيعة صنعته بإهالة سنخة فقال : علي به ، فقام إلى الربيع : وهو جدول فغسل يده ، ثم أصاب من ذلك شيئاً ، ثم رجع إلى الربيع فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما ، ثم ضم يديه كل واحدة منهما إلى أختها وشرب بهما حساً من الربيع ، ثم قال : يا نيزر إن الأكف أنظف الآنية ، ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه وقال : من أدخله بطنه النار فأبعده الله ثم أخذ المعول وانحدر في العين وجعل يضرب ، فأبطأ عليه الماء ، فخرج وقد تفضج جبينه عرقا ، فانتكف العرق عن جبينه أي أزاله ، ثم أخذ المعول وعاد إلى العين ، ثم أقبل يضرب فيها وجعل يهمهم ، فانثالت كأنها عنق جزور ، فخرج مسرعاً ، فقال : أشهد الله أنها صدقة . على بداوة وصحيفة ، قال : فعجلت بهما إليه فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما تصدق به عبد الله أمير المؤمنين : تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ؛ ليقي الله عز وجل بهما وجهه يوم القيامة ، لا تباعان ولا توهبان حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين ، إلا أن يحتاج إليهما الحسن والحسين ، فهما طلقٌ لهما وليس لأحدٍ غيرهما . قال : فركب الحسين دين ، فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار ، فأبى أن يبيع ، وقال : إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار ، ولست بائعها بشيء . ولما ضربه عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله تعالى دعا الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وقال : أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة ، والزهد ف يالدنيا ، ولا تأسفا على شيء فاتكما منها ، اعملا الخير ، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً .

وقال في دعائه : إلهي ما قدر ذنوبٍ يقابل بها كرمك ؟ وما قدر أعمالٍ تقابل بها نعمك ؛ وإني لأجور أن تستغرق ذنوبي في كرمك ؛ كما استغرقت أعمالي في نعمك . وعنه - عليه السلام - أنه قال : يجد البليغ من ألم السكوت ما يجده العيي من ألم الكلام ، وكان إذا نعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : لم يكن بالطويل الممغط ، ولا القصير المتردد ، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم ، أبيض مشرب ، أدعج العينين ، أهدب الأشفار ، جليل المشاش شئن الكفين والقدمين ، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب ، وإذا التفت التفت معا ، ليس بالسبط ولا الجعد القطط ، كان أزهر ليس بالأبيض الأمهق في عينيه شكلة ، شبح الذراعين . وقال : بقية عمر المرء لا قيمة لها يدرك بها ما فاته ، ويحيى ما أماته . خطبته التي خطب بها حين زوج فاطمة رضي الله عنهما : الحمد لله الذي قرب من حامديه ، ودنا من سائليه ، ووعد بالجنة من يتقيه ، وقطع بالنار عذر من يعصيه ، أحمده بجميع محامده وأياديه ، وأشكره شكر من يعلم أنه خالقه وباريه ، ومصوره ومنشيه ، ومميته ومحييه ، ومعذبه ومنجيه ، ومثببه مجازيه . وأشهد أن لا إله إلا الله شهادةً تبلغه وترضيه ، وأن محمداً حبيب الله وعبده ورسوله ، صلى الله عليه صلاةً تزلفه وتدنيه ، وتعزه وتعليه، وتشرفه وتجتبيه .

أما بعد ؛ فإن اجتماعنا مما قدر الله ورضيه ، والنكاح مما أمر الله به ، وأذن فيه . هذا محمدٌ ( صلى الله عليه وسلم ) قد زوجني فاطمة ابنته على صداق أربعمائة درهم وثمانين درهماً ، ورضيت به ، فاسألوه ، وكفى بالله شهيداً . وقال: إن الله تعالى جعل مكارم الأخلاق وصلة بينه وبين خلقه ، فحسب أحدكم أن يتمسك بخلقٍ متصلٍ بالله عز وجل . قال الأحنف : دخلت على معاوية ، فقدم لي من الحار والبارد ، والحلو والحامض ما كثر تعجبي منه ، ثم قدم لي لوناً لم أدر ما هو ، فقلت : ما هذا ؟ قال : مصارين البط محشوة بالمخ قد قلى بدهن الفستق وذر عليه الطبرزد . فبكيت . فقال : ما يبكيك ؟ قلت : ذكرت عليا رضي الله عنه . بينا أنا عنده وحضر وقت إفطاره فسألني المقام ، إذ دعا بجراب مختوم ، قلت : ما في الجراب ؟ قال : سويق شعير ، قلت : ختمت عليه أن يؤخذ أو بخلت به ؟ قال : لا ولا أحدهما ، ولكني خفت أن يلته الحسن أو الحسين بسمنٍ أو زيتٍ . قلت : محرم هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا ولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس ؛ لئلا يطغي الفقير فقره ، فقال معاوية : ذكرت من لا ينكر فضله . وقال علي عليه السلام : لا يكون الصديق صديقاً ، حتى يحفظ صديقه في غيبته وعند نكبته وبعد وفاته في تركته . قيل له : كيف يحاسب الله الخلق على كثرة عددهم ؟ قال : كما يرزقهم على كثرة عددهم .

