الجزء الثالث - الباب الأول وكلام معاوية بن أبي سفيان وولده

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

بذكر الله نستأنف البركة ونستجدها ، وبحمد الله نستديم الموهبة ونستمدها ، وبالتعويل على الله نستقرب النازح ، وبالتفويض إلى الله نستلين الجامح ، وبشكر الله نرتهن النعمة حتى لا تزول . ونستثبتها حتى لا تزل ونعتقلها حتى لا تشرد ، ونستدنيها حتى لا تبعد ، ونستديمها حتى لا تنفد ، ونستمهلها حتى لا تزحل ، ونستوثقها حتى لا ترحل ، ونحسن مجاورتها حتى تخزن عندنا فلا تجمح ، وتقر لدينا فلا تبرح ، وتشتمل في مواردنا فلا تنزح . نحمده حمد من عرف قدرته فأذعن لها ، وعلم حكمته فآمن بها ، ونسأله أن يصلى على محمد وآله ، سؤال طاعة لا سؤال شفاعة ، فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أهل بيته ، يجل عن أن يشفع له ، وتقل عن أن يشفع فيه ولكنا أمرنا بالصلاة عليه ، والتسليم إشادة لمعاليه . قال الله تعالى : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) اللهم أنت واري الخفية ، وبارىء البرية ، وداحي الأرض ورافع السماء ، وجاعل كل حي من الماء أنت الواحد الفرد فلا تضاد ، والفاعل لما تشاء فلا تراد ، والغالب لكل شيء فلا تدافع ، والقاهر فوق عبادك فلا تمانع ، ) تعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير ) . اللهم فأعنا على الاخرة بالطاعة ، وعلى الدنيا بالقناعة وأغننا بفضلك عن فضول خليقك ، وصنا عن الحسد على ما فضلت به بعضنا من لدنك ، ووسع حولنا في العيش والمعاش ، وأسبغ علينا سلامة النفس وحسن الرياش ، وارزقنا كفاء ما يكف الوجه عن المسألة ، ويصون العرض عن المذلة . ويسد الجوعة فلا نشرى ، ويستر العورة فلا نعري ، ويعين على المروءة فلا نفتن ، ويلم الشعث فلا تزرينا الأعين ، وينوء بنا إلى صلة الرحم وبذل الماعون الإيثار على النفس ، والجود بما يفضل عن القوت ، وجبر الكسر ، وإطعام الفقير ، وإقناع القانع ، وإرضاء المعتر ، وإغاثة المهتضم ، وإعانة المستضعف . إنك نعم المدعو ، ونعم المؤمل والمرجو ، وأنت كل شيء قدير . هذا هو الفصل الثالث من كتاب نثر الدر ، قد افتتحته بكلام الخلفاء من بني أمية وبني هاشم ، وربما خلطت به نبذا يسيرا من من نوادر أخبارهم ، ونكث آثارهم ، لا يخرج به الكتاب عن الغرض الذي رميناه ، والقصد الذي تحريناه ، وذكرت من جملة خلفاء بني العباس إبراهيم بن المهدي ، وعبد الله بن المعتز ، فقد بويع لهما بالخلافة ، ولهما كلام شريف ، لا يقصر عن كلام الكافة ، وأتبعت ذلك بأبواب سأذكرها ، وختمته بنوادر وملح وشحت الفضل بها . ولعل قائلا يقول : هلا أفرد للهزل كتابا أو أخره ، ليجعل له عند انقضاء الجد بابا . ولا يعلم أني جعلت ذلك مصيدة للجاهل تفقه على العلم ، وحيالة للهازل ، توقعه في الجد . ولعلى لو أفردت له فصلا ، ولم أخلط الكتاب جدا وهزلا ، لعدل أكثر أبناء زماننا إلى ذلك الباب المفرد ، ولصار الجد عندهم في حيز المستثقل المستبرد ، بل المهجور المتروك ، وإن كان كالنير المسبوك أو الدر المسلوك. الفصل الثالث ( 232 ) وأبواب هذا الفصل ثلاثة عشر بابا . الباب الأول : كلام معاوية بن أبي سفيان وولده الباب الثاني : كلام مروان بن الحكم وولده الباب الثالث : كلام خلفاء بني العباس الباب الرابع : كلام جماعة من بني أمية الباب الخامس : نكت من كلام الزبيرين الباب السادس : نوادر أبي العيناء ومخاطباته الباب السابع : نوادر مزبد الباب الثامن : نوادر أبي الحارث جمين الباب التاسع : نوادر الجماز الباب العاشر : نوادر المجانين الباب الحادي عشر : نوادر البخلاء الباب الثاني عشر : كلام الشطار الباب الثالث عشر : العي ، ومخاطبات الحمقى .

