الجزء الثاني - الباب الخامس : كلام عمر بن عبد العزيز

الباب الخامس : كلام عمر بن عبد العزيز      

كتب إليه أبو بكر بن حزم - وهو والي المدينة من جهته ؛ إن الأمير يقطع لي من الشمع والقراطيس ما كان يقطع لعمال المدينة ، فكتب إليه : جاءني كتابك وإن عهدي بك تخرج من بيتك في الليلة الظلماء بغير سراج . وأما القراطيس فأدق القلم ، وأوجز الإملاء ، واجمع الحوائج في صحيفة . وذكر له سليمان بن عبد الملك يزيد بن أبي مسلم بالعفة عن الدرهم والدينار ، وهم بأن يستكفيه مهماً من أمره . فقال له عمر : أفلا أدلك على من هو أزهد في الدرهم والدينار منه وهو شر الخلق ؟ قال : بلى . قال : إبليس لعنه الله . وكان يقول : أيها الناس إنما خلقتم للأبد ، وإنما تنقلون من دار إلى دار . وخطب فقال : أيها الناس ، إنكم لم تخلقوا عبثاً ، ولن تتركوا سدى ، وإن لكم معاداً ينزل الله للحكم فيكم ، والفصل بينكم ، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء ، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض . واعلموا أن الأمان غداً لمن خاف ، وباع قليلاً بكثير ، وفانياً بباق ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ؟ وسيخلفها من بعدكم الباقون ، حتى تردوا إلى خير الوارثين .

ثم أنتم في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله ، قد قضى نحبه ، وبلغ أجله ، ثم تغيبونه في صدع من الأرض ، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد ، قد خلع الأسباب ، وفارق الأحباب ، ووجه إلى الحساب ، غنياً عما ترك ، وفقيراً إلى ما قدم . وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي . وأستغفر الله لي ولكم ، وما بلغت حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها ، ولا أحد منكم إلا وددت أن يده معي ومع لحمتي الذين يلونني، حتى يستوي عيشنا وعيشكم . وايم الله لو أردت غير هذا من عيش لكان اللسان مني ناطقاً ذلولاً عالماً بأسبابه ، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة ، دل فيها على طاعته ونهى فيها عن معصيته . وسأله رجل عن الجمل وصفين ، فقال عمر : تلك دماء كف الله يدي عنها ، فأنا أحب ألا أغمس لساني فيها . وكان يقول : اللهم إني أسألك رضوانك ، وإلا أكن له أهلاً فعفوك . وقال لأصحابه : إذا كتبتم إليّ فلا تكتبوا الأمير ، فليست الإمارة أفضل من أبي . كتب إليه عدي بن أرطأة يستأذنه في عذاب العمال ، فكتب إليه عمر : العجب لك يا ابن أم عدي ، حين تستأذنني في عذاب العمال كأني لك جنة ، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله . من قامت عليه بينة وأقر بما لم يكن مضطهداً فيه فخذه ، فإن كان يقدر على أدائه فاستأده ، وإن أبى فاحبسه ، وإن لم يقدر على شيء فخل سبيله بعد أن تخلفه على أنه لا يقدر على شيء ، فلأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إليّ من أن ألقاه بدمائهم . وقال : من أحب الأمور إلى الله عز وجل الاقتصاد في الجدة ، والعفو في القدرة ، والرفق في الولاية .

