الجزء الثاني - الباب الرابع كلام الصحابة

الباب الرابع كلام الصحابة

عبد الله بن مسعود

خطبة له : أصدق الحديث كتاب الله ، وأوثق العرى كلمة التقوى ، خير الملل ملة إبراهيم ، وأحسن السنن سنة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، شر الأمور محدثاتها ، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ، خير الغنى غنى النفس ، خير ما ألقي في القلب اليقين ، الخمر جماع الآثام ، النساء حبالة الشيطان ، الشباب شعبة من الجنون ، حب الكفاية مفتاح المعجزة ، من الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبراً ، ولا يذكر الله إلا هجراً ، أعظم الخطايا اللسان الكذوب . سباب المؤمن فسق ، قتاله كفر ، أكل لحمه معصية ، من يتأل على الله يكذبه ، ومن يغفر يغفر له . مكتوب في ديوان المحسنين : من عفا عفي عنه .

ومن كلامه رضي الله عنه : حدث الناس ما حدجوك بأسماعهم ، ورموك بأبصارهم ، فإذا رأيت منهم فترة فأمسك . وكانت له ثلاث خصال : أولها السرار ، وهو سرار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له : إذنك عليّ أن تسمع سوادي . وكان معه سواك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو عصاه . وقيل له في مرضه : لو نظر إليك الطبيب . فقال : الطبيب أمرضني . وقال : ما الدخان على النار بأدل من الصاحب على الصاحب . قال بعضهم : اسكتتني كلمة عبد الله بن مسعود عشرين سنة حيث يقول : من كان كلامه لا يوافق فعله ، فإنما يوبخ نفسه . وقال : الدنيا كلها غموم ، فما كان منها من سرور فهو ربح . ودخل عليه عثمان رضي الله عنهما في مرضه ، فقال : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي . قال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي . وقال : القلوب تمل كما تمل الأبدان ، فابتغوا لها طرائف الحكمة . وقال : كفى بالرجل دليلاً على سخافة دينه كثرة صديقه . وقال : كونوا ينابيع العلم مصابيح الليل ، جدد القلوب ، خلقان الثياب ، أحلاس البيوت ، تخفون في الأرض ، وتعرفون في السماء . وقال : جردوا القرآن ليربو فيه صغيركم ، ولا ينأى عنه كبيركم ؛ فإن الشيطان يخرج من البيت تقرأ فيه سورة البقرة . وقال : إن التمائم والرقى والتولة من الشرك . وقال : إنكم مجموعون في صعيد واحد يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر . وقال : انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وهو صريع ، فقلت : قد أخزاك الله يا عدو الله ، ووضعت رجلي على مذمّره . فقال : يا رويعي الغنم ، لقد ارتقيت مرتقى صعباً ، لمن الدبرة ؟ فقلت : لله ولرسوله . فقال : أعمد من سيد قتله قومه . قال: ثم اجنززت رأسه فجئت به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال : إن طول الصلاة وقصر الخطبة مئنة من فقه الرجل . وقال : لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ، من لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ، يتهارجون كما تهارج البهائم ، كرجراجة الماء الخبيث التي لا تطعم . وقال : لأن أزاحم جملاً قد هيئ بالقطران أحب إليّ من أن أزاحم امرأة عطرة . وقال : ما شبهت ما غبر من الدنيا إلا بثغب ذهب صفوه ، وبقي كدره . وذكر الفتنة فقال : الزم بيتك . فقيل : فإن دخل عليّ بيتي ؟ قال : كن مثل الجمل الأورق الثفال الذي لا ينبعث إلا كرهاً ، ولا يمشي إلا كرهاً . وسار سبعاً من المدينة إلى الكوفة في مقتل عمر رضي الله عنه فصعد المنبر وقال : إن أبا لؤلؤة قتل أمير المؤمنين عمر . قال : فبكى الناس . قال : ثم إنا أصحاب محمد اجتمعنا فأمّرنا عثمان ولم نأل عن خبرنا ذا فوق . وقال : إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر . وقال : إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن . وقال: إن هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلموا من مأدبته . وقال : لأن أعض على جمرة حتى تبرد ، أحب إلي من أن أقول لأمر قضاه الله عز وجل : ليته لم يكن .

وقال : لا أعرفن أحدكم جيفة ليل ، قطرب نهار . وقال له رجل : إني أردت السفر فأوصني . فقال له : إذا كنت في الوصيلة فأعط راحلتك حظها ، فإذا كنت في الجدب فأسرع السير ولا تهود وإياك والمناخ على ظهر الطريق فإنه منزل للوالجة . وقال : لا تهذوا القرآن كهذّالشعر ، ولا تنثروه نثر الدقل - يقول : لاتعجلوا في تلاوته . وقال لرجل: إنك إن أخرت إلى قريب بقيت في قوم كثير خطباؤهم ، قليل علماؤهم ، كثير سائلوهم ، قليل معطوهم ، يحافظون على الحروف ويضيعون الحدود ، أعمالهم تبع لأهوائهم . وقال : لا تعجلوا بحمد الناس ولا بذمهم ، إلا عند مضاجعهم ، فإن الرجل يعجبك اليوم ، ويسوءك غدا ، ويسوءك اليوم ويسرك غدا . وقال : تجوزون الصراط بعفو الله ، وتدخلون الجنة برحمة الله ، وتقتسمونها بأعمالكم . وقال : أد ما افترض الله تكن أعبد الناس ، وارض بما قسم الله لك تكن أزهد الناس ، واجتنب ما حرم الله عليك تكن أورع الناس . وقال : من اليقين ألا تطلب رضا أحد من الناس بسخط الله ، ولا تحمد أحدا من الناس في رزق آتاك الله ، ولا تلوم أحدا من الناس فيما لم يؤتك الله ؛ فإن الله جعل الروح والراحة في اليقين و الرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط . وقال : عليكم بالعلم ؛ فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده . عليكم بالعلم قبل أن يقبض ، وقبضه ذهاب أهله .

واتبعه قوم ، فقال : لو علموا ما أغلق عليه بابي ما اتبعني رجلان . وقال : ما أبالي أبالفقر بليت أم بالغنى ، إن حق الله فيهما لواجب ؛ في الغنى البرّ والعطف ، وفي الفقر الصبر والرضا . وقالوا : لا تعادوا نعم الله فإن الحسود عدو النعم .

سلمان الفارسي

قال له عمر رضي الله عنه لما دون الدواوين : مع من نكتبك ؟ قال : مع الذين لا يريدون علوا في الأرض . قالوا : أضاف سلمان الفارسي رجلاً فقدم إليه كسراً وملحاً ، فقال : أما من جبن فرهن سلمان ركوته واشترى له خبزاً وجبناً ، فلما أكل وشبع قال : رضيت بما قسم الله لي . فقال سلمان : لو رضيت بما قسم الله لم ترهن الركوة . وكان سلمان يتعوذ بالله من الشيطان والسلطان والعلج إذا استعرب . وقال : القصد والدوام وأنت السابق الجواد . اشترى رجل بالمدائن شيئاً ، فمر سلمان وهو أمير بها فلم يعرفه ، فقال : احمل هذا معي يا علج . فحمله ، فكان من يتلقاه يقول : ادفعه إلي أيها الأمير ، والرجل يعتذر ، وهو يقول : لا والله ما يحمله إلا العلج ، حتى بلغ منزله . وروي أنه أخذ من بين يدي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه فانتزعها عليه السلام من فمه. وقال : إنما يحل لك من هذا ما يحل لنا . وقال : الناس أربعة : أسد ، وذئب ، وثعلب ، وضأن ، فأما الأسد فالملوك يفرسون ويأكلون ، وأما الذئب فالتجار ، وأما الثعلب فالقراء المخادعون ؛ وأما الضأن فالمؤمن ينهشه من رآه .