الباب الأول كلام معاوية بن أبي سفيان وولده

قال الهيثم : خرجَ معاويةُ يريد مكة ، حتى إذا كان بالأبواء أطلَع في بئرٍ عاديةٍ ؛ فأصابتهُ اللقْوة . فأتى مكة ، فلما قضى نُسُكه ، وصار إلى منزله ، دعا بثوبٍ ، فلفه على رأسه ، وعلى جانب وجههِ الذي أصابه فيه ما أصابه ، ثم أذن للناس فدخلوا عليه ، وعنده مروانُ ، فقال : إن أكن قد ابتُلِيتُ فقد ابتُلى الصالحون قبلي ، وأرجو أن أكونَ منهم وإن عُوقِبتُ فقد عوقب الظالمون قبلي ، وما آمَنُ أن أكون منهم ، وقد ابتليت في أحسنيِ وما يبدو مني ، وما أُحصِى صحيحي . وما كان لي على ربي إلا ما أعطاني والله إن كان عتَبَ بعد خاصَّتكم لقد كنت حدباً على عامتكم ، فرحم الله أمرءاً دعا لي بالعافية : قال : فعج الناسُ بالدعاء له ، فبكى ، فقال مروان : وما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ قال : كبرتْ سِني ، و كثر الدمعُ في عيني ، وخشيت أن تكون عقوبة من ربي ، و لو يزيد ، أبصرتُ قصدي . دخل المسْور على معاوية ، فقال له : : كيف تركتَ قريشاً ؟ قال : أنت سيدها يا أمير المؤمنين ، أعلاها كعباً ، وأسودها أباً ، وأرفعها ذِكراً وأجلها قدراً . قال : كيف تركتَ سعيداً ؟ قال : عليلاً . قال : لليدَيْنِ و ِللْفَم : بِهِ لا بِظَبْيٍ بالصَّريمَةِ أعفَراً قال : و عمرو بن سعيدٍ صبيٌّ يسمع قوله من وَرائِهِ . فقال : إذاً والله لا يسد جُفرتكَ ، ولا يزيد في رزقك ، ولا يدفع حتفاً عنك ، بل يفتُّ في عضدك ، ويهيضُ ظهرك ، وينشرُ أمركَ ، فتدعو فلا تُجاب ، و تتوعدُ فلا تُهاب . فقال معاوية : يا أبا أمية ، أراك ها هنا ، إن أباك جارانا إلى غاية الشرف ، فلم تعلق بآثاره ، ولم نقم لمحفاره ، ولم تلحق بمضماره ، ولم ندن من غباره ، هذا مع قوة مكانٍ ، وعزة سلطان . وإن أثقل قومنا علينا من سبقنا إلى غاية شرفٍ ، فأخذ أبوك علينا القصبة ، وملك دوننا الغلبة . رُوِيَ : أن عمَرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - قدم الشام ، ومعه عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيدة ، هما على حمارين قريبين من الأرض ، فتلقاَّهما معاوية في كوكبة خشناء ، فثنى وَرِكَهُ ، فنزل ، وسلم بالخلافة : فلم يرد عليه ، فقال له عبد الرحمن وأبو عبيدة : يا أمير المؤمنين أحضرت الفتى فلو كلمته . فقال : إنك لصاحبُ الجيشِ الذي أرى ؟ قال : نعم . قال : مع شدةِ احتجابِكَ ، ووقوف ذوي الحوائج ببابك ؟ قال : أجل . قال : لِمَ ؟ ويلك قال : لأنا ببلادٍ يكثر بها جواسيس العدو ، فإن نحن لم نتخد العدة والعدد للعدو استخف بنا . وهجم على عورتنا . وأنا - بعدُ - عاملُك ، فإن وقفتني وقفتُ ، وإن استزدتني زِد تُ ، وإن استنقصتني نقصتُ . قال : والله لئن كنت كاذباً إنه لرأيٌ أريبٍ ، ولئن كنت صادقاً إنه لتدبيرٌ أديب . ما سألتك قطّ عن شيءٍ إلا تركتني فيه أضيقَ من رواجبِ الضرس . لا آمرُك ولا أنهاك .

فلما انصرف قال له صاحبه : لقد أحسن الفتى في إصدارِ ما أوردتَ عليه . قال : بحسن إصداره وإيراده جشَّمناه ما جشَّمناه . قال معاوية : معروف زماننا هذا منكر زمانٍ قد مضى ، و منكرُ زماننا هذا معروف زمانٍ لم يأتِ . وقال يوماً على المنبر : يا أهل الشام ، ما أنتم بخيرٍ من أهل العراقِ ثم ندم فتداركها ، فقال : إلا أنكم أعطِيتم بالطاعة ، وحُرِموا بالمعصية . ومن كلامه : الفرصةُ خُلسة ، والحياء يمنع الرزق ، والهيبة خيبة و الحكمة ضالة المؤمن . وقال ذات يومٍ لابنه يزيد : يا بُنيّ ، لا تستفسد الحر فساداً لاتُصلحهُ أبداً . قال : بماذا ؟ قال : لاتَشْتُمَنَّ له عِرضاً ، ولا تضربنَّ له ظهراً ، فإن الحُرَّ لا يرى الدنيا عوضاً من هذين ، ولكن خذ ما له ، و متى شئتَ أن تُصلِحَهُ فمالٌ بمال . و أتى بسارقٍ ، فقال : أسرقتَ ؟ فقال بعضُ من حضرَ : اصدق أمير المؤمنين . فقال معاوية : الصدقُ في بعض المواطن عجْز . وقال له عمرو بن العاص : قد أعياني أن أعلمَ شجاعٌ أنت أم جبان ؟ فقال : شجاعٌ إذا ما أمكنتني فرصةٌ . . . فإن لم تكن لي فرصةٌ فجبانُ وخطب فقال : إن رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - لم يُخْلَقُ للدنيا ولا خُلِقَتْ لهُ ، وإن أبا بكرٍ لم يُرِدِ الدنيا و لم تُرِدْهُ ، وإن عُمَرَ أرادته الدنيا ولم يُرِدها ، وإن عثمانَ أصاب من الدنيا و تركَ ، وإن ابن هند تمرغَ فيها ظهراً لبطن ، ولو كانت ْرايةٌ أحقُّ بنصرٍ و أقرب إلى هدى كانت رايةَ ابن أبي طالبٍ ، وقد رأيتم إلام صارت . وقال لعاملٍ له : كل قليلاً تعملْ طويلاً ، إلزمِ العفافَ يلزمك العملُ ، وإياَّك والرُّشا يشتدُّ ظهركَ عند الخصام .