ولما خرج عليه السلام يريد العراق أشار عليه ابنه الحسن أن يرجع ، فقال : لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد . وقال : لئن وليت بني امية لأنفضنهم نفض القصاب الوذام التربة . ومر بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد مقتولا يوم الجمل ، فقال : هذا يعسوب قريش . وجائته امراة فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها ، فقال : إن كنت صادقةً رجمناه ، وإن كنت كاذبةً جلدناك ، قالت : ردوني إلى أهلي غيري نغرة . وقال عليه السلام : إن المرء المسلم ما لم يغش دناءةً يخشع لها إذا ذكرت وتغرى به الناس ، كالياسر الفالج ينتظر فوزةً من قداحه أو داعي الله ؛ فما عند الله خيرٌ للأبرار . وسافر رجلٌ مع أصحاب له فلم يرجع حين رجعوا ، فاتهمهم اهله به ، ورفعوهم إلى شريح ، فسألهم البينة على قتله ، فارتفعوا إلى علي عليه السلام ، فأخبروه بقول شريح ، فقال متمثلا : أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل . . . يا سعد لا تروي بهذاك الإبل ثم قال : " إن أهون السقي التشريع " ، ثم فرق بينهم ، وسألهم فاختلفوا ، ثم أقروا بقتله .

وقال : إذا صلى الرجل فليخو ، وإذا صلت المرأة فلتحتفز . وقال كرم الله وجهه : ما أعظم التفاوت بين العبر والاعتبار فالعبر قد بلغت في الكثرة الغاية ، والاعتبار قد بلغ في القلة النهاية . وقالوا : انصرف من صفين وكأنه رأسه ولحيته قطنة ، فقيل له : يا أمير المؤمنين لو غيرت ، فقال : إن الخضاب زينةٌ ، ونحن قومٌ محزونون . وروى أن الحسن قال له يوم الجمل : أشرت عليك ثلاث مراتٍ فعصيتني ، فقال عليه السلام ، إنك تحن حنين الجارية ، هات ما الذي أشرت به ؛ وما الذي عصيتك فيه ؟ فذكر أشياء ، فقال له علي عليه السلام : أنا والله إذا مثل التي أحيط بها فقيل لها : زباب حتى دخلت جحرها ، ثم احتفر عنها فاجتر برجلها حتى ذبحت . يريد : الضبع . وروى أنه اشترى قميصا بثلاثة دراهم ، وقال : الحمد لله الذي هذا من رياشه . وقال : لا قود إلا بالأسل . وقال : من أراد البقاء - ولا بقاء - فليباكر الغداء ، وليقلل غشيان النساء ، وليخفف الرداء في البقاء ، قيل : يا أمير المؤمنين وما خفة الرداء في البقاء ؟ قال : الدين . ورأى رجلاً في الشمس ، فقال : قم عنها فإنها مبخرةٌ مجفرةٌ : تتفل الريح ، وتبلى الثوب ، وتظهر الداء الدفين . وأتى بالمال فكوم كومةً من ذهب وكومة من فضة ، وقال : يا حمراء يا بيضاء احمرى وابيضي وغري غيري . وقال : من يطل أير أبيه ينتطق به .