ودخل عليه سعد يعوده فجعل يبكي . فقال سعد : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ . قال : والله ما أبكي جزعاً من الموت ، ولا حزناً على الدنيا . ولكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عهد إلينا : " ليكف أحدكم مثل زاد الراكب " وهذه الأساود حولي ، وما حوله إلا مطهرة وإجانة وجفنة . وقال : أحيوا ما بين العشاءين فإنه يحط عن أحدكم من جزئه، وإياكم وملغاة أول الليل ، فإن ملغاة أول الليل مهدنة لآخره . وقال : إن صاحب عمورية قال لي : قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم عليه السلام مهاجره أرض ذات نخل ، فقدمت وادي القرى فرأيت بها النخل فطمعت أن تكون ، وما حقت لي أن تكون . وقال سلمان : البر لا يبلى والإثم لا ينسى . وكتب إلى أبي هريرة : إن نافرت الناس نافروك ، وإن تركتهم لم يتركوك ، فأقرضهم من عرضك ليوم فقرك ، وكفى بك ظالماً ألاّ تزال مخاصماً . وكتب سلمان أيضاً إلى أبي هريرة : إنك لن تكون عالماً حتى تكون متعلماً ، ولن تكون بالعلم عالماً حتى تكون به عاملاً .

أبو ذر الغفاري

لما بنى معاوية خضراء دمشق أدخلها أبا ذر رحمه الله ، فقال له : كيف ترى ما ها هنا ؟ قال : إن كنت بنيتها من مال الله فأنت من الخائنين ، وإن كنت بنيتها من مالك فأنت من المسرفين . وقال : كان الناس زرقاً لا شوك فيه ، فصاروا شوكاً لا ورق فيه . وقال : يخضمون ونقضم ، والموعد الله .

وقال : إن لك في مالك شريكين : الحدثان والوارث ، فإن قدرت ألاّ تكون أخس الشركاء حظاً فافعل . ولما أمر عثمان بتسييره إلى الربذة قال له : إني سائر إلى ربذتك ، فإن مت بها فأنا طريدك ، فإذا بعثني ربي حكم بيني وبينك. قال : إذا أحجك ، إنك تبغي عليّ وتسعى . قال أبو ذر : إن كنت أنت الحاكم فاحججني ، إن الحكم يومئذ لا يقبل الرشوة ، ولا بينه وبين أحد قرابة . نظر عثمان إلى عير مقبلة ، فقال لأبي ذر : ما كنت تحب أن تكون هذه العير ؟ قال : رجالاً مثل عمر . وكان يقول : إنما مالك لك ، أو للجائحة ، أو للوارث ، فلا تكن أعجز الثلاثة . وقيل له : أتحب أن تحشر في مسلاخ أبي بكر ؟ قال : لا . قيل : ولم ؟ قال : لأني على ثقة من نفسي وشك من غيري . وشتمه رجل ، فقال له أبو ذر : ياهذا لا تغرق في سبنا ودع للصلح موضعاً ، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه . وقال أبو ذر : ما تقدر قريش أن تفعل بي ؟ والله للذل أحب إليّ من العز . ولبطن الأرض أحب إليّ من ظهرها . وقال : أيها الناس ، إن آل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هم الأسرة من نوح ، والآل من إبراهيم ، والصفوة والسلالة من إسماعيل ، والعترة الطيبة الهادية من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزلوا آل محمد بمنزلة الرأس من الجسد ، بل بمنزلة العينين من الرأس ، فإنهم فيكم كالسماء المرفوعة ، وكالجبال المنصوبة، وكالشمس الضاحية ، وكالشجرة الزيتونة أضاء زيتها وبورك زندها . وقيل له : ما تقول في النبيذ ؟ قال : شربه حلال ، وتركة مروءة . وقال لغلامه : لم أرسلت الشاة على علف الفرس . قال : أردت أن أغيظك . قال : لأجمعن مع الغيظ أجراً ، أنت حر لوجه الله .

وقال : نرعى الخطائط ونرد المطائط ، وتأكلون خضماً ونأكل قضماً والموعد الله . وقال : إنكم في زمان الناس فيه كالشجرة المخضودة لا شوك لها ، إن دنوت منهم لاطفوك ، وإن أمرتهم بمعروف أطاعوك ، وإن نهيتهم عن منكر لم يعادوك ، وسيأتي زمن الناس فيه كالشوك ، إن دنوت منهم آذوك ، وإن أمرتهم بمعروف عصوك ، وإن نهيتهم عن منكر عادوك ، فرحم الله رجلاً تصدق من عرضه ليوم فاقته . وقال للقوم الذين حضروا وفاته : أنشدكم الله والإسلام أن يكفنني منكم رجل كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً . وجاءت إليه ابنته عليها محش من صوف ، فقالت : يا أبه زعم الزاعمون أن أفلسك بهرجة . قال : ضعي ثقتك واحمدي الله ، إن أباك ما أمسى يملك حمراء ولا صفراء إلا أفلسك هذه . وقال أبو ذر : فارقت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقوتي من الجمعة إلى الجمعة مد، لا والله لا أزداد عليه حتى ألقاه . وكان يقول : اللهم أمتعنا بخيارنا ، وأعنا على شرارنا . وقال : الحمد لله الذي جعلنا من أمة تغفر لهم السيئات ، ولا تقبل من غيرهم الحسنات . وروى في حديث إسلامه قال : قال لي أخي أنيس: إن لي حاجة بمكة ، فانطلق ، فراث ، فقلت : ما حبسك ؟ قال : لقيت رجلاً على دينك يزعم أن الله أرسله . قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : ساحر شاعر كاهن . قال أبو ذر : وكان أنيس أحد الشعراء . فقال : والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر ، فلا يلتئم على لسان أحد . ولقد سمعت قول الكهنة ، فما هو بقولهم ، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون . قال أبو ذر : فقلت : اكفني حتى أنظر . قال : نعم ، وكن من أهل مكة على حذر ، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا . فانطلقت فتضعفت رجلاً من أهل مكة ، فقلت : أين هذا الرجل الذي تدعونه الصابئ ؟ قال : فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم وحجر ، فخررت مغشياً عليّ ، فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر ، فأتيت زمزم فغسلت عني الدم ، وشربت من مائها ، ثم دخلت بين الكعبة وأستارها ، فلبثت بها ثلاثين من بين يوم وليلة ، ومالي بها طعام إلا ماء زمزم ، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني ، وما وجدت على كبدي سخفة جوع . قال: فبينما أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان ، قد ضرب الله على أصمختهم ، فما يطوف بالبيت غير امرأتين ، فأتيا عليّ وهما يدعوان إسافاً ونائلة فقلت : أنكحوا أحدهما الأخرى . قال : فما ثناها ذلك ، فقلت : وذكر كلاماً فاحشاً لم يكن عنه ، فانطلقتا وهما تولولان وتقولان : لو كان ها هنا أحد من أنفارنا . فاستقبلهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر بالليل وهما هابطان من الجبل . فقال لهما : ما لكما ؟ قالتا : الصابئ بين الكعبة وأستارها . قال : فما قال لكما ؟ قالتا : كلمة تملأ الفم . ثم ذكر أنه خرج إليه ، وسلم عليه ، وأنه أول من حياه بتحية الإسلام ، قال : وذهبت لأقبل بين عينيه فقدعني صاحبه .