ورفع يوماً ثندوتَيه بيديه ، ثمَّ قال : لقد علِم الناس أن الخيل لا تجري بمثلى ، فكيف َ قال النجاشي : ونجَّى ابن حربٍ سابِحٌ ذو علالةٍ . . . أجشُّ هزيمٌ والرماحُ دَوان وقال : إنِّي لأكرهُ النَّكارة في السيد ، وأحِبُّ أن يكونَ غافلاً أوْ مُتَغافِلاَ . وقال لعمرو حين نظر إلى معسكرِ علي - عليه السلام - من طلب عظيماً خاطرَ بعظيمتهِ . وقال لأبي الجهمِ العدوي : أنا أكبرأم أنتَ يا أبا الجهم ؟ فقال : لقد أكلتُ من عرسُ أمِّكَ . فقال : عند أيِّ أزواجها ؟ قال : في عُرسِ حفصٍ ابن مغيرة . فقال : يا أبا الجهم ، أيَّاك والسلطانَ ، فإنه يغضب غضبَ الصيِّ ، ويعاقبُ عقوبة الأسد ، فإن قليلهُ يغلبُ كثير الناس . وقال يوماً : أنا أعرفُ أرخص ما في السوق وأغلاهُ ، فقيل : وكيف ذاك ؟ فقال : أعلم أن الجيِّدَ رخيصٌ والردئ غالٍ . ولماَّ مات زياد وفد عليه عبيد الله ابنه : فقال له : من استخلف أخي على عمله بالكوفة ؟ قال : عبد الله بن خالدٍ أُسيد ، قال : فعلى البصرة ؟ قال : سمرة بن جندب ، فقال له معاوية : لو استعملك أبوك استعملْتُك . فقال له عبيد الله : أنشدك الله أن يقولها لي أحدٌ بعدك : لو ولاَّك أبوك ، وعمُّكَ ولَّيتُكَ . فولاَّهُ خراسان . وأوصاهُ فقال : اتق الله ولا تؤثرن على تقواهُ شيئاً ، وق عرضك من أن تدنسهُ وإذا أعطيت عهداً ففِ به ، ولا تبيعن كثيراً بقليل ، وخذ لنفسك من نفسك ، ولا يخرجن منك أمرٌ حتى تبرِمه ، فإذا خرج فلا يُرَدَّنَّ عليك . وإذا لقيتَ عدوك فغلبك على ظهرِ الأرضِ فلا يغلبنك في بطنها ، وإن احتاج أصحابك أن تواسيهم بنفسك فواسهم ، ولا تُطمِعنَّ أحداً في غير حقِّه ، ولاتؤيِسَنَّ أحداَ من حقٍّ هو له .

وقال له ابن عباس : هل لك في مناظرتي فيما زعمتَ أنك خصمت فيه أصحابي ؟ فقال له معاوية : ما تصنع بمناظرتي ؟ فأشغب بك وتشغب بي ، فيبقى في قلبك ما لا ينفعك ، ويبقى في قلبي ما يضرك . وخطب عند مقدمه المدينة فقال : أما بعد ، فإنا قدمنا على صديقٍ مشتبشرٍ ، وعدو مستبسر ، وناس بين ذلك ينظرون و ينتظرون ، فإن أعْطوا منها رضوا ، وإن لم يُعْطَوا منها سخطوا . ولستُ أسع الناس كلهم ، فإن تكن محمدة فلابد من لائمة ، فليكن لوماً هوناً إذا ذُكِرَ غفِرَ ، وإياكم والغطمى ، التي إن ظهرت أوبقت ، ولإن خَفِيَتْ أوتَغَتْ . وقدم معاوية من ولاية كان عمرُ ولاَّهُ إيَّاها فبدأ بعمر - رضي الله عنه - فلما دخل عليه قال له : متى قدِمتَ ؟ قال : الآن ، وبدأت بك . قال: اذهب فابدأ بأبويك فإن حقنا لم يدخل على حقهما ، وابدأ بأمك . قال : فخرجتُ من عنده ودخلت على أمي هند ، فقالت : يا بنى ، إنه ما ولدت حرة مثلك ، وإنك قد أُنْهِضْتَ فانهض ، ولإن الذي استعملك قادرٌ أن يعزلك ، فاعمل بما وافقه وافقك ذلك أو خالفك . قال : فخرجتُ من عندها فدخلت على أبي ، فقال : يا بنىَّ ، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا فأساءوا سبقنا ، فرفعوا وضيعهم ، ووضعوا رفيعنا ، وصرنا أذناباَ وصاروا رؤوساً ، وقد رأيتهم ولوك جسيماً من غير حاجةٍ بهم إليك ولكنه جد وقع ، فاعمل بما وافقهم ، إما لربك وإما لهم . قال معاوية لابن الأشعث بن قيس : ما كان جدك قيس بن معديكرب أعطى الأعشى ؟ فقال : أعطاه مالاً وظهراَ ورقيقاً وأشياء أُنسيتُها . فقال معاوية : لكن ما أعطاكم الأعشى لا يُنسى . ذُكِرَ علي - رضي الله عنه - في مجلس معاوية ، وعنده أهله ، فقال عنبسة بن أبي سفيان : والله إني لأعجب من علي وطلبه للخلافة . فقال معاوية - وضحك - : أما والله إنها سنة كما قال الشاعر : و ما تركته رغبةً عن جماله . . . ولكنها كانت لآخر تُخْطَبُ ومن كلام معاوية : ثلاثٌ من السؤدد : الصلع ، واندِحاء البطن ، وترك الإفراط في الغيرة . وقد عيبَ بهذا الكلام ، ورُمِيَ بقلَّة الغيرة ، وكذلك عابوا قيس بن زهير حين نزل ببعض القبائل ، فقال : أنا غيور فخور أنِف ، ولكني لا آنف حتى أُضام ، ولا أفخَرُ حتى أفعل ، ولا أغار حتى أرى . قال أبو عثمان : أظن أنه إنما عني به رؤية السَّبب لا رؤية المواقعة . وقال معاوية لعمرو بن العاص : يا عمرو ، إن أهل العراق قد أكرهوا علياَّ على أبي موسى ، وأنا - والله - وأهل الشام راضون بك ، وقد ضم إليك رجل طويل اللسان ، قصير الرأي ، فأجد الحزَّ وطبق المفصل ، ولا تلقَهُ برأيكَ كله . وخطب مرة فقال : أيها الناس ، إنا قد أصبحنا في دهرٍ عنود ، وزمنٍ شديد ، يُصبِحُ فيه المحسِن مسيئاً ، ويزداد الظالم عتواً ، لا ننتفع بما علمنا ، ولانسأل عما جهلنا ، ولا نتخوف قارعةً حتى تحُلَّ بنا ، فالناس على أربعة أصناف : منهم من لا يمنعه من الفساد إلا مهانة نفسه ، وكلال حدِّه ، ونضيض وقْرِه . ومنهم المصلِتُ لسيفه ، المجلِبُ برجله ، المعلن بشرِّه ، قد أشرط نفسه ، وأوبق دينه لحطام ينتهزه ، ومقنبٍ يقوده أو منبرٍ يفرعُه ، ولبئس المتجر أن تراهما لنفسك ثمناً ، وممَّالك عند الله عوضاً . ومنهم من يطلبُ الدنيا بعمل الآخرة ، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا ، قد طامن من شخصه ، وقارب من خطوهِ ، وشمر من ثوبه ، وزخرف نفسه للأمانة ، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية .

ومنهم من أقعده عن طلب المال ضئولة نفسه ، وانقطاع سببه ، فقصر به الحال على حال ، فتحلَّى باسم القناعة ، وتزيَّن باسم الزهاد ، وليس من ذلك في مراح ولا مفدى . وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع ، وأراق دموعهم خوف المحشر ، فهم بين شريد نادِّ ، وخائف منقمع ، وساكت مكعوم ، وداعٍ مخلص ، وموجَع ثكلانَ ، قد أخملتهم التقية ، وشملتهم الذلة ، فهم في بحرٍ أجاج أفواههم ضامرة ، وقلوبهم قرحة ، وعظوا حتى ملُّوا ، وقُهِروا حتى ذلُّوا ، وقُتِلوا حتى قلُّوا ، فلتكن الدنيا أقل في أعينكم من حثالة القراظ وقراضة الجلم ، واتعظوا بمن كان قبلكم ، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم ، وارفضوها ذميمة ، فإنها قد رفضت من كان أشفف بها منكم . وقال يونس بن سعيد الثَّقفي : اتَّق الله لا أطير بك طيرةً بطيئاً وقوعها . قال : أليس بي وبك المرجِعُ بعدُ إلى الله ؟ قال : بلى ، فأستغفر الله. طلب زياد رجلاً كان في الأمان الذي أخذه الحسن لأصحابه ، فكتب الحسن فيه إلى زياد : أما بعد ، فقد علمت ما كنا أخذنا لاصحابنا ، وقد ذكر فلانٌ أنك قد عرضتَ له ، فأحِبُّ ألا تعرضَ له بخير ، فلما أتى زياداً الكتاب ، ولم ينسِبه فيه إلى أبي سفيان غضب وكتب : من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن أما بعد فإنه قد أتاني كتابُك في فاسقٍ يؤويه الفساق من شيعةِ أبيك وشيعتك . وأيم الله لأطلبنهم ولو بين جلدك ولحمك ، وإن أحب الناس إليَّ لحماً أن آكله لحمٌ أنت منه . فلما قرأه الحسن بعث به إلى معاوية ، فلما قرأه غضب و كتب : من معاوية إلى زياد . أما بعد ، فإن لك رأيين : رأياً من أبي سفبان ورأياً من سمية . فأما رأيُك من أبي سفيان فحلمٌ وحزم ، وأما رأيك من سمية فما يكون من رأي مثلها ، وقد كتب إليَّ الحسن بن علي أنك عرضت لصاحبه ، فلا تعرض له ، فإني لم أجعل لك عليه سبيلاً . وإن الحسن بن علي لا يُرمى به الرَّجوان . والعجبُ من كتابك إليه ، لا تنسبه إلى أبيه . فإلى أُمه وكلته ؟ وهو ابن فاطمة بنت رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - . فالآن حين اخترت له . والسلام . وقال لقوم من بني أسد : ما معيشتكم ؟ قالوا : التجارة في الرقيق : قال بئس التجارة ، ضمان نفس ومئونة ضرس . وقال لجماعة من قريش كانوا عنده : يا معشر قريش ، ما بال الناس لأم وأنتم لعلات ؟ تباعدون منكم ما قرب الله ، وتقطعون ما وصل الله ، بل كيف ترجون لغيركم ، وقد عجزتم عن أنفسكم ؟ أتقولون : كفانا الشرف من كان قبلنا ؟ فعندها لزمتكم الحجة ، فاكفوه من بعدكم . أولا تعلمون أنكم كنتم رقاعاً في جيوب العربن قد أخرِجتم من حرم ربكم ، ومنِعتم ميراث أبيكم . حتى جمعكم الله على رجلٍ فردَّكم إلى بلادكم ، وأخذ لكم ما أُخِذَ منكم ، فسمَّاكم الله باجتماعكم اسماً دنت لكم به العرب ، وردَّ به عنكم كيد العجم ، فقال : " فجعلهم كعصفٍ مأكول " ، " لإيلاف قريش " فارغبوا في الألفة التي أكرمكم الله بها ، وإياَّكم والفرقة ، فقد حذَّرَتكم نفسها ، وكفى بالتجربة واعظاً . وقال لعبد الرحمن ابن أم الحكم : بلغني أنك قد لهجتَ بقول الشعر . قال : قد فعلتُ . قال : فإياك و التشبيب بالنساء ، فتَغُرَّ الشريفة ، وترمي العفيفة ، وتقرَّ على نفسك بالفضيحة ، وإياك والهجاء ، فإنك تحنق عليك كريماً ، وتستثير سفيهاً . وإياك والمديح ، فإنه طعمة الوقاح ، وتفحش السؤال ، ولكن افخر بمفاخر قومك وقل من الشعر ما تزيِّن به نفسك ، وتؤب به غيرك . وقال لعمرو بن سعيد : ليس بين الملك وبين أن يملك جميع رعيته ، أو يملكه جميعهم إلا حزمٌ أو توان . وقيل له : أنت أنكر أم زياد ؟ قال : إن زياداً لا يدع الأمر يتفرق عليه وإنه يتفرق عليَّ فأجمعه .

وقال عمرو بن العاص له : ما أشد حبك للمال قال : ولم لا أحبه وأنا أستعبد به مثلك ، وأبتاع به مروءتك ودينك ؟ . قال : السفلة من ليس له نسبٌ معروف ، ولا فِعلٌ موصوف . وقال : ثلاثة ما اجتمعن في حر : مُباهتة الرجال ، والغيبة للناس ، والملال لأهل المروءة . وقال لرجل : من سيد قومك ؟ قال : لجأهم الدهرإليَّ . قال : هكذا تكون المخاتلة عن الشرف . وقال صعصعة : يا امير المؤمنين ، مالنا نحب أولادنا اشد من حبهم لنا ؟ قال : لأنهم منا ولسنا منهم ، ولدناهم ولم يلدونا . قدم رجل من مصر عليه ، فإنه ليحدثه لإذ حبق ، فانتفض وترك الكلام ، فقال معاوية : خذ فيما كنتَ فيه ، فما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي . ودخل عليه رجل مرتفع العطاء فرأى في عينيه رمصاً ، فحطَّ عطاءه وقال : يعجز أحدكم إذا أصبح أن يتعهد أديم وجهه . وقال لقريش في خلافته : إني أقع إذا طرتم ، وأطيرُ إذا وقعتم ، ولو وافق طيراني طيرانكم لاختلفنا . وقال : العيال أرضة المال . وقيل له ما أبلغ من عقلك ؟ قال : لم أثق بأحد . ونظر إلى يزيد وهو يضرب غلاماً له ، فقال له : لا تفسد أدبك بتأديبه ، ولكن وكل به من يؤدبه . روى عن بعضهم أنه قال : قدم معاوية المدينة ، فدنوت من المنبر لأحفظ عنه ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : أما بعد ، فإنا قدمنا على صديقٍ مستبشر ، وعلى عدو مستبسر ، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون ، فإن أعطوا منها رضوا ، وإن لم يعطوا منها سخطوا .

