الجزء الثاني - الباب الثامن : من نوادر المتنبئين

الباب الثامن : من نوادر المتنبئين

ادّعى رجل في زمن المهدي النبوة ، فأدخل إليه ، فقال له المهدي : أنت نبي ؟ قال : نعم . قال : فإلى من بعثت ؟ قال : وتركتموني أذهب إلى من بعثت ؟ بعثت بالغداة وحبستموني بالعشي ، فضحك المهدي حتى فحص برجله ، وأمر له بجائزة وخلى سبيله . وتنبأ آخر وادعى أنه موسى بن عمران ، فأحضره وقال له : من أنت ؟ قال : أنا كليم الله موسى . قال : وهذه عصاك التي صارت ثعباناً ؟ قال : نعم . قال : فألقها من يدك ومرها أن تصير ثعباناً . قال : قل أنت " أنا ربكم الأعلى " : كما قال فرعون ، حتى أصيرها ثعباناً كما فعل موسى . فضحك منه واستظرفه . وأحضرت المائدة فقيل له : هل أكلت شيئاً ؟ فقال : ما أحسن العقل لو كان لي ما آكله ، أي شيء كنت أعمل عندكم؟ فأعجب به الخليفة وأحسن إليه . وتنبأت امرأة أيام المأمون ؛ فأوصلت إليه . فقال لها : من أنت ؟ قالت : أنا فاطمة النبية . فقال المأمون : أتؤمنين بما قال محمد رسول الله ؟ قالت : هو نبي حقاً ، وقوله حق مقبول . قال : فإن محمداً عليه السلام قال : لا نبي بعدي . قالت : صدق صلوات الله عليه ؛ فهل قال : لا نبية بعدي ؟ فقال المأمون لمن حضر : أما أنا فقد انقطعت ، فمن كانت عنده حجته فليأت بها ، وضحك حتى غطى وجهه .

وتنبأ آخر في أيام المأمون فقال : أنا أحمد النبي . فحمل إليه فقال له : أمظلوم أنت فتنصف ؟ قال : ظلمت في ضيعتي ، فتقدم بإنصافه ، ثم قال له : ما تقول في دعواك ؟ قال : أنا أحمد النبي فهل تذمه أنت ؟ . ادعى رجل النبوة فقيل له : ما علامتك ؟ قال أنبئكم بما في أنفسكم . قالوا : فما في أنفسنا ؟ قال : أني كذاب ، لست بنبي . تنبأ حائك بالكوفة فقيل له : ما رأينا نبياً حائكاً ، فقال : هل رأيتم نبياً صيرفياً ؟ تنبأ رجل بالبصرة في أيام محمد بن سليمان فأدخل عليه وهو مقيد . فقال له : أنت نبي مرسل ؟ قال : أما الساعة فمقيد . قال : ويلك ، من غرك ؟ قال : هكذا يخاطب الأنبياء ؟ أما والله لولا أني موثق لأمرت جبريل بأن يدمدمها عليكم . قال : والموثق لا تجاب دعوته ؟ قال : الأنبياء إذا قيدت خاصة لا ترتفع دعوتهم ؛ فضحك محمد وقال : متى قيدت الأنبياء ؟ قال : هو ذا بين يديك واحد . قال : فنحن نطلقك وتأمر جبريل ، فإن أطاعك آمنا بك . قال : صدق الله تبارك وتعالى : " فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " إن شئت فافعل فأمر بإطلاقه فلما وجد الراحة قال : يت جبريل - ومذ بها صوته - ابعثوا من شئتم ، فليس بيني وبينكم عمل ، هذا محمد بن سليمان في عشرين ألف مدجج ، وله غلة مائة ألف في كل يوم وأنا وحدي ، ما أملك درهماً واحداً ، ما يذهب لكم في حاجة إلا كشخان فضحك منه وخلاه . تنبأ رجل في أيام المأمون ، فقال له : من أنت ؟ قال : نبي . قال : فما معجزتك ؟ قال : ما شئت . قال : فأخرج لي من الأرض بطيخة . قال : أمهلني ثلاثة أيام . قال المأمون : الساعة أريدها . قال : يا أمير المؤمنين ، أنصفني . أنت تعلم أن الله ينبتها في ثلاثة أشهر، فلا تقبلها مني في ثلاثة أيام ؟ فضحك المأمون وعلم أنه محتال واستتابه ووصله .