خرج يوم الجمعة إلى الصلاة وقد أبطأ ، فقال : أيها الناس ؛ إنما بطأني عنكم أن قميصي هذا كان يرقع - أو كان يغسل - ولا والله ما أملك غيره . وعرضت عليه جارية وأراد شراءها ولم يحضر تمام الثمن ، فقال له الرجل : أنا أؤخرك إلى العطاء ؛ فقال : لا أريد لذة عاجلة بذلة آجلة . وقال عمر يوماً وقد قام من عنده علي بن الحسين رضي الله عنهما : من أشرف الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقالوا : أنتم . فقال : كلا أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفاً ، من أحب الناس أن يكونوا منه ، ولم يحب أن يكون من أحد . وقال : لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لزدنا عليهم . قيل : أول من اتخذ المنابر في المساجد للأذان عمر بن عبد العزيز ، وإن أول من دعي له على المنابر عبد الملك . وكان عمر يقول : إن أقواماً لزموا سلطانهم بغير ما يحق الله عليهم ، فأكلوا بخلاقهم ، وعاشوا بألسنتهم ، وخلفوا الأمة بالمكر والخديعة والخيانة ، وكل ذلك في النار . ألا فلا يصحبنا من أولئك أحد ولا سيما خالد بن عبد الله . وعبد الله بن الأهتم فإنهما رجلان لسنان ، وإن بعض البيان يشبه السحر ، فمن صحبنا بخمس خصال ، فأبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، ودلنا على ما لا نهتدي إليه من العدل ، وأعاننا على الخير ، وسكت عما لا يعنيه ، وأدى الأمانة التي حملها منا ومن عامة المسلمين فحيّهلا ، ومن كان على غير ذلك ففي غير حلّ من صحبتنا والدخول علينا . وأتي بقوم أخذوا على شراب وفيهم شيخ ، فظنه شاهداً ، فقال له : بم تشهد ؟ فقال: لست شاهداً ولكني مبتلى ، فرق له عمر ، وقال : يا شيخ ؛ لو كنتم حين اجتمعتم على شرابكم قلتم : اللهم تولنا ولا تولنا غيرك لم يعلم بكم أحد .

ودخل على عبد الملك وهو صبي ، فقال له : كيف نفقتك في عيالك ؟ فقال عمر : حسنة بين سيئتنين . فقال لمن حوله : أخذه من قول الله تعالى : " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً " . وكتب عمر إلى عدي بن أرطأة في شيء بلغه عنه : إنما يعجل بالعقوبة من يخاف الفوت . وقال : لو كنت في قتلة الحسين وأمرت بدخول الجنة ما فعلت ؛ حياء أن تقع عليّ عين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . وشتمه رجل فقال : لولا يوم القيامة لأجبتك . وأهدي إليه تفاح لبناني ، وكان قد اشتهاه ، فرده . فقيل له : قد بلغك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يأكل الهدية ، فقال : يا عمرو بن المهاجر : إن الهدية كانت لرسول الله هدية ، ولنا رشوة . وقال لجارية في صباه بحضرة مؤدبه : أعضّك الله بكذا ؟ . فقال له المؤدب : قل أعضّك عبد العزيز . فقال : إن الأمير أجلّ من ذلك. قال : فليكن الله أجلّ في صدرك . فما عاود بعدها كلمة حياء . وقال : ما أطاعني الناس فيما أردت من الحق حتى بسطت لهم طرفاً من الدنيا . ودخل عليه ميمون بن مهران فقال له - وقد قعد في أخريات الناس - : عظني . فقال ميمون : إنك لمن خير أهلك إن وقيت ثلاثة . قال : ما هنّ ؟ قال : إن وقيت السلطان وقدرته ، والشباب وغرته، والمال وفتنته . قال : أنت أولى بمكاني مني . ارتفع إليّ ، فأجلسه معه على سريره . قال بعضهم : كنا نعطي الغسال الدراهم الكثيرة ، حتى يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز ، وهو أمير ؛ من كثرة الطيب والمسك فيها . ولما نزل بعمر الموت قال : يا رجاء ، هذا والله السلطان ، لا ما كنا فيه .

وقيل له : لم لا تنام ؟ قال : إن نمت بالليل ضيعت نفسي ، وإن نمت بالنهار ضيعت الرعية . أمر عمر بعقوبة رجل قد كان نذر لئن أمكنه الله منه ليفعلن وليفعلن ، فقال له رجاء بن حيوة : قد فعل الله ما تحب من الظفر ، فافعل ما يحب الله من العفو . وعزل عمر بعض قضاته ، فقال له : لم عزلتني ؟ فقال : بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصمين إذا تحاكما إليك . وأتي برجل كان واجداً عليه ، فقال له : لولا أني غضبان لضربتك . وأسمعه رجل كلاماً، فقال له : أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان ، فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً ، انصرف رحمك الله. وكتب أن امنعوا الناس من المزاح ، فإنه يذهب المروءة ، ويوغر الصدر . وكتب إلى بعض عماله : لا تجاوزنّ بظالم فوق حده فتكون أظلم الظالمين . وقال : لو تخابثت الأمم فجئنا بالحجاج لغلبناهم . ما كان يصلح لدنيا ولا آخرة، لقد ولي العراق فأخربه حتى لم يؤد إلا أربعون ألف ألف درهم ، وقد أدي إليّ في عامي هذا ثمانون ألف ألف درهم ، وإن بقيت إلى قابل رجوت أن يؤدى إليّ ما أدي إلى عمر بن الخطاب : مائة ألف ألف وعشرون ألف ألف درهم . وأتي بخصيٍ ليشتريه فرده وقال : أكره أن يكون له بشرائه معونة على الخصاء . وكان إذا قدم عليه بريد قال : هل رأيت في الناس غرسات ؟ يريد الخصب . وكان يقول : التقى ملجم . وعزّي عن ابنه عبد الملك ، فقال : إن هذا أمر لم نزل نتوقعه ، فلما وقع لم ننكر .

