الجزء الأول - الباب الخامس كلام جماعة من بني هاشم المتقدمين منهم والمتأخرين

الباب الخامس كلام جماعة من بني هاشم المتقدمين منهم والمتأخرين

عبد المطلب

لما تتابعت على قريش السنون ، ورأت رقيقة بنت لبابة الرؤيا التي نذكرها من بعد خرج عبد المطلب حتى ارتقى أبا قبيس - ومعه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو غلام - فقال : اللهم ساد الخلة ، وكاشف الكربة ، أنت عالم غيرٌ معلمٍ ، ومسئولٌ غير مبخلٍ . وهذه عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنتهم التي أكلت الظلف والخف . فاسمعن اللهم ، وأمطرن غيثا مريعاً مغدقا . قالت رقيقة : فما راموا البيت حتى انفجرت السماء بمائها ، وكظ الوادي يثجيجه فسمعت شيخان قريش وجلتها وهي تقول : " هنيئاً لك أبا البطحاء هنيئاً لك . أي عاش بك أهل البطحاء " . وكانت لعبد المطلب خمسٌ من السنن أجراها الله في الإسلام : حرم نساء الاباء على الأبناء ، وسن الدية مائةً من الأبل ، وكان يطوف بالبيت سبعة أشواط ، ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس ، وسمى زمزم حين حفرها سقاية الحاج . قيل : إن عبد المطلب أتى في المنام . فقيل : احفر زمزم ، بين الفرث والدم ، فقام ما سمى له ، فنحرت بقرةٌ فأفلتت من جازرها بحشاشة نفسها حتى غلبها فنحرت في المسجد ؛ فحفر عبد المطلب هناك . روى عن بعض موالي المنصور قال : أخرج إلى سليمان بن علي كتابا بخط عبد المطلب ، وإذا هو شبيهٌ بخط النساء فيه: باسمك اللهم - ذكر – حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان ابن فلان " الحميري من أهل أول صنعاء . عليه ألف درهم فضةٍ كيلا بالحديد ، ومتى دعاه بها أجابه . شهد الله والملكان . ولما سار الأشرم صاحب الحبشة مع الفيل إلى مكة لهدم البيت ، وسمعت به قريش لم يبق بمكة أحدٌ منهم إلا عبد المطلب ، وعمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم ، فأرسل الأشرم الأسود بن مقصود في خيل ، وأخذ إبلاً لقريش بناحية ثبير ، فيها مائتا ناقة لعبد المطلب ، وأرسل رسولا فقال : انظر من بقى من مكة ، فأتاها ثم رجع ، وقال : لم أر بها أحدا إلا أنى رأيت رجلاً لم أر مثل طوله وجماله - يعني عبد المطلب - ورأيت رجلا لم أر مثل قصره كأنه إبهام الحبارى - يعني : عمرو بن عائذ ؛ فقال : ايتنى بالطول ، فأتاه بعبد المطلب ، فلما رآه استجهره ، وأمر له بمنبر فجلس عليه وكلمه فازداد به عجبا ، ثم قال له : سلني حاجتك . قال : إنك أخذت إبلي فارددها علي ، فقال الأشرم : لقد زهدت فيك بعد عجبي بك. قال : ولم ذاك أبيت اللعن ؟ قال : جئت لأهدم شرفك وحرمك ، وتركتني أن تسألني فيها فسألتني إبلك . فقال : والله لحرمتى أعز علي وأعظم من مالي . ولكن لحرمتي رب إن شاء أن يمنعها منعها ، وإن تركها فهو أعلم . فأمر برد إبله ، فخرج عبد المطلب وقام بفناء البيت يدعو الله ، ويقول : لا هم إن المرء يم . . . نع رحله فامنع حلالك في أبيات وكان من أمر الفيل والحبشة ما قد قصه الله تعالى في كتابه الكريم ، وعظمت قريش في أعين العرب ، فسموهم أهل الله . وكان الأسود بن مقصود بن بلحارث بن كعب ، وكان مع جماعةٍ من قومه ومع خثعم نبعوا الأشرم ، وكانوا يستحلون الحرم ، والأسود هو الذي يقول :

يا فرسي اعدي بيه . . . إذا سمعت التلبيه

الزبير بن عبد المطلب

قالوا : قدم الزبير بن عبد المطلب من أحدى الرحلتين ، فبينا رأسه في حجر وليدة له وهي تدري ليمته إذ قالت له : ألم يرعك الخبر ؟ قال : وما ذاك ؟ قالت : زعم سعيد بن العاص أنه ليس لأبطحي أن يعتم يوم عمته ، فقال : والله لقد كان عندي ذا حجا وقدر ، وانتزع لمته من يدها ، وقال : يا رعاث . على عمامتي الطول ؛ فأتى بها فلاثها على رأسه ، وألقى ضيفيها حتى لطخا قدميه وعقبيه ، وقال : على فرسي فأتى به ، فاستوى عن ظهره ، ومر يخرق الوادي كأنه لهب عرفج ، فلقيه سهيل بن عمرو فقال : بأبي أنت وأمي يا أبا الطاهر ، مالي أراك قد تغير وجهك ؟ قال : أو لم يبلغك الخبر ؟ هذا سعيد بن العاص يزعم أنه ليس لأبطحي أن يعتم يوم عمته . ولم ؟ فوالله لطولنا عليهم أظهر من وضح النهار ، وقمر التمام ، ونجم الساري ، والآن تنثل كنانتها ، فتعجم قريشٌ عيدانها فتعرف بازل عامنا وثنياته . فقال له سهيل : رفقاً . بأبي أنت وأمي فإنه ابن عمك . ولن يعييك شأوه ، ولن يقصر عنه طولك . وبلغ الخبر سعيدا فرحل ناقته واغترز رحله ، ونجا إلى الطائف . فقيل له : أتريد الجلاء ؟ فقال : إني رأيت الجلاء خيراً من الفناء . ومضى قصده .

أبو طالب

خطب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - في تزويجه خديجة بنت خوليد ؛ فقال : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وجعل لنا بلدا حراماً ، وبيتاً محجوجاً ، وجعلنا الحكام على الناس ، ثم إن محمد بن عبد الله ابن أخي من لا يوازن به فتىً من قريش إلا رجح به براً وفضلاً ، وكرما وعقلاً ، ومجداً ونيلاً ، وإن كان في المال قل ، فإنما المال ظل زائلٌ ، وعاريةٌ مسترجعةٌ ، وله في خديجة بنت خويلدٍ رغبةٌ ، ولها فيه مثل ذلك . وما أحببتم من الصداق فعلى .

روى أبو الحسين النسابة بإسناد له قال : قال أبو رافع مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - : سمعت أبا طالب يقول : حدثني محمد بن عبد الله - ابن أخي - أن ربه تبارك وتعالى بعثه بصلة الرحم ، وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره ، ومحمد عندي الصدوق الأمين . قال أبو الحسين : قد قال أبو طالب من التوحيد نظما ونثرا مالا خفاء به، فمن ذلك قوله لابنيه : جعفرٍ وعلي رضي الله عنهما : لا تخذلا وانصرا ابن عمكما . . . أخي ابن أمي من بينهم وأبي والله لا أخذل النبي ولا . . . يخذله من بني ذو حسب فسماه النبي وقال : عليها المراجيح من هاشمٍ . . . هم الأنجبون مع المنتجب فسماه المنتجب ، وقال : أمينٌ صدوقٌ في الأنام مسوم . . . بخاتمٍ رب قاهرٍ للخواتم فسماه الأمين والصدوق ، وقال : وحكم نبي جاء يدعو إلى الهدى . . . ودينٍ أتى من عند ذى العرش قيم وقال : ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً . . . نبياً كموسى خط في أول الكتب وقال : وتلقوا ربيع الأبطحين محمدا . . . على ربوةٍ من رأس عنقاء عيطل فسماه ربيع الأبطحين ولما استسقى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - فسقى ، قال : من ينشدنا قول أب يطالب ؟ فأنشده أبو بكر رضي الله عنه : وأبيض يستسقى الغمام بوجهه . . . ثمال اليتامى عصمةٍ للأوامل

ولما قتل أهل بدر وجر القوم إلى القليب ؛ التفت ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أبى بكر ، فقال : كيف قول أب يطالب " بالأماثل " فقال : وإنا لعمر الله إن جد جدنا . . . لتلتبسن أسيافنا بالأماثل فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : قد التبست. وقال المأمون : أسلم أبو طالب بقوله : نصرنا الرسول رسول المليك . . . بقضبٍ تلألأ مثل البروق ومشت إليه قريش بعمارة بن الوليد ؛ فقالوا : ادفع لنا محمدا نقتله لئلا يغير ديننا ويعرضنا لقتال العرب ، وأمسك عمارة فاتخذه ولداً - وكان عمارة جميلاً جهيراً - فقال : ما أنصفتموني يا معشر قريش ، أدفع إليكم ابني تقتلونه ، وأمسك ابنكم أغذوه لكم .

العباس بن عبد المطلب

سئل : أنت أكبر أم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقال : رسول الله أكبر ، وأنا أسن . ولدت قبله بثلاث سنين. أذكر وقد قيل لأمي : إن آمنة قد ولدت ابناً ؛ فأدخلتني إليه صبيحة الليلة التي ولد فيها ، وهو (صلى الله عليه وسلم ) يمصع برجليه ، والنساء يجبذنني عليه ، يقن : قبل أخاك . قيل لما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) - اجتمع عليٌ والعباس وجماعةٌ من حفدتهم ومواليهم في منزل رجل من الأنصار لإجالة الرأي ، فبدر بهم أبو سفيان فجاء حتى طرق الباب ؛ فقال : أنشدكم الله أن تكونوا أول من قطع رحم بني عبد مناف ، ثم جاء الزبير يهدج حتى طرق الباب ، فقال : أنشدكم الله والخئولة ، والصهورة ، فلما حضر أرم القوم عن الكلام ، فلما رأى أبو سفيان ذلك قال : مجدٌ قديمٌ أثل بشرف الأبد ، يا بني عبد مناف ؛ ذبوا عن مجدكم ، وانصحوا عن سؤددكم ، وإياكم أن تخلعوا تاج كرامةٍ ألبسكم الله إياه ، وفضلكم بها ، إنها عقب نبوةٍ ، فمن قصر عنها اتبع .