وتنبأ آخر في أيامه ، فطالبوه بمعجزته ، فقال : أطرح لكم حصاة في الماء فأذيبها حتى تصير مع الماء شيئاً واحداً . قالوا : قد رضينا ، فأخرج حصاة كانت معه وطرحها في الماء فذابت ، فقالوا : هذه حيلة ، ولكن أذب حصاة نعطيك نحن . قال لهم : لا تتعصبوا . فلستم أنتم أجل من فرعون ، ولا أنا أعظم من موسى ، لم يقل فرعون لموسى : لا أرضى بما تفعله بعصاك حتى أعطيك من عندي عصاً تجعلها ثعباناً . فضحك المأمون وأجازه . وتنبأ آخر في أيام المعتصم ، فلما أحضر بين يديه قال له : أنت نبي ؟ قال : نعم . قال : إلى من بعثت ؟ قال : إليك . قال : أشهد أنك لسفيه أحمق . قال : إنما يبعث إلى كل قوم مثلهم . فضحك المعتصم وأمر له بشيء . وتنبأ آخر فقيل له : ما معجزتك ؟ قال : يقول الله تعالى : " ذو مرة فاستوى " ، ورجلي قد تشقق كله من المرار . وتنبأ آخر فرئي في بيت خمار ، فقيل له : ما رأينا نبياً في بيت خمار قال : إنما جئت أعرف هذا حتى لا أقصده مرة أخرى . وتنبأ رجل في خلاعة المأمون ، فقال لعلي بن صالح صاحب المصلى : ناظره . فقال له علي : ما أنت ؟ قال : نبي . قال : فأين آياتك والنذر ؟ قال : ألستم تزعمون أن محمداً كان لا يخبر بشيء إلا كان ؟ قالوا : نعم . قال : فأنا لا أخبر بشيء أنه يكون فيكون . تنبأ رجل في أيام المأمون ، فقال له : ما أنت ؟ قال : أنا نبي . قال : فما معجزتك ؟ قال : سل ما شئت . وكان بين يديه قفل ، قال : خذ هذا القفل فافتحه ، فقال : أصلحك الله ، لم أقل إني حداد ، قلت : أنا نبي فضحك المأمون واستتابه وأجازه . وتنبأ آخر فطلب ، فلما أحضر دعا له بالنطع والسيف ، فقال : لم تقتلوني ؟ قالوا: لأنك ادعيت النبوة . قال : فلست أدعيها . قالوا : فأي شيء أنت ؟ قال : أنا صدّيق . فدعي له بالسياط ، قال : لم تضربوني ؟ قالوا : لادعائك أنك صديق . قال : لا أدعي . قالوا : فمن أنت ؟ قال : من التابعين بإحسان . فدعي له بالدّرة . قال : ولم ؟ قالوا : نؤدبك لادعائك ما ليس فيك . قال : ويحكم . الساعة كنت نبياً ، أتريدون أن تحطوني في ساعة واحدة من النبوة إلى مرتبة العوامّ ؟ أمهلوني إلى غد حتى أصير لكم إلى ما شئتم . وأتي المتوكل بواحد قد تنبأ، فقال له : ما حجتك ؟ قال : ما أعطوني حجة وقلت لجبريل : إن القوم ثقال الأرواح غلاظ الطباع لابد لي معهم من آية . قال لي : اذهب ، فإن أهل بغداد قد اختلفوا في القاضي ، وأنه بغّاء أو لوطيّ ، فاذهب فعرفهم ذلك فإنهم إذا عرفتهم آمنوا بك . قال المتوكل : فما الذي قال لك جبريل من أمر القاضي . قال : قال هو بغّاء . فضحك وأمر له بجائزة . وتنبأ آخر في زمن المهدي ، فقال له : إلى من بعثت ؟ فقال : وتركتموني أذهب إلى من بعثت إليه ؟ بعثت بالغداة ووضعتموني في السجن بالعشي ، فضحك المهدي حتى ضرب برجليه . وقال : صدقت يا هذا . عاجلناك ، فإن نحن خليناك تذهب إليهم ؟ قال : لا والله ، قد بدا لي ، أخاف أن يصنعوا بي كما صنعتم . قال : فما تقول لجبريل؟ قال : أقول له : ابعثوا من شئتم فإني أحتاج أن أقتل الحبال . فضحك المهدي ، واستتابه وخلاه . وتنبأ آخر في زمن المهدي فأمر بإحضاره ، فلما مثل بين يديه قال له : أنت نبي ؟ قال : نعم . قال : ومتى بعثت ؟ قال : وما تصنع بالتاريخ ؟ قال : ففي أي موضع جاءتك النبوة ؟ قال : وقعنا . والله ليس هذا من مناظرات الأنبياء ، إن كان عزمك أن تصدقني فكل ما قلت لك اعمل به ، وإن عزمت أن تكذبني فدعني رأساً برأس . قال المهدي : هذا لا يجوز فإن فيه فساد الدين . فغضب وقال : واعجباه تغضب أنت لفساد دينك ولا أغضب أنا لفساد ديني ؟ فوالله ما قويت إلا بمعن بن زائدة والحسن بن قحطبة ومن أشبههما ، فضحك المهدي وقال لشريك القاضي : ما تقول فيه ؟ قال المتنبئ : تشاور ذاك في أمري ولا تشاورني ؟ قال : هات ما عندك . قال : أكافر أنا عندك أم مؤمن ؟ : قال : كافر . قال : فإن الله يقول : " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله " .

فلا تطعني ولا تؤذني ، ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين ، فإنهم أتباع الأنبياء ، وأترك الملوك والجبابرة فإنهم حصب جهنم ، فضحك وخلاه . وتنبأ آخر في أيام المتوكل فأحضره وقال له : ما صناعتك ؟ قال : أنا روّاس . قال المتوكل : صناعة قذرة ، فقام المتنبئ ينفض ثيابه ليمضي ، فقال : إلى أين ؟ قال : أذهب أقول لهم إن القوم متقززون ، يريدون نبياً عطاراً . وتنبأ آخر في أيام المأمون فأحضر وقال له : ما آيتك ؟ وما الدليل على نبوتك ؟ قال : القرآن ؛ يقول الله عز وجل : " إذا جاء نصر الله والفتح " . واسمي الفتح . فقال المأمون : فهذا لك خاصة أو لكل من اسمه الفتح ؟ قال : وحين قال الله في كتابه العزيز : " محمد رسول الله " كان لمحمد خاصة أو لكل من اسمه محمد ؟ فضحك واستتابه وخلاه . وتنبأ آخر فقيل له : ما معجزتك ؟ قال : وما معجزة نبيكم ؟ قالوا : حلب الحائل . قال : فأنا أحلب العاقر . تنبأ آخر ، وسمى نفسه نوحاً ، ونهاه صديق له عن ذلك ، فلم ينته ، فأخذه السلطان وصلبه، فمر به صديقه الذي كان ينهاه ، فقال له : يا نوح ؛ ما حصلت من السفينة إلا على الدقل . جاء رجل إلى المتوكل ، وادعى النبوة ، فقال له بعض من حضر : صف لنا جبيل ، فوصفه ولم يذكر جناحه ، فقال له : ويحك ، لم تعلمنا خبر جناحه ، ولسنا نشك في أن له جناحاً . فقال : أظنه أتاني وهو في القرفصة . أتي المأمون بآخر قد تنبأ ، فقال له: ما تقول ؟ قال : قال ربي لا تكلم المأمون بشيء ، واذهب إلى الهند . فضحك وخلاه .