وقال : ذمتي بما أقول رهينةٌ وأنا به زعيمٌ لمن صرحت له العبر ألا يهيج على التقوى زرع قومٍ ، ولا يظمأ على التقوى سنخ أصلٍ . ألا وإن أبغض خلق الله إلى الله رجلٌ قمش علماً ، غارً بأغباش الفتنة ، عمياً بما في غيب الهدنة، سماه أشباهه من الناس عالما ولم يغن في العلم يوماً سالماً ، بكر فاستكثر . مما قل منه فهو خير مما كثر ، حتى إذا ما ارتوى من آجنٍ ، واكتنز من غير طائلٍ ، قعد بين الناس قاضياً لتخليص ما التبس على غيره ، إن نزلت به إحدى المبهمات هيأ حشواً من رأيه ، فهو من قطع الشبهات في مثل غزل العنكبوت ، لا يعلم إذا أخطأ ؛ لأنه لا يعلم أخطأ أم أصاب . خباط عشواتٍ ركاب جهالاتٍ ، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ، ولا يعض في العلم بضرصٍ قاطع ، يذور الرواية ذرو الريح الهشيم ، تبكي منه الدماء وتصرخ منه المواريث ، ويستحل بقضائه الفرج الحرام . لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليهن ولا أهلٌ لما قرظ به . وكتب إلى ابن عباس حين أخذ من مال البصرة ما أخذ : إني أشركتك في امانتي ، ولم يكن رجلٌ من أهلي أوثق منك في نفسي ، فلما رأيت الزمات على ابن عمك قد كلب ، والعدو قد حرب ، قلبت لابن عمك ظهر المجن ، بفراقه مع المفارقين ، وخذلانه مع الخاذلين ، واختطفت ما قدرت عليه من أموال الأمة اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى ضح رويدا ، فكأن قد بلغت المدى ، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي المغتر بالحسرةن ويتمنى المشيع التبوة ، والظالم الرجعة . وروى عنه عليه السلام - أنه قال يوم الشورى لما تكلم عبد الرحمن ابن عوف بما تكلم :

الحمد لله الذي اتخذ محمداً نبياً ، وابتعثه إلينا رسولاً ؛ فنحن بيت النبوة ، ومعدن الحكمة ، أمانٌ لأهل الأرض ، ونجاةٌ لمن طلب . لنا حق إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى . لو عهد إلينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عهدا لجالدنا عليه حتى نموت ، أو قال لنا قولاً أنفذنا قوله على رغمنا ، لن يسرع أحدٌ قبلي إلى صلة رحمٍ ودعوة حق . والأمر إليك يا بن عوف على صدق اليقين وجهد النصح . استغفر الله لي ولكم . وقال : " ما من مسلم إلا له ذنبٌ يعتريه الفينة بعد الفينة " . " يهلك في رجلان : محب مطرٍ وباهتٌ مفترٍ " . " يهلك في رجلان : محب غالٍ ومبغضٌ قال " . وقال : لا يذهب أمر هذه الأمة إلا على رجل واسع السرم ضخم البلعوم ، يأكل ولا يشبع . وسئل عن قتلاه وقتلى معاوية ، فقال : يؤتى بي يوم القيامة وبمعاوية فنختصم عند ذي العرش ، فأينا فلج فلج أصحابه . وقال : إن لبني أمية مروداً يجرون فيه ، ولو قد اختلفوا فيما بينهم ثم كادتهم الضياع لغلبتهم . وذكر أهل النهروان ، فقال : فيهم رجل مودن اليد ، أو مثدن اليد ، أو مخدج اليد ، لولا أن تبطروا لنبأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال : إذا كان القلب لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكر أنكس ، فجعل أعلاه أسفله . وقال : ألم يأن لبني أمية أن يقتلوا ، قتيلهم ؟ قيل : ما هذا القتيل ؟ قال : غرنوقٌ من غرانيق بني عبد المطلب . ومر بقاضٍ ، فقال : أترعف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت .

وقال : لا يستقيم قضاء الحوائج إلا بثلاث ، باستصغارها لتعظم ، واستكتامها لتنسى ، وتعجيلها لتهنؤ . وجاءه يهودي ، فقال : أين كان ربنا قبل أن يخلق العرش ؟ قال : حيث هو اليوم ، قال : فأين هو اليوم ؟ قال : حيث كان ذلك اليوم ، لا تخطر عليه القلوب ، ولا تقع عليه الأوهام " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " . وروى عن نوف قال : رأيت عليا عليه السلام قد خرج ؛ فنظر إلى النجوم ، فقال : أراقد أم رامقٌ ؟ قلت : بل رامقٌ يا أمير المؤمنين . قال : يا نوف طوبى للزاهدين في هذه الدنيا ، الراغبين في الآخرة ، أولئك قومٌ اتخذو الأرض بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها طيباً ، والقرآن شعاراً ودثاراً ، وقرضوا للدنيا قرضاً على منهاج المسيح عيه السلام . يا نوف ، إن داود عليه السلام قام ساعةً من الليل ، فقال : إنها ساعةٌ لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها إلا أن يكون عشاراً أو عرييفاً أو شرطياً أو صاحب عرطبةٍ - وهو الطنبور - أو صاحب كوبة - وهو الطبل . وقال عليه السلام : إن الله فرض عليكم فرائض فلا تضبعوها ، وحد لكم حدوداً فلا تعدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن أشياء ، فلم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها . وقال : لا يترك الناس شيئاً من إصلاح دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه . وقال : ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن يكثر علمك ، ويعظم حلمك ، وتباهى الناس بعبادة ربك ؛ فإن أحسنت حمدت الله ، وإن أسأت استغفرت الله ؛ ولا خير ف يالدنيا إلا لرجلين ، رجل أذنب ذنوباً فهو يتدارك ذلك بتوبةٍ ، ورجل يسارع ف يالخيرات . ولا يقل عملٌ مع تقوى ، وكيف يقل ما يتقبل ؟ أيها الناس عليكم بالتواصل والتباذل ، وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق . ولا تنكرن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فيولى الله عليكم شراركم ، ثم تدعون فلا يستجاب لكم . " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب " . تجهزوا رحمكم الله ، فقد نودي فيكم بالرحيل ، وأقلوا الفرحة على الدنيا ، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد ؛ فإن أمامكم عقبةً كئوداً ، ومنازل مخوفةً لا بد من الممر عليها ، والوقوف عندها ، فإما برحمة الله نجوتم من فظاعتها ، وشدة مختبرها ، وكراهة منظرها ؛ وإما بهلكة ليس بعدها نجاةٌ . فيا لها حسرةً على كل ذي غفلةٍ أن يكون عمره عليه حجة ، أو تؤديه أيامه إلى شقوة . وخطب لما ورد عليه خبر مقتل محمد بن أبي بكر ، وغلبة أصحاب معاوية على مصر ، قال بعد أن حمد الله : ألا إن مصر أصبحت قد فتحت ، ألا وإن محمد بن أبي بكرٍ قد أصيب رحمه الله ، وعند الله نحتسبه . أما والله إن كان لمن ينتظر القضاء ، ويعمل للجزاء ، ويبغض شكل الفاجر ، ويحب هدى المؤمن . إني والله لا ألوم نفسي في تقصير ولا عجز ، إني بمقاساة الحرب جد عالمٍ خبيرٍ ، وإني لأقدم في الأمر فأعرف وجه الحزم ، وأقوم فيه بالرأي المصيب معلناً ، وأناديكم نداء المستغيث فلا تسمعون لي قولاً ، ولا تطيعون لي أمراً ؛ حتى تصير بي الأمور إلى عواقب الفساد ، وأتم لا تدرك بكم الأوتار ، ولا يشفى بكم الغليل . دعوتكم إلى غياث إخوانكم ، فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر ، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليس له نيةٌ في اجهاد عدو ، ولا احتساب أجرٍ . وخرج جنيدٌ ضعيفٌ " كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " .

وقال في خطبته بالبصرة : يا أهل البصرة يا أهل المؤتفكة أئتفكت بأهلها ثلاثاً وعلى الله تمام الرابعة . يا جند المرأة، وأعوان البهيمة ، رغا فأجبتم وعقر فتفرقتم . وخطب فقال : انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها ، فإنها والله عن قليل تزيل الثاوي الساكن ، وتبخع المترف الآمن ، لا يرجع ما تولى منها فادبر ، ولا يدري ما هو آت منها فينتظر ، سرورها مشوبٌ بالحزن ، وآخر الحياة فيها إلى الضعف والوهن ، فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها . رحم الله رجلاً تفكر فاعتبر ، فأبصر إدبار ما قد أدبر ، وحضور ما حضر ؛ فكأن ما هو كائنٌ في الدنيا لم يكن ، وكأن ما هو كائن في الآخرة لم يزل . وقال جندب : دخلنا عليه فقال : أما إنكم ستلقون بعدي ثلاثاً ؛ ذلاً شاملاً، وسيفاً قاتلاً ، وأثرةً يتخذها الظالمون عليكم سنة ، فتودون عند ذلك لو رأيتموني فنصرتموني وقاتلتم دوني ، لا يبعد الله إلا من ظلم . فكان جندب بعد ذلك إذا رأى شيئاً مما يكره يبكي ويقول : أبعد الله الظالم . وقال في خطبة له : وأيم الله إنكم لو قد رأيتم الموت لا نفرجتم عن علي ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها ؛ فقال له رجل : أفلا كما فعل عثمان ، فقال : إن الذي فعل عثمان مجزاةٌ لمن لا نصرة له ، ولا حجة معه ، فأما وأنا على بينةٍ من ربي ، ويقينٍ وعهدٍ من نبيي كلا والله : إن أمرءاً يمكن من نفسه عدوة فيهشم عظمة ، ويفرى جلده لعظيمٌ عجزه ، ضعيفٌ ما ضمت عليه الأحشاء من صدره ، وأنت ذاك إن شئت . فأما أنا فوالله لأعطين دون ذلك ضرباً بالمشرفي تطير له فراش الهام ، والله يفعل ما يشاء .