ولسنا نسع الناس كلهم ، فإن تكن محمدةٌ فلابد من لائمة ، ليكن لوماً هوناً ، إذا ذكر غفر ، وإياكم والعظمى التي إن ظهرت أوبقت ، وإن خفيت أوتغت . وبلغه أن ابنته امتنعت عن ابن عامرٍ في الافتضاض ، فمشى إليها يتوذف في مشيته ، وفي يده مخصرة ، فجلس ، وجعل ينكت في الأرض ويقول : و توان . وقيل له : أنت أنكر أم زياد ؟ قال : إن زياداً لا يدع الأمر يتفرق عليه وإنه يتفرق عليَّ فأجمعه . وقال عمرو بن العاص له : ما أشد حبك للمال قال : ولم لا أحبه وأنا أستعبد به مثلك ، وأبتاع به مروءتك ودينك ؟ . قال : السفلة من ليس له نسبٌ معروف ، ولا فِعلٌ موصوف . وقال : ثلاثة ما اجتمعن في حر : مُباهتة الرجال ، والغيبة للناس ، والملال لأهل المروءة . وقال لرجل: من سيد قومك ؟ قال : لجأهم الدهرإليَّ . قال : هكذا تكون المخاتلة عن الشرف . وقال صعصعة : يا امير المؤمنين، مالنا نحب أولادنا اشد من حبهم لنا ؟ قال : لأنهم منا ولسنا منهم ، ولدناهم ولم يلدونا . قدم رجل من مصر عليه ، فإنه ليحدثه لإذ حبق ، فانتفض وترك الكلام ، فقال معاوية : خذ فيما كنتَ فيه ، فما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي . ودخل عليه رجل مرتفع العطاء فرأى في عينيه رمصاً ، فحطَّ عطاءه وقال : يعجز أحدكم إذا أصبح أن يتعهد أديم وجهه . وقال لقريش في خلافته : إني أقع إذا طرتم ، وأطيرُ إذا وقعتم ، ولو وافق طيراني طيرانكم لاختلفنا . وقال : العيال أرضة المال . وقيل له ما أبلغ من عقلك ؟ قال : لم أثق بأحد . ونظر إلى يزيد وهو يضرب غلاماً له ، فقال له : لا تفسد أدبك بتأديبه ، ولكن وكل به من يؤدبه . روى عن بعضهم أنه قال : قدم معاوية المدينة، فدنوت من المنبر لأحفظ عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإنا قدمنا على صديقٍ مستبشر ، وعلى عدو مستبسر ، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون ، فإن أعطوا منها رضوا ، وإن لم يعطوا منها سخطوا . ولسنا نسع الناس كلهم ، فإن تكن محمدةٌ فلابد من لائمة ، ليكن لوماً هوناً ، إذا ذكر غفر ، وإياكم والعظمى التي إن ظهرت أوبقت ، وإن خفيت أوتغت . وبلغه أن ابنته امتنعت عن ابن عامرٍ في الافتضاض ، فمشى إليها يتوذف في مشيته ، وفي يده مخصرة ، فجلس ، وجعل ينكت في الأرض ويقول : من الخفرات البيض ، أما حرامها . . . فصعبٌ ، واما حلها فذلول وخرج ودخل ابن عامرٍ فلم تمتنع عليه . قال خالد بن الوليد لمعاوية : إن فيك لخصلتين ما أراهما تجتمعان في رجل : إنك تقدم حتى أقول : يريد أن يقتل ، وتتأخر حتى أقول يريد أن يهرب . فقال : إني والله أتقدم لأقتل ، ولا أتأخر لأهرب ، ولكني أتقدم إذا كان التقدم غنماً وأتأخر إذا كان التأخر حزماً ، كما قال أخو كنانة : شجاعٌ إذا ما أمكنتني فرصة . . . وإن لم تكن لي فرصة فجبان وسُئل : ما النبل ؟ . فقال : الحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة . وقال : الدنيا بحذافيرها الخفض والدعة . وقال له رجلٌ : والله لقد بايعتك وأنا كاره . فقال : لقد جعل الله في الكره خيراً كثيراً . وكتب إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لما دعاه إلى البيعة : من معاوية بن صخرٍ إلى علي بن أبي طالب : أما بعد ، فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك ، وانت برئٌ من دم عثمان ، كنتُ كأبي بكرٍ وعمر وعثمان ، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين ، وخذلت عنه الأنصار ، فأطاعك الجاهل ، وقوي بك الضعيف . وقد أبى اهل الشام إلا قتالك ، حتى تدفع إليهم قتلة عثمان ، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين .

ولعمري ما حجتك علىَّ كحجتك على طلحة والزبير ، لأنهما بايعاك ولم أبايعك ، وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة ، لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام . واما شرفك في الإسلام ، وقرابتك من النبي صلي الله عليه وسلم وموضعك من قريش فلست أدفعه . ثم كتب في آخر الكتاب بشعرٍ لكعب بن جعيل أوله : أرى الشام تكره ملك العراق . . . وملك العراق لهم كارهونا . فأجابه أمير المؤمنين رضي الله عنه : أما بعدُ ، فإنه أتاني منك كتابٌ إمرئ ليس له بصرٌ يهديه ، ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه ، وقاده فاتَّبعه . زعمت انه إنما أفسَد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان . ولعمري ما كنتُ إلا رجلاً من المهاجرين ، واوردتُ كما أوردوا ، وأصدرتُ كما اصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على ضلال ، ولا ليضربهم بالعمى . وبعد ، فما أنت وعثمان ؟ إنما أنت رجل من بني أمية . وبنوا عثمان أولى بمطالبة دمه ، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلىَّ . وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير ، وبين أهل الشامِ وأهل البصرة ، فلعمري ما الأمر فيما هنالك إلاَّ سواء ، لأنها بيعة شاملة ، لا يُستَثنى فيها الخيار ، ولا يُستأنفُ فيها النظر ، وأما شرفي في الإسلام ، وقرابتي من النبيِّ - ( صلى الله عليه وسلم ) - ، وموضعي من قريش ، فلعمري : لو استطعتَ دفعه لدفعته . ثم دعا النجاشي فقال له : إن ابن جعيل شاعر أهل الشام ، وأنت شاعر أهل العراق ، فأجِبِ الرجل . فقال : يا أمير المؤمنين ، أسمعني قوله . قال إذأً أُسمِعَكَ شعر شاعر . فقال النجاشي يجيبه : دعاً يا معاوي ما لنْ يكونا . . . فقد حقق الله ما تحذرونا في أبياتٍ كثيرة . يروى أن يزيد بن معاوية قال لمعاويةَ في اليوم الذي بُويِعَ له بالعهد ، فجعل الناس يمدحونه ، ويُقَرِّظونه : يا أمير المؤمنين ، والله ما ندري أنخدع الناس أم يخدعونا ؟ . فقال له معاوية : كل من أردتَ خديعته فتخادع لك حتى تبلُغَ منه حاجتك فقد خدعته . وكتب إلى قيس بن سعد بن عبادة ، وهو والي مصر لعلي رضي الله عنه : أما بعد فإنك يهودي ابن يهودي ، إن غلب أحد الفريقين إليك عزلك ، واستبدل بك ، وإن غلب أبغضهما إليك قتلك ، ومثَّل بكَ ، وقد كان أبوك فوق سهمه ، ورميَ غرضهِ ، فأكثر الحزَّ ، وأخطأ المفصل ، حتى خذلهُ قومَهُ ، وأدركه يومَه ، فمات غريباً بحوران . فكتب إليه قيس : أما بعد ، فإنك وثن ابن وثن ، لم يقدم إيمانك ، ولم يحدث نفاقك ، دخلت في الدين كرهاً ، وخرجت منهُ طوعاً ، وقد كان أبي فوقَ سهمه ، ورمي غرضه ، فشغبت عليه أنت وأبوك ونظراؤك فلم تبشقّوا غباره ، ولم تدرِكوا شأوه ، ونحن أنصار الدين الذي خرجتَ منه ، وأعداءُ الدين الذي خرجتَ إليه . قال معاوية : الخفض والدعة سعة المنزل ، وكثرة الخُدَّام . وذُكِر أن معاوية استمع على يزيد ذات ليلة ، فسمع من عنده غناءً أعجبه ، فلما أصبح قال ليزيد : من كان مُلهيك البارحة ؟ قال : ذاك ابن خاثر . وقال : إذاً فأخثِر له من العطاء .