وقال الزبير : قد سمعتم مقالته ، فابذلوا الشركة ، وأحسنوا النية ؛ فلن يستغنى من استحق هذا الأمر عن مقاتل يقاتل معه ، وموئلٍ يلجأ إليه ، والمقاتل معكم خيرٌ من المقاتل لكم . فقال العباس : قد سمعنا مقالتكم ، فلا لقلةٍ نستعين بكم، ولا لظنةٍ نترك آراءكم ، ولكن لالتماس الحق ؛ فأمهلونا نراجع الفكرة . فإن يكن لنا من الإثم مخرجٌ يصر بنا وبهم الحق صرير الجدجد ، ونبسط أكفا إلى المجد ؛ لا نقبضها أو تبلغ المدى ؛ وإن تكن الأخرى فلا لقلةٍ في العدد ، ولا لوهن في الأيد . والله لولا أن الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخرٍ يسمع اصطكاكها من محل الأثيل . قال : فحل علي رضي الله عنه حبوته ، وكذا كان يفعل إذا تكلم ؛ وجثا على ركبتيه وقال : الحلم صبرٌ ، والتقوى دين ، والحجة محمدٌ ( صلى الله عليه وسلم ) - والطريق الصراط . إيهاً رحمكم الله ، شقوا متلاطمات أمواج الفتن ، بحيازيم سفن النجاة ، وعرجوا عن سبيل المنافرة ، وحطوا تيجان المفاخرة ، أفلح من نهض بجناحٍ ، واستسلم فأراح . ما آجن لقمةً تغص آكلها ومجتنى الثمرة لغير إيناعها كالزارع في غير أرضه أما لو أقول ما أعلم لتداخلت أضلاعٌ تداخل دوارة الرحا . وإن أسكت يقولوا جزع ابن أبي طالب من الموت . هيهات هيهات بعد اللتيا والتي . والله لعلي آنس بالموت من الطفل بثدي أمه ، ولكني أدمجت على مكنون علمٍ لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة . ثم نهض وفرقهم ، وأبو سفيان يقول : لشيءٍ ما فرقنا ابن أب يطالب . روى أحمد بن أبي طاهر في كتاب " المنثور والمنظوم " بإسناد له عن البراء ابن عازبٍ قال : لم أزل لبني هاشمٍ محبا ؛ فلما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تخوفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر من بني هاشم ؛ فأخذني ما يأخذ الواله العجول مع ما في نفسي من الحزن لوفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - وقد ملأ الهاشميون بيتهم ، فكنت أتردد بينهم وبين المسجد أتفقد وجوه قريش ، فإني لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر ، ثم لم ألبث إذ أنا بأبي قد أقبل في أهل السقيفة ، وهم يحتجزون الأزر الصنعانية ، لا يمرون بأحد إلا خطبوه ، فإذا عرفوه قدموه فمدوا يده ، فمسحوها على يد أبي بكرٍ ، وقالوا له : بايع . شاء ذلك أو أبى ، فأنكرت عند ذلك عقلي ، وخرجت مسرعاً حتى انتهيت إلى بني هاشم - والباب مغلقٌ - فضربت الباب عليهم ضرباً عنيفاً ، وقلت : قد بايع الناس أبا بكر بن أبي قحافة . فقال العباس : ترحت أيديكم إلى آخر الدهر ؛ أما إني قد أمرتكم فعصيتموني . قال البراء : فمكثت أكابد ما في نفسي ، ورأيت في الليل المقداد بن الأسود ، وعبادة بن الصامت ، وسلمان الفارسي ، وأبا ذر وأبا الهيثم بن التيهان ، وحذيفة بن اليمان . وإذا هم يريدون أن يعود المر شورى بين المهاجرين ، وبلغ ذلك أبا بكر وعمر فأرسلا إلى أبي عبيدة بن الجراح وإلى المغيرة بن شعبة ، فسألاهما عن الرأي ؛ فقال المغيرة : أرى أن تلقوا العباس فتجعلوا في هذا الأمر نصيباً له ولعقبه ؛ فتقطعوا بذلك ناحية علي بن أبي طالب . فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة ، حتى دخلوا على العباس في الليلة الثانية من وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وقال : إن الله ابتعث لكم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) نبياً ، وللمؤمنين ولياً ، فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده فخلى على الناس أمورهم ، ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم ، متفقين لا مختلفين ، فاختاروني عليهم والياً ، ولأمورهم راعياً ؛ فتوليت ذلك عليهم ، وما أخاف بعون الله وتسديده وهناً ولا حيرةً ولا جبنا ، " وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب " . وما انفك يبلغني عن طاعنٍ يقول بخلاف عامة المسلمين ، يتخذكم لجئاً فتكونوا حصنه المنيع ، وخطبه البديع . فإما دخلتم فيما اجتمع عليه الناس ، أو صرفتموهم عما مالوا إليه ، وقد جئنا ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً ، يكون لك ويمون لمن بعدك إذ كنت عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وإن كان الناس قد رأوا مكانك من رسول الله ومكان أصحابك فعدلوا هذا الأمر عنكم ، وعلى رسلكم بني هاشم ؛ فإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منا ومنكم . فقال عمر : إي واله وأخرى أنا لم نأتكم حاجةً إليكم ، ولكنا كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم . فانظروا لأنفسكم ولعامتكم . فحمد الله العباس وأثنى عليه ثم قال : إن الله ابتعث محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) - كما وصفت - نبياً . وللمؤمنين ولياً ، فمن الله به على كل حتى اختار له ما عنده ، فخل الناس على أمرهم مختاروا لأنفسهم ، مصيبين للحق ، لا مائلين بزبغ الهوى . وإن كنت برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طلبت فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم ، ما تقدمنا في أمركم فرطاً ، ولا حللنا وسطاً ، ولا برحنا سخطاً . وإن كان هذا الأمر إنما يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين . وما أبعد قولك إنهم طعنوا عليك من قولك إنهم مالوا إليك وأما ما بذلت فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليه ، وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه . وإن يكن حقنا لم نرض منك ببعضه دون بعض . وما أقول هذا أروم صرفك ، ولكن للحجة نصيبها من البيان . وأما قولك : إن رسول الله منا ومنكم ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها . وأما قولك : يا عمر إنك تخاف الناس علينا ، فهذا الذي تقدمتم به أول ذلك . والله المستعان . لما خرج عمر بالعباس يستسقي به قال : اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك ، وقفية آبائه وكبير رجاله ، فإنك تقول وقولك الحق : " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ لهما وكان أبوهما صالحاً " ؛ فحفظتهما لصلاح أبيهما ، فاحفظ نبيك في عمه ، فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين ، ثم أقبل على الناس فقال : " استغفر ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً " .

قال : رأيت العباس وقد طال عمره ، وعيناه تنضحان ، وسبابته تجول على صدره ، وهو يقول : اللهم أنت الراعي، لا تهمل الضالة ، ولا تدع الكسير بدار مضيعةٍ ، فقد ضرع الصغير ، ورق الكبير ، وارتفعت الشكوى ، وأنت تعلم السر وأخفىز اللهم فأغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا ؛ فإنه لا ييأس من روحك إلا القوم الكافرون . قال : فشأت طريرةٌ من سحاب . فقال الناس : ترون ، ترون ، ثم تلامت واستتمت ، ومشت فيها ريح ، ثم هدت ودرت ، فوالله ما برحوا حتى اعتلقوا الحذاء وقلصوا المآزر ؛ وطفق الناس بالعباس يمسحون أردانه ، ويقولون : هنيئاً لك ساقي الحرمين . روى الشعبي قال : قال لي عبد الله بن عباس : قال لي أبي العباس : يا بني إن أمي رالمؤمنين قد اختصك دون منارى من المهاجرين والأنصار ، فاحفظ عني ثلاثاً ولا تجاوزهن : لا يجربن عليك كذباً ، ولا تغتب عنده أحداً ، ولا تفشين له سراً . قال : فقلت يا أبا عباس ؛ كل واحدةٍ خيرٌ من ألف ، فقال : كل واحدة خير من عشرة آلاف . قال العباس : شهدت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حنيناً ، فلما انهزم الناس قال : ناد : يا أصحاب السمرة ، فناديت ؛ فوالله لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها . قال أبو اليسر : لقيت العباس يوم أحد ، فقال : أصاب القتل محمداً ؟ قلت : الله أعز له وأمنع ، فقال : جلل ما عدا محمداً . وقال العباس : يا بني عبد المطلب اختضبوا بالسواد ، فإنه أحظى لكم عند نسائكم ، وأهيب لكم في صدور عدوكم . وقال لابنه : يا بني تعلم العلم ، ولا تعلمه لترائي به ، ولا لتباهي به ، ولا لتماري به ؛ ولا تدعه رغبةً في الجهل ، وزهادةً في العلم ، واستحياء من التعلم .

عقيل

قال معاوية يوما : هذا أبو يزيد ، لولا أنه علم أني خيرٌ له من أخيه لما أقام عندنا وتركه ، فقال له عقيل : أخي خير لي في ديني ، وأنت خيرٌ لي في دنياي . وقال له مرة : أنت معنا يا أبا يزيد ، قال : ويوم بدرٍ كنت معكم . وقالت له ارمأته - وهي ابنة عتبة بن ربيعة : يا بني هاشم ؛ لا يحبكم قلبي أبدا ، أين أبي ؟ أين أخي ، أين عمي ؟ كأن أعناقهم أباريق الفضة تر آنفهم قبل شفاههم الماء . فقال لها عقيل : إذا دخلت جهنم فخذي عن شمالك . تزوج امرأة ، فقيل له بالرفاء والبنين ، فقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) " إذا تزوج أحدكم فليقل له بارك الله فيك وبارك عليك " .

محمد بن علي ابن الحنفية رضي الله عنه - ابن حنفية -

قيل له : من أشد الناس زهدا ؟ من لا يبالي الدنيا في يد من كانت . وقيل له : من أخسر الناس صفقةً ؟ قال : من باع الباقي بالفاني . وقيل له : من أعظم الناس قدراً ؟ قال : من لايرى الدنيا قدراً لنفسه . وقال : من كرمت عليه نفسه صغرت الدنيا في عينيه . وكان يقول : اللهم أعني على الدنيا بالغنى ، وعلى الآخرة بالتقوى . وقال المنافقون له : لم يغرر بك أمير المؤمنين في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين ؟ قال : لأنهما عيناه ، وأنا يمينه ؛ فهو يدفع بيمينه عن عينيه .

وكتب إلى ابن العباس حين سيره ابن الزبير إلى الطائف : أما بعد ، قد بلغني أن ابن الزبير سيرك إلى الطائف ، فأحدث اله جل وعز لك بذلك ذخراً حط به عنك وزراً . يا بن عم ؛ إنما يبتلى الصالحون ، وتعد الكرامة للأخيار ؛ ولو لم تؤجر إلا فيما تحب لقل الأجر ، وقد قال الله تعالى : " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم " . عزم الله لنا ذلك بالصبر على البلاء ، والشكر على النعماء ، ولا أشمت بنا عدوا والسلام . وقال : مالك من عيشك إلا لذة تزدلف بك إلى حمامك ، وتقربك من يومك ، فأية أكلةٍ ليس معها غصصٌ ، أو شربةٍ ليس معها شرقٌ ؟ فتأمل أمرك ؛ فكأنك قد صرت الحبيب المفقود ، والخيال المخترم . أهل الدنيا أهل سفرٍ لا يحلون عقد رحالهم إلا في غيرها . وقال في قوله عز ذكره : " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " هي مسجلةٌ للبر والفاجر يعني مرسلة . وذكر رجلا يلي بعد السفياني ، فقال : حمش الذراعين والساقين ، مصفح الرأس ، غائر العينين ، بين شث وطباقِ . ولما دعاه ابن الزبير إلى البيعة قال : إنما ابن الزبير شيطانٌ كلما رفع رأسه قمعه الله . وقال : إني أكره أن أيسر هذه الأمة أمرها وآتيها من غير وجهها . وذكر أمير المؤمنين عليه السلام فقال : كان إذا تكلم بذ ، وإذا كلم حذ . وهذا مثل قول غيره : كان علي إذا تكلم فصل ، وإذا ضرب قتل . وقال غيره : كان إذا اعترض قط وإذا اعتلى قد . وقال محمد : الكمال في ثلاثة : الفقه في الدين ، والصبر في النوائب ، وحسن تقدير المعيشة .

وكان محمدٌ قوياً شديد الأيد ، وله في ذلك أحاديث منها : أن أياه عليه السلام اشترى درعا فاستطالها ، فقال : لينقص منها كذا ، وعلم عند موضعٍ منها ، فقبض محمدٌ بيده اليمنى على ذيلها ، وبالأخرى على فضلها ، ثم جذبه ، فقطعها من الموضع الذي حده أبوه . وكان عبد الله بن الزبير إذا حدث بذلك غضب واعتراه أفكل ، وكان يحسده على قوته .

ابن عباس

قيل لعبد الله بن عباس : ما منع عليا رضي الله عنه أن يبعثك مع عمرو يوم التحكيم ، فقال : ما منعه والله إلا حاجز القدر ومحنة الابتلاء ، وقصر المدة . أما والله لو وجه بي لجلست في مدارج نفسه ، ناقصاً ما أبرم ، ومبرماً ما نقص . أطير إذا أسف ، وأسف إذا طار ، ولكن مضى قدرٌ وبقي أسفٌ ، ومع اليوم غدٌ والآخرة خيرٌ لأمير المؤمنين. قال : أني زيد بن ثابت بدابته ، فأخذ ابن عباس بركابه ؛ فقال زيد : دعه بالله ؛ فقال ابن عباس : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا . فقال زيد : أخرج يدك ؛ فأخرجها ، فقبلها زيدٌ وقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا عليه السلام . وكان يقول : تواعظوا وتناهوا عن معصية ربكم ؛ فإن الموعظة تنبيهٌ للقلوب من سنة الغفلة ، وشفاءٌ من داء الجهالة ، وفكاكٌ من رق ملكة الهوى . ودخل على معاوية ؛ فقال له : ألا أنبئك ؟ مات الحسن بن علي ، فقال ابن عباس : إذاً لا يدفن في قبرك ، ولا يزيد موته في عمرك ، وقبله ما فجعنا بخيرٍ منه ، فجبر الله وأحسن . ومن كلامه : ما رضى الناء بشيءٍ من أقسامهم كما رضوا بأوطانهم . وقال له معاوية : أخبرني عن بني هاشم وبني أمية . قال : أنت أعلم بهم قال : أسمت عليك لتخبرني . قال : نحن أفصح وأصبح وأسمح ، وأنتم أمكر وأنكر وأغدر.