وقال له المهاجر بن خالد بن الوليد : ما رأيك يا أمير المؤمنين في هذه المعتزلة سعدٍ وأصحابه ؟ فقال : خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل ، كما قال أخو جشم : عليكم بواديكم من الذل فارتعوا . . . ونالوا بذل من ندى البقل والشجر فما أنتم بالمانعين ذماركم . . . قديماً ، ولستم في النفير إذا نفر وقال عليه السلام : اتركوا هذه الدنيا التاركة لكم ، وإن لم تكونوا تحبون تركها ، والمبلية لكم ، وإن كنتم تحبون تجديدها . فإنما مثلكم ومثلها كركبٍ سلكوا سبيلاً ، فكأنهم قد قطعوه وأموا علماً ، فكأنهم قد بلغوه . جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره نعمةٌ ، ولا تقصر به عن طاعة ربه رغبةٌ ، ولا يحل به الموت حسرةً ؛ فإنما نحن له وبه . وقال في خطبة : إياكم ومجالس اللهو ؛ فإن اللهو ينسى القرآن ، ويحضره الشيطان ، ويدعو إلى كل غي . ومحادثة النساء تزيغ القلوب ، وهي من مصايد الشيطان . ألا فاصدقوا ؛ فإن الله مع الصادقين ، وجانبوا الكذب ؛ فإنه مجانبٌ للإيمان ، إن الصادق على شفا منجاةٍ وكرامة ، وإن الكاذب على شفا هوانٍ . قولوا الحق تعرفوا به ، وتكونوا من أهله ، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم ، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من حرمكم . وإذا عاهدتم ففوا ، وإذا حكمتم فاعدلوا ، ولا تفاخروا بالآباء ولا تنابزوا بالألقاب ، ألا ولا تمادحوا ولا تمازحوا ولا تباغضوا ، أفشوا السلام وردوا التحية على أهلها بأحسن منها ، وارحموا الأرملة واليتيم ، وأعينوا الضعيف والمظلوم ، " ونعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ألا وإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع . ألا وإن الآخرة قد أقبلت وآذنت باطلاع ، ألا وإن المضمار اليوم، والسباق غداً وإن السبقة الجنة والغاية النار . وقال عليه السلام : خير النساء الطيبة الريح ، الطيبة الطعام ، التي إن أنفقت أنفقت قصداً ، وإن أمسكت أمسكت قصداً ، تلك من عمال الله ، وعامل الله لا يخيب . وقال : الصمت في اانه خيرٌ من المنطق في غير أوانه .