وذُكِرَ أن معاوية قال لعمرو بن العاص : امضِ بنا إلى هذا الذي تشاغل باللهو ، وسعى في هدم مروءته ، حتى ننعى عليه فعله - يريد : عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، فدخل عليه وعنده سائب بن خاثر ، وهو يُلقيِ على جواري لعبد الله ، فأمره عبد الله بتنحيةِ الجواري لدخول معاوية ، ووثب سائب بن خاثر ، وتنحّى عبد الله عن سريره لمعاوية ، فأجلسه إلى جانبه . ثم قال لعبد الله : أعِد إلينا ما كنت فيه ، فأمر بالكراسي فأُلقيَتْ ، وأخرج الجواري ، فتغنَّى سائبٌ بقول قيس بن الخطيم : ديار التي كادت ، ونحن على منى . . . تحلُّ بنا لولا نجاءُ الركائبِ ورددَّه الجواري . فحرَّ معاوية يديه ، وتحرَّك في مجلسه ، ثم مدَّ رجليه فجعل يضرِبُ بهما وجهَ السرير فقال له عمروٌ : اتَّئد فإن الذي جئتهُ لتلحاهُ أحسُّ منك حالاَ ، وأقلُّ حركة . قال معاوية : اسكت ، فإن كل كريمٍ طروب . وقال معاوية : أُعِنْتُ على عليِّ بأربع : كنتُ رجلاً أكتم سريّ ، وكان رجلاً ظهره ، وكنتُ في أطوعِ جندٍ وأصلحهُ ، وكان في أخبثِ جندٍ وأعصاه ، وتركته وأصحابَ الجمل وقلتُ : إن ظفروا به كانوا أهون عليَّ منه ، وإن ظفر بهم اعتددت بها عليه في دينه ، وكنت أحَبَ إلى قريش منه ، فيالكَ من جامع إليَّ ، ومفرقٍ عنه ، وعونٍ لي وعونٍ عليه . قدم معاوية إلى المدينة فدخل عليه عبد الله بن الزبير ؛ فأقام عنده يومه وليلته فكانا يتحدثان إلى أن نام معاوية ، وعبد الله قاعدٌ ، ثم استيقظ ، فقال له : خذ بنا في الحديث ، فتحادثا ساعة ثم نام معاوية أيضاً ، فكانت تلك حاله إلى الصباح فقال له عبد الله : لقد هممتُ بقتْلك غير مرة ، فكيف طابت نفسُك أن تنام وأنا معك ؟ فقال : يا أبا بكر ، فلستَ من قتلةِ الخُلفاء . فقال : تقولُ لي هذا وقد لقيتُ عليَّ بن أبي طالب بالسيف يم البصرة ، فقال معاوية : لا جرم ، قتَلَكَ وأباك بشماله ، وبقيت يمنيهُ فارغةً تطلب قِرناً يصلُحُ لها . وقال معاوية لعمرو بن العاص ، حين ذكر له ما رواه عبد الله ابنهُ من قولِ النبي - ( صلى الله عليه وسلم ) - لعماَّرٍ : " تَقْتُلُكَ الفئة الباغيةُ " لا تزال تأتينا بهَنةٍ تدحضُ بها في بولك . أنحن قتلناه ؟ إنما قتله الذي جاء به . ورُوي أنه قدم المدينة فذكر ابنه يزيد ، وعقله وسخاءه ، وفضله ؛ فقال ابن الزبير : أما أنك قد تركت من هو خيرٌ منهُ . قال معاوية : كأنك أردتَ نفسك يا أبا بكر ؟ قال : وإن أردتها فمه ؟ قال معاوية: إن بيته بمكة فوق بيتك . قال ابن الزبير : إن الله اختار أبي ، واختار الناسُ أباهُ ، فاللهُ الفاصِلُ بيني وبينه . فقال معاوية : هيهات : مَنّتُكَ نفسُك ما ليس لك ، وتطاولت َ إلى ما لم تنالُه . . إن الله اختارَ عمِّي لدينِه ، واختار الناسُ أبي لدنياهُم . فدعا عمِّي أباك فأجابهُ ، ودعا أبي عمَّك فاتبعَه ، فأين تجِدُكَ إلا معي ؟ . قال ابن الزبير : ذاك لو كنتَ من بني هاشم . قال معاوية : دع هاشماً ، فإنها تفخر علي بأنفسها ، وأفخر عليك بها ، وأنا أحبُّ إليها منكَ ، وأحبُّ إليكَ منها ، وهي أحبُّ إليَّ منك . قال ابن الزبير : إن الله رفع بالإسلام بيتاً ، وخفض به بيتاً ، فكان بيتي مما رفع الله بالإسلام ، قال معاوية : وبيتُ حاطِب بنِ أبي بلتعةَ مما رفع الله . وقيل لمعاوية : أخبرنا عن نفسك في قريشٍ . قال : أنا ابن بُعثطِها ، والله ما سوبِقْتُ إلا سبقتُ ، ولا خضْتُ برجلي قطٌّ غمرة إلا قطعتُها عرضاً . وكتب إليه الحكم الغفاري : إن المشركين قد جاشوا بأمرٍ عظيمٍ . فكتب : اجعل بكر بن وائل يَلونهم ، فإن نبيَّ الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - قال : " لن يَظْهَرَ المشركون على بكرِ بنِ وائلٍ " . وكان يأذنُ للأحنفِ في أوَّلِ من يأْذنُ له ، فأَذنَ له يوماَ ، ثم أذن لمحمدِ بن الأشعث ، فجاء محمدٌ فجلس بين معاوية وبين الأحنفِ ، فقال له معاوية : لقد أحسستُ في نفْسِك ذلاًّ ، إنِّي لم آذن له قبلك ليكون في المجلس دونك ، وإنما كما نملكُ أموركم نملِكُ تأديبكم ، فأريدوا ما يُرادُ بكم ، فإنه أبقى لنعمتكم ، وأحسنَ لأدبِكُم . قدِمَ معاوية المدينة ، فدخل دار عثمان ، فقالت عائشة بنتُ عثمان : وا أبتاه وبكتْ . فقال معاوية : يا ابنة أخي ، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهُم أماناً ، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضبٌ ، وأظهروا لنا طاعةَ تحتها حِقْدٌ ، ومع كلُّ إنسانٍ سيفَه ، وهو يرى مكان أنصاره ، فإن نكثنا بهم نكثوا بنا ، ولا أدري أعلينا تكونُ أم لنا ؟ ولأن تكوني بنتَ عمِّ أمير المؤمنين خيرٌ من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين . وقال معاوية في النساء: إنهنَّ يغلُبنَ الكرام ، ويغلِبْهنَ اللئام . وفَخَرَ عندهُ سليمُ مولى زيادٍ ، فقال معاوية : اسكت ، فوالله ما أدرك صاحِبُكَ شيئاً بسيفهِ إلا وقد أدركتُ أكثر منه بلساني .

يزيد بن معاوية وولده

كتبَ إلى أهلِ المدينة : أما بعدُ ، ف " إن الله لا يغيرُ ما بقَوْمٍ حتَّى يغيِّروا ما بأنفسِهِم وإذا أرادَ اللهُ بقومٍ سوءاً فلا مردَّ لَهُ، وما لَهُم مِنْ دونِهِ مِن والِ " وإني والله لقد لبِستُكُم فأخلقْتُكُم ، ورفقْتُ بكُم فأخرقتُكُم . ثم لئن وضعتكم تحت قدمي لأطأنَّكُمْ وطْأَةً أُقِلُّ بها عددكم ، وأذلُّ غابركم ، وأترككم أحاديثَ تُنْسَخُ فيها أخباركم مع أخبارِ عادٍ وثمودٍ . لعلَّ الحلم دلَّ على قومي . . . وقد يستجهَلُ الرجل الحليمُ وقال له مؤدبهُ وهو صغير ، فلحن وقال : إن الجواد قد يعثر ، فقال المؤدّبُ : أي والله ، ويضرَب فيستقيم ، فقال يزيد : نعم والله ويكسر أنف سائسهُ .

تكلَم يوماً عند معاوية الخطباء فأحسنوا وأكثروا ، فقال : والله لأرمينَّهم بالخطيب الأشدقِ ، قم يا يزيد فتكلَّم قال ابن الكلبي : كان يُقال ليزيد بن معاوية : أبو القرود ، وذلك أنه كان معجباً بها ، وأدب قِرداً واستعمله على خمسمائة رجل من أهل الشام ، وكان يكنى أبا قيس ، فصاد مرة حمار وحش ، فحمل أبى قيسٍ عليه ، وخلّى عنه فطار به ، وخرج من مسكنه ، ولزمه القردُ ، فجعل يزيد يصيحُ به : تمسَّك أبا قيسٍ بفضلِ عنانها . . . فليس عليها إن هلكت ضمانُ . وقيل ليزيد : ما الجود ؟ قال : إعطاءُ المالِ من لا تعرف ، فإنه لا يصير إليه حتى يتخطَّى من تعرِف . وخطب بدمشق فقال : أيها الناسُ ، سافروا بأبصاركم في كرُّ الجديدين ، ثم أرجعوها كليلة عن بلوغِ الأمل . وإنَّ الماضي عظةٌ للباقي ، ولا تجعلوا الغرورَ سبيلَ العجزِ عن الجد ، فتنقطع حجتُكُم في موقفٍ الله سائلكم فيه ، محاسِبُكم على ما أسلفتم . أيُّها الناس ، أمس شاهد فاحذروه ، واليوم مؤدِّبٌ فاعرِفوه ، وغدٌ رسولٌ فأكرِموه ، وكونوا على حذر من هجومِ القدر ، فإن أعمالكم مطيات آجالكم والصراطُ ميدانٌ يكثر فيه العثارُ ، والسالمُ ناج ، والعاثِرُ في النار . يروى : أن عبد الله بن يزيد بن معاوية أتى أخاه خالداً فقال : يا أخي ، لقد هممتُ اليومَ أن أفتِك بالوليد بن عبد الملك ، فقال له خالد : بئسَ والله ما هننتَ به في ابن أمير المؤمنين ، وولِيّ عهد المسلمين فقال : إن خيلي مرت به فتعبَّثَ بها ، وأصغرني ، فقال له خالد : أنا أكفيكَ .

