الجزء الثاني - الباب الأول: في كلام أبي بكر الصديق رحمة الله عليه ورضى الله عنه

الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام ، وأنطقنا بأفصح الكلام ، وأنقذنا من ظلمة الشرك ، وحيرة الشك بمحمد نبيه خير الأنام ، وعترته الأعلام صلى الله عليه وعليهم صلاة يستحقها بفضله وكرامته ، ويستحقونها بقرباه وولادته . اللهم كما اجتبيته من خلقك ، وهديته بهديك ووفقته لأداء حقك ، وأكرمته برحيك ، وأيدته بنصرك ، وأرسلته إلى الأحمر والأسود من أهل أرضك ، بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، على حين فترة من الرسل ، وحيرة من أهل الملل ، وتحريف منهم للمتلو عليهم المنزّل ، وحين رفع الشرك معالمه ، وشيّد قوائمه ودعائمه ، ونشر في الأفق خوافيه وقوادمه ، وطبق منه الأرض طخياء لا يلمع لها نار ، ولا يرفع بها منار ، قد تبع أهله الشيطان فأرادهم ، وأطاعوه فأغواهم ، فعبدوا الأوثان من دونك ، وجعلوا لك شركاء من خلقك ، فصدع عليه السلام بأمرك ، وقام بفرضك ودعا إلى طاعتك ، ونهى عن معصيتك وبشر برحمتك ، وأنذر بسطوتك وندب الخلق إلى ما شهدت به لنفسك ، وشهدت به ملائكتك لك : أن لا إله إلا أنت ، وحدك لا شريك لك ، ولم يزل يدعو إلى دينك حتى بلغ ضوءه، ثم استطار شعاعه ، ونجم روقه ، ثم امتد رواقه ، واخضل نداه ، ثم استبحر غديره ، واخضر ثراه ، ثم استداح شكيره ، وحتى ظهر على الدين كله ولو كره الكافرون .

اللهم كما فعل ذلك فافعل به ما هو أهله ، وأوله ما يستحقه ، واحفظه في سنته ، بحفظها على أمته ، واخلفه فيها وفيهم بالإظهار والإدامة ، كما وعدته إلى يوم القيامة ، واجزه عن عبادك جزاء من أنقذهم من النار ، وأنجاهم وهم على شفا جرف هار . اللهم أنت الجواد الواحد ، لا تعدم فتبخل ، والحليم القادر لا تفات فتعجل ، عليك التكلان ، وأنت المستعان ، وبك التوفيق والعصمة ، ومنك الحول والقوة ، وفضلك المرجوّ ، وعدلك المخوف . اللهم فلا تتجاوز بذنوبنا الفضل إلى العدل ، وبأعمالنا العفو إلى الجزاء ، واغفر لنا بإحسانك الذي وسع جميع الخلائق ، ولا تكلنا إلى ما نستحقه بأعمالنا فإنا لا نصبر على الحق ، إليك المشتكي من أنفسنا الأمارة بالسوء ، المتبابعة لكل عدو، من هوى يردى ، وشيطان يغوى ، وأمل يضر ، وعمل يغر ، وزخارف دنيا أولها غرور ، وآخرها هباء منثور . فأعنا على أنفسنا بعصمتك ، وأعذنا من كيد الشيطان برحمتك ، واجعل قولنا وفعلنا سددا ، وهيئ لنا من أمرنا رشدا، ويسرنا لليسرى ، واختم لنا بالحسنى ، فلا قنوط من رحمتك ، ولا يأس من روحك ، إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون . هذا هو الفصل الثاني من كتاب نثر الدر ، وكنا وعدنا أن نخلط الجد بالهزل ، والجيد بالرذل، والحكم بالملح ، والمواعظ بالمضاحك ، ليكون ذلك استراحة للقارئ ، تنفى عنه الملل والسآمة ، وتشحذ الطبع والقريحة ، وتروح القلب ، وتشرح الصدر ، وتنشر الخاطر ، وتذكى الفهم ، فإن القلب إذا أكره عمي ، والخاطر إذا مل كلّ ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق " . وقال عليه السلام : " بعثت بالحنيفية السهلة " . وقال علي : لا بأس بالفكاهة يخرج بها الرجل من حد العبوس . وكان ابن عباس إذا أكثر