وقال : إذا رأيت في رجلٍ خلةً رائعةً من خيرٍ أو شر فانتظر أخواتها . وقال : إن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما صفا وصلب ورق فأما صفاؤها فلله ، وأما رقتها فللإخوان ، وأما صلابتها فللدين . وقال : الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ، ولا يؤمنهم من مكر الله ، ولا يرئسهم من رحمة الله ، ولا يرخص لهم في معاصي الله. ودخل عليه قوم فقالوا : يا أمير المؤمنين ، لو أعطيت هذه الأموال ، وفضلت بها هؤلاء الأشراف ومن تخاف فراقه ، حتى إذا استتب لك ما تريد عدت إلى أفضل ما عودك الله عز وجل من العدل في الرعية ، والقسم بالسوية ، فقال عليه السلام : أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من أهل الإسلام والله لا أفعل ذلك ما سمر بنا سمير ، وما آب في السماء نجم ، فلو كان هذا المال لي لسويت بينهم ، فكيف ؟ وإنما هي أموالهم ، ثم أرم طويلا ثم قال : من كان منكم له مالٌ فإياه والفساد ، فإن إعطاء المال في غير حله تبذير وإسرافٌ وفسادٌ ، وهو يرفع ذكر صاحبه ، ويضعه عند الله عز وجل ، ولن يضع ارمؤٌ ماله ف يغير حقه ، وعند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم ، وكان لغيره ودهم ، فإن بقي معه منهم من يريد الود ، ويظهر له الشكر فإنما هو ملق وكذب ؛ فإن زلت بصاحبه النعل واحتاج إلى معونته ومكافأته فشر خليلٍ ، والأم خدين ، فمن آتاه الله مالاً فليصل به القرابة ، وليحسن منه الضيافة ، وليفك به العاني والأسير ، وليعط منه الغارم وابن السبيل ، والفقراء والمجاهدين ، وليصبر نفسه على الحقوق وابتغاء الثّواب ، فإنّه ينال بهذه الخصال مكارم الدّنيا وفضائل الآخرة إن شاء اللّه . وخطب عليه السلام حين كان من أمر الحكمين ما كان ، فقال : الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح ، والحدث الجليل ، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمد عبده ورسوله .

أما بعد ، فإن معصية الشيخ العالم المشفق المجرّب تورث الحسرة ، وتعقب النّدامة ، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة بأمرى ، ونخلت لكم رأيى لو كان يطاع لقيصر أمر ولكنكم أبيتم ، وكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوزان أمرتهم أمرى بمنعرج اللّوى . . . فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد فلما عصوني كنت فيهم وقد أرى . . . غوايتهم أو أنّنى غير مهتد ألا إنّ هذين الرّجلين اخترتموهما حكمين ، وقد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما فأماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أمات ، واتّبع كلّ واحد منهما هواة ، يحكم فيه بغير حجّة بيّنة ، ولا " 82 " سنة ماضية ، واختلفا في حكمهما ، فكلاهما لم يرشده اللّه ، استعدّوا للجهاد ، وتأهّبوا للسير ، وأصبحوا في معسكركم يوم كذا . وخطب فقال : أما بعد ؛ يا أهل الكوفة فإنّ أهل الشّام لو قد طلعوا عليكم أغلق كلّ امرئ منكم بابه ، وانجحر في بيته انجحار الضّبّ في جحره والضّبع في وجارها الذّليل ، واللّه ما نصرتم ، ومن رمى بكم رمى بأضعف سهم . أفّ لكم لقد لقيت منكم برحاً ، يوماً أناديكم ويوماً أناجيكم ، فلا أحرار عند النداء ، ولا أنجاد عند اللقاء ، أنا لله ممّا منيت به منكم ، صمّ لا تسمعون ، بكم لا تعقلون ، كمه لا تبصرون ، والحمد لله ربّ العالمين . وكتب إلى سهل بن حنيف وهو عامله على المدينة : بلغنى أن رجالاً يخرجون إلى معاوية ؛ فلا تأسف على ما فاتك منهم ؛ فكفى لهم غيّاً فرارهم من الحق والهدى ، وإيضاعهم في الجهالة والعمى ؛ إنّما هم أهل دنيا ، مكبّون عليها ، قد علموا أنّ في الحق أسوةً فهربوا منه إلى الأثرة ؛ فبعداً لهم وسحقاً ،

