ذكر القاضي الحسن بن الحسن الجذامي النباهي

وتقدم بعد قاضياً بمالقة من أهلها الحسن بن محمد بن الحسن الجذامي النباهي. وكان رجلاً صليباً في الحق، متعززاً بالله، قوياً في ذاته، لا تأخذه في الله لومة لائم، رفيقاً مع ذلك بالمساكين، شفيقاً على الضعفاء، ومبغضباً في أهل الأهواء. وأول يوم قعد فيه للحكم، تقدم إليه رجلان في الطلب بدين ترتب لأحدهما قبل الآخر؛ وأقر المطلوب ببقائه في ذمته، وزعم أنه في الوقت غير قادر على أدائه؛ ولم تقم له بينة على صحته دعواه، ولا حضره حميل به؛ فتوجه عليه السجن. فحين شاهد أسباب ذلك، قال يخاطب القاضي: أصلحك الله! أيجمل بك، ويحسن عندك استفتاح عملك بسجن مثلي من الضعفاء؟ ولى صبية أصاغر لا كاسب لهم، ولا كافل غيري. فإن حبستني عنهم، لم يبعد تلفهم جوعاً وعطشاً! فارفق بساحتي، وانظر لحالتي! فأمر القاضي بإحضار مقدار العدد المطلوب من مال نفسه، وأذن في دفعه لمطالبه، وخلى سبيل الغريم يمضى لشأنه. وكان قد أصاب الماشية بكورة رية من الغضب والنهب، أيام فتنة الخلاف بها، ما صار داعية لتغلب الحرام عليها؛ فرد شهادة كل من ثبت فيه لديه أنه أكل من ذلك اللحم المغصوب؛ وهو عالم بعينه، سواء كان مشترياً له من الغاصب أو أكله دون عوض. ورد شهادة الولد إذا كانت مع والده؛ فاشتد في أحواله. وفي أثناء ذلك، وسيق له رجل، شهدت البينة بأنه وجد في خربة بحذاء مقتول؛ وقربه. وسأل الرجل حين اعذر له؛ فذكر أنه كان مختاراً عليها لمنزله؛ فرام أولياء الدم الأخذ لهم بالقسامة في المسألة، على ما رواه ابن الحكم في مثل النازلة، ورواه ابن وهب عن مالك؛ فأجرى النظر القضية، وتوقف عن الفصل، وعقد النية على ترك الولاية ما بقي من مدة حياته، واستعفى على الفور من الحكم بين الناس. وقد كان القلق وقع به من أولى الامر، فاعفى على الأثر. فكانت مدة ولايته القضاء نحو شهر. وهو أعظم الله أجره! ممن أصيب في ذاته وماله، بسبب إنكاره على إبراهيم الفزاري، ولي بني أشقيلولة أيام ثورتهم برية، وامتعاضه لما أظهره لهم من البدعة وادعاه النبوة، وعند ذلك فرَّ من مالقة أبو جعفر بن الزبير، وأتبع ليقتل؛ فأفلت، ولاذ بأمير المسلمين، السلطان، المؤيد المنصور، أبي عبد الله المدعو بالفقيه رحمه الله وأرضاه! فحاول على الفزاري حتى تحصل في حكمه، وأمر بقتله وصلبه؛ فقتل بغرناطة على كفره، هو وبعض أصحابه.

وقد أشار إلى ما نبهنا عليه الشيخ القاضي الرواية المحدث، الوزير المشاور، أبو عامر بن عبد الله بن قاضي الجماعة أبي عامر بن ربيع، في كتابه المسمى ب تنظيم الدر في ذكر علماء الدهر.

والذي وقع في الكتاب المسمى بعد اسم أبي علي بن الحسن، من أوله إلى آخره، ما هو نصه: الحسن بن محمد الجذامي من أهل مالقة، من أعيانها وجلة بيوتها، يعرف بالنباهي، ويكنى أبا علي. أخذ بمالقة عن شيوخها. وكان رحمه الله! صالحاً، فاضلاً، ديناً، صليباً في الحق، فامتحن في الله تعالى، وقيامه بالحق، بالضرب والنفي عن بلده نفعه الله! واستقر بمدينة فاس، تحت تكرمه ومبرة، يتولى عقد الوثائق، ويحترف بها. وكان من جلة العدول. ثم عاد إلى بلده مالقة، عند خروج بني أشقيلولة منها، وأقام بها بقية عمره، يتعيش من فائد بقايا أملاكه بها. ودعى إلى الخطابة بجامعها الأعظم؛ فأبى. وقضى أياماً يسيرة، واستعفى. توفي رحمه الله! في حدود سنة 700.