وكلم رجلاً من بني أمية قد ولدته نساء مرة ، فعاب عليه جفاء رآه منه ، فقال : قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مرة، فبلغ ذلك عقيل بن علّفة المرّي وهو بجنفاء من المدينة على أميال في ولد بني مرة ، فركب حتى قدم على عمر وهو بدير سمعان ، فقال : هيها يا أمير المؤمنين ، بلغني أنك غضبت على فتى من بني أبيك ، فقلت : قبح الله شبهاً غلب عليك من بني مره ، وإني أقول : قبح الله ألأم طرفيه ، فقال عمر : ويحك دع هذا وهات حاجتك . فقال : لا والله ما لي حاجة غير هذا ، ثم ولى راجعاً من حيث جاء . فقال عمر : يا سبحان الله ، من رأى مثل هذا الشيخ ؟ جاء من جنفاء ، ليس إلا ليشتمنا ؟ فقال له رجل من بني مرة : إنه والله يا أمير المؤمنين ما شتمك ، وما شتم إلا نفسه . نحن والله ألأم طرفيه . ولما استخلف عمر بعث بأهل بيت الحجاج إلى الحارث بن عمرو الطائي ، وكان على البلقاء ، وكتب إليه : أما بعد ، فإني بعثت إليك بآل أبي عقيل ، وبئس والله أهل البيت في دين الله وأخلاق المسلمين ، فأنزلهم بقدر هوانهم على الله وعلى أمير المؤمنين . ولما هرب يزيد بن المهلب من سجنه ، وكتب إليه : لو علمت أنك تبقى ما فعلت ، ولكنك مسموم ، ولم أكن لأضع يدي في يدي ابن عاتكة فقال عمر : اللهم قد هاضني فهضه . وقال : كفى بالمرء غيا أن تكون فيه خلة من ثلاث : أن يعيب شيئاً ثم يأتي مثله ، أو يبدو له من الحية ما يخفى عليه من نفسه ، أو يؤذي جليسه فيما لا يعنيه . وقيل له : أي الجهاد أفضل ؟ فقال : جهادك هواك . وقال : ثلاث من كن فيه كمل : من لم يخرجه غضبه عن طاعة الله ، ولم يستنزله رضاه إلى معصية الله ، وإذا قدر عفا وكف . حكى عن عدي بن الفضيل قال : خرجت إلى عمر أستحفره بئراً بالعذبة ، فقال له : وأين العذبة ؟ فقلت : على ليلتين من البصرة ، فتأسف ألا يكون بمثل هذا الموضع ماء ، فأحفرني واشترط عليّ أنه أول شارب يأتي السبيل . قال : فحضرته في جمعة وهو يخطب فسمعته يقول : أيها الناس ، إنكم ميتون ، ثم إنكم مبعوثون ، ثم إنكم محاسبون ، فلعمري : لئن كنتم صادقين لقصرتم ، ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم ، أيها الناس ، إنه من يقدر له رزق برأس جبل أو بحضيض أرض يأته ، فأجملوا في الطلب . قال : فأقمت عنده شهراً ما بي إلا استماع كلامه . قيل : أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج ، فقال له : أما تقولت في الحجاج ؟ قال : ما عسيت أن أقول في الحجاج؟ وهل الحجاج إلا خطيئة من خطاياك ؟ وشررة من نارك ؟ فلعنك الله ، ولعن الحجاج معك . وأقبل يشتمهما، فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز ، فقال : ما تقول في هذا ؟ قال عمر : وما أقول فيه ؟ هذا رجل يشتمكم ، فإما أن تشتموه كما شتمكم أو تعفو عنه . فغضب الوليد وقال لعمر : ما أظنك إلا خارجياً . فغضب عمر وقال : ما أظنك إلا مجنوناً . وقام وخرج مغضباً . ولحقه خالد بن الريان ، فقال له : ما دعاك إلى ما كلمت به أمير المؤمنين ؟ والله لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي أنتظره متى يأمرني بضرب عنقك . فقال له عمر : وكنت فاعلاً لو أمرك قال : نعم . فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان ، فقام على رأسه كما كان يقوم على رأس من كان قبله من الخلفاء . قال : وكان رجل من الكتاب يضر وينفع بقلمه ، فجاء حتى جلس مجلسه الذي كان يجلس فيه الخلفاء . قال: فنظر عمر إلى خالد بن الريان ، وقال : يا خالد ضع سيفك ؛ فإنك تطيعنا في كل أمر نأمرك به ، وضع أنت يا هذا قلمك ، فقد كنت تضر به وتنفع . ثم قال : اللهم إني قد وضعتهما لك فلا ترفعهما . قال : فوالله ما زالا وضيعين مهينين بشر حتى ماتا . وقال : ما كلمني رجل من بني أسد إلا تمنيت له أن يمد له في حجته ، حتى يكثر كلامه فأسمعه . ولذلك قال يونس : ليس في أسد إلا خطيب أو شاعر أو قائف أو راجز أو كاهن أو فارس .