فدخل خالد على عبد الملك ، والوليد عنده ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لوليدُ ابن أمير المؤمنين ، ووليُّ عهد المسلمينَ مرَّت به خيلُ ابن عمه عبد الله بن يزيد ، فتعبَّثَ بها وأصغرهُ ، وعبدُ الله مطرِقٌ ، فرفع رأسهُ فقال : " إن الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعِزَّةَ أهلها أذلَّة وكذلك يفعلون " فقال خالد : " وإذا أردنا أن نهلِكَ قريةً أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ فدمرناها تدميراً " فقال عبد الملك : أفي عبد الله تكلمني ؟ والله لقد دخل عليَّ فما أقام لسانَهُ لحناً . فقال خالد : أفَعَلى الوليدِ تعولِّ ؟ فقال عبد الملك : إن كان الوليدُ يلحنُ فإن أخاهُ سليمانَ . فقال : وإنْ كان عبدُ الله يلحنُ فإن أخاه خالدٌ . فقال له الوليد : اسكت ، فوالله ما تُعَدُّ في العير ولا في النفيرِ . فقال خالد : اسمع يا أمير المؤمنين ، ثم أقبل عيه فقال : وَيحَك ، فمن صاحِبُ العير غيري ، جدِّي أبو سفيان صاحبُ العير ، وجديِّ عتبة بن ربيعة صاحبُ النَّفير ، ولكن لو قلت : غُنيماتٌ ، وحُبيلاتٌ والطائفُ ورحمَ الله عثمانَ . قلنا : صدقْتَ . أما العيرُ فهيَ عيرُ قريش التي أقبل فيها أبو سفيان من الشام ، فنهد لها رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - ففات بها أبو سفيان ، وأما النفيرُ فمِن نفرٍ من قريش لاستنفاذ العير ، فكانت وقعةُ بدرٍ ، وصار ذلك مثلاً حتى قيل في كل من لا يصلح لخيرٍ ولا شر . وقوله : غنيماتُ و حبيلاتٌ . يعني : أن رسول الله - صلى الله عليهِ وسلم - لما أطردَ الحكم بن أبي العاص لجأ إلى الطائف ، فكا يرعى غنيماتٍ له . ويأوي إلى حبيلة ، وهيَ الكرمة . وقوله : رحِمَ الله عثمانَ، لأنه ردهُ لمَّا أفضى الأمرَ إليه . وذُكر أن الحجاج لما أكرَهَ عبد الله بن جعفرٍ على أن يزوِّجهُ ابنتهُ استأجله في نقلها سنة ، ففكر عبد الله في الانفكاكِ منه ، فأُلقي في روعهِ خالد بن يزيد بن معاوية ، فكتب إليهِ يُعْلُمهُ ذلك ، وكان الحجاج تزوجها بإذنُ عبدِ الملك ، فورد على خالد كتابه ليلاً ، فاستأذن من ساعتهِ على عبد الملك ، فقيل : افي هذا الوقت ؟ فقال : إنه أمرٌ لا يؤخَّرُ ، فأُعلم عبدُ الملك بذلك . فأذن لهُ ، فلما دخل إليه قال له عبد الملك : فيم السُّرى يا أبا هاشم ؟ قال : أمرٌ جليل ، لم آمنْ أن أُؤَخِّرَه ، فتحدُثُ عليَّ حادثة ، فلا أكونَ قضيتُ حقَّ بيعتك .

قال : ما هو ؟ قال : تعلمُ أنهُ كان بين حيَّينِ من العداوةِ والبغضاء ، ما كان بينَ آل الزبير وبيننا ؟ قال : لا . قال : فإنْ تزوجي إلى آل الزبير حلَّل لهم ما كان في قلبي ، فما أهل البيتِ أحبُّ إليَّ منهم . قال : إن ذلك ليكون ؟ قال : فكيفَ أذِنْت للحجاج أن يتزوَّجَ من بني هاشم ، وأنت تعلمُ ما يقولون ويُقالُ فيهم ، والحجاج من سلطانِك بحيثُ علمْتَ. قال : فجزاهُ خيراً . وكتب إلى الحجاج يعزمُ عليه أن يطلِّقها ، فطلَّقها . فغدا الناس يعزُّونه عنها . وكان فيمن أتاه عمرو بن عتبةَ بن أبي سفيان ، فأوقعَ الحجاج بخالدٍ . فقال : كان الأمرُ لآبائه فعجِزَ عنه حتى انتُزِعَ منه . فقال له عمرو : لا تقُل ذلك أيها الأمير ، فإن لخالدٍ قديماً سبق إليه ، وحديثاً لنْ يًغْلَبَ عليه فلو طلب الأمر لطلبهِ بجد و جَدٍّ ، ولكن علم علماً فسلم العلم إلى أهله . فقال : الحجاجُ : يا آل أبي سفيان ، أنتم تحبُّون أن تحلُموا ، ولا يكون الحلم إلا عن غضب ، فنحنُ نغضبكم في العاجل ابتغاءَ مرضاتكم في الآجل . ثم قال الحجاج : والله لأتزوَّجنَّ من هو أمسُّ بهِ رحماً ، ثم لا يمكنه فيه شيء ، فتزوج أم الجلاس بنت عبد الله بن خالد بن أسيد . تهدد عبد الملك خالداً بالحرمان ، فقال خالد : أتُهدِّدني ، ويَدُ الله فوقك مانعةٌ ، وعطاءُ الله دونكَ مبذولٌ ؟ قال رجل لخالد بن يزيد بن معاوية : ما أقربُ شيءٍ ؟ قال : الأجل . قيل : فما أبعدُ شيءