الجزء الثاني - الباب الثالث : من كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه

الباب الثالث : من كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه

لما نقم الناس عليه قام رضي الله عنه يتوكأ على مروان ، وهو يقول : لكل أمة آفة ، ولما نعمة عاهة ، وإن آفة هذه الأمة ، وعاهة هذه النعمة عيّابون طعانون ، يظهرون لكم ما تحبون ، ويسرون ما تكرهون ، طغام مثل النعام ، يتبعون أول ناعق . لقد نقموا عليّ ما نقموه على عمر ، ولكنه قمعهم ووقمهم . والله إني لأقرب ناصراً ، وأعز نفراً، فمالي لا أفعل في الفضل ما أشاء ؟ . وروي أنه رضي الله عنه قال يوماً على المنبر : والله ما تغنيت ولا تمنيت ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام ، وما تركت ذلك تأثماً ، ولكن تركته تكرماً . اشتكى عليّ عليه السلام ، فعاده عثمان رضي الله عنه فقال : أراك أصبحت ثقيلاً . قال : أجل . قال : والله ما أدري أموتك أحبذ إليّ أن حياتك ؟ إني لأحب حياتك ، وأكره أن أعيش بعد موتك ، فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجاً ، إما صديقاً مسالماً ، أو عدواً معالناً ، فإنك كما قال أخو زياد : لقد جررت لنا حبل الشموس فلا يأساً مبيناً أرى منكم ولا طمعاً . فقال له عليّ عليه السلام: مالك عندي ما تخاف ، وما جوابك إلا ما تكره .

قدم إلى عثمان رضي الله عنه غلام في جنابة ، فقال : انظروا هل اخضر إزاره . قال سعيد بن المسيب : بلغ عثمان رضي الله عنه أن قوماً على فاحشة ، فأتاهم وقد تفرقوا ، فحمد الله وأعتق رقبة . روى الزهري قال : اشتكى عثمان رضي الله عنه فدخل عليه عليّ عائداً فقال عثمان لما رآه . وعائذة تعوذ بغير نصح . . . تود لو أن ذا دنف يموت قيل : لما صعد عثمان المنبر أرتج عليه فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا ؛ وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب . وكتب إلى علي رضي الله عنهما حين أحيط به : أما بعد ؛ فإنه قد بلغ السيل الزبى ، وجاوز الحزام الطبيين ، وتجاوز الأمر قدره ، وطمع فيّ من لا يدفع عن نفسه : فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل . . . وإلا فأدركني ولما أمزق وقال عثمان رضي الله عنه : إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن . وكان عثمان إذا نظر إلى قبر بكى ، فقيل له في ذلك . فقال : هو أول منازل الآخرة ، وآخر منازل الدنيا ، فمن شدد عليه فما بعده أشد ، ومن هون عليه فما بعده أهون . وكان يقول : ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه .

وقال رضي الله عنه : بلغني أن ناساً منكم يخرجون إلى سوادهم ، إما في تجارة ، وإما في جباية ، وغما في حشر ، فيقصرون الصلاة ، فلا يفعلوا ، فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصاً ، أو بحضرة عدو . وعرض به إنسان فقال : إني لم أفر يوم عينين فقال عثمان : فلم تسيرني بذنب قد عفا الله عنه ؟ . وقال : قد اختبأت عند الله خصالا ، إني لرابع الإسلام ، وزوجني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ابنته ثم ابنته ، وبايعته بيدي هذه اليمنى فما مسست بها ذكرى ، وما تغنيت ، ولا تمنيت ، ولا شربت خمراً في الجاهلية والإسلام . وقال : كل شيء يحب ولده حتى الحبارى . خص الحبارى لأنه يضرب بها المثل في الموق . وروى أن أم سلمة أرسلت إليه : يا بني ، ما لي أرى رعيتك عنك مزورين ، وعن جنابك نافرين ؟ لا تعفّ سبيلا كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لحبها ولا تقدح بزند كان أكباها . توخّ حيث توخى صاحباك ، فإنهما ثكما الأمر ثكماً ولم يظلماه . فقال عثمان رضي الله عنه : إن هؤلاء النفر رعاع غثرة تطأطأت لهن تطأطأ الدلاة ، وتلددت تلدد المضطر ، أرانيهم الحق إخواناً ، وأراهموني الباطل شيطاناً ، أجررت المرسون رسنه ، وأبلغت الراتع مسقاته ، فتفرقوا عليّ فرقاً ثلاثاً ، فصامت صمته أنفذ من صول غيره ، وساعٍ أعطاني شاهده ، ومنعني غائبه : ومرخص له في مدة زينت في قلبه . فأنا منهم بين ألسن لداد، وقلوب شداد ، وسيوف حداد ، عذيري الله منهم ، لا ينهى عالم جاهلاً ، ولا يردع أو ينذر حليم سفيهاً ، والله حسبي وحسبهم يوم لا ينطقون ، ولا يؤذن لهم فيعتذرون .

وقال عثمان رضي الله عنه : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا حرمه الله على النار " . قال عثمان : هي الكلمة التي ألاص عليها عمه . وقال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : يلحد بمكة رجل من قريش عليه نصف عذاب العالم فلن أكون إياه . وتكلم يوم الشورى فقال : الحمد لله الذي بعث محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) نبياً واتخذه رسولاً ، صدقه وعده ، ووهب له نصره على كل من بعد نسباً ، أو قرب رحماً ، ( صلى الله عليه وسلم ) . جعلنا الله وإياكم له تابعين ، ولأمره مهتدين . فهو لنا نور ، ونحن بأمره نقول عند تفرق الأهواء ومجازاة الأعداء ، جعلنا الله بفضله أئمة ، وبطاعته أمراء ، لا يخرج أمرنا منا ، ولا يدخل علينا غيرنا إلا من سفه عن القصد ، وأحر بها يا ابن عوف أن تكون إن خولف أمرك وترك دعاؤك ؛ فأنا أول مجيب لك وداع إليك ، كفيل بما أقول زعيم ، واستغفر الله لي ولكم ، وأعوذ بالله من مخالفتكم . وخطب حين بويع ، فقال بعد حمد الله ايها الناس . اتقوا الله ، فإن الدنيا كما أخبر الله عنها : " لعب ولهو وزينة وتفاخر " الآية . فخير العباد فيها من عصم واعتصم بكتاب الله ، وقد وكلت من أمركم بعظيم ، لا أرجو العون عليه إلا من الله ، ولا يوفق للخير إلا هو . " وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب " . وخطب رضي الله عنه ، وهو محصور فقال : أيها الناس ، إن عمر بن الخطاب صير هذا الأمر شورى في ستة ، توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو عنهم راض ، فاختاروني ، وأجمعوا عليّ فأجبتهم ولم آل عن العمل بالحق ، وما توفيقي إلا بالله ، وما أعلم أن لي ذنباً أكثر من طول ولايتي عليكم ، ولعل بعضكم أن يقول : ليس كأبي بكر وعمر . أجل أجل . ليت كهما ، والأشياء أشباه قريبة بعضها من بعض ، وقد زعمتم أنكم تخلعوني ، فأما الخلع فلا ، دون أن تعذروني بأمر لا يحل لي إلا خلعها من عنقي . وأما العتبى فلكم ونعمة العين . وخطب لما كثر الطعن عليه ، فقال : إني والله ما أتيت ما أتيت وأنا أجهله ، ولكن منتني نفسي ، وأضلتني رشدي ، وقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " لا تمادوا في الباطل " . وأنا أول من اتعظ ، فاستغفر الله ، فأشيروا عليّ ، فإنه لا يردني الحق إلى شيء إلا صرت إليه. وكان يقول : إني لأكره أن يأتي عليّ يوم لا أنظر فيه في عهد الله - يعني المصحف - . وكان حافظاً ، ولا يكاد المصحف يفارق حجره ، فقيل له في ذلك فقال : إنه مبارك جاء به مبارك . قال بعضهم : شهدت عثمان رضي الله عنه وهو محصور في القصر فأشرف على الناس ، فسمعته يقول : يا أيها الناس إن أعظمكم عنا غناءً من كف يده وسلاحه ، ولأن اقتل قبل الدماء أحب إليّ من أن أقتل بعد الدماء . وإنه والله ما حل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال ، والله ما فعلت منهن شيئاً منذ أسلمت : ثيب زان ، أو مرتد عن الإسلام ، أو نفس بنفس ، فيقتص منه . قال صعصعة بن صوحان : ما أعياني جواب أحد ما أعياني جواب عثمان رضي الله عنه ، دخلت عليه فقلت : أخرجنا من ديارنا وأبنائنا أن قلنا : ربنا الله . قال : نحن الذين أخرجنا من ديارنا وأبنائنا أن قلنا : ربنا الله . ومنا من مات بالحبشة ، ومنا من مات بأرض المدينة . ولما ورد ابن الزبير على عثمان رضي الله عنه بفتح إفريقية ، وأقامه للناس ، فتكلم فأحسن . قال عثمان : أيها الناس : انكحوا النساء على آبائهن وإخوتهن ، فإني لم أر كابي بكر الصديق ولداً أشبه به من هذا .

وروى عن ابن عباس أنه قال : وقع بين علي وعثمان كلام . فقال عثمان : ما أصنع بكم إن كانت قريش لا تحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأن وجوههم شنوف الذهب ، تشرب آنفهم قبل شفاههم . ونظر إليه معبد بن سنان وهو يغرس فسيلة ، فقال : أتغرس فسيلة ، وهذه الساعة قد أظلتك ؟ فقال عثمان : لأن يراني الله مصلحاً أحب إلي من أن يراني مفسداً . وكان يكثر النظر في المصحف ، فقيل له : أنت أحفظ أصحابك للقرآن وتكثر النظر ، فقال : إني أحتسب بنظري كما أحتسب بحفظي .