عليه من مسائل القرآن والحديث يقول : " أحمضوا " يريد : خذوا في الشعر وأخبار العرب . وقال أبو الدرداء : " إني لأجم نفسي بشيء من الباطل ليكون أقوى لها على الحق " . وفي حديث زيد بن ثابت " أنه كان من أفكة الناس إذا خلا مع أهله ، وأزمتهم في المجلس " . وقال عطاء بن السائب : " كان سعيد بن جبير يقص علينا حتى يبكينا ، وربما يقص علينا حتى يضحكنا " . وقال الزهري : " الأذن مجاجة ، وللنفس حمضة " . وبعد ، فإن الذي يأتي في أثناء هذا الكتاب من الهزل ربما صار داعية لطالبه إلى أن يتصفح ما قبله من الجد ، فيعلق منه بقليه ما ينتفع به ، ويذوق حلاوة ثمرته ، ويعرف به قبح ضده ، حتى يصير ذلك لطفاً في النزوع عن تماديه في غيّه ، وتهوكه في هزله ، وأدنى ما فيه أن يتنزه عن مثله ، ويتحامى أن يبدر منه ما عيب على غيره من فعله ، فليس يخلو ذلك من نادرة ماجن لا يتحاشى من باطله ، أو فلتة مغفل يرمى غير غرضه . وأخليت الفصل الأول من هذه النوادر والملح ؛ لأني كرهت أن أفصل بها بين كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعترته ، وبين كلام أصحابه وحفدته ، الذين واسوه بأنفسهم وأموالهم ، وأطاعوه في أقوالهم وأفعالهم ، وهجروا له أوطانهم وبلادهم ، وقاتلوا معه إخوانهم وأولادهم ، ووقوه بأنفسهم حر الجلاد ، وجاهدوا معه في الله حق الجهاد ، حتى ظهر دين الله ، وعلت كلمة الله ، وحتى وضح الصبح لذي عينين ، ببدر وأحد وحنين . فقدمت كلام أبي بكر الصديق ، إذ كان المتقدم لكل ذي صحبة ، والسابق الأول من غير كبوة ، قاتل أهل الردة الكفار ، وثاني اثنين إذ هما في الغار ، وأتبعته بكلام عمر بن الخطاب القوي الأمين ، الذي لم تغمز قناته في ذات الله ، ولم تأخذه هوادة في دين الله ، درت عليه أفاويق الدينا ، وألقت إليه كنوز القرون الأولى ، فقبض ولم يقبض ، وقضم ولم يخضم ، ورضف ولم يعب ، حتى فارقها خميص البطن من حطامها ، خفيف الظهر من آثامها . ثم كلام عثمان بن عفان ذي السابقة والصهر الكريم ، وجامع القرآن والذكر الحكيم . ثم أوردت لمعاً من كلام سائر الصحابة من غير تقديم للأفضل فالأفضل ، ولا ترتيب للأقدم فالأقدم والأقرب فالأقرب ، بل على ما اتفق وبحسب ما اتسق . وذكرت مواعظ ونكتاً من كلام عمر بن عبد العزيز ، فإنه وإن لم يدرك شأو المذكورين ، فإنه غبر في وجوه أهله المطعونين ، وكلامه أشبه بكلام الصدر القديم ، وأحرى ألا يكون مصدره إلا عن الصدر السليم . وختمت الفصل بأبواب تشتمل على نوادر مليحة ، ومضاحك لطيفة . الفصل الثاني وهذا الفصل يشتمل على عشرة أبواب : الباب الأول : كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه . الباب الثاني : كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه . الباب الثالث : كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه . الباب الرابع : كلام سائر الصحابة رحمهم الله ورضي عنهم . الباب الخامس : كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله . الباب السادس : مزح الأشراف والأفاضل . الباب السابع : الجوابات المستحسنة جداً وهزلاً . الباب الثامن : نوادر المتنبئين . الباب التاسع : نوادر المدينيين . الباب العاشر : نوادر الطفيليين والأكلة .

الباب الأول من الفصل الثاني : في كلام أبي بكر الصديق رحمة الله عليه ورضى الله عنه

خطب يوماً ، فلما فرغ من الحمد لله ، والصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك " . فرفع الناس رؤوسهم . فقال : ما لكم معاشر الناس ؟ إنكم لطعانون عجلون ، إن الملك إذا ملك زهده الله فيما في يديه ، ورغبه فيما في يدي غيره ، وانتقصه شطر أجله ، وأشرب قلبه الإشفاق ، فهو يحسد على القليل ، ويتسخط الكثير ، ويسأم الرخاء ، وتنقطع عنه لذة البهاء ، لا يستعمل الغيرة ، ولا يسكن إلى الثقة . هو كالدرهم القسي ، والسراب الخادع ، جذل الظاهر ، حزين الباطن ، فإذا وجبت نفسه ، ونضب عمره ، وضحا ظلّه ، حاسبه الله ، فأشد حسابه ، وأقل عفوه . ألا إن الأمراء هم المحرومون ، إلا من آمن بالله ، وحكم لكتاب الله ، وسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وإنكم اليوم على خلافة نبوه ، ومفرق محجة ، وسترون بعدي ملكاً عضوضاً ، وملكاً عنوداً ، وأمة شعاعاً ، ودماً مفاحاً ، فإن كانت للباطل نزوة ولأهل الحق جولة يعفو لها الأثر ، وتموت السنن، فالزموا المساجد ، واستشيروا القرآن ، والزموا الجماعة ، وليكن الإبرام بعد التشاور ، والصفقة بعد طول التناظر . أي بلادكم خرشنة ؟ فإن الله سيفتح عليكم أقصاها ، كما فتح عليكم أدناها . ومن كلامه أنه أخذ يوماً بطرف لسانه وقال : هذا الذي أوردني الموارد .

وقدم وفد من اليمن عليه ، فقرأ عليهم القرآن فبكوا فقال : " هكذا كنا حتى قست القلوب " . وقال : " طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام " . ولما قال أحباب بن المنذر يوم السقيفة : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ، إن شئتم كررناها جذعة . منا أمير ومنكم أمير ، فإن عمل المهاجري شيئاً في الأنصاري رد عليه الأنصاري ، وإن عمل الأنصاري شيئاً في المهاجري رد عليه المهاجري . فأراد عمر الكلام ، فقال أبو بكر : على رسلك . نحن المهاجرون ، وأول الناس إسلاماً ، وأوسطهم داراً وأكرم الناس أحساباً وأحسنهم وجوهاً ، وأكثر الناس ولادة في العرب ، وأمسهم رحماً برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . أسلمنا قبلكم وقدمنا في القرآن عليكم ، فأنتم إخواننا في الدين ، وشركاؤنا في الفيء ، وأنصارنا على العدو . آويتم وواسيتم ونصرتم ، فجزاكم الله خيراً . نحن الأمراء وأنتم الوزراء . لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش ، وأنتم محقوقون ألا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما ساق الله إليهم . ومن كلامه ذلك اليوم : نحن أهل الله ، وأقرب الناس بيتاً من بيت الله ، وأمس الناس رحماً برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، إن هذا الأمر إن تطاولت له الخزرج لم تقصر عنه الأوس ، وإن تطاولت له الأوس لم تقصر عنه الخزرج ، وقد كان بين الحيين قتلى لا تنسى ، وجراح لا تداوى ، فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي الأسد يضغمه المهاجري ، ويجرحه الأنصاري . قال ابن دأب : فرماهم الله بالمسكتة . حدث سفيان بن عيينة لما قال عمر لأبي بكر : استخلف غيري . قال أبو بكر : ما حبوناك بها ، وإنما حبوناها بك . ثم أنشد سفيان قول الحطيئة : لم يؤثروك بها إذ قدموك لها . . . لكن لأنفسهم كانت بك الإثر وقيل له في مرضه : لو أرسلت إلى الطبيب قال : قد رآني . قيل : فما قال ؟ قال : قال إني أفعل ما أشاء . وقال لخالد بن الوليد حين أخرجه إلى أهل الردة : احرص على الموت توهب لك الحياة . أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مردفاً أبا بكر ، فكان الرجل يلقى أبا بكر فيقول : من هذا بين يديك ؟ فيقول : يهديني السبيل . يعني الحق . ولما أسلم قالت قريش : قيضوا لأبي بكر رجلاً يأخذه . فقيّضوا له طلحة بن عبيد الله ، فأتاه وهو في القوم فقال : يا أبا بكر إليّ . قال : إلام تدعوني ؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزى . فقال أبو بكر : من اللات والعزى ؟ قال : بنات الله . قال : فمن أمهن ؟ فسكت . وقال لأصحابه : أجيبوا صاحبكم . فسكتوا فقال طلحة : يا أبا بكر فإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فأخذ أبو بكر بيده ، فأتى به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد أسلم . ولما استخلف أبو بكر قال للناس : شغلتموني عن تجارتي فافرضوا لي . ففرضوا له كل يوم درهمين . ولما أرادوه على البيعة قال : علام تبايعونني ، ولست بأقواكم ولا أتقاكم ؟ أقواكم عمر ، وأتقاكم سالم . وكان إذا مدح يقول : اللهم أنت أعلم مني بنفسي ، وأنا أعلم منهم بنفسي ، اللهم اجعلني خيراً مما يحسبون ، واغفر مالا يعلمون ، ولا تؤاخذني بما يقولون .