وقال : من استؤذن عليه فهو ملك . مر معاوية بقوم من قريش ، فلما رأوه قاموا غير عبد الله بن عباس ؛ فقال : يا بن عباس ؛ ما منعك من القيام كما قام أصحابك ؟ ما ذاك إلا لموجدة أنى قاتلتكم بصفين ، فلا تجد ؛ فإن عثمان ابن عمي قتل مظلوما . قال ابن عباس : فعمر بن الخطاب قتل مظلوماً . قال : إن عمر قتله كافر قال ابن عباس . فمن قتل عثمان ؟ قال : المسلمون . قال : فذاك أدحض لحجتك . قال ابن عباس : أهبط مع آدم المطرقة والميقعة والكلبتان . وسئل عن عمر ، فقال : كان كالطير الحذر ، يرى أن له في كل طريقٍ شركاً يأخذه . قال قلت لعمر : متى يسارع الناس في القرآن يحتقوا ، ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى يختصموا يختلفوا ، ومتى يختلفوا يقتتلوا . وقال : لأن أمسح على ظهر عابرٍ بالفلاة أحب إلي من أن أمسح على خف . وقال له رجل : ما تقول في سلطان علينا تغشمونا وتظلمونا ؟ قال : إن أتاك أهدل الشفتين منتشر المنخرين فأعطه صدقتك . وقال : إياك والقبالات ؛ فإنها صغارٌ ، وفضلها رباً . وقال لع عبد الله بن صفوان : كيف كانت إمارة الأخلاف فيكم ؟ يعني إمارة عمر ؛ فقال: التي قبلها خيرٌ . أو سنة عمر تريد أنت وصاحبك ابن الزبير ؟ تركتما والله سنة عمر شأواً مغرباً . قال أبو حسان : قلت لابن عباس : ما هذه الفتيا التي تفشغت من طاف فقد حل ؟ قال : سنة نبيكم عليه السلام وإن رغمتم . وقام عمرو بن العاص بالموسم ؛ فأطرى معاوية وبني أمية ، وتناول من بني هاشم ، وذكر مشاهده بصفين ؛ فقال له ابن عباس : يا عمرو ؛ إنك بعت دينك من معاوية ؛ فأعطيته ما في يدك ، ومناك ما في يد غيره ، وكان الذي أخذ منك فوق الذي أعطاك ، وكان الذي أخذت منه دون الذي أعطيته ؛ وكل راضٍ بما أخذ وأعطى ؛ فلما صارت مصر في يدك تتبعك فيها بالعزل والتنقص حتى لو أن نفسك فيها ألقيتها إليه . وذكرت مشاهدك بصفين ، فما ثقلت علينا وطأتك ، ولا نكأتنا فيها حربك ، وإن كنت فيها لطويل اللسان قصير السنان ، آخر الحرب إذا أقبلت ، وأولها إذا أدبرت ، لك يدان : يد لا تبسطها إلى خيرٍن ويدٌ لا تقبضها عن شر ، ووجهان : وجهٌ مؤنسٌ ، ووجهٌ موحشٌ . ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحري أن يطول حزنه على ما باع واشترى ، لك بيانٌ وفيك خطلٌ ، ولك رأي وفيك نكلٌ ، ولك قدرةٌ وفيك حسدٌ ، فأصغر عيب فيك أعظم عيب غيرك . فقال عمرو : أما والله ما في قريشٍ أثقل وطأة منك ، ولا لأحدٍ من قريشٍ عندي مثل قدرك . وقال بعضهم : قلت لابن عباس : أخبرني عن أبي بكر . قال : كان خيرا كله على الحدة وشدة الغضب . قلت : أخبرني عن عمر . قال : كان كالطائر الحذر قد علم أنه نصب له في كل وجه حبالةٌ ، وكان يعمل لكل يوم بما فيه على عنف السياق . قلت : أخبرني عن عثمان . قال : كان والله صواماً قواماً ، لم يخدعه نومه عن يقظته . قلت : فصاحبكم . قال : كان والله مملوءاً علماً وحلماً غرته سابقته وقرابته ، وكان يرى أنه لا يطلب شيئاً إلا قدر عليه . قال : أكنتم ترونه محدوداً ؟ قال : أنتم تقولون ذلك . وقيل له : أني لك هذا العلم ؟ فقال : قلب عقول ولسان شئول . وقال : من ترك قول : " لا أدري " أصيبت مقاتله .

قال علي بن عبد الله بن عباس . كنت مع أبي بمكة بعدما كف بصره وسعيد بن جبير يقوده ، فمر بصفة زمزم ، وإذا قومٌ من أهل الشام يسبون عليا رضي عنه ، فقال لسعيد : ردني إليهم ، فرده ، فوقف عليهم فقال : أيكم الساب الله ؟ قالوا : سبحان الله . ما فينا أحدٌ سب الله . قال : فأيكم الساب رسول الله ؟ قالوا : سبحان الله ، ما فعلنا ، قال : فأيكم الساب علي بن أبي طالب ؟ قالوا : أما هذا فقد كان . قال : أشهد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لسمعته يقول : " من سب علياً فقد سبني ، ومن سبنب فقد سب الله ، ومن سب الله كبه الله على منخريه في نار جهنم". ثم ولى ، فقال لي : يا بني . ما رأيتهم صنعوا ؛ فقلت : يا أبه ؛ نظروا إليك بأعينٍ محمرةٍ . . . نظر التيوس إلى شفار الجازر وقال : أربعةٌ لا أقدر لهم على مكافأة : رجل بات وحاجته تململ في صدره حتى أصبح فقصد بها إلي، ورجل أفشى إلى السر فوضعني مكان قلبه ، ورجلٌ ابتدأني بالسلام ، ورجل دعوته فأجابني . . وجاء إليه رجل فقال: إني أريد أن أعظ . فقال : إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله تعالى : قوله " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " . وقوله : " يا أيها الذين ءامنوا لم تقولون مالا تفعلون " . وقول العبد الصالح شعيب : " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " . أأحكمت هذه الآيات ؟ قال : لا . قال : فابدأ بنفسك إذاً . وقال : ملاك أموركم الدين ، وزينتكم العلم ، وحصون أعراضكم الدب . وعزكم الحلم ، وصلتكم الوفاء ، وطولكم في الدنيا والآخرة المعروف . فاتقوا الله يجعل لكم من أمركم يسراً . وقال : ليس للظالم عهدٌ ؛ فإن عاهدته فانقضه ؛ فإن الله تعالى يقول : " لاينال عهدي الظالمين " . وقال : صاحب المعروف لا يقع ؛ فم رقع وجد متكئاً .

وكان يقول إذا وضع الطعام : باسم الله عني معن كل آكلٍ معي . وسئل عن الجشاعة والجبن ، والجود والبخل ؛ فقال : الشجاع يقاتل عمن لا يعرفه ، والجبان يفر عن عرسه ، والجواد يعطى من لا يلزمه حقه ، والبخيل يمنع نفسه . واستئاره عمر في توليه حمص رجلا ، فقال : لا يصلح أن يكون إلا رجلاً منك . قال : فكنه . قال : لا تنتفع بي . قال : ولم ؟ قال : لسوء ظني في سوء ظنك بي . وقال : لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرزق . وقال : إذا حدث أحدكم فأعجبه الحديث فليسكت ؛ فإن أعجبه السكوت فليتحدث . وسمع كعباً يقول : مكتوبٌ في التوراة من ظلم يخرب بيته ؛ فقال ابن عباس : تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل : " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " . وقال : ما رشى الله الناس بشيءٍ من أصامهم كما رضاهم بأوطانهم . فقال أبو زيد النحوي : بلى والله وبأحسابهم ؛ فقيل له : وكيف ؟ فقال : تلقاه من عكل وسلول ومحاربٍ وغني وباهلة وهو يفاخر .

قال ابن عباس في قوله تعالى : " وجعلني مباركاً أين ما كنت " . قال : معلما ومؤدباً . وقال : كل ماشئت ، والبس إذا أخطأتك اثنتان : سرٌ ، أو مخيلةٌ . وقال : لجليسي على ثلاثٌ : أن أرميه بطرفي إذا أقبل ، وأن أوسع له إذا جلس، وأصغي إليه إذا حدث . وقال : القرابة تقطع ، والمعروف يكفر ، ولم ار كالمودة . روى عنه في قوله تعالى: " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ، " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " . البرحران : علي وفاطمة ، والبرزخ : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين عليهما السلام . وتكلم عنده رجل فخلط ، فقال ابن عباس : بكلام مثلك رزق السمت المحبة . وقال لمعاوية : أشتم علي على منبر الإسلام وهو بناهبسيقه ؟ . قيل له أو لقثم أخيه : كيف ورث علي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دونكم ؟ فقال : إنه كان أولنا به لحوقاً ، وأشدنا به لصوقاً . وقال ابن عباس : قلت لهند بن أبي هالة - وكان ربيباً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم)، فلعلك أن تكون أثبتنا معرفةً به . قال : كان - بابي وأمي - طويل الصمت ، دائم الفكرة ، متواتر الأحزان ، إذا تكلم تكلم بجوامع الكلام ؛ لا فضل ولا تقصير ، إذا حدث أعاد ، وإذا خولف أعرض وأشاح ، يتروح إلى حديث أصحابه ، يعظم النعمة وإن دقت ، ولا يذم ذواقاً ، ويبتسم عن مثل حب الغمام . وقال ابن عباس : أكرموا الخبز ؛ فإن الله سخر له السموات والأرض .

حدث عن أبي العالية قال : كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرمٌ يرتجز بالإبل وهو يقول : وهنٌ يمشين بنا هميسا . . . إن تصدق الطيرنن . . . لميسا فقلت له : أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما روجع به النساء وروى عنه في قوله تعالى : " فلنحيينه حيوة طيبة " . قال : هي القناعة قال ابن عباس : لما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هجاء الأعشى علقمة ابن علاثة نهى أصحابه أن يرووه ، وقال : " إن أبا سفيان شعث مني عند قيصر فرد عليه علقمة وكذب أبا سفيان فشكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك . وقال لبعض اليمانية : لكم من السماء نجمها ، ومن الكعبة ركنها ؛ ومن السيوف صمصامها . يعني سهيلاً من النجوم ، والركن اليماني ، وصمصامة عمرو بن معد يكرب . وقال : لا يزهدنك في المعروف كفر من كفر ؛ فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه . ذكر أن ملك الروم وجه إلى معاوية بقارورةٍ فقال : ابعث فيها من كل شيءٍ ، فبعث إلى ابن عباس فقال : لتملأ له ماءً ؛ فلما ورد به على ملك الروم قال : لله أبوه ما أدهاه فقيل لابن عباس : كيف اخترت ذلك ؟ فقال : لقول الله عز وجل : " وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي " . وقال في كلام له يجيب ابن الزبير : والله إنه لمصلوب قريشٍ ، ومتى كان عوام بن عوامٍ يطمع في صفية بنت عبد المطلب ؟ قيل للبغل : من أبوك ؟ قال : خالي الفرس . وقال : ما رأيت أحدا أسعفته في حاجة إلا أضاء ما بيني وبينه ، ولا رأيت أحدا رددته عن حاجةٍ إلا أظلم ما بيني وبينه .

وقال : العلم أكثر من أن يؤتى على آخره ، فخذوا من كل شيءٍ أحسنه . كان نافع بن الأزرق يسأل ابن عباس عن القرآن وغيره ، ويطلب منه الاحتجاج باللغة وبشعر العرب ، فيجيبه عن مسائله . وروى أبو عبيدة أنه سأله فقال : أرأيت نبي الله سليمان مع ما خوله الله عز وجل وأعطاه ، كيف عنى بالهدهد على قلته وضئولته ؟ فقال له ابن عباس : إنه احتاج إلى الماء ، والهدهد قناء ، الأرض له كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها ، فسأل عنه لذلك . فقال له ابن الأزرق : قف يا وقاف ، كيف يبصر ما تحت الأرض ، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه ، فقال ابن عباس : ويحك يا بن الأزرق ، أما علمت أنه إذا جاء القدر عشى البصر . وروى أنه أتاه يوما فجعل يسأله حتى أمله ، فجعل ابن عباس يظهر الضجر ، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة وهو يومئذ غلامٌ فسلم وجلس . فقال ابن عباس : ألا تنشدنا شيئاً ؟ فأنشده : أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر . . . غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجر حتى أتمها وهي ثمانون بيتاً ، فقال له ابن الأزرق : لله أنت يا بن عباس ، أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض ، ويأتيك غلامٌ من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه ؟ فقال : لا والله ما سمعت سفها . فقال ابن الأزرق : أما أنشدك . رأت رجلاً إذا الشمس عارضت . . . فيخزى ، وأما بالعشى فيخسر فقال : ما هكذا قال إنما قال : فيضحى ، وأما بالعشى فيخصر . قال : أو تحفظ الذي قال ؟ قال : والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه ، ولو شئت أن أردها لرددتها . قال : فارددها ؛ فأنشده إياها . فقال نافع : ما رأيت أروى منك ؛ فقال ابن عباس : ما رأيت أروى من عمر ، ولا أعلم من علي . سعى رجلٌ برجل إليه ، فقال له : إن شئت نظرنا فيما قلت ؛ فإن كنت صادقاً مقتناك ، وإن منت كاذباً عاقبناك ، وإن شئت أقلناك . قال : هذه أحبها إلي . قال : فامض حيث شئت . وسئل عن رجلٍ جعل أمر امرأته بيدها ، فقالت : فأنت طالقٌ ثلاثاً ؛ فقال ابن عباس : خطأ الله نوءها . ألا طلقت نفسها ثلاثاً . ةقال : لا يصلين أحدكم وهو يدافع الطوف والبول . وقال في الذبيحة بالعود : كل ما أفرى الأوداج غير مثردٍ . وأتاه رجل فقال : إني أرمي الصيد فأصمى وأنمى ، فقال : ما أصميت فكل ، وما أنميت فلا تأكل . وسئل : أي الأعمال أفضل ؟ فقال : أحمزها . وذكر عبد الملك بن مروان ؛ فقال : إن ابن أبي العاص مشى القدمية ، وإن ابن الزبير لوى دنيه . وقال : أمرنا أن نبني المساجد جما والمدائن شرفاً . وقال : قصر الرجال على أربعٍ من أجل أموال اليتامى .