أما لو قد بعثرت القبور ، واجتمعت الخصوم ، وقضى بين العباد لتبيّن لهم ما يكسبون . وكتب إلى مصقلة بن هبيرة: بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أتيت شيناً ؛ إذ بلغني أنّك تقسم فئ المسلمين فيمن اعتفاك من أعراب بكر بن وائل ، فو الذّي فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة ، لئن كان ذالك حقّاً لتجدنّ بك علىّ هواناً . فلا تستهن بحق ربك ، ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من : " الأخسرين أعمالاً " الآية . وكتب إلى زياد - وهو خليفة ابن عباس على البصرة - وكان أخرج إليه سعدا مولاه يستحثه على حمل مالٍ فعاد وشكاه وعابه : أما بعد ، فإن سعداً ذكر أنك شتمته ظلماً له ، وتهددته وجبهته ، تجبراً وتكبرا . فما دعاك إلى التكبر ؟ وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " الكبر رداء الله فمن نازع الله رداءه قصمه " . وأخبرني أنك تكثر من الطعام والألوان ، وتدهن في كل يوم ؛ فما عليك لو صمت لله أياما ؟ وتصدقت ببعض ما عندك محتسبا ، وأكلت طعامك مراراً قتاراً ؛ فإن ذلك دثار الصالحين، أتطمع وأنت تتقلب في النعيم تستأثر به على الجار المسكين ، والضعيف الفقير ، والأرملة واليتيم أن يجب لك أجر المتصدقين ؟ . وأخبرني أنك تتكلم بكلام الأبرار وتعمل عمل الخطائين ؛ فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت ، وعملك أحبطت ؛ فتب إلى ربك يصلح عملك ، واقصد في أمرك ، وقدم الفضل ليوم حاجتك إليه إن كنت من المؤمنين ، وادهن غباً فإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ادهنوا غباً ولا تدهنوا رفها " .

فكتب إليه زياد : أما بعد يا أمير المؤمنين فإن سعداً قدم فعجل فانتهرته وزجرته . وكان أهلاً لأكثر من ذلك . فأما ما ذكر من الإسراف ، واتخاذ ألوان الطعام ، والتنعم ؛ فإن كان صادقا فأثابه الله ثواب الصادقين ، وإن كان كاذباً فوقاه الله عقوبة الكاذبين . وأما قوله : إني أصف العدل وأخالفه إلى غيره ، فإني إذاً لمن الأخسرين أعمالاً ، فخذه يا أمير المؤمنين بمقالٍ قلته في مقامٍ قمته . فإن أتاك بشاهدي عدلٍ ، وإلا تبين لك كذبه وظلمه . وقال عليه السلام : " قبلة الولد رحمةٌ ، وقبلة المرأة شهوة ، وقبلة الوالدين عبادة ، وقبلة أخيك دينٌ ، وقبلة الإمام العادل طاعةٌ " . وقال : بئس الجار الغني ، يبعث عليك ما لا يعينك عليه . وقال : نعم البيت بيت العروس تذكر به الجنة ، وتحمد الله على النعمة. وقال : الكريم لا يقبل على معروفه ثمنا . وقال : لا ينبغي للعاقل أن يظهر سروراً برجاء ، لأن الرجاء غرور . وقال : المعروف زكاة النعم . وقال : إزالة الرواسي أيسر من تأليف القلوب . وكتب إلى ابن عباس : أتاني كتابك تذكر ما رأيت من أهل البصرة بعد خروجي عنهم ، وإنما ينقمون لرغبةٍ يرجونها ، أو عقوبةٍ يخافونها ؛ فأرغب راغبهم ، واحلل عقد الخوف عن خائفهم بالعدل عليه ، والإنصاف إليه . وكتب إلى سعد بن مسعود الثقفي : إنك وفرت على المسلمين فيئهم ، فأطعت ربك ، ونصحت إمامك فعل المتنزه العفيف ، فقد حمدت فعلك ، ورضيت هديك ، وأوتيت رشدك ، وغفر الله ذنبك .

ومشى قوم خلفه ، فقال : عنى خفق نعالكم ؛ فإنها مفسدة لقلوب نوكي الرجال . وقال : أكبر الغي أن تعيب رجلاً بما فيك ، وأن تؤذي جليسك بما هو فيه عبثاً به . وقال : اتقوا من تبغضه قلوبكم . ودخل عليه السلام المقابر ، فقال : " أما المنازل فقد سكنت ، والأموال قد قسمت ، والأزواج قد نكحت ، فهذا خير ما عندنا ؛ فما عندكم ؟ ثم قال : والذي نفسي بيده لو أذن لهم في الكلام لأخبروا أن خير الزاد التقوى . وخطب فقال : أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع ، وإن المضمار اليوم وغداً السباق . ألا وإنكم في أيام أملٍ من ورائه أجلٌ ؛ فمن أخلص في أيام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله ، ولا يضره أمله ، ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله ، وضره أمله . فاعملوا لله في الرغبة كما نعملون له في الرهبة . ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها ، ولم أر كالنار نام هاربها ، ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل ، ومن لم يستقم به الهدى يخزيه الضلال . ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ، ودللتم على الزاد . وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل . وقال له الأشتر : كيف ود أمي رالمؤمنين امرأته ؟ قال : كالخير من امرأة جباء قباء . قال : وهل يريد الرجال من النساء غير ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا ، حتى تدفي الضجيع ، وتروي الرضيع .