المغيرة بن شعبة

ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : كان أفضل من أن يخدع ، وأعقل من أن يخدع ، وما رأيت مخاطباً له قط إلا رحمته كائناً من كان .

وقال : من أخر حاجة الرجل فقد ضمنها . وقال له عمر رضي الله عنه : ما أدري كيف أعامل أهل الكوفة ؟ إن أرسلت إليهم مؤمناً ضعفوه ، وإن أرسلت إليهم قوياً فجروه . فقال المغيرة : يا أمير المؤمنين ، الضعيف إيمانه له وعليك ضعفه ، والفاجر قوته لك وعليه فجوره . فولاه الكوفة . وقال : ملكت النساء على ثلاث طبقات : كنت أرضيهن في شبيبتي بالباه ، فلما شبت أرضيتهن بالمداعبة والمفاكهة ، فلما كبرت أرضيتهن بالمال . وقيل له : إن بوابك يأذن لأصحابه قبل أصحابك . فقال : إن المعرفة لتنفع عند الكلب العقور ، والجمل الصئول ، فكيف بالرجل الكريم ؟ . ورأى عروة بن مسعود يكلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويتناول لحيته يمسها ، فقال : أمسك يدك عن لحية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل ألا تصل إليك . فقال عروة : يا غدر ، وهل غسلت رأسك من غدرتك إلا بالأمس ؟ وحديث غدرته أنه خرج مع سبعة نفر من بني مالك إلى مضر ، فعدا عليهم فقتلهم جميعاً وهم نيام ، واستاق العير ولحق برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وكان يقول : لا يزال الناس بخير ما تعجبوا من العجب . وقال : السفلة من لا يبالي ما قال وما قيل له ، ولا ما فعل ولا ما فعل به . وقال : ما صنعت لرجل حاجة إلا كنت أضن بها منه حتى أربها .

عمرو بن العاص

قال : ثلاث لا أملهن : جليسي ما فهم عني ، وثوبي ما سترني ، ودابتي ما حملت رحلي .

وقال لعبد الله بن عباس يوم صفين : إن هذا الأمر الذي نحن وأنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء ، وقد بلغ الأمر بنا وبكم ما ترى ، وما أبقت لنا هذه الحرب حياة ولا صبراً ، ولسنا نقول : ليت الحرب عادت ، لكنا نقول : ليتها لم تكن فانظر فيما بقي بعين ما مضى ، فإنك رأس هذا الأمر بعد علي ، وإنما هو أمير مطاع ، ومأمور مطيع ، ومشاور مأمون ، وأنت هو . نصب معاوية قميس عثمان على المنبر ، فبكى أهل الشام . فقال : هممت أن أدعه على المنبر . فقال له عمرو : إنه ليس بقميص يوسف ، وإنه إن طال نظرهم إليه وبحثوا عن السبب وقفوا على ما لا تحب ، ولكن لذعهم بالنظر إليه في الأوقات . وقال لابنه وقد ولي ولاية : انظر حاجبك فإنه لحمك ودمك ، فلقد رأينا بصفين وقد اشرع قوم رماحهم في وجوهنا ، ما لنا ذنب إليهم إلا الحجاب . وقال : ما وضعت سري عند أحد قط فأفشاه فلمته ، لأني أحق باللوم أن كنت أضيق صدراً منه . وكان بين طلحة بن عبيد الله والزبير مداراة في واد بالمدينة ، فقالا : نجعل بيننا عمرو بن العاص ، فأتياه فقال لهما : أنتما في فضلكما وقديم سوابقكما ونعمة الله عليكما تختلفان ، وقد سمعتما من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثل ما سمعت ، وحضرتما من قوله مثل الذي حصرت ، فيمن اقتطع شبراً م ، أرض أخيه بغير حق أنه يطوقه من سبع أرضين . والحكم أحوج إلى العدل من المحكوم عليه ، وذلك لأن الحكم إذا جار رزئ في دينه ، والمحكوم عليه إذا جير عليه رزئ عرض الدنيا . إن شئتما فأدليا بحجتكما ، وإن شئتما فاصطلحا ، وأعطى كل واحد منهما صاحبه الرضا . وقال : ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر ، ولكنه الذي يعرف خير الشرين .

قال المدائني : جعل لرجل جعل على أن يسأل عمرو بن العاص وهو على المنبر عن أمه ، فلما قام على المنبر ، قال له : يا عمرو ، من أمك ؟ قال : سلمى بنت خزيمة ، تلقب بالنابغة ، من بني جلان من عنزة ، أصابتها رماح العرب فصارت للفاكه بن المغيرة ، ثم صارت إلى عبد الله بن جدعان ، ثم صارت للعاص بن وائل فولدت فأنجبت؛ اذهب فخذ جعلك الذي جعل لك . وقال عمر رضي الله عنه يوماً لجلسائه - وفيهم عمرو بن العاص - : ما أحسن كل شيء ؟ فقال كل رجل برأيه وعمرو ساكت ، فقال عمر : ما تقول ؟ قال : الغمرات ثم ينجلين . وكان يقول : عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة . أي عليكم بجسام الأمور . ونظر إليه على بغلة ؟ قد شمط وجهها هرماً ، فقيل له : أتركب هذه وأنت على أكرم ناخرة بمصر ؟ فقال : لا ملل عندي لدابتي ما حملت رحلي ، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي ، ولا لصديقي ما حفظ سري ، إن الملل من كواذب الأخلاق . وقال لعائشة : لوددت أنك قتلت يوم الجمل . فقالت : ولم ؟ لا أبالك قال : كنت تموتين بأجلك ، وتدخلين الجنة ، ونجعلك أكبر تشنيع على عليّ . وروي عن ابن عباس قال : دخلت على عمرو بن العاص وقد احتضر . فقلت : يا أبا عبد الله إنك كنت تقول : أشتهي أن أرى عاقلاً يموت حتى أسأله كيف يجد ، فكيف تجدك ؟ فقال : أجد السماء كأنها مطبقة على الأرض وأنا بينهما ، وأراني كأني أتنفس من خرت إبرة . ثم قال : اللهم خذ مني حتى ترضى ، ثم رفع يده فقال : اللهم أمرت فعصينا ، ونهيت فركبنا ، فلا برئ فأعتذر ، ولا قوي فأنتصر ، ولكن لا إله إلا الله . - ثلاثاً - ثم فاظ .

وقال : إذا أنا أفشيت سري إلى صديقي فأذاعه فهو في حل . فقيل له : وكيف ؟ قال : أنا كنت أحق بصيانته . وقال لبنيه : اطلبوا العلم ، فإن استغنيتم كان جمالاً ، وإن افتقرتم كان مالاً . وقدم على عمر من مصر ، وكان واليه عليها، فقال : كم سرت ؟ . قال : عشرين . فقال عمر : لقد سرت سير عاشق . فقال عمرو : إني والله ما تأبطتني الإماء ولا حملتني البغايا في غبرّات المآلي . فقال عمر : والله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه ، وإن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل ، والبيضة منسوبة إلى طرفها . فقام عمرو متربد الوجه . قال عمرو : يا بني، إمام عادل خير من مطر وابل ، واسد حطوم خير من سلطان ظلوم ، وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم ، ولأن تمازح وأنت مجنون خير من أن يمازحك مجنون ، وزلة الرجل عظم يجبر ، وزلة اللسان لا تبقي ولا تذر ، واستراح من لا عقل له . وكتب إلى عمر رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين ، إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف ، دود على عود ، بين غرق وبرق . فقال عمر : لا يسألني الله عن أحد حملته فيه . وقال : إن ابن حنتمة بعجت له الدنيا معاها ، وأطعمته شحمتها ، وأمطرت له جوداً سال منها شعابها ، ودفقت في محافلها فمصّ منها مصّا ، وقمص منها قمصاً ، وجانب غمرتها ومشى ضحضاحها وما ابتلت قدماه ، ألا كذاك أيها الناس ؟ قالوا : نعم رحمه الله . وقال لعثمان وهو على المنبر : يا عثمان ؟ إنك قد ركبت بهذه الأمة نهابير من الأمر ، وزغت وزاغوا فاعتدل أو اعتزل .

وكان في سفر ، ففرفع عقيرته بالغناء ، فاجتمع الناس ، فقرأ فتفرقوا . فعل ذلك وفعلوه غير مرة . فقال : يا بني المتكاء ، إذا أخذت في مزامير الشيطان اجتمعتم ، وإذا أخذت في كتاب الله تفرقتم وقيل له في مرضه : كيف تجدك؟ قال : أجدني أذوب ولا اثوب ، أجدني نجوي أكثر من رزئي . وكتب إلى معاوية : إنه ليس أخو الحرب من يضع خور الحشايا عن يمينه وشماله ، ويعاظم الأكلاء اللقم ، ولكنه من حسر عن ذراعيه ، وشمر عن ساقيه ، وأعد للأمور آلاتها ، وللفرسان أقرانها . وقال له عثمان رضي الله عنه : قم فاعذرني عند الناس فقد كثر طعنهم علي ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وما أكرمه الله به ، ثم قال : إني قد صحبت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورأيته ، وقد سبق منكم من سبق فرأى ما لم أر ، فرأيت السعة تكون فيعمها الناس دون نفسه ، وتكون الخصاصة فيخصها نفسه وأهل بيته دون الناس . ثم ولى الناس أبو بكر ، فسلك سبيله ، حتى خرج من الدنيا في ثوب ليس له رداء . ثم وليها ابن حنتمة فانبعجت له الدنيا فقمص منها قمصا ، ومصها مصا ، وجانب غمرتها ، ومشى في ضحضاحها حتى خرج مشمراً ، ما ابتلت عقبه . أكذاك أيها الناس ؟ قالوا : اللهم نعم . ثم ولى عثمان فقلتم تلومونه ، وقال يعذر نفسه ، فعلى رسلكم ، فرب أمر تأخيره خير من تعجيله ، وإن الحسير يبلغ ، والهزيل يبقى ثم جلس ، فقال عثمان رضي الله عنه : ما زلت منذ اليوم فيما لا ينفع أهلك . قال : فإني قلت بما أعلم . وقال يوم صفين : يا أهل الشام ، أقيموا صفوفكم مثل قص الشارب ، وأعيرونا جماجمكم ساعة من نهار ، فقد بلغ الحق مقطعه ، وإنما هو ظالم أو مظلوم . وقال له سلامة بن روح الجذامي : إنه كان بينكم وبين العرب باب فكسرتموه ، فما حملكم على ذلك ؟ قال : أردنا أن نخرج الحق من حفير الباطل . ولما أخرج عمر إليه - وهو بمصر والياً لها من جهته - محمد بن مسلمة الأنصاري ، فشاطره ماله . قال عمرو بن العاص : لعن الله زماناً كنت فيه والياً لعمر ، والله لقد رأيته في الجاهلية وأباه ، وعلى رأس كل واحد منهما حزمة من حطب ، وعلى كل واحد منهما عباءة قطوانية ما تواري مآبض ركبتيه ، وما كان العاص بن وائل يلبس في الجاهلية إلا الديباج مزرراً بالذهب . فقال محمد بن مسلمة : عمر - والله - خير منك ، فأما أبوك وأبوه ففي النار ، وأيم الله لولا الذي سنيت لألفيت معتقلاً شاة يسرك غزرها ، ويسوؤك جمادها . قال : صدقت ، ولكني غضبت فقلت ما قلت ، وهي أمانة عندك لن تذكرها لعمر . وقال عمرو لمعاوية : لا يكن شيء آثر عندك في أمر رعيتك ، وتكون له اشد تفقداً منك كخصاصة الكريم ، أن تعمل في سدها ، وكطغيان اللئيم أن تقمعه ، واستوحش من الكريم الجائع ، ومن اللئيم الشبعان . فإن الكريم يصول إذا جاع ، واللئيم يصول إذا شبع . وقال : جمع العجز إلى التواني ، فنتج بينهما الندامة، وجمع الحزم إلى الكسل ، فخرج بينهما الحرمان . وقال : من طلب لسره موضعاً فقد أشاد به .

طلحة

قال لعمر رضي الله عنه حين استشارهم في جموح الأعاجم : قد حنكتك الأمور ، وجرستك الدهور ، وعجمتك البلايا ، فأنت ولي ما وليت ، لا ينبو في يديك ، ولا يحول عليك . لما حصر عثمان رضي الله عنه جاء علي عليه السلام إلى طلحة ، وهو مسند ظهره إلى وسادة في بيته فقال : أنشدك الله لما رددت الناس عن عثمان . فقال طلحة : لا والله حتى تعطي بنو أمية من أنفسها . قال ابن عباس : بعثني علي رضي الله عنه بالبصرة إلى طلحة والزبير فأتيتهما فقلت لهما : أخوكما يقرئكما السلام ، ويقول لكما : ما الذي نقمتما عليّ ؟ استشار بفيء أو جور في حكم ؟ قال : فأما الزبير فسكت ، وأما طلحة فقال : لا واحدة من ثنتين .

أبو موسى الأشعري

قال : من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه ، وإكرام ذي السلطان المقسط . وقيل له زمن علي عليه السلام ومعاوية : أهي ؟ فقال : إنما هذه الفتنة ، حيصة من حيصات الفتن ، وبقيت الرداح المظلمة ، التي من أشرف لها أشرفت له .

كتب معاوية إلى أبي موسى بعد الحكومة - وهو يومئذ بمكة عائذ بها من علي عليه السلام ، وإنما أراد بكتابته أن يضمه إلى الشام - : " أما بعد ؛ فإنه لو كانت النية تدفع خطأ لنجا المجتهد ، وأعذر الطالب ، ولكن الحق لمن قصد له فأصابه ، ليس لمن عارضه فأخطأه . وقد كان الحكمان إذا حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما . وقد اختار القوم عليك ، فاكره منهم ما كرهوا منك ، فأقبل إلى الشام فهي أوسع لك . فكتب أبو موسى إليه : أما بعد ؛ فإني لم اقل في علي إلا بما قال صاحبك فيك . إلا أني أردت ما عند الله ، وأراد عمرو ما عندك ، وقد كانت بيننا شروط ، والشورى عن تراض ، فلما رجع رجعت ، فأما الحكمان وأنه ليس للمحكوم عليه الخيار ، فإنما ذلك في الشاة والبعير ، فأما في أمر هذه الأمة فليس أحد آخذاً لها بزمام ما كرهوا ، وليس يذهب الحق لعجز عاجز ولا مكيدة كائد. وأما دعاؤك إياي إلى الشام ، فليست بي رغبة عن حرم إبراهيم عليه السلام . فلما بلغ علياً عليه السلام قوله رق له ، وأحب أن يضمه إليه ، فكتب إليه : أما بعد : فإنك رجل أمالك الهوى ، واستدرجك الغرور . ولما هجن أبو موسى فرس حجل بن نضلة قال له حجل : أنت بالبقر أبصر . قال أبو موسى : أما إنك إذا أصبتها صغيرة الرأس لطيفة الأذن دقيقة القرن ، سابغة الغبب ، واسعة الجفرة ، رقيقة الذنب فإنها مما تكون كريمة .

ابن عمر

كتب إليه رجل يسأله عن العلم ؛ فأجابه : إنك كتبت تسأل عن العلم .

والعلم أكثر من أن أكتب به إليك ، ولكن إن استطعت أن تلقى الله عز وجل كافّ اللسان عن أعراض المسلمين ، خفيف الظهر من دمائهم ، خميص البطن من أموالهم ، لازماً لجماعتهم فافعل . وقال ابن عمر : كان الرجل إذا أراد أن يعيب جاره طلب الحاجة إلى غيره . استأذن على الحجاج ليلاً ، فقال الحجاج : إحدى حماقات أبي عبد الرحمن . فدخل ، فلما وصل قال له الحجاج : ما جاء بك ؟ قال : ذكرت قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية " فمد إليه رجله ، فقال : خذ فبايع . أراد بذلك الغض منه . سئل ابن عمر : هل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يلتفت في الصلاة ؟ فقال : لا ، ولا في غير الصلاة . وكان إذا حدثه محدث فقال: زعموا . قال له ابن عمر : " زعموا " من زوامل الكذب . وجاء إليه رجل فقال : الزنا يقدر ؟ قال : نعم . قال : يقدر عليّ ثم يعذبني قال : نعم يابن اللخناء . وقيل له : إن المختار يزعم أنه أوحي إليه . قال : صدق ، أما سمعت قول الله تعالى : " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " . قال بعضهم : أتيته ، فقلت : أتجب الجنة لعامل بكل الخيرات وهو مشرك ؟ فقال : لا . قلت له : أتجب النار لعامل بالشر كله وهو موحد ؟ فقال ابن عمر : عش ولا تفتر . فأتيت ابن عباس فسألته ، فأجابني بمثل جوابه سواء قال : عش ولا تفتر . ورأى رجلاً محرماً قد استظل ، فقال : اضح لمن أحرمت له . وروي أنه شهد فتح مكة وهو ابن عشرين سنة ، ومعه فرس حرون ، وجمل جرور وبردة فلوت ، فرآه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو يختلي لفرسه فقال : إن عبد الله إن عبد الله . وقال : لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما لهدته . وذكرت عنده الفتنة ، فقال : لأكونن فيها مثل الجمل الرداح ، الذي يحمل عليه الحمل الثقيل ، فيهرج فيبرك ، ولا ينبعث حتى ينحر . جاء إليه رجل قد حج بأمة على ظهره . فقال : أتراني قضيتها ؟ قال ابن عمر : لا ، ولا طلقة واحدة . وقال : ما رأيت بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسود من معاوية . قيل : ولا عمر ؟ قال : كان عمر خيراً منه ، وكان معاوية أسود من عمر . وبلغه أن معاوية قتل حجراً واصحابه ، فقال : إن معاوية كان جملاً طباً نباطياً ، وإن ابن سمية تركه حماراً مصرياً . وقف عبد الله بن عامر بن كريز بعرفات يوم عرفة ، ومعه جماعة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم عبد الله بن عمر وجماعة من التابعين ، فقال : كيف ترون وقفي هذا ؟ . يريد : العين والحياض التي وقفها على الحاج . فكل أثنى وقرّظ ، وقال : هذا وقف شريف في يوم عظيم ، وابن عمر ساكت لا يتكلم ، فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، ما لك لا تتكلم ؟ فقال : إذا طابت المكسبة زكت النفقة ، وسترد فتعلم . أتى رجل الحسن بن علي عليهما السلام فسأله ، فقال له الحسن : إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح ، أو فقر مدقع ، أو حمالة مفظعة . فقال الرجل : ما جئت إلا في إحداهن ، فأمر له بمائة دينار . ثم أتى الحسين عليه السلام فسأله ، فقال له مثل مقالة أخيه ، فرد عليه مثل ما رد على أخيه ، قال : كم أعطاك ؟ فأخبره ، فنقصه ديناراً عن مائة وأعطاه ، وكره أن يساوي أخاه . ثم أتى الرجل عبد الله بن عمر . فسأله ، فأعطاه سبعة دنانير ولم يسأله عن شيء ، فقال : إني أتيت الحسن والحسين رضي الله عنهما واقتص كلامهما وما أعطياه . فقال عبد الله : ويحك . وأين تجعلني منهما ؟ إنهما غرا العلم غرا . وقال : إنا معشر قريش نعد الحلم والجود سؤدداً ، ونعد العفاف والصلاح مروءة . ورأى جارية صغيرة تغنى فقال : لو ترك الشيطان أحداً لترك هذه.

أبو الدرداء

كان يقول : أبغض الناس إليّ أن أظلمه ، من لا يستعين عليّ بأحد إلا الله . وقال : من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها . وقال : نعم صومعة المرء منزله ، يكف فيه بصره ونفسه وفرجه ، وإياكم والجلوس في الأسواق فإنها تلغي وتلهي .

وقال : لولا ثلاث لصلح الناس : هوى متبع ، وشح مطاع ، وإعجاب المرء بنفسه . وقال : بئس العون على الدين قلب نخيب ، وبطن رغيب ، ونفط شديد . وقال : لأنا أعلم بشراركم من البيطار بالخيل ، هم الذين لا يأتون الصلاة إلا دبراً ، ولا يستمعون القول إلا هجراً ، ولا يعتق محررهم . وقال : خير نسائكم التي تدخل قيسا ، وتخرج ميساً ، وتملأ بيتها أقطاً وحيساً ، وشر نسائكم السلفعة البلقعة ، التي تسمع لأضراسها قعقعة ، ولا تزال جاريتها مفزعة . وقال : معروف زماننا منكر رمان قد فات ، ومنكره معروف زمان لم يأت . سئل عن قوله تعالى : " كل يوم هو في شأن " . فقال : سئل عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : من شأنه أن يغفر ذنباً ، ويكشف كرباً ، ويرفع أقواماً ويضع آخرين . وقال أبو الدرداء : إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل ، ليكون أقوى لها على الحق . وأتى باب معاوية فلم يؤذن له ، فقال : من يأت سدد السلطان يقم ويقعد ، ومن يجد باباً مغلقاً يجد إلى جنبه فتحاً رحباً ، إن دعا أجيب ، وإن سأل أعطي . وقال : من يتفقد يفقد ، ومن لا يعد الصبر لفواجع الأمور يعجز . وقال : إن قارضت الناس قارضوك ، وإن تركتهم لم يتركوك . قال الرجل : فكيف أصنع ؟ قال : أقرض من عرضك ليوم فقرك .

وقال : سلوني ، فلئن فقدتموني لتفقدن زملاً عظيماً من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال : أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث ، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه ، وغافل ليس بمغفول عنه ، وضاحك ملء فيه ولا يدري أراض عليه ربه أم غضبان . وابكاني هول المطلع ، وانقطاع الأمل ، وموقفي بين يدي الله عز وجل ، لا أدري أيؤمر بي إلى الجنة أم إلى النار . وقال : ما لي أرى علماءكم يذهبون ، وجهالكم لا يتعلمون ؟ . وقيل له : فلان يقرئك السلام . قال : هدية حسنة ومحمل خفيف . وأشرف على معاوية وعمرو بن العاص وهما جالسان ، فجاء فجلس بينهما ، ثم قال : هل تدريان لم قعدت بينكما ؟ قالا : لا . قال : إني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين فافرقوا بينهما ، فإنهما لن يجتمعا على خير . وقال : مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها . وقال : أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي : قد علمت ، فماذا عملت فيما قد علمت .

عبد الله بن عمرو بن العاص

قال : كنا عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : " يطلع من هذا الفج رجل من أمتي ويبعث يوم القيامة على غير ملتي " . قال : وكنت تركت أبي يتوضأ ودعا بثيابه ليأتي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . قال : فكنت كضابط البول مخافة أن يكون أبي ؛ إذ طلع معاوية ، فقال عليه السلام : هذا هو . وسأله أبوه عن السؤدد ، فقال : اصطناع العشيرة ، واحتمال الجريرة . وعن الشرف ، فقال : كف الأذى ، وبذل الندى . وعن المروءة ، فقال : عرفان الحق،

وتعهد الصنيعة . وعن السناء ، فقال : استعمال الأدب ، ورعاية الحسب . وعن المجد ، فقال : حمل المغارم ، وابتناء المكارم . وعن الحلم ، قال : كظم الغيظ ، وملك الغضب . وعن الحزم ، فقال : تنتظر فريستك ، ولا تعاجل حتى يمكنك . وعن الرفق . فقال : أن تكون ذا أناة ، دون مخاشنة الولاة . وعن السماحة ، قال : حب السائل ، وبذل النائل . وعن الجود ، قال : أن ترى نعماك زائدة ، والعطية فائدة . وعن الغنى ، قال : قلة تمنيك ، والرضا بما يكفيك . وعن الفقر ، قال : شره النفس ، وشدة القنوط . وعن الرقة ، قال : اتباع اليسير ، ومنع الحقير . وعن الجبن، قال : طاعة الوهل ، وشدة الوجل . وعن الجهل ، قال : سرعة الوثاب ، والعيّ بالجواب .

حسان

قال لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام - وعنده المهاجرون والأنصار - : والله يا أمير المؤمنين ما نقول : إنك قتلت عثمان ، ولكنك خذلته ، وما نقول : إنك أمرت بقتله ، ولكنك لم تنه . والخذل أخو القتل ، والسكوت أخو الرضا ، وإن صاحبه لغيرك . وكان إذا دعي إلى طعام قال : أفي عرس أو خرس أو إعذار ؟ فإن كان في واحد من ذلك أجاب ، وإلا لم يجب . وروي أنه أخرج لسانه فضرب به روثة أنفه ، ثم أدلعه فضرب به نحره . وقال : يا رسول الله . ادع لي بالنصر . واستأذن النبي عليه السلام في هجاء المشركين ، فقال : كيف بنسبي فيهم ؟ قال : لأسألنك منهم كما تسل الشعرة من العجين . وقيل له : لم لم ترث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقال : هو أجلّ من ذلك .

وقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما بقي من لسانك ؟ فأخرج لسانه حتى قرع بطرفه أرنبته ، وقال : إني والله لو وضعته على صخر لفلقه ، أو على شعر لحلقه ، وما يسرني به مقول من معد . وروى عبد الرحمن بن حسان عن أبيه قال : بدت لنا معشر الأنصار إلى الوالي حاجة ، وكان الذي طلبنا أمراً صعباً ، فمشينا إليه برجال من قريش فكلموه ، وذكروا له وصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنا ، فذكر صعوبة الأمر فعذره القوم وخرجوا ، وألح عليه ابن عباس فوالله ما وجد بداً من قضاء حاجتنا . فخرجنا حتى دخلنا المسجد ، فإذا الناس فيه أندية . قال حسان : فصحت : إنه والله كان أولاكم بها . إنه والله صبابة النبوة ، ووراثة أحمد . وتهذيب أعراقه ، وانتزاع شبه طباعه . فقال القوم : أجمل يا حسان . وقال ابن عباس : صدقوا ، فأجمل . فأنشأ حسان يقول مادحاً لابن عباس أبياتاً يقول فيها : خلقت حليفاً للمروءة والندة مليحاً ، ولم تخلق كهاماً ولا جبلاً فقال الوالي : ما أراد بالكهام ولا الجبل غيري ، فالله بيني وبينه ، وكان الوالي عمر أو عثمان رضي الله عنهما .

بلال

سأله رجل ، وقد أقبل من الحلبة ، فقال له : من سبق ؟ قال : المقربون . قال : إنما أسألك عن الخيل . قال : وأنا أجيبك عن الخير .

أبو هريرة

قال : إذا نزلت برجل فلم يقرك فقاتله .

ونظر إلى عائشة بنت طلحة فقال : سبحان الله ، ما أحسن ما غذاها أهلها ما رأيت أحسن منها إلا معاوية . وكان يحمل حزمة حطب وهو أمير ، ويقول : وسعوا للأمير . وكان يجئ على حماره ويقول : الطريق الطريق قد جاء الأمير . أتاه رجل فقال : كنت صائماً فدخلت داراً فأطعموني ، ولم أدر . قال : الله أطعمك . فقال : ثم دخلت داراً أخرى ، فسقوني ولم أدر . قال : أطعمك الله وسقاك . فقال : ثم دخلت داري فجامعت ولم أدر . فقال أبو هريرة : يا هذا ، ليس ذا فعل من تعوذ الصيام . وأردف غلامه خلفه فقيل له : لو أنزلته يسعى خلفك . فقال : لأن يسير معي ضغثان من نار يحرقان مني ما أحرقا . أحب إلي من أن يسعى غلامي خلفي . وقال : إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق . وسئل عن القبلة للصائم ، فقال : إني لأرف شفتيها وأنا صائم . ومر بمروان ، وهو يبني بنياناً له ، فقال : ابنوا شديداً وأملوا بعيداً ، واخضموا فسنقضم .

وقال : مثل المؤمن الضعيف ، كمثل خافت الزرع يميل مرة ويعتدل أخرى . وقال : لما افتتحنا خيبر إذا ناس من يهود مجتمعون على خبزة يملونها ، فطردناهم عنها فأخذناها فاقتسمناها فأصابني كسرة ، وقد كان بلغني أنه من أكل الخبز سمن ، فلما أكلتها جعلت أنظر في عطفيّ ، هل سمنت ؟ . وقال : لم يكن يشغلني عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غرس الوديّ ، ولا صفقُ بالأسواق . وقال : الصوم في الشتاء غنيمة باردة . وقال : إن فرس المجاهد يستن في طوله ، فتكتب له حسنات . ووصف أصحاب الدجال ، فقال : عليهم السيجان . شواربهم كالصياصي ، وخفافهم مخرطمة . وقال : تعس عبد الدينار والدرهم ، الذي إن أعطي مدح وضبح ، وإن منع قبح وكلح ، تعس فلا انتعش ، وشيك فلا انتقش . قال بعضهم : كنت مع الحسن عليه السلام ، فلقيه أبو هريرة فقال : هات أقبل منك حيث رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقبل . فوضع فاه على سرته فقبلها . وقال : المروءة تقوى الله ، وإصلاح الضيقة ، والغداء والعشاء بالأفنية . وقال له رجل : أريد أن أتعلم العلم ، وأخاف أن أضيعه قال : كفى بترك العلم إضاعة . كتب يزيد بن معاوية إلى أبي هريرة يأمره أن يخطب عليه هند بنت سهيل ابن عمرو أخي بني عامر بن لؤي . فجاءها أبو هريرة فخطبها على يزيد ، فقالت له : فإن حسن بن عليّ خطبني ، وإني أستشيرك فأشر عليّ . فقال : إني أشير عليك أن تضعي فاك حيث وضع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاه ، فتزوجت الحسن عليه السلام .

وقال له فتى : إنا نسابق بالحمام . فقال له أبو هريرة : هذا من عمل الصبيان ، إذا كبرتم تركتموه .

عمار

قال بعضهم : كنا عند عمار يوم صفين ، فقال : من الراجز ؟ ارجز بالعجوزين . فقال له رجل : تقولون ذا يا أصحاب محمد فقال : إن المشركين لما هجونا اشتد ذلك علينا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : قولوا لهم كما يقولون لكم . إما أن تجلس ، وإما أن تقوم . لم يشهد بدراً أحد أبواه مؤمنان إلا عمار بن ياسر . وكان لدة النبي (صلى الله عليه وسلم ) ، وكان يحمي له الأرض يرعى فيها غنمه . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ما لكم ولابن سمية ؟ يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار . وكان عمار يقول : الجنة تحت البارقة : يريد السيوف . ووشى به رجل إلى عمر رضي الله عنه ، فقال عمار : اللهم إن كان كذب عليّ فاجعله موطأ العقب . كأنه دعا عليه بأن يكون سلطاناً يطأ الناس عقبه . وقال يوم صفين : لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر علمت أنّا على الحق ، وأنهم على الباطل . وقال له رجل : أيها العبد الأجدع . وكانت أذنه أصيبت في سبيل الله ، فقال : عيرتموني بأحب أذنيّ إليّ . وقال لقوم : جروا الخطير ما انجرّ لكم . الخطير : زمام الناقة ، يريد : امضوا على أمركم ما أمكنكم .

ولما بايع أبو موسى قال عمار لعلي : والله لينقضنّ عهده ، وليخلفنّ وعده ، وليفرّنّ جهده ، وليسلمنّ جنده . وقال : ثلاث من جمعهن جمع خصال الإيمان : الإنفاق في الإقتار ، والإنصاف من النفس ، وإفشاء السلام .

الزبير

لما كان يوم الجمل صاح عليّ بالزبير فخرج إليه ، فقال له : يا أبا عبد الله : لئن كان حل لك خذلاننا إنه لحرام عليك قتالنا . قال : أفتحبّ أن أنصرف عنك ؟ قال : ومالي لا أحب ذلك ؟ وأنت سيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحواريه وابن عمته ، فعارضه ابنه عبد الله ، فقال له : يا أبه ، ما الذي دهاك ؟ فأخبره خبره . فقال : قد أنبأك ابن أبي طالب مع علمك بذلك ، إنك بزمام الأمر أولى منك بعنان فرسك ، ولئن أخطأك أن يقول الناس جبّنه عليّ ليقولنّ خدعه . فقال الزبير : ليقل من شاء ما شاء ، فوالله لا أشري عملي بشيء ، ومع ذلك للدنيا أهون علي من ضبحة سحماء . وانصرف راجعاً . ومن كلام الزبير : يكفيني من خضمهم القضم ، ومن نصهم العنق . ضرب الزبير يوم الخندق رجلاً فقطعت ضربته الدرع ومؤخر الجوشن حتى خلصت إلى عجز الفرس ، فلما رأى أبو بكر رضي الله عنه ما صنعت ضربه الزبير ، قال : يا أبا عبد الله ، ما أجود سيفك فغضب الزبير وقال : أما والله لو كان إلى السيف ما قطع ، ولكني أكرهته بقلب مجتمع وقوة ساعد فقطع . فقال أبو بكر : ما أردنا غضبك يا أبا عبد الله . قالوا: أدرك عثمان رضي الله عنه الزبير ، وعثمان في موكبه يريد مكة بذات الجيش ، ولموكب عثمان حس ، قد ظهرت فيه الدواب والنجائب ، والزبير على راحلة له ، ومعه غلمان له وزوامل . فقال له عثمان : سر يا أبا عبد الله ، فقال : سيكفيني القضم من خضمكم ، والعنق من نصكم . قال يوم الشورى لما تكلم عبد الرحمن بن عوف ، وأخرج نفسه من الشورى ليقلد من يرضاه : " أما بعد ، فإن داعي الله لا يجهل عند تفاقم الأهواء وليّ الأعناق ، ولن يقصر عما قلت إلا غويّ ، ولن يترك ما قلت إلا شقيّ ، لولا حدود الله فرضت ، وفرائض له حدت ، تراح على أهلها ، وتحيا لا تموت ، لكان الفرار من الولاية عصمة ، ولكن لله علينا إجابة الدعوة ، وإظهار السنة لئلا نموت ميتة عمية ، ولا نعمى عمى جاهلية ، والأمر لك يا ابن عوف . ذكر أن أول من سل سيفاً الزبير ، سمع أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قتل ، فخرج بيده السيف ، فتلقاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كفة كفة ، فدعا له بخير . أرسل عليّ عليه السلام عبد الله بن عباس ، فقال : إيت الزبير ولا تأت طلحة ، فإن الزبير ألين ؛ وإنك تجد طلحة كالثور عاقصاً قرنه . يركب الصعوبة ويقول : هي أسهل . فأقره السلام ، وقل له : يقول لك ابن خالك : عرفتني بالحجاز ، وأنكرتني بالعراق ، فما عدا ما بدا ؟ . قال : فأتيته فقال : مرحباً بابن لبابة . أزائراً جئت أم سفيراً ؟ قلت : كل ذلك . وابلغته الرسالة فقال : ابلغه السلام وقل له : بيننا وبينك عهد خليفة ودم خليفة ، واجتماع ثلاثة وانفراد واحد ، وأم مبرورة ومشاورة العشيرة ، ونشر المصاحف فنحل ما أحلت ، ونحرم ما حرمت . فلما كان الغد حرش بين الناس غوغاؤهم ، فقال الزبير : ما كنت أرى أن ما جئنا فيه يكون فيه قتال .

عبد الرحمن بن عوف

قال عبد الرحمن يوم الشورى : يا هؤلاء ، إن عندي رأياً ، وإن لكم نظراً ، إن حابياً خير من زاهق ، وإن جرعة شروب أنفع من عذب موب . إن الحيلة بالمنطق أبلغ من السيوب في الكلم . فلا تطيعوا الأعداء وإن قربوا ، ولا تفلوا المدى بالاختلاف بينكم ، ولا تغمدوا السيوف عن أعدائكم فتوتروا ثأركم ، وتؤلتوا أعمالكم . لكل أجل كتاب ، ولكل بيت إمام بأمره يقومون ، وبنهيه يرعون . قلدوا أمركم رحب أمركم رحب الذراع فيما نزل ، مأمون الغيب على ما استكنّ . يقترع منكم ، وكلكم منتهى ، ويرتضى منكم وكلكم رضا .

حذيفة بن اليمان

قال لرجل : أيسرك أنك غلبت شر الناس ؟ قال : نعم . قال : فإنك لن تغلبه حتى تكون شراً منه . وقال : إن الله لم يخلق شيئاً إلا صغيراً ثم يكبر ، إلا المصيبة ، فإنه خلقها كبيرة ثم تصغر . ومن كلامه : الحسد أهلك الجسد . وقال : كن في الفتنة كابن اللبون ، لا ظهر فيركب ، ولا ضرع فيحلب . وقال له رجل : أخشى أن أكون منافقاً . فقال : لو كنت منافقاً لم تخش . وقال : تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، حتى تكون القلوب على قلبين : قلب أبيض مثل الصفا ، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، وقلب أسود مربد كالكور محجباً - وأمال كفه - لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً . وقال: إن من أقرإ الناس للقرآن منافقاً ، لا يدع منه واواً ولا ألفاً ، يلفته بلسانه ، كما تلفت البقرة الخلى بلسانها . وذكر الفتنة فقال : أتتكم الدهيماء ترمى بالنشف ، ثم التي تليها ترمي بالرضف . وذكر خروج عائشة فقال : تقاتل معها مضر مضرها الله في النار ، وأزد عمان سلت الله أقدامها ، وإن قيساً لن تنفك تبغي دين الله شراً ، حتى يركبها الله بالملائكة فلا يمنعوا ذنب تلعة .

وقال لجندب : كيف تصنع إذا أتاك مثل الوتد أو مثل الذونون ، قد أوتي القرآن من قبل أن يؤتى الإيمان ينثره نثر الدقل ، فيقول : اتبعني ولا أتبعك . قال : إنما تهلكون إذا لم يعرف لذي الشيب شيبه ، وإذا صرتم تمشون الركبات كأنكم يعاقيب حجل ، لا تعرفون معروفاً ولا تنكرون منكراً .

خالد بن الوليد

لما ولاه أبو بكر وعزله عمر قال : إن أبا بكر ولدنا فرق لنا رقة الوالد ، وإن عمر ولدناه فعقنا عقوق الولد . وقال في مرضه : لقد لقيت كذا وكذا زحفاً ، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية ، ثم هاأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت العير ، فلا نامت أعين الجبناء وخطب الناس فقال : إن عمر استعملني على الشام وهو له مهم ، فلما ألقى الشام بوانيه وصار بثنية وعسلاً عزلني ، واستعمل غيري . فقال رجل : هذا والله هو الفتنة . قال خالد : أما وابن الخطاب حي فلا ، ولكن ذاك إذا كان الناس بذي بلّيّ وذي بلّي . وانصرف عمرو بن العاص من الحبشة يريد سول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلقيه خالد وهو مقبل من مكة ، فقال : أين يا أبا سليمان ؟ فقال : والله لقد استقام المنسم ، وإن الرجل لنبي . أذهب فأسلم . وكان بينه وبين عبد الرحمن كلام ، فقال خالد : أتستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ . وقال : كان بيني وبين عمار بعض ما يكون بين الناس ، فعدمته ، فشكاني إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : من يبغض عماراً يبغضه الله . ولما بويع أبو بكر قام خالد بن الوليد خطيباً ، فقال : إنا رمينا في بدء هذا الأمر بأمر ثقل علينا حمله ، وصعب علينا مرتقاه ، ثم ما لبثنا أن خفّ علينا محمله ، وذل لنا مصعبه ، وعجبنا ممن شك فيه ، بعد أن عجبنا ممن آمن به ، وما سبقنا إليه بالعقول ولكنه التوفيق. ألا وإن الوحي لم ينقطع حتى أكمل ، ولم يذهب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أعذر ، فلسنا ننتظر بعد النبي نبياً ، ولا بعد الوحي وحياً ونحن اليوم أكثر منا أمس ، ونحن أمس خير منا اليوم . من دخل هذا الدين كان من ثوابه على حسب عمله ، ومن تركه رددناه إليه . إنه والله ما صاحب هذا الأمر بالمسؤول عنه ، ولا متخلف فيه ، ولا الخفي الشخص ولا المغموز القناة . وكان خالد يقول : ما ليلة أسر إليّ من ليلة تهدى إليّ فيها عروس إلا ليلة أغدو في صبيحتها إلى قتال عدو . قام أبو بكر خطيباً يحض على الجهاد فتثاقل الناس عنه ، فقام عمر فقال : " لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك " فقام خالد ، ويقال : بل كان خالد بن سعيد ، وهو أشبه ، فقال : ألنا تضرب أمثال المنافقين يا عمر ؟ والله لقد أسلمت وإن لبني عدي صنماً من تمر إذا جاعوا أكلوه ، وإذا شبعوا استأنفوه . وكان خالد بن سعيد قديم الإسلام والصحبة . غزا منظور بن زبان ، مع خالد بن الوليد ايام الردة ، فقتل منظور رجلاً وقال : بؤ بورد بن حذيفة ، فقال له خالد : اغضب لله يا منظور ، فقال : حتى أقضى حزابة في نفسي .

سعد بن أبي وقاص

خطب يوم الشورى ، فقال : الحمد لله بديئاً كان وآخراً يعود . أحمده كما أنجاني من الضلالة وبصرني من العماية ، فبرحمة الله فاز من نجا ، وبهدي الله افلح من وعى ، وبمحمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وسلم ) استقامت الطرق ، واستنارت السبل ، فظهر كل حق ومات كل باطل . وإياكم أيها النفر وقول أهل الزور ، وأمنية الغرور ، فقد سلبت الأماني قبلكم قوماً ورثوا ما ورثتم ، ونالوا ما نلتم ، فاتخذهم الله أعداء ولعنهم لعناً كثيراً . قال الله عز وجل : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " . وإني نكبت قرني ، فأخذت سهمي الفالج ، وأخذت لطلحة بن عبيد الله في غيبته ما ارتضيت لنفسي في حضوري ، فأنا به زعيم ، وبما أعطيت عنه كفيل ، والأمر إليك يا ابن عوف بصدق النفس وجهد النصح ، وعلى الله قصد السبيل ، وإليه المصير . وقال لعمر ابنه حين نطق مع القوم فبذهم ، وكانوا كلموه في الرضا عنه قال : هذا الذي أغضبني عليه ، إني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس البقر الأرض بألسنتها " . وكان بينه وبين خالد بن الوليد كلام ، فذهب رجل ليقع في خالد عند سعد ، فقال : مه ، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا . وسئل عن المتعة ، فقال : فعلناها ومعاوية كافر بالعرش . العرش : موضع بمكة . وقال له رجل : كيف أسنانكم معشر المهاجرين ؟ قال : كنا من أعذار عام واحد . ونظر يوم القادسية إلى أبي محجن ، وكان قد حبسه ، فلما اشتد القتال أطلقت عنه امرأة سعد ، وأعطته فرسه البلقاء، فخرج يقاتل عليها ، ونظر إليه سعد فقال : الضبر ضبر البلقاء ، والكر كر أبي محجن . وكان سعد يسمى المستجاب الدعوة ، وبلغه شيء فعله المهلب في العدو ، والمهلب يومئذ فتى ، فقال سعد : اللهم لا تره ذلاً ، فيرون أن الذي ناله المهلب بتلك الدعوة . وقال سعد : ثلاثة سعادة ، وثلاثة شقاوة ، فأما الشقاوة فامرأة سيئة الخلق ، ودابة سوء ، إن أردت أن تلحق بأصحابك أتعبتك ، وإن تركتها خلفتك عن أصحابك ، ومسكن ضيق قليل المرافق . وأما السعادة فامرأة صالحة موافقة ، ودابة تضعك من أصحابك حيث أحببت ، ومسكن واسع كثير المرافق .

عتبة بن غزوان السلمي

خطب بعد فتح الأبلّة ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : إن الدنيا قد تولت بحذافيرها مدبرة ، وقد آذنت أهلها بصرم، وإنما بقي منها صبابة كصبابة الإناء يصبها صاحبها . ألا وإنكم مفارقوها لا محالة ، ففارقوها بأحسن ما بحضرتكم . ألا إن من العجب أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : إن الحجر الضخم ليرمى به من شفير جهنم فيهوي في النار سبعين خريفاً ، ولجهنم سبعة أبواب ما بين البابين منها مسيرة خمسمائة عام . ولتأتينّ عليه ساعة وهو كظيظ من الزحام . ولقد كنت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سابع سبعة ، ما لنا طعام إلا ورق البشام حتى قرحت أشداقنا ، فوجدت أنا وسعد ثمرة فشققتها بيني وبينه نصفين ، وما منا اليوم أحد إلا وهو على مصر أمير ، وإنه لم تكن نبوة قط إلا تناسختها جبرية ، وأنا أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وفي أعين الناس صغيراً ، وستجربون الأمر بعدي فتعرفون وتنكرون .