قال سعيد بن جبير : كنا مع ابن عباس بعرفات فقال : يا سعيد ، مالي لا أسمع الناس يلبون ؟ قلت : يخافون من معاوية ؛ فخرج ابن عباس من فسطاطه وقال : لبيك اللهم لبيك . اللهم العنهم فإنهم قد تركوا السنة لبغضهم علياً . وقال له بعضهم : إن في حجري يتيما ، وإن له إبلا في إبلي ، فأنا أمنح من إبلي وأفقر . فما يحل لي من إبله ؟ فقال: إن كنت ترد نادتها ، وتهنا جرباها ، وتلوط حوضها ؛ فاشرب غير مضر بنسلٍ ولا ناهك حلباً . وقال : ما رأيت أحداً كان أخلق للملك من معاوية ؛ كان الناس يردون عنه أرجاء واد رحب ليس مثل الحصر العقص يعنى ابن الزبير . ولما استقام رأى الناس علي أب يموسى بصفين أتاه عبد الله بن عباس ، فقال له - وعنده وجوه الناس وأشرافهم - : " يا أبا موسى ؛ إن الناس لم يرضوا بك ، ولم يجتمعوا عليك لفضلٍ لا تشارك فيه ، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمقدمين قبلك ولكن أهل الشام أبوا غيرك ، وايم الله إني لأظن ذلك شراً لن ولهم ، وإنه قد ضم إليك داهية العرب ، وليس في معاوية خصلةٌ يستحق بها الخلافة ؛ فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك فيه ، وإن تطمع باطله في حقك يدرك حاجته فيك . اعلم أن معاوية طليق الإسلام ، وأن أباه من الأحزاب ، وأنه ادعى الخلافة من غير مشورة ؛ فإن صدقك فقد صرح بخلعه ، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه وإن زعم أن عمر وعثمان استعملاه فصدق ؛ استعمله عمر وهو الوالي عليه ، بمنزلة الطبيب من المريض ، يحميه مما يشتهي ، ويزجره عما يكره ، ثم استعمله عثمان برأي عمر . وما أكثر ما استعملا ثم لم يدعو الخلافة وهو منهم واحدٌ واعلم أن لعمرو من كل شيءٍ يسرك خبيئاً يسوءك ، ومهما نسيت فلا تنس أن علياً بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وأنها بيعة هدى ، وأنه لم يقاتل إلا عاصياً وناكثاً . فقال له أبو موسى : رحمك الله ، والله مالي إمامٌ غير علي ، وإني لواقفٌ عندما أرى ، ولرضا الله أحب إلى من رضا أهل الشام ، وما أنا وأنت إلا بالله .

وقال له رجل : إن رجلا من أصحابي يغتابني ، فقال : ما من غرةٍ إلا ومن جانبها عرى ، وما الذئب في فريسته بأسرع من ابن العم الدني في عرض ابن عمه السري . ومر برجل ساجد يدعو ؛ فقال : هكذا أمرتم فادعوا ، وتلا قوله تعالى : " واسجد واقترب " . وقال : التمسوا الرزق بالنكاح . وقال : لا غنى بالناس عن الناس ، ولكن سل الله أن يغنيك عن شرار الناس . وقال : إنكم من الليل والنهار في آجال منقوصة ، وأعمالٍ محفوظة ، من زرع خيراً أوشك أن يحصد رغبةً ، ومن عمل شرا أوشك أن يحصد ندامةً ، وكل زارعٍ ما زرع . ولا يسبق بطيءٌ بحظه ، ولا يدرك حريصٌ ما لم يقدر له بحرصه ، ومن أوتى خيراً فالله آتاه ، ومن وقى شراً فالله وقاه . المتقون سادةٌ ، والعلماء قادةٌ ، ومجالستهم زيادة . وقال : ذللت للعلم طالباً ؛ فعززت مطلوباً . وسئل عن منى - وقيل : عجباً لمنى وضيقه في غير الحج ، وما يسع من الحاج ، فقال ابن عباس : إن منى ليتسع بأهله كما يتسع الرحم للولد . وكان يقول : ألذ اللذات الإفضال على الإخوان ، والرجوع إلى كفايةٍ . وخير العطية ما وافق الحاجة ، وخير المحبة ما لم يكن عن رغبةٍ ولا رهبةٍ . وقال : لا تمار سفيهاً ولا حليما ؛ فإن السفيه يؤذيك والحليم يقليك ، واعمل عمل من يعلم أنه مجزى بالحسنات مأخوذٌ بالسيئات . وقال : لكل داخلٍ دهشةٌ ، فابدءوه بالسلام . وقال : أكرم الناس على جليسي، إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني ، وما ادرى كيف أكافئ رجلاً تخطى المجالس فجلس إلى ؛ فإنه لا يكافئه إلا الله .

عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وولده

مر بباب قوم ، وجاريةٌ تغنيهم ؛ فلما سمع غناءها دخل من غير أن استأذن ، فرحبوا به ، وقالوا : كيف دخلت يا أبا جعفر ؟ قال : لأنكم أذنتم لي قالوا : وكيف ؟ قال : سمعت الجارية تقول : قل لكرامٍ ببابنا يلجوا . . . ما في التصابي على الفتى حرج وقال لابنته : يا بنية . إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق ، وإياك والمعاتبة فإنها تورث الضغينة ، وعليك بالزينة ، واعلمي أن أزين الزينة الكحل ، وأطيب الطيب الماء . وقال : لا تستحي من إعطاء القليل ؛ فإن البخل أقل منه . وربى يماكس وكيله في درهم ؛ فقال له قائل : أتماكس في درهمٍ وأنت تجود بما تجود به ؟ قال : ذلك مالي جدت به وهذا عقلي بخلت به . وقال : لا خير ف يالمعروف إلا أن يكون ابتداءً ؛ فأما أن يأتيك الرجل بعد تململٍ على فراشه ، وأرق عن وسنته ، لا يدري أيرجع بنجج المطلب أم بكآبة المتقلب ، فإن أنت رددته عن حاجته تصاغرت إليك نفسه ، وتراجع الدم في وجهه ، تمنى أن يجد في الأرض نفقا فيدخل فيه - فلا . وأنشد : إن الصنيعة لا تكون صنيعةً . . . حتى تصيب بها طريق المصنع فقال : هذا شعر رجل يريد أن يبخل الناس . . . أمطر المعروف مطراً فإن صادفت الموضع الذي قصدت ، وإلا كنت أحق به . وقال له الحسن والحسين رضي الله عنهما: إنك قد أسرفت في بذل المال ؛ فقال : بأبي أنتما وأمي إن الله عودني أن يفضل علي ، وعودته أن أفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني .

وافتقد عبد الله صديقاً له من مجلسه ، ثم جاءه فقال له : أين كانت غيبتك ؟ فقال : خرجت إلى عرض من أعراض المدينة مع صديقٍ لي ؛ فقال له : إن لم تجد من صحبة الرجال بداً فعليك بصحبة من إن صحبته زانك ، وإن خففت له صانك ، وإن احتجت إليه مانك ، وإن رأى منك خلة سدها ، أو حسنةً عدها ، وإن أكثرت عليه لم يرفضك ؛ إن سألته أعطاك ، وإن أمسكت عنه ابتداك . وامتدحه نصيب ، فأمر له بخيل وإبلٍ وأثاث ودنانير ودراهم . فقال له رجل : أمثل هذا الأسود يعطى مثل هذا المال ؟ فقال عبد الله : إن كان المادح أسود فإن شعره أبيض ؛ وإن ثناءه لعربي ؛ ولقد استحق بما قال أكثر مما نال ، وهل أعطيناه إلا ثياباً تبلى ، ومالا يفنى ، ومطايا تنضى ، وأعطانا مدحاً يروى وثناءً يبقى . وقيل له : إنك تبذل الكثير إذا سئلت ، وتضيق في القليل إذا توجرت ؛ فقال : إني أبذل مالي وأضن بعقلي . قال بديح : كان في أذن عبد الله بن جعفر بعض الوقر إذا سمع ما يكره . وروى أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) مر بعبد الله بن جعفر وهو صبي يصنع شيئاً من طينٍ من لعب الصبيان ، فقال : ما تصنع بهذا ؟ قال : أبيعه . قال : ما تصنع بثمنه ؟ قال : أشتري به رطباً آكله ؛ فقال عليه السلام : اللهم بارك له في صفقة يمينه . فكان يقال : ما اشترى شيئاً قط إلا ربح فيه . وأخبار عبد الله بن جعفر في السخاء معروفة . وذكر أن شاعرا أتاه فأنشده : رأيت أبا جعفرٍ في المنام . . . كساني من الخز دراعةً فقال لغلامه : ادفع إليه دراعتي الخز ، ثم قال له: كيف لم تر جبتي المنسوجة بالذهب التي اشتريتها بثلاثمائة دينار ؟ فقال له الشاعر : بأبي أنت دعني أغفى فلعلي أراها . فضحك ؛ ثم قال : ادفع إليه جبتي ، فدفعت إليه .