وعهد عند موته فكتب : هذا ما عهد أبو بكر خليفة محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند آخر عهده بالدنيا ، وأول عهده بالآخرة ، في الحال التي يؤمن فيها الكافر ، ويتقي فيها الفاجر . إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن برّ وعدل فذاك علمي به ، ورأيي فيه ، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب ، والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون . وروي عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال : دخلت عليه في علته التي مات فيها ، فقلت : أراك بارئاً يا خليفة رسول الله . فقال : أما إني على ذلك لشديد الوجع ، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد عليّ من وجعي ، إني وليت أموركم خيركم في نفسي ، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه . والله لتتخذن نضائد الديباج وستور الحرير ، ولتألمن النوم على الصوف الأذربي ما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان . والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حق خير له من أن يخوض غمرات الدنيا . يا هادي الطريق جرت ، إنما هو والله الفجر أو البجر . فقلت : خفّض عليك يا خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن هذا يهيضك إلى ما بك ، فوالله ما زلت صالحاً مصلحاً لا تأسى على شيء فتك من أمر الدنيا ، ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلا خيراً . بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أقواماً يفضلونه على أبي بكر رضي الله عنه ، فوثب مغضباً حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ، ثم أقبل على الناس فقال : إني سأخبركم عني وعن أبي بكر : لما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ارتدت العرب ، ومنعت شاتها وبعيرها ، فأجمع رأينا كلنا أصحاب محمد أن قلنا : يا خليفة رسول الله ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمده اللهم بهم ، وقد انقطع ذلك اليوم ، فالزم بيتك ومسجدك ، فإنه لا طاقة لك بالعرب . فقال أبو بكر : أو كلكم رأيه هذا ؟ فقلنا : نعم . فقال : والله لأن أخرّ من السماء فتخطفني الطير أحب إليّ من أن يكون هذا رأيي . ثم صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وكبره ، وصلى على النبي عليه السلام ، ثم أقبل على الناس فقال :

أيها الناس ؛ من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت . أيها الناس ؛ ألأن كثر أعداؤكم وقل عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب ؟ والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون . قوله الحق ووعده الصدق : " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون " و " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " . أيها الناس . لو أفردت من جمعكم لجاهدتم في الله حق جهاده حتى ابلغ من نفسي عذراً ، أو أقتل مقتلاً . أيها الناس ؛ لو منعوني عقالاً لجاهدتم عليه ، واستعنت بالله فإنه خير معين . ثم نزل فجاهد في الله حق جهاده حتى أذعن العرب بالحق . وقال لأبي بكر رجل : والله لأشتمنك شتماً يدخل معك قبرك . قال : " معك يدخل والله لا معي " . وقال : والله إن عمر لأحب الناس إليّ . ثم قال: كيف قلت ؟ فقالت عائشة : قلت : والله إن عمر لأحب الناس إليّ . فقال : اللهم أعزّ الولد ألوط . ومر بعبد الرحمن ابنه وهو يماظّ جاراً له ، فقال : لا تماظّ جارك فإنه يبقى ويذهب الناس . وشكي إليه بعض عماله ، فقال : أنا اقيد من وزعة الله ؟ وكان من كلامه في خطبته يوم الجمعة : الوحاء الوحاء النجاء النجاء . وراءكم طالب حثيث مره سريع . تفكروا عباد الله ، فيمن كان قبلكم : أين كانوا أمس ؟ وأين هم اليوم ؟ أين الشباب الوضاء المعجبون بشبابهم، صاروا كلا شيء . أين الملوك الذين بنوا الحوائط واتخذوا العجائب ؟ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ، وهم في ظلمات القبور ، " هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً " أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب ؟ تضعضع بهم الدهر وصاروا رميماً . أين من كنتم تعرفون من آبائكم وأبنائكم ، وإخوانكم وقراباتكم ؟ وردوا على ما قدموا ، وخلوا يالشقاوة والسعادة فيما بعد الموت . اعلموا عباد الله أن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه خيراً ، ولا يدفع عنه ضراً إلا بطاعته ، واتباع أمره . فإن أحببتم أن تسلم دنياكم وآخرتكم فاسمعوا وأطيعوا ، ولا تفرقوا فتفرق بكم السبل ، وكونوا إخواناً كما أمركم الله . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . لما قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير . قال أبو بكر رضي الله عنه : إنا معشر هذا الحي من قريش أكرم الناس أحساباً ، وأثقبهم أنساباً ، ثم نحن بعد عترة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) التي خرج منها ، وبيضته التي تفقأت عنه ، وإنما جيبت العرب عنا كما جيبت الرحا عن قطبها . وقال له عبد الرحمن ابنه : لقد أهدفت لي يوم بدر فضفت عنك ، فقال له أبو بكر : لكنك لو أهدفت لي لم أضف عنك . ورأى أبا ذر فحنا عليه ، فقال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ما قال فيك ، فأعوذ الله أن أكون صاحبك . وقال : كنت عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل : " من يعمل سوءاً يجز به " فاقرأنيها ، فلا أعلم إلا وجدت لها انقصاماً في ظهري حتى تمطيت لها . ومر بحسن بن علي رضي الله عنهما يلعب مع الصبيان فاحتمله . وقال : بأبي شبيه النبي ليس بشبه لعلي . وقام عمر يوم الحديبية وأنكر الصلح ، فقال أبو بكر : استمسك بغرزه ، فإنه على الحق . وخطب فقال : إنكم تقرءون هذه الآية " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " . وإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب " .

وقال لعائشة : انظري ما زاد في مالي مذ دخلت هذه الإمارة فرديه إلى الخليفة بعدي ، فإني كنت نشحتها جهدي إلا ما كنا نصيب من ودكها . وقال في خطبة : تعلموا أن أكيس الكيس التقي ، وأن أعجز العجز الفجور ، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى أعطيه حقه ، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق . أيها الناس ؛ إنما أنا متبع ولست بمبتدع ، فإذا أحسنت فأعينوني ، وإذا زغت فقوموني . وقال في خطبة : إنكم في مهل وراءه أجل ، فبادروا في مهل آجالكم ، قبل أن تقطع آمالكم فتردكم إلى سوء أعمالكم . وخطب فقال : أوصيكم بتقوى الله ، أن تتقوه ، وتثنوا عليه بما هو أهله ، إنه كان غفاراً ، وأن تخلصوا لله اليقين فيما بلغكم في كتابه ، فإنه أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال : " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين " . ثم اعلموا عباد الله أن قد ارتهن بحقه أنفسكم ، وأخذ على ذلك مواثيقكم ، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي . هذا كتاب الله بينكم ، لا يطفأ نوره ، ولا تنفد عجائبه ، فاستنصحوا كتابه ، واتبعوا كلامه ، واستضيئوا منه ليوم ظلمتكم ، فإنما خلقكم لعبادته ، وأمركم بطاعته ، وقد وكل بكم كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون . ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ، فإن استطعتم أن تنقضى آجالكم وأنتم في عمل الله فافعلوا ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله . سارعوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي أعماركم فيريكم سوء أعمالكم . وقال في خطبة له في الردة : والله لا نبرح نقوم بأمر الله ، ونجاهد في سبيل الله حتى ينجز لنا وعده ، ويفي لنا بعهده ، فيقتل من يقتل منا شهيداً من أهل الجنة ، ويبقى من بقي منا خليفة في أرضه . وعد الصدق لا خلف له ، قال الله عز وجل : " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم " .

فانهضوا عباد الله إلى ما دعاكم الله إليه من غنيمته ، وسارعوا إلى ما وعدكم من جنته وأستغفر الله لي ولكم . وأوصى خالد بن الوليد حين خروجه إلى اليمامة فقال : يا خالد ، إنك تخرج مجاهداً ، دينك ودنياك بين عينيك ، وقد وهبن نفسك لله عز وجل ، ثم أعطاك عليها فربحت تجارتك ببياعتك . فسر إلى عدو الله على بركة الله ، واعلم أن خير الأمرين لك أبغضهما إليك . وقال لعكرمة حين وجهه إلى عمان : سر على بركة الله ، ولا تنزلن على ، ولا تؤمنن على حق مسلم . وقدم النذر بين يديك . ومهما قلت إني فاعل فافعل ، ولا تجعل قولك لغواً في عفو ولا عقوبة، فلا ترجى إذا أمنت ، ولا تخاف إذا خوفت ، ولكن انظر متى تقول وما تقول ، ولا تعذب على معصية بأكثر من عقوبتها ، فإنك إن فعلت اثمت ، وإن تركت كذبت ، ولا تؤمّنن شريفاً دون أن يكفل بأهله ، ولا تكلّفنّ ضعيفاً أكثر من نفسه ، واتق الله إذا لقيت ، وإذا لقيت فاصبر . وقال أبو بكر رضي الله عنه : من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي أكثر مما أوتي فقد صغّر عظيماً . يقول الله عز وجل : " ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم " . وقال لما احتضر لعمر : يا عمر ، إن لله حقاً بالليل لا يقبله إلا بالليل ، وإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضته ، فكن مؤمناً راغباً راهباً ، فلا ترغبن رغبةً تمنى على الله عز وجل فيها ما ليس لك ، ولا ترهبنّ رهبة تلقى بها بيديك إلى التهلكة . ثم قال : إن أول ما أحذرك نفسك وهؤلاء الرهط من المهاجرين ، فإنهم قد انتفخت أوداجهم وطمحت أبصارهم ، وتمنى كل امرئ منهم لنفسه . وإن لهم نحيرة ينحرونها عن زلة منه ومنهم ، فلا تكوننه ، فإنهم لن يزالوا فرقين منك ما فرقت من الله عز وجل فيما بيّن لك . وروي أنه قال : إني مستخلفك من بعدي ، وموصيك بتقوى الله ، فإن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار ، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل ، وإنه لا يقبل نافلةً حتى تؤدى فريضته ، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا ، وثقله عليهم ، وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلاً ، وإنما خفّت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل ، وخفته عليهم ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفاً . إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم ، فإذا ذكرتهم أقول : إني أرجو أن أكون من هؤلاء ، وذكر أهل النار فذكرهم بأسوء أعمالهم ولم يذكر حسناتهم ، فإذا ذكرتهم قلت : إني لأخاف أن أكون من هؤلاء . وذكر الرحمة مع آية العدل ليكون العبد راغباً راهباً لا يتمنى على الله عز وجل غير الحق ، ولا يلقي بيده إلى التهلكة . فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت ، وهو آتيك ، وإن أضعت وصيتي فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت ، ولست بمعجز الله عز وجل. وروي أنه لما أراد الوصية قال لعثمان : اكتب . فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة في أول عهده بالآخرة داخلاً فيها . وآخر عهده بالدنيا خارجاً منها ، حيث يصدق الكاذب ، ويؤمن الكافر الجاحد : إني استخلفت عليكم من بعدي . قال : ثم أدركته غشية ، فلما أفاق قال : ما كتبت ؟ قلت : كتبت عمر بن الخطاب . قال : موفّقاً رشيداً ، أما إنك لو تركته ما عذرتك . وكان إذا عزى رجلاً قال : ليس مع العزاء مصيبة ، ولا مع الجزع فائدة ، والموت اشد ما قبله وأهون ما بعده ، واذكروا فقد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تذل عندكم مصيبتكم ، وعظم الله أجركم . ومر به رجل ومعه ثوب ، فقال : أتبيع الثوب ؟ فقال : لا ، عافاك الله . فقال أبو بكر رضي الله عنه : قد علمتم لو تعلمون . قل : لا ، وعافاك الله . وقال : أربع من كن فيه كان من خيار عباد الله : من فرح للتائب ، واستغفر للمذنب ، ودعا للمدين ، وأعان المحسن على إحسانه .