وقال : حسبي حسب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وديني دينه ، فمن أبغض حسبي فإنما يبغض حسب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن يبغض ديني فإنما يبغض دين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . قال بعض قريش : أتيت الكوفة فتبوأت بها منزلاً ، ثم خرجت أريد عليا عليه السلام . فلقيني في الطريق وهو بين الأشعث بن قيس ، وجرير بن عبد الله ، فلما رآني خرج من بينهما فسلم علي . فلما سكت قلت : يا أمير المؤمنين ، من هذان ؟ وما رأيهما ؟ فقال : أما هذا الأعور - يعني الأشعث - فإن الله لم يرفع شرفاً إلا حسده ، ولم يسن ديناً إلا بغاه . وهو يمنى نفسه ويخدعها ، فهو بينهما لا يثق بواحدة منهما . ومن الله عليه أن جعله جباناً ، ولو كان شجاعاً لقد قتله الحق بعد . وأما هذا الأكشف - يعني جريرا - عبد الجاهلية فهو يرى أن كل أحد يحقره ، فهو ممتلئ بأوا ، وهو في ذلك يطلب جحراً يؤويه ، ومنصباً يغنيه . وهذا الأعور يغويه ويطغيه ، إن حدثه كذبه ، وإن قام دونه نكص عنه ، فهما كالشيطان " إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين " قال : فقلت له : والله يا أمير المؤمنين لقد نزلت بشر منزل . ما أنت إلا بين الكلب والذئب . قال : هو عملكم يا معشر قريش ، والله ما خرجت منكم إلا أني خفت أن تجلوا في فألج بكم . وقال : أشد الذنوب ما استخف صاحبه به . روى عن أبي اراكة أنه صلى مع أمير المؤمنين - عليه السلام - صلاة الفجر ، فلما سلم انفتل عن يمينه ، ثم مكث كأن به كابةً ، حتى طغت الشمس على حائط المسجد ، ثم قلب يديه وقال : لقد رأيت أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فما أرى اليوم شيئاً يشبههم ، لقد كانوا يصبحون صفرا غبراً شعثاً ، بين أعينهم مثل ركب المعزى ، قد باتوا لله سسجداً وقياماً، يتلون كتاب لله ، يواحون بين أقدامهم وجباههم ، فإذا أصحبوا فذكروا الله مادوا كما يمد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم . والله لكأن القوم باتوا غافلين . ثم نهض ، ير مفترًّا حتى ضربه عدو الله ابن ملجم لعنه الله . وكان عليه السلام جالساً في أصحابه ، فمرت امرأ جميلة ، فرمقها القوم بأبصارهم ، فقال : إن أبصار هذه الفحول طوامح ، فإذا رأى أحدكم المرئة تعجبه فلأتي أهله حفإنما امرأة بامرة ، . فقال رجل من الخوارج : قاتله الله كافراً ، ما أفهمه فوثبوا عليه ليضربوه ، فقال رضى الله عنه : مه ، فإنما هو سب بسب ، أو عفو وقد عفوت . وقال : من أبطأ به لم يسرع حسبه . وقال : ما أضمر أحد شياً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه . وقال : إذا كنت قي إدبار ، والموت في إقبالٍ ، فما أسرع الملتقى وقال : قلب الأحمق في لسانه ، ولسان العاقل في قلبه . وقال : عجبت من البخيل يستعجل الفقر الذى منه هرب ، ويفوته الغنى الذي إياه طلب ، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء . وقال : يا أسرى الرغبة ، أقصروا ؛ فإن المعرج على الدنيا لا يروعه إلا صريف أنياب الحدثان . وقال : المرأة عقربٌ حلوة اللسبة . وقال : أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيامٌ . وقال : احذروا نفار النعم ، فما كل شاردٍ مردودٌ . وقال : كفى بالأجل حارساً .

وقال في بعض كلامه : لقد اتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا من أله ، فوصوا دونه . وقال : أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع . ومن كلامه : ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه ، وقلبت ظهره وبطنه ، فلم أر إلا القتال أو الكفر . وقال : الولايات مضامير الرجال . وقال : اللجاجة تسل الرأي.