وذكر أن رجلا جلب إلى المدينة سكراً فكسد عليه ؛ فقيل له : لو أتيت ابن جعفر قبله منك وأعطاك الثمن ؛ فأتاه فأخبره ؛ فأمره بإحضاره ، ثم أمر به فنثر وقال للناس : انتهبوا ؛ فلما رأى الرجل الناس ينتهبون قال له : جعلت فداك آخذ معهم ؟ قال : نعم ؛ فجعل الرجل يهيل في غرارته ، ثم ثال لعبد الله : أعطني الثمن ، فقال : وكم ثمن سكرك ؟ قال : أربعة آلاف درهم ، فأمر له بها ، فقال الرجل للناس : إن هذا ما يدري ما يفعل أخذ أم أعطى ، لأطالبنه بالثمن فغدا عليه وقال : ثمن سكري ؛ فأطرق عبد الله ملياً ثم قال : يا غلام ؛ أعطه أربعة آلاف درهم ؛ فقال الرجل : قد قلت لكم إن هذا الرجل لا يعقل أخذ أم أعطى ، لأطلبنه بالثمن ؛ فغدا عليه وقال : أصلحك الله . ثمن سكري ؛ فأطرق ثم رفع رأسه إلى رجلٍ وقال : ادفع إليه أربعة آلاف درهم ، فلما ولى الرجل قال له عبد الله : يا أعرابي هذه تمام اثنى عشر ألف درهمٍ فانصرف الرجل وهو يعجب من فعله . ولما ولى الملك بن مروان جفا عبد الله ورقت حاله ؛ فراح يوما إلى الجمعة وهو يقول : اللهم إنك عودتني عادةً جريت عليها ؛ فإن كان ذلك قد انقضى فاقبضني إليك ، فتوفى في الجمعة الأخرى . وأوصى إلى ابنه معاوية - وكان في ولده من هو أسن منه ، وقال له : إني لم أزل أوملك لها . وكان عليه دين ، فاحتال معاوية فيه وقضاه ، وقسم أموال أبيه في ولده ولم يستأثر عليهم بشيء . قال المدائني : وكان عبد الله بن جعفر لا يؤدب ولده ويقول : إن يرد الله بهم خيرا يتأدبوا ؛ فلم ينجب فيهم غير معاوية . ومن ولده عبد الله بن معاوية . وكان من فتيان بني هاشم وسمحائهم وشعرائهم وخطبائهم . دعا إلى نفسه - وقيل دعا إلى الرضا من آل محمد - وغلب على الكوفة ، ثم خرج منها إلى فارس ، ولبس الصوف وأظهر سيما الخير . وكان يطعن في دينه ، وينسب إلى الزندقة واللواط ، فغلب على الجبل والرى والأصفهان وفارس والماهين . وقصده بنو هاشم - وفيهم المنصور والسفاح ، وعيسى بن علي ، ومن بني أمية سلمان بن هاشم بن عبد الملك وغيره ؛ فمن أراد عملا ولاه ، ومن أراد صلةً وصله ؛ فوجه إليه مروان بن محمد عامر بن ضبارة ؛ فهرب عبد الله من فارس ولحق بخراسان ، وقد ظهر أبو مسلمٍ بها ، فأخذه أبو مسلم وحبسه ثم قتله . وكان جعل عليه عيناً يرفع إليه أخباره ؛ فرفع إليه أنه يقول : ليس على الأرض أحمق منكم يا أهل خراسان ، في طاعتكم هذا الرجل وتسليمكم إليه مقاليد أموركم منغير أن تراجعوه في ئيءٍ ، أو تسألوه عنه . والله ما رضيت الملائكة بهذا من الله عز وجل حتى راجعته في أمر آدم ؛ فقالت : " أتجعل فيها من يفس فيها ويسفك الدماء " . حتى قال لهم : " إني أعلم ما لا تعلمون " . وكتب إلى أبي مسلم من الحبس : من الأيسر في يديه بلا ذنبٍ إليه ولا خلاف عليه . أما بعد فآتاك الله حفظ الوصية ، ومنحك نصيحة الرعية ، وألهمك عدل القضية ، فإنك مستودع ودائع ومولى صنائع ، فاحفظ ودائعك بحسن صنائعك ، فالودائع مرعية ، والصنائع عاريةٌ ، وما النعم عليك وعلينا فيك بمستور نداها ، ولا مبلوغ مداها ، فاذكر القصاص ، واطلب الخلاص ، وأنبه للتفكر قلبك ، واتق الله ربك ، واعط من نفسك من هو تحتك ما تحب أن يعطيك من هو فوقك من العدل والرأفة والأمن من المخافة . فقد أنعم الله عليك إذ فوض أمرنا إليك ؛ فاعرف لنا شكر المودة وأعتقنا من الشدة والرضا بما رضيت ، والقناعة بما هويت ؛ فإن علينا من ثقل الحديد أذى شديداً ، مع معالجة الأغلال ، وقلة رحمة العمال ، الذين تسهيلهم الغلظة ، وتيسيرهم الفظاظة ، وإيرادهم علينا الغموم ، وتوجيههم إلينا الهموم ؛ زيارتهم الحراسةن وبشارتهم الإياسة ، فإليك نرفع كربة الشكوى ، ونشكو شدة البلوى . ومتى تمل إلينا طرفا وتزودنا منك عطفا تجد عندنا نصحاً صريحاً . ووداً صحيحاً ، ولا يضيع مثلك مثله ، ولا يتقي مثلك أهله ؛ فارع حرمة من أدركت حرمته ، واعرف حجة من فلجت حجته ؛ فإن الناس من حوضك رواءٌ ، ونحن منه ظماءٌ . يمشون في الأبراد ، ونحجل في الأقياد ، بعد الخير والسعة ، والخفض والدعة . والله المستعان وعليه التكلان ، صريخ الأخبار ومنجي الأبرار . الناس من دولتنا في رخاءٍ ، ونحن منها في بلاءٍ : ؛ حيث أمن الخائفون، ورجع الهاربون ، رزقنا الله منك التحنن ، وظاهر علينا منك المنن ؛ فإنك أمين للمؤمنين مستودع وذائد مصطنعٌ . وكتب عبد الله إلى بعض إخوانه : أما بعدن فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك . ابتدأتني بلطفٍ عن غير خبرةٍ ثم أعقبتني جفاءً من غير ذنبٍ ، فأطمعني أولك في إخائك ، وآيسني آخارك من وفائك . فلا أنا في غير الرجاء مجمعٌ لك اطراحاً ، ولا أنا في غدٍ وانتظاره منك على ثقة . فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الرأي عن عزيمة الشك في أمرك فأقمنا على ائتلافٍ ، أو افترقنا على اختلافٍ . والسلام . كان عبد الله بن جعفر إذا غنته الجارية يقول : أحسنت إلي والله ، وكان يتأثم أن يقول : أحسنت والله . ووفد على معاوية فأنزله في داره ، فقالت له ابنة قرظة امرأته : إن جارك هذا يسمع الغناء فاطلع عليه وجاريةٌ له تغنيه ، وتقول : إنك والله لذو ملةٍ . . . يصرفك الأدنى عن الأبعد وهو يقول : يا صدقكاه قال ثم قال : اسقيني . قالت : ما أسقيك ؟ قال : ماءٌ وعسلاً . فانصرف معاوية وهو يقول : ما أرى بأساً .

فلما كان بعد ذلك قالت له : إن جارك هذا لا يدعنا ننام الليل من قراءة القرآن قال : هكذا قومي ؛ رهبان بالليل ، ملوكٌ بالنهار . وقال عبد الله : إن بأهل المعروف من الحاجة إليه أكثر مما بأهل الرغبة منهم فيه ؛ وذلك أن حمده وأجره وذكره وذخره وثناءه لهم ، فما صنعت من صنيعة أو أتيت من معروفٍ ، فإنما تصنعه إلى نفسك ، فلا تطلبن من غيرك شكر ما أتيت لي نفسك . ويروى هذا الكلام لابنه جعفرٍ رضي الله عنه .

علي بن عبد الله بن العباس وولده

قال علي رحمة الله عيه : من لم يجد مس نقص الجهل في عقله ، وذلة المعصية في قلبه ، ولم يستبن موضع الخلة في لسانه عند كلال حده عن حد خصمه ، فليس ممن ينزع عن ريبةٍ ، ولا يرغب عن حال معجزة ، ولا يكترث لفصل ما بين حجةٍ وشبهةٍ . وقال : سادة الناس في الدنيا الأسخياء ، وفي الآخرة الأتقياء . وقال محمد بن علي وذكر رجلا من أهله : إني لأكره أن يكون لعمله فضلٌ على عقله كما أكره أن يكون للسانه فضلٌ على علمه : وقال أبو مسلم : سمعت إبراهيم بن محمد الإمام يقول : يكفي من حظ البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق ، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع . وكان من الخطباء داود بن علي ، وهو الذي يقول : الملك فرع نبعةٍ نحن أفنانها، وذروة هضبةٍ نحن أركانها . وخطب بمكة فقال : شكراً شكراً ، إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهراً ، ولا لنبني فيكم قصراً . أظن عدو الله أن لن نظفر به ؟ أرخى له في زمامه ، حتى عثر في فضل خطامه . فالآن عاد الأمر في نصابه ، وطلعت الشمس من مطلعها ، والآن أخذ القوس باريها . وعادت النبل إلى النزعة ، ورجع الحق إلى مستقره ، في أهل بيت نبيكم أهل الرحمة والرأفة . وخطب فقال : أحرز لسانٌ رأسه ، اتعظ المرؤ بغيره ، اعتبر عاقلٌ قبل أن يعتبر به ، فامسك الفضل من قوله ، وقدم الفضل من عمله . ثم أخذ بقائم سيفه وقال : إن بكم داءً هذا دواؤه ، وأنا زعيمٌ لكم بشفائه . وما بعد الوعيد إلا الوقع ، وما بعد التهديد غير إنجاز الوعيد . " وقد خاب من افترى " . " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون " . ولما قام أبو العباس السفاح في اول خلافته على المنبر ، قام بوجهٍ كورقة المصحف ، فاستحيا فلم يتكلم ، فنهض داود حتى صعد المنبر - قال المنصور : فقلت في نفسي : شيخنا وكبيرنا يدعو إلى نفسه ؛ فانتضيت سيفي وغطيته بثوبي ؛ فقلت : إن فعل ناجزته - فلما رقى عتباً استقبل الناس بوجهه دون أب يالعباس ، ثم قال : يا ايها الناس إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله ، ولأثر الفعال عليكم أجدى من تشقيق الكلام ، وحسبكم كتاب الله متسلى فيكم وابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خليفةً عليكم . والله - قسماً براً لا أريد بها إلا الله - ما قام هذا المقام بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى آله أحق به من علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا ؛ فليظن ظانكم ، وليهمس هامسكم . قال أبو جعفر : ثم نزل فشمت سيفي . وبلغه وهو بمكة أن قوماً أظهروا الشكاة لأبي العباس ، فافترع المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أعذرا غدرا : يا أهل الجبن والتبديل ألم يزعكم الفتح المبين عن الخوض في ذم أمير المؤمنين . كلا والله ، حتى تحملوا أوزاركم ، ومن أوزار الذين كانو قبلكم . كيف فاهت شفاهكم بالشكوى لأمير المؤمنين ؟ بعد أن حانت آجالكم فأرجأها ، وانثعبت دماؤكم فحقنها ؟ الآن يا منابت الدمن مشيتم الضراء ، ودببتم الخمر . أما ومحمدٍ والعباس لئن عدتم لمثل ما بدأتم لأحصدنكم بظبات السيوف . ثم يغني ربنا عنكم ، ويستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم . مهلاً مهلا يا روايا الإرجاف ، وأبناء النفاق ، وأنسال الأحزاب وكفوا عن الخوض فيما كفيتم ، والتخطي إلى ما حذرتم قبل أن تتلف نفوسٌ ، ويقل عذرٌ ، ويذل عز . وما أنتم وتلك ؟ ولم ؟ ألم تجدوا ما وعد ربكم حقاً من إيراث المستضعفين مشارق الأرض ومقاربها ؟ بلى ، والحجر والحجر . ولكنه حسدٌ مضمرٌ ، وحسك في الصدور . فرغماً للمعاطس ، وبعداً للقوم الظالمين . ولما أتى الخبر بقتل مروان بن محمد خطب عيسى بن علي فقال : الحمد لله الذي لا يفوته من طلب ، ولا يعجزه من هرب . خدعت والله الأشيقر نفسه ، أو ظن أن الله ممهله ؟ " ويأبى الله إلا أن يتم نوره " . فحتى متى ؟ وإلى متى ؟ لقد كذبتهم العيدان التي افترعوها ، وأمسكت السماء درها ، والأرض ريقها ، وقحل الزرع ، وجفر فنيق الكفر ، واشتمل جلباب الشرك ، وأبطلت الحدود ، وأهدرت الدماء ، وكان ربك بالمرصاد ، " فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقبها " . وانتاشكم عباد الله لينظر كيف تعملون . فالشكر الشكر عباد الله ؛ فإنه من دواعي المزيد . أعاذنا الله وإياكم من نفثات الفتن . وخطب عبد الله بن علي لما قتل مروان بن محمد فقرأ : " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار " . ركض بكم يا أهل الشام آل حربٍ وآل مروان ، يتسكعون بكم الظلم ، ويخوضون بكم مداحض المراقي ، ويوطئونكم محارم اله ومحارم رسوله . فما يقول علماؤكم غدا عند الله ؟ إذ يقولون : " ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النار " . فيقول : " لكل ضعفٌ ولكن لا تعلمون " .

أما أمير المؤمنين فقد أسف بكم إلى التوبة ، وغفر لكم الزلة ، وبسط لكم الإقالة بفضله . فليفرج روعكم ، وليعظكم مصارع من كان قبلكم . فهذه الحتى منكم مضرعةٌ ، وبيوتهم خاويةٌ بما ظلموا ، والله لا يحب الظالمين . ثم نزل عن المنبر ، وصعد صالح بن علي بعده فقال : يا أهل النفاق ، وعمد الضلالة ، أعزكم لين الإبساس وطول الإيناس ، حتى ظن جاهلكم أن ذلك لفلول حد ، وخور قناةٍ . فإذا استوبأتكم العافية فعندي نكالٌ وفطام ، وسيفٌ يعض بالهام . ومن خطب داود : أيها القوم . حتى متى يهتف بكم صريخكم ؟ أما آن لراقدكم أن يهب من رقدته ؟ بلى و " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " . طال الإمهال حتى حسبتموه الإهمال . هيهات كيف يكون ذلك والسيف مشهورٌ؟ لا والله ، حتى يجوسكم خلال الديار . حتى تبيد قبيلةٌ وقبيلةٌ . . . ويعض كل مهند بالهام ويقمن ربات الخدور حواسراً . . . يمسحن عرض ذوائب الأيتام ولما خرج داود إلى مكة والياً حم في بعض طريقه ، فكان يدعو الله ويقول : يا رب . الثأر ثم النار . قال عبد الصمد بن علي : كنت عند عبد الله بن علي في عسكره بالشام لما خالف المنصور ودعا إلى نفسه ، وكان أبو مسلم بإزائه يقاتله ، فاستؤذن لرسول أبي مسلم عليه ، فاذن له ، فدخل رجلٌ من أهل الشام فقال له : يقول لك الأمير : علام قتالك إياي وأنت تعلم أني أهزمك ؟ فقال له : يا بن الزانية ، ولم تقاتليني عنه وأنت تعلم أنه يقتلك ؟ قال العباس بن محمدل بن علي للرشيد : يا أمير المؤمنين . إنما هو سيفك ودرهمك ، فازرع بهذا من شكرك ، واحصد بهذا من كفرك .

ولما ضرب عبد الله بن علي أعناق بني أمية قال قائل : هذا والله جهد البلاء فقال عبد الله : ما هذا وشرطة الحجام إلا سواءٌ . إنما جهد البلاء فقرٌ مدقعٌ بعد غنى موسع . وقال محمد بن علي : كفاك من عم الدين أن تعرف ما لايسع جهله ، وكفاك من علم الأدب أن تروى الشاهد والمثل . كتب المنصور إلى صالح بن علي أن يطلب بشر بنعبد الواحد بن سليمان ابن عبد الملك ويقتله . فأتى به إلى صالح ، فقال له : قد كان لأبي خالد عندنا بلاء يشكر . قال بشر : فلينفعني ذلك عندك . قال : أما مع كتاب أمير المؤمنين فلا بد من قتلك . ولكني أقدم الساعي بك ، فأضرب عنقه بين يديك ، وأعطي الذي اشتمل عليك ألف دينار ؛ ففعل ذلك ثم قتله . أوصى العباس بن محمد معم ولده فقال : إني قد كفيتك أعراقه فاكفني آدابهم . اغذهم بالحكمة فإنها ربيع القلوب ، وعلمهم النسب والخبر ؛ فإنه أفضل علم الملوك ، وابدأهم بكتاب الله ، فإنه قد خصهم ذكره ، وعمهم رشده ، وكفى بالمرء جهلاً أن يجهل فضلاً عنه آخذ . وخذهم بالإعراب فإنه مدرجة البيان ، وفقههم في الحلال والحرام فإنه حارسٌ من أن يظلموا ، ومانع من أن يظلموا. كان داود بن علي يقول : المعرفة شكرٌ ، والحمد نعمةٌ يجب فيها الشكر . وخطب سليمان بن علي فقال : " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالون " . قضاءٌ فصلٌ ، وقولٌ مبرمٌ ، فالحمد لله الذي صدق عبده ، وأنجز وعده ، وبعداً للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غرضاً ، والدين هزوا ، والفئ إرثا ، والقرآن عضين، لقد حاق بهم ما كانوا يستهزئون وكأين ترى من بئرٍ معطلةٍ وقصرٍ مشيد ، بما قدمت أيديهم ، وما الله بظلام للعبيد . أمهلهم حتى اضطهدوا العترة ، ونبذوا السنة ، " وخاب كل جبارٍ عنيد " ثم أخذهم فهل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزاً " .

وكان أبوهم علي بن عبد الله بن العباس سيداً شريفاً بليغاً ، وكان يقال إن له خمسمائة أصل زيتون ، يصلى في كل يوم إلى كل أصلٍ منها ركعتين ، فكان يدعى ذا الثفنات ، وكان عبد الملك بن مروان يكرمه . وضربه الوليد مرتين بالسوط ، إحداهما في تزوجه لبابة بنت عبد الله ابنجعفر ، وكانت عند عبد املك فطلقها ، وذلك لأنه عض تفاحةً ثم رمى بها إليها - وكان أبخر - فدعت بسكينٍ . فقال لها : ما تصنعين بها ؟ فقالت : أميط عنها الأذى ، فطلقها ، فتزوجها بعده علي ، فضربه الويد ، وقال : إنما تتزوج أمهات أولاد الخلفاء لتضع منهم كما فعل مروان ابن الحكم بأم خالد بن يزيد بن معاوية . وأما ضربه إياه في الكرة الثانية فروى عن بعضهم قال : رأيت علياً مضروبا بالسوط يدار به على بعيرٍ ، وجهه مما يلي ذنب البعير ، وصائحٌ يصيح عليه : هذا علي بن عبد الله بن العباس الكذاب ، فأتيته فقلت له : ما هذا الذي سنبونك إليه من الكذب ؟ قال : بلغهم قولي إن هذا الأمر سيكون في ولدي . والله ليكونن حتى يملكهم عبيدهم الصغار العيون ، العراض الوجوه ، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة . وروى أنه دخل على هشام ومعه ابنا ابنه الخليفتان أبو العباس وأبو جعفر ، فلما ولى قال هشام : إن هذا الشيخ قد اختل وأسن ، وصار يقول : إن هذا الأمر سنتقل إلى ولده ، فسمع ذلك عليٌ فالتفت إليه وقال : إي والله ، ليكونن ذلك وليملكن هذان . وروى أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه افتقد عبد الله بن عباس وقت صلاة الظهر ، فقال لأصحابه : ما بال أب يالعباس لم يحضر ؟ فقيل له : ولد له مولود . فلما صلى قال : امضوا بنا إليه . فأتاه فهنأه ، فقال : شكرت الواهب فبورك لك الموهوب . ما سميته ؟ قال : أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه ، فأمر به فأخرج إليه فأخذه وحنكه ودعا له ثم رده إليه وقال : خذه إليك أبا الأملاك . قد سميته علياً وكنيته أبا الحسن . فلما قام معاوية بالأمر قال لابن عباس: ليس لكم اسمه وكنيته . لكم الاسم ولي المنية ، وقد كنيته أبا محمد ، فجرت عليه .

أشرف عبد الله بن علي وهو مستخفٍ بالبصرة عند أخيه سليمان بن علي فرأى رجلا له جمالٌ يجر ثيابه ويتبختر ، فقال : من هذا ؟ قالوا : فلان الأموي . فقال يا أسفا . وإن في طريقنا بعد منهم لوعثاء . وقال لمولى له : بحقي عليك إلا جئتني برأسه . ثم أنشد قول سديف : علام وفيم يترك عبد شمسٍ . . . لها في كل راعية ثغاء فما في القبر في حران منها . . . ولو قتلت باجمعها وفاء فمضى مولاه إلى سليمان وأخبره بما قال : فنهاه سليمان فعاد إليه واعتل بأنه فاته . حدث ابن عائشة أن امرأة من نساء بن يأمية قالت لعبد الله بن علي : قتلت من أهلي وذويهم اثنى عشر ألفاً فيهم لحيةٍ خضبةٍ . ودخلت ابنة مروان عليه فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . فقال : لست به . فقالت : السلام عليك أيها الأمير . قال : وعليك السلام . فقالت : ليسعنا عدلكم . قال : إذاً لا يبقى على الأرض منكم أحدٌ ؛ لأنكم حاربتم علي بن أبي طالب ودفعتم حقه وسممتم الحسن ونقضتم شرطه ، وقتلتم الحسين وسيرتم رأسه ، وقتلتم زيداً وصلبتم جسده ، وقتلتم يحيى بن زيد ومثلتم به ، ولعنتم علي بن أبي طالب على منابركم وضربتم علي بن عبد الله ظلماً بسياطكم ، وحبستم الإمام في حبسكم ، فعدلنا ألا نبقي أحدا منكم . قالت : فليسعنا عفوكم . قال : أما هذه فنعم . ثم أمر برد أموالهم عليها ثم قال : سننتم علينا القتل لا تنكرونه . . . فذوقوا كما ذقنا على سالف الدهر حدث بعضهم قال : رحت عشيةً من قريةٍ بطريق مكة مع عبد الله بن حسن ، فضمنا المسير وداود وعيسى وعبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس قال : فسار عبد الله وعيسى أمام القوم فقال داود لعبد الله بن حسن : لم لا تظهر محمدا ؟ فقال عبد الله : لم يأت الوقت الذي يظهر فيه محمد بعد ، ولسنا بالذين نظهر عليهم ، وليقتلنهم الذي يظهر قتلاً ذريعا . قال : فسمع عبد الله بن علي الحديث ، فالتفت إلى عبد الله بن حسن وقال : أبا محمد سيكفيك الجعالة مستميتٌ . . . خفيف الحاذ من فتيان حزمٍ أنا والله الذي أظهر عليهم وأقتلهم وانتزع ملكهم . كتب عيسى بن موسى بن علي بنعبد الله إلى المنصور كتابا جوابا عن كتاب له إليه يسومه تقديم المهدي بالعهد عليه والبيعة له : فهمت كتاب أمير المؤمنين المزيل عنه نعم الله ، والمعرض لسخطه بما قرب من القطيعة ، ونقض به الميثاق أوجب ما كان الشكر لله عليه . وألزم ما كان الوفاء له ، فأعقب سيوغ النعم كفراً ، وأتبع الوفاء بالحق غدرا ، وأمن الله أن يجعل ما مد من بسطته إختبارا ، وتمكينه إياه استدراجاً ، وكفى بالله من الظالم منتصرا وللمظلوم ناصراً ، ولا قوة إلا بالله ، وهو حسبي وإليه المصير . ولقد حزبتك أمورٌ يا أمير المؤمنين لو قعدت عنك فيها ، فضلاً عن معونتك عليها ، لقام بك القاعد ، ولطال عليك القصير . ولقد كنت واجداً فيها بغيتي ، وآمنا معها نكث بيعتي ، فلزمت الطريقة بالوفاء إلى أن أوردتك شريعة الرجاء ، وما أنا يائسٌ من انتقام الله ، ورفع حلمه فوق وتحت وبعد ذلك . بدت لي أمارتٌ من الغدر شمتها . . . أظن رواياها ستمطركم دما وهي أبيات . وكتب إليه أياضا لما هدده بأهل خراسان بالقتل إن لم يخلع نفسه : لو سامني غيرك ما سمتني لاستنصرتك عليه ، ولاستشفعت بك إليه ، حتى بقر الحزم مقرة ، وينزل الوفاء منزلته ، ونحن أول دولة يستن بعملنا ، وينظر إلى ما اخترناه منها ، وقد استعنت بك على قومٍ لا يعرفون الحق معرفتك ، ولا يلحظون العواقب لحظك . فكن لي عليهم نصيراً ، ومنهم مجيراً ، يجزك جزائك عن صلة الرحم وقطع الظلم إن شاء الله . وكتب إليه أيضاً : بسم الله الرحمن الرحيم " والموفون بعهدهم إذا عهدوا والصابرين في البأسآء والضرآء وحين البأس " . وقال عز وجل : " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا " . قرأت كتاب أمي رالمؤمنين وتفهمته ، وأمعنت النظر فيه كما أمر وتبحرته ، فوجدت أمير المؤمنين إنما يزيدني لينقصني ، ويقربني ليبعدني ، وما أجهل ما لي في رضاه من الحظ الجزيل ، والأثر الخطير . ولكن سامني ما تشح به الأنفس وتبذل دونه ، وما لا يسمح به والدٌ لوالده ما دام له حظ . وقد علم أمير المؤمنين أنه يريد هذا الأمر لابنه لا له ، وهو صائرٌ إليه أشغل ما يكون عنه ، وأحوج إلى حسنةٍ قدمها وسيةٍ احتنبها . ولا صلة في معصية الله ، ولا قطيعة ما كانت في ذات الله . وقد دعيت إلى ما لا صبر عليه وما لم ير غيري أجاب إليه ، من حل العقد ونقض العهد ، وهذا هشام بن عبد الملك ، ملك عجز دولةٍ طالت أيامهم فيها ، وكثرت صنائعهم بها . فلم يمت حتى حضر بين يديه عشرةٌ من ولده ، أسغرهم في سن من يريد أمير المؤمنين رفعه بوضعي وصلته بقطعي ، فلم ير أن ينقض ما عقده أخوه يزيد بن عبد الملك لابنه الوليد بن يزيد بعده ، وهو يقاسي منه عنتاً ، ويتجرع له غيظاً ، خوفاً على الملك ، وإشفاقاً من الملك ، وحذراً من مغبة الظلم وتأسيس الغدر ، حتى سلم إليه الأمر أغض ما كان وأنضره - ورآه غالبا على أمره موكلاً بخزائنه ، وروحه بعد في جسه ، ولسانه دائرٌ في فمه ، وأمره نافذٌ في رعيته . لو تقدم بسوءٍ فيه لأسرع به إليه ، فكان أكثر ما عنده لما عرف ، وامتلأ بأصحابه داره - تحسرا وتأسفاً : إنا لله . لا أراني إلا خازناً للوليد إلى اليوم . اللهم أنت لي ، فقد حضر أجلي على سوءٍ من عملي . وما هشامٌ بأعلم من أمير المؤمنين بالله ، ولا أقرب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وإذا أمضى أمير المؤمنين بهذا سنةً في حداثة ملك وأوائل دولةٍ ، لا يؤمن أن يستن به ولده ويقع منه ما تلاقى له ، ولا بقيا معه وأمير المؤمنين يعلم أن من جعل هذا الأمر إليه وله ، منغير شرط فيه عليه - محكمٌ في تدبيره ، مخبر في تصريفه ، ولا شرط على في تسليم المر من بعدي إلى أحد ذكر ولا شخص عين ، وقد جعلته لمحمد بعدي ، طالبا بذلك رضا أمير المؤمنين ، وتابعاً موافقته ، وتاركاً مخالفته ؛ فإن رأى أمي رالمؤمنين أن يرعى سالفتي وقرابتي ، ويعرف اجتهادي ومناصحتي ، ويذكر مخالطتي وكفايتي ، ويقبل ذلك مني ، ويأمر بكف الذى عني فعل إن شاء الله . فكتب إليه المنصور جواباً أغلظ فيه وخوفه بادرة أهل خراسان فأنعم له بما أراد من تقديم المهدي على نفسه ، ثم سأله المهدي لما أفضى الأمر إليه أن يخلع نفسه ويجعل العهد لموسى ابنه ، ففعل . وكان يقول : ما لقى أحدٌ ما لقيت . كل أهلي أمنوا بعد خوفٍ ، وأنا خفت بعد أمن ، وسممت مرتين ، وخلعت مرتين . مع قديم بلائي ، وطول غنائي . كان عبد الملك بن صالح والياً للرشيد على الشام . فكان إذا وجه سريةً إلى أرض الروم أمر عليها أميرا شهما ، وقال له : اعلم أنك مضارب الله بخلقه ؛ فكن بمنزلة التاجر الكيس ، إن وجد ربحا تجر ، وإلا احتفظ برأس المال ، وكن من احتيالك على عدوك أشد حذرا من احتيال عدوك عليك . وولى العباس بن زفر الثغر ، فودعه فقال يا عباس : إن حصن المحارب من عدوه حسن تدبيره ، والمقاتل عنه جليد رأيه وصدق بأسه ؛ وقد قال ابن هرمه : يقاتل عنه الناس مجلود رأيه . . . لدى البأس ، والرأي الجليد مقاتل وقال له الرشيد مرة وقد غضب عليه : يا عدي الملك ، والله ما أنت لصالح بولدٍ . قال : فلمن أنا ؟ قال : لمروان بن محمد ، أخذت أمك وهي حبلى بك ، فوطئها على ذاك أبوك فقال عبد الملك : فحلان كريمان، فاجعلني لمن شئت منهما . وهذا شبيهٌ بما قاله مروان بن محمد حين بلغه أن الناس يقولون إن هذه الشجاعة التي لأمير المؤمنين لم تكن لأبيه ولا لجده ، وإنما جاءته من قبل إبراهيم بن الأشتر - فإن أمه كانت له ، وصارت لمحمد بن مروان - وهي حاملٌ - بعده - فقال : ما أبالي الفحلين كنت ، كلاهما شريفٌ كريم . وقال الرشيد مرةٌ لعبد الملك : كيف هو أوكم بمنبج ؟ قال : سحرٌ كله . وقال عبد الرحمن التيمي : قال لي عبد الملك : يا عبد الرحمن ؛ كن على التماس الحظ بالسكوت أحرص من على التماسه بالكلام . فقد قيل : إذا أعجبك الكلام فاصمت ، وإذا أعجبك الصمت فتكلم . ولا تساعدني على قبيحٍ ، ولا تردن على في محفل ، وكلمني بقدر ما استنطقتك واعلم أن حسن الاستماع أحسن من حسن القول . فأرني فهمك في نظرك ، واعلم أني جعلتك جليساً مقرباً ، بعد أن كنت معلماً مباعداً . ومن لم يعرف نقصان ماخرج منه لم يعرف رجحان ما دخل فيه . ولما دخل الرشيد إلى منبج قال لعبد الملك : أهذا البلد منزلك ؟ قال : هو لك ولي بك . قال : وكيف بناؤك به ؟ قال : دون منازل أهلي وفق منازل غيرهم . قال : فكيف صفة مدينتك هذه ؟ قال هي عذبة الماء ، باردة الهواء ، قليلة الأدواء . قال : فكيف ليلها ؟ قال : سحرٌ كله . قال : صدقت إنها لطيبةٌ . قال : لك طابت ، وبك كملت ، أين بها عن الطيب ؟ وهي تربةٌ حمراء ، وسنبلةٌ صفراء ، وشجرةٌ خضراء ، أفياف فيحٌ بين قيصوم وشيح . فقال الرشيد لجعفر بن يحيى : هذا الكلام أحسن من الدر المنظوم. وروى أن صالح بن علي قال لعبد الملك ابنه وه صبي ما بلغ الحلم - في شيء فعله : أتاك هذا من قبل أمك الزانية ، فقال : " والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشركٌ " . ثم ولى مغضباً وهو يقول : عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه . . . فكل قرينٍ بالمقارن يقتدى ولما ولى الرشيد عبد الملك المدينة قيل ليحيى بن خالد : كيف ولاه المدينة من بين اعماله؟ قال : أحب أن يباهى به قريشا ، ويعلمهم أن في بني العباس مثله .