يروى أن عمر بن عبد العزيز كان يدخل عليه سالم مولى بني مخزوم ، وقالوا : بل زياد ، وكان عمر أراد شراءه وعتقه ، فأعتقه مواليه ، وكان عمر يسميه أخي في الله ، فكان إذا دخل وعمر في صدر بيته تنحى عن القبلة ، فيقال له في ذلك ، فيقول : إذا دخل عليك من لا يهولك فلا تأخذ عليه شرف المجلس . وهمّ السراج ليلة أن يخمد ، فوثب رجاء بن حيوة ليصلحه ، فأقسم عليه عمر فجلس ، ثم قام عمر فأصلحه ، فقال له رجاء بن حيوة : أتقوم يا أمير المؤمنين قال : قمت وأنا عمر ، وتعللت وأنا عمر . وقال : قيدوا النعم بالشكر ، وقيدوا العلم بالكتاب . وقال لمؤديه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدبني ؟ فقال : أحسن طاعة . قال : فأطعني الآن كما كنت أطيعك إذ ذاك ، خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك ومن ثوبك حتى يبدو عقباك . ويروى أن عمر خرج يوماً فقال : الوليد بالشام ، والحجاج بالعراق ، وقرة بن شريك بمصر ، وعثمان بن حيان بالحجاز ، ومحمد بن يوسف باليمن . امتلأت الأرض والله جوراً . وقال عبد الملك ابنه له يوماً : يا أبت إنك تنام نوم القائلة ، وذو الحاجة على بابك غير نائم . فقال : يا بني إن نفسي مطيتي ، وإن حملت عليها في التعب خسرتها . وذكر عمر زياداً ، فقال : قاتل الله زياداً . جمع لهم كما تجمع الذرة ، وحاطهم كما تحوط الأم البرة ، واصلح العراق بأهل العراق ، وترك أهل الشام في شامهم ، وجبى من العراق مائة ألف ألف ، وثمانية عشر ألف ألف درهم .

وخطب الناس لما مات ابنه عبد الملك ، فقال : الحمد لله الذي جعل الموت حتماً واجباً على عباده ، فسوى فيه بين ضعيفهم وقويهم ، ورفيعهم ودينهم ، فقال تبارك وتعالى : " كل نفس ذائقة الموت " . فليعلم ذوو النهى منهم أنهم صائرون إلى قبورهم ، مقرون بأعمالهم ، واعلموا أن لله مسألة فاحصة ، قال تبارك وتعالى : " فوربك لنسئلنهم أجمعين . عما كانوا يعملون " وقال : إذا استأثر الله بشيء فاله عنه . وقال في خطبة له : أيها الناس ، إنما الدنيا أمل مخترم ، وأجل منفض ، وبلاغ إلى دار غيرها ، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج . فرحم الله امرءاً فكر في أمره ، ونصح نفسه ، وراقب ربه ، واستقال ذنبه . أيها الناس ، قد علمتم أن أباكم أخرج من الجنة بذنب واحد ، وأن ربكم وعد على التوبة ، فليكن أحدكم من ذنبه على وجل ، ومن ربه على أمل . وقال : لا يتزوج من الموالي في العرب إلا الأشر البطر ، ولا يتزوج من العرب في الموالي إلا الطمع الطبع . ألأا وقال لابنه عبد الله : يا بني ، التمس الرفعة بالتواضع ، والشرف بالدين ، والعفو من الله بالعفو عن الناس ، ولا تحقرن أحداً ؛ فإنك لا تدري لعل بعض من تزدريه عينك أقرب إلى الله منك وسيلة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، ولا تنس نصيب الناس منك . وكتب إليه عدي بن أرطأة لما حفر نهر عدي بالبصرة : إني حفرت لأهل البصرة نهراً ، أعذبت به مشربهم ، وجادت عليه أموالهم ، فلم أر لهم على ذلك شكراً ، فإن أذنت لي قسمت عليهم ما أنفقته عليه . فكتب إليه عمر : إني لا أحسب أهل البصرة عند حفرك لهم هذا النهر خلوا من رجل قال : الحمد لله . وقد رضي الله بها شكراً من جنته ، فارض بها شكراً من نهرك . وخطب بعرفات فقال : إنكم قد أنضيتم الظهر وأرملتم ؛ وليس السابق اليوم من سبق بعيره ولا فرسه ، ولكن السابق اليوم من غفر له .

وخطب فقال : أيها الناس ؛ لا تستكثروا شيئاً من الخير أتيتموه ، ولا تستقلوا شيئاً منه أن تفعلوه ، ولا تستصغروا الذنوب ، والتمسوا تمحيص ما سلف من ذنوبكم بالتوبة ، والعمل الصالح فيما غبر من آجالكم ، فإن الحسنات يذهبن السيئات . وقد ذكر الله عز وجل قوماً ، فقال : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " وإياكم والإصرار على الذنوب ؛ فإن الله ذكر قوماً بذنوبهم فقال : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون " نار لا تطفأ ، ونفس لا تموت ، فهي كما وصف الله عز وجل : " كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها " . و " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب " فهل لأحد بهذا طاقة ؟ من استطاع منكم ألا يحجبه الله فليفعل . وخطب فقال : أما بعد ؛ فإنك ناشئ فتنة ، وقائد ضلالة قد طال جثومها ، واشتدت غمومها ، وتلونت مصايد عدو الله فيها ، وما نصب لأهل الغفلة من الشرك عما في عواقبها، فلن يهد عمودها ، ولن ينزع أوتادها إلا الذي بيده ملك الأشياء ، وهو الرحمن الرحيم . ألا وإن لله بقايا من عباده ، لم يتحيروا في ظلمتها ، ولم يشايعوا أهلها على شبهها ، مصابيح النور في قلوبهم تزهر ، وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق ، ركبوا نهج السبيل ، وقاموا على اللقم الأكبر الأعظم . وهم خصماء الشيطان الرجيم . وبهم يصلح الله البلاد ، ويدفع عن العباد ، فطوبى لهم وللمستصبحين بنورهم ، أسأل الله أن يجعلنا منهم . وخطب فقال : ما أنعم الله على عبد نعمة ، فانتزعها منه فغاضه من ذلك الصبر ، إلا كان ما عاضه الله من ذلك أفضل مما انتزعه منه ، ثم قرأ : " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " . ومر برجل يسبح بالحصى ، فقال له : ألق الحصى ، وأخلص الدعاء .

وكتب إلى الجراح بن عبد الله الحكمي : إن استطعت أن تدع مما أحل الله لك ما يكون حاجزاً بينك وبين ما حرم الله عليك فافعل ، فإنه من استوعب الحلال كله تاقت نفسه إلى الحرام . وسمع وقع الصواعق ، ودوي الريح ، وصوت المطر ، ورأى فزع الناس ، فقال : هذه رحمته ، فكيف نقمته ؟ . وقال له خالد بن عبد الله القسري : من كانت الخلافة زينته فقد زينتها . ومن كانت شرفته فقد شرفتها ، فأنت كما قال الشاعر : وإذا الدر زان حسن وجوه . . . كان للدر حسن وجهك زينا فقال عمر : إن صاحبكم أعطى مقولاً وحرم معقولاً . وقال : ما قرن شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم ، ومن عفو إلى قدرة ، وقال رهم مولى عمر بن عبد العزيز : ولاني عمر ثم قال : يا رهم إذا دعتك نفسك إلى ظلم من هو دونك فاذكر قدرة الله عز وجل عليك ، وانتقامه منك ، وفناء ما يكون منك إليه عنه، وبقاء ما يكون منك إليه عليك . أتى عمر منزله فقال : هل من طعام ؟ فأصاب تمراً وشرب ماء ، فقال : من أدخله بطنه النار ؛ فأبعده الله . وقال : أحسن الظن بأخيك حتى يغلبك . وقال : القلوب أوعية السرائر ، والشفاه أقفالها ، والألسن مفاتيحها ، فليحفظ كل امرئ منكم مفتاح سره . وقال لابنه : بت على بيان من أمرك ، وليكن لك مطوي من سرك . ودخل عليه مسلمة بن عبد الملك في مرضه الذي توفي فيه فقال : يا أمير المؤمنين ، أفقرت أفواه ولدك من هذا المال ، وتركتهم عالة لا أحد لهم ولا مال لهم ، فلو أنك أوصيت بهم إليّ أو إلى أشباهي من قومك ممن يكفيك مئونتهم . فقال : أقعدوني ، ثم قال : يا مسلم ؛ أما ما ذكرت من إيصائي بولدي إليك أو إلى أشباهك من قومي ليكفوني مئونتهم ، فإن وصيي فيهم ووليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ، وأما ما ذكرت من إفقاري إياهم من هذا المال فوالله ما ظلمتهم حقاً هو لهم ، وما كنت لأعطيهم حق غيرهم . وما ولد عمر إلا أحد رجلين : رجل اتقى الله فسيرزقه ، ورجل غدر أو فجر ، فلن يكون عمر أول من قواه بالمال على المعصية . ثم قال : عليّ بهم . فأدخلوا عليه وهم يومئذ اثنا عشر ، فلما نظر إليهم اغرورقت عيناه بالدموع وقال : بنفسي فتية تركتهم ، ولا أحد لهم . بلى يا بني ، إني قد تركتكم بخير من الله ، لا تمرون بمسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق . يا بني ، إني ميلت بين رأيين : بين أن تفتقروا ، أو يدخل أبوكم النار ، فرأيت أن تفتقروا إلى آخر يوم من الأبد أحب إلى أبيكم من أن يدخل النار . وكتب إلى الجراح بن عبد الله الحكمي ، وهو على خراسان : أما بعد ؛ فإن استطعت أن تدع مما أحل الله لك ما يكون حاجزاً بينك وبين ما حرم الله فافعل ؛ فإن من استوعب الحلال كله تاقت نفسه إلى الحرام . وكتب إلى ابن حزم : أما بعد ؛ فإن الطالبين الذين نجحوا ، والتجار الذين ربحوا ، الذين اشتروا الباقي الذي يدوم بالفاني المذموم ، فاغتبطوا ببيعهم ، وحمدوا عاقبة أمرهم ، فالله الله ، وبدنك صحيح ، وأنت مريح ، قبل أن تنقضي أيامك ، وينزل بك حمامك ، فإن اليسير الذي أنت فيه يقلص ظله ، ويفارقه أهله ، فالسعيد الموفق من أكل في عاجلته قصداً ، وقدم ليوم فقره غدا ، وخرج محموداً من الدنيا قد انقطع عنه علاج أمورها ، وصار إلى نعيم الجنة . وكتب إلى بعض عماله : أما بعد ؛ فلتخفّ يدك عن دماء المسلمين ، وبطنك عن أموالهم ، ولسانك عن أعراضهم ، فإذا فعلت ذلك فلا سبيل عليك " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم " . وكان من دعائه : اللهم أعطني من الدنيا ما تكفني به عن شهواتها ، وتعصمني به من فتنتها ، وتغنيني به عن جميع أهلها .