وسمع عبد الملك أصوات الحرس بالليل لما خرج من الحبس في أيام المين ، فقال للسندي : ما هذا العار الذي ألزمته السلطان ؟ حق بلدان الملوك أن تضبط بالهيبة لا بكثرة الأعوان . ووجه عبد الملك إلى الرشيد فاكهةً في أطباق خيزران وكتب إليه : أسعدك الله أمير المؤمنين وأسعد بك ، دخلت بستاناً لي ، أفادنيه كرمك ، وعمرته لي نعمك ، وقد أينعت أشجاره ، وآتت أثماره ، فوجهت إلى أمير المؤمنين من كل شيءٍ شيئاً على الثقة والإمكان ، في أطباق القضبان ، ليصل إلى من بركة دعائه ، مثل ما وصل من كثرة عطائه . فقال رجل : يا أمي رالمؤمنين ، ما سمعت أطباق القضبان ، فقال الرشيد : يا أبله ، إنما كنى عن الخيزران إذ كان اسماً لأمنا . عاتب عبد الملك يحيى بن خالد في شيءٍ ، فقال له يحيى : أعينك بالله أن تركب مطية الحقد . فقال عبد الملك : إن كان الحقد عندك بقاء الخير والشر لأهلهما عندي إنهما لباقيان . فلما ولى قال يحيى : هذا خير قريش . احتج للحق حتى حسنه في عيني .

خطبة يوم الجمعة لمحمد بن سلمان بن علي " وكان لا يغيرها "    

الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، وأستغفره وأومن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق " ليظهره علىالدين كله ولو كره المشركون " . من اعتصم بالله ورسوله فقد اعتصم بالعروة الوثقى ، وسعد الآخرة والأولى ومن لم يعتصم بالله ورسوله فقد ضل ضلالاً بعيداً ، وخسر خسراناً مبيناً ، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يطيعه ويطيع رسوله ، ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه ؛ فإنما نحن به وله ، أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعه ، وأرضى لكم ما عند الله ، فإن تقوى الله أفضل ما تحاث عليه الصالحون وتداعوا إليه ، وتواصوا به . واتقوا الله ما استطعتم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .

وكان محمدٌ من رجال بني هاشم وشجعانهم ، وأمه وأم أخيه جعفر وأخته زينب أم حسنٍ بنت جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وكان له خمسون ألف مولى أعتق منهم عشرين ألفاً . وخرج يوما إلى باب داره بالمربد في عشيةٍ من عشايا الصيف ، فرأى الحر شديدا ، فقال : رشوا هذا الموضع ، فخرج من داره خمسمائة عبد بخمسمائة قربةٍ مملوءة ماء ، فرشوا الشارع حتى أقاموا الماء فيه . وكانت غلته في كل يوم مائة ألف درهم ، وسمع دعاؤه في السحر اللهم أوسع علي ؟ فإنه لا يسعني إلا الكثير . ولما مات امنصو بمكة ، وتلوى الناس على الربيع في تجديد البيعة للمهدي ، جرد محمد سيقه ، وقال : والله لئن امتنع أحدٌ منكم عن البيعة لأرمين برأسه ، فبادروا إلى البيعة ، فشكر المهدي ذلك فرفعه وزوجه ابنته العباسة ، ونقلها إليه ، وهي أول بنت خليفةٍ نقلت من بلدٍ إلى بلد . ولما أراد أن يدخل بالعباسة شاور كاتبه حماداً في اللباس الذي يلبسه في كل يوم ، فأشار عليه بألا يتصنع ، ويقتصر على ما كان يلبسه في كل يوم ، فلم يقبل منه ، وعمد إلى ثياب دبيقية كأنها غرقى البيض فلبسها ، فرأتها عليه ، فلما كان الغد دخل عليها وإذا هي في دارٍ قد فرشت بالدبيقى الذي يشابه ما لبس أو يزيد عليه ، فعلم أن كاتبه كان قد نصحه وتمثل : أمرتكم أمري بمنعرج اللوى . . . فلم تستبينوا الرش إلا ضحى الغد وكان يتصدق في كل سنةٍ بخمسائة ألف درهمٍ ، ويوم الفطر بمائة ألف وفي كل يوم بكرين من الدقيق . ولم يكن له ولدٌ إلا بنتٌ واحدة ، وماتت قبله ، فذكر أنه قال : أشتهى والله أن يصفو لي يومٌ لا يعارض سروري فيه هم .

وكان جعفر أخوه يقول : لا تمتحن هذا فقل من امتحنه إلا امتحن فيه . فجلس يوما وأحضر جميع من يحب حضوره، فبينا هو على أتم أمرٍن وأسر حالٍ إذ سمع صراخا ، فسأل عنه ، فكتم ، فألح ، فعرف أن ابنته - ولا ولد له غيرها - صعدت درجةً فسقطت منها فماتت . فلم يف سروره صدر نهاره بما عقب من غمه ؛ فكان يقول كثيرا : تفردت بالكمال . . . وبالعز والجلال وملكٍ بلا نفادٍ . . . نراه ولا زوال . وشبيه بهذا ما اتفق على يزيد بن عبد الملك فإنه أحب أن يخلص له يومٌ بأن تطوى عنه الأخبار ، وأجلس حبابة عن يمينه ، وسلامة عن يساره ، يشرب وتغنيان ، فلما صليت العصر شربت حبابة قدحا ، وتنقلت بحب رمانٍ فشرقت به وماتت ، فكمد عليها يزيد ، ومات بعد خمسة عشر يوما . وكان جعفر بن سليمان نهاية في الجلالة والشرف ، ولى المدينة للمنصور بعد انقضاء أمر محمد وإبراهيم . فأعطى الأموال . ووصل الشعراء وأمن الناس ، وشفع فيهم . ويقال إنه سقط من ظهره إلى الأرض ما به نسمةٌ من ذكرٍ وأنثى . قال الأصمعي : ما رأيت أكرم أخلاقاً ولا أشرف فعالاً من جعفر بن سليما ؛ فتغدينا معه فاستطاب الطعام . فقال لطباخه : قد أحسنت وسأعتقك وأزوجك . فقال الطباخ : قد قلت يا سيدي هذا غير مرة وكذبت . قال : فو الله ما زاد على أن ضحك . وقال لي : يا أصمعي . إنما يريد البائس " وأخلفت " قال الأصمعي : وإذا هو قد رضى بأخلفت . ذكر الصمعي أن ابن ميادة امتدح جعفر بن سليمان فأمر له بمائة ناقة ، فقبل يده وقال : والله ما قبلت يد قرشي غيرك إلا واحداً . فقال : أهو المنصور ؟

قال : لا والله . قال : فمن هو ؟ قال الوليد بن يزيد فغضب ، وقال : والله ما قبلتها لله . قال : ولا يدك والله قبلتها لله ، ولكن قبلتها لنفسي . فقال : والله لا ضرك الصدق عندي . أعطوه مائة ناقة أخرى . غزا اسماعيل بن صالح بن علي فرأى غلاماً من أبناء المقيمين بطرسوس من أملح الناس وآدبهم ، فاستصحبه ، فقال له الغلام : بلغني أن فيك ملة قال إسماعيل : هي في لها . فضحك الغلام وقال : الآن طابت صحبتك . فصحبه . دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون بعد موت أبيه عبد الملك - وقد أمر بقبض ضياعهم - فقال - وهو غلام أمرد : السلام عليك يا أمير المؤمنين . محمد بن عبد الملك ، سليل نعمتك ، وابن دولتك ، وعصنٌ من أغصان دوحتك ، أتأذن له في الكلام ؟ قال : نعم . تكلم . فحمد اله ، وأثنى عليه ، وصلى على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله وسلم ، ثم قال : نسأل الله لحياطة ديننا ودنيانا ، ورعاية أقصانا وأدنانا ببقائك يا أمير المؤمنين ، ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا ، وفي أثرك من آثارنا . ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا ، هذا مقام العائذ بك تحت ظلك ، الهارب إلى كنفك وفضلك، الفقير إلى رحمتك وعدلك . فوصله وأمر برد ضياع أبيه على ورثته . ومدح أبو تمام محمد بن عبد الملك ، فقال في قصيدة : أمت بنا عيسنا إلى ملك . . . نأخذ من ماله ومن أدبه فقال له محمد : كأني بك قد قلت : نأخذ من ماله ونسخر به فلجلج أبو تمام فقال : يا بن الفاعلة . لقد كنت أستقل لك مائة ألف درهم . وأمر له بعشرة آلاف درهم . وكان العباس بن محمد بن علي من مشايخ بني هاشم ، وكان أسرى أهل عصره ، وكان لبسه من الثياب التي ينسجها أولاد عبيده ، وكذلك جميع ما يفرشه ، ولا يخدمه في سائر خدمته غيرهم ، وكان لا يأكل من النخل ومن سائر الفواكه إلا ما كان من غرسه . وكان ابنه إسحق يرمي بالواط . وحج مرة فرجع الناس وهم يتحدثون بأن غلاماً له كان يعادله نهارا ، فإذا كان الليل صار معه في شق محمل ، ووضعت حيالهما صخرة بوزنهما . ورأى أبوه العباس يوما غلاما له ، وقد كشف الريح قباءه ، فإذا عليه سراويل وشي إسكنرداني منسوجٍ بالذهب فقال لاسحق : أكان العباس ابن عبد المطلب لوطياً ؟ قال : معاذ الله . قال : أفعبد اله بن العباس ؟ قال : معاذ الله . قال أفعلي بن عبد الله ؟ قال : لا والله . قال : أفعرفت في شيئاً منها ؟ قال : المير أجل ديناً ومروءةً من ذاك . قال : فما دعاك إليه ؟ قال : مكذوبٌ على بما يضاف إليه مني . قال : والله ما كسا أحدٌ غلامه هذه الكسوة إلا وهو مريب . فأراد إٍحق أن يحلف فقال له : لا تحلف . فواللله لئن لم يكن هذا لما اتهمت به إنه لأعظم قبحاً منه . فأمسك وتب إلى الله . قال : أنا تائب إلى الله من جميع الذنوب . قال العباس : قبح الله ابنهرمة ، فلقد حرمنا من أمير المؤمنين خيراً كثيراً . كنا نساله الشيء فيأباه ، فنعاوده فيه فيفعل ما نريد حتى قال ابن هرمة : إذا ما أتى شيئاً ، مضى كالذي أتى. . . وإن قال إني فاعلٌ فهو فاعل .

فكان إذا عاودناه في شيءٍ قال لنا : فلست إذاً كما قال ابنهرمة ، وأنشد هذا البيت ، وكان يشاورنا في اموره إلى أن قال ابنهرمة : إذا ما أراد الأمر ناجى ضميره . . . فناجى ضميراً غير مضطرب العقل ولم يشرك الدنين في جل رأيه . . . إذا اضطربت بالحائرين قوى الحبل فخضنا بالقول في ألا يشاورنا ، فكان لا يشاورنا بعد ذلك . كان عبد الصمد بن علي ثقيل الرجل ، لا يقدم على أحد من أهل بيته إلا مات ، فقدم على أخيه سليمان بن علي بالبصرة ، فاعتل ومات ، فصلى عليه ، ثم رحل ، وقدم البصرة بعد مدة ومحمد بن سليمان صحيحٌ ، فاعتل يوم قدومه ومات ، فصلى عليه ، ثم قدم وجعفر بن سليمان صحيح ، فاضطرب وقال : لأمر ما قدم عمي ، فاعتل ، واشتد جزعه ، ثم عوفى ، فتصدق بمائة ألف دينارٍ . ولما مات عبد الصمد قال الرشيد : الحمد لله الذي أمات عنوان الموت . لا يحمل عمي غيري . فكان أحد حملته إلى حفرته . وقد روى أيضاً أنه مات جعفر ، وقد قدم عليه عبد الصمد وأن إسماعيل ابن جعفر كان يقول : ما رأيت أشأم منه ، وإنه عمي في ذلك الوقت . فقال إسماعيل : أخذنا بعض ثأرنا . وولى عبد الرحمن بن جعفر اليمن ، وكان وعد أبا زيد ، عمر بن شبة أن يحسن إليه إذا ولي . فلما ولي قال : يا أبا زيد ، ليس بعد اليمن شيء وكان يرسل بالبرود وغيرها ، فيقال له : اذكر أبا زيد . فيقول : أبو زيد إلى الدنانير أحوج ؛ فلما طال ذلك كتب إليه : قد رضيت من ولايتك بشراك نعلٍ . قال عمر : فكتب إلى : ما رأيتك في شيء أعقل منك في هذا علمت ما تستحق فرضيت به . كان جعفر بن سليمان بن علي يشغف بجاريةٍ كانت من أحسن فتيات عصرها وجهاً وغناءً وضرباً ، ثم اشتراها بعشرة آلاف دينار ، ومائتي ناقة ، وأربعة أعدٍ من النوبة يرعونها - فإن مولاتها استامت فيها ذلك - وحظيت عنده وولدت منه سيد أهله في زمانه أحمد بن جعفر . وكان بلغ عبد الملك بن صالح شغفه بها ، فكتب إليه : خصك الله يا أخي بالتنبه على حظك ، وأقبل بك إلى رشدك ، وأنقذك من شر هوى نفسك . إني لما نأت عني دارك ، وانقطعت أخبارك استهديت ممن يراعى أمورك ما انطوى عني من تصرفك في أحوالك ، لأن نفسي لم تزل موكلةً بالشفقة عليك ، والمراعاة لأمورك . فأتاني عنك أنك سمحت بنفسك وجليل قدرك ، ونبيه ذكرك ، وعالي شرفك وما ورثته من دينك ومروءتك عن سلفك ، في طاعة هواك ، وأنك وهبت كلك لمن لم يهب بعضه لك ، وآثرت لذة امتزج ظاهرها بموافقتك وكمنت في عواقبها المكارة لك . فليتك إذ طغت نفسك ، ولم تجنح ما يزينك أغليت السوم بنفسك ، وصرفتها إلى من يستحقك . ولئن كنت رأيت ما بذلته من نفسك وافياً بقيمة من سمحت به له ، لقد رأيت نفسك بعين غير صادقة التخيل ، وقومتها بقيمةٍ مبخوسة القدر ، فليت شعري من أين أتاك سوء الاختيار ؟ أمن طاعتك التصابي ؟ أم منقبولك مشروة وسيط . فلعمري إنه لضد الناصح الأمين . أم أحدثت لك هذا الرأي سورة الشراب ، وارتياح الطرب ، والإصغاء إلى اقتران غزل الشعر بنغم الأوتار ، وامتزاج رقيق المعاني بسحر الأغاني ؟ فلقد حكمت غير العدل ، وآثرت غير المستحق للأثرة . وهلا فكرت في أنك قد ملكت قيادك قينة أنت بالتهمة لها أولى من الثقة بها . ولم حملتها على الشاذ من وفاء القيان ؟ ولم تتحرز فيها من مشهور غدرهن . أما والله لئن راجعت رأيك ، وتدبرت مشورتي عليك لتعلمن أني لك أنصح من نفسك ومن نضحائك ، ولئن أقمت على تماديك إن المصيبة بك لعظيمةٌ مع عظم قدرك في أنفسنا ، وسعة آمالنا لك وبك وفيك . والله يوفقك لما هو أولى بك وأشبه بقدرك والسلام . فلما وصلت إلى جعفر هذه الرسالة أقامته وأقعدته . ولم يقدر على إجابة عبد الملك بشيء ، وكان بينهما خصوصٌ ولصوقٌ شديدٌ فباعها . أمر المهدي عبد الصمد بن علي أن يقسم في أهل مكة مائة ألف درهم ، فحواها ولم يعطهم شيئاً . فلما عزل وخرج صرخوا به : " أيتها العير إنكم لسارقون " . فقال ياأولاد الزنا . ماذا تفقدون ؟ قالوا : مائة ألف درهم أمرك أمير المؤمنين بقسمتها في أهل مكة . فقال أنا البطحاء وأنا مكة وأنا زمزم ، فإذا قسمتها في داري فقد قسمتها في أهل مكة . ولعبد الصمد عجائب منها : أن أسنانه كانت قطعة واحدةً ، ودخل قبره بأسنانه التي ولد بها ؛ لم ينبت له سن ولم يثغر . ومنها أنه حج بالناس في سنة سبعين ومائة . وحج يزيد بن معاوية بهم سنة خمسين وبينهما مائة وعشرون سنة ، وهما في القعدد سواء في النسب إلى عبد مناف. ومنها أنه دخل سربا فطارت ريشتان فلصقتا بعينيه ، فذهب بصره . ومنها أنه كان يوما عند الرشيد فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا مجلسٌ فيه عمك ، وعم عمك وعم عم عمك ، يعني سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد ، والعباس بن محمد عم المهدي وهو عم سليمان ، وعبد الصمد وهو عم العباس وعم المنصور . قيل : إن أم عبد لاصمد هي كثيرة التي قال فيها ابن الرقيات عادله من كثيرة الطرب وكان مستترا عندها في اول خلافة عبد الملك وأحسنت إليه ويجب أن تكون ذلك الوقت امرأة برزة . ومات عبد الصمد في سن خمس وثمانين ومائة ، وبين ذلك وبين استتارة مائة وعشرون سنة وقيل هو أول من سمى عبد الصمد .

قال الجاحظ : لما أتى عبد الملك بن صالح وفد الروم وهو في البلاد أقام على رأسه رجالا في السماطين لهم قصر وهامٌ ، ومناكب وأجسامٌ ، وشوارب وشعورٌ ، فبينما هم قيامٌ يكلمونه ، ووجه رجلٍ منهم في قفا البطريق إذ عطس عطسة ضئيبةً فلحظه عبد الملك فقلم يدر أي شيء أنكر عليه ، فلم خرج الوفد قال له : ويلك . هلا إذ كنت ضيق المنخركز الخيشوم اتبعتها بصيحةٍ تخلع بها قلب العلج . وقال : ما الناس إلى شيء أحوج منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعارفون الكلام ، ويتعاطون البيان ، ويتهادون الحكم ، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها ، ويجمعون منها . إن الكلام فاضٍ يحكم بين الخصوم ، وضياءٌ يجلو الظلم حاجة الناس إلى مواده كحاجتهم إلى مواد الإغذية . وقال الجاحظ : حدثني إبراهيم بن السندى ، قال : سمعت عبد الملك يقول بعد إخراج المخلوع له من حبس الرشيد - وذكر ظلم الرشيد له ، وإقدامه عليه . وكان يأنس به ، ويشق بمودته وعقله . والله إن الملك لشيءٌ ما نويته ولا تمنيته ولا تصديت إليه ولا تبعته . ولو أردته لكان أسرع إلى من السيل إلى الحدور ، ومن النار في يابس العرفج وإني لمأخوذٌ بما لم أجن ، ومسئولٌ عما لا أعرف ، ولكن حين رآني للملك أهلاً ، ورأى للخلافة خطراً وثمناً، ورأى أن لي يداً تنالها إذا مدت وتبلغها إذا بسطت ، ونفسا تكمل لها بخصالها وتسحقها بخلالها ، وإن كنت لم أختر تلك الخصال ، ولا اصطنعت تلك الخلال ، ولم ارشح لها في سر ، ولا أشرت إليها في جهر ، ورآها تحن إلى حنين الواله ، وتميل نحوي ميل الهلوك . وخاف أن ترغب إلي خيرٍ مرغب . وتنزع إلى أحصن منزع ، عاقبني عقاب من قد سهر في طلبها ، ونصب في التماسها وتقدر لها بجهده ، ونهيأ لها بكل حيله . فإن كان إنما حبسني على أني أصلح لها لي ، وأليق بها وتليق بي ، فليس ذلك بذنبٍ فأتوب منه ، ولا تطاولت له فأحط نفسي عنه . فإن زعم أنه لا صرف لعقابه ، ولا نجاة من أعطايه إلا بأن أخرج له من الحلم والعلم ، ومن الحزم والعزم ، فكما لا ستطيع المضياع أن يكون حافظاً كذلك العاقل لا يستطيع أن يكون جاهلاً . وسواء عاقبني على عقلي وعلمي أم على نسبي وسبي ، وسواء عاقبني على خلالي أو على طاعة الناس لي . ولو أردتها لأعجلته عن التفكر ، ولشغلته عن التدبر ، ولما كان فيه من الخطار إلا اليسير ، ومن بذل الجهد إلا القليل . تم الجزء الأول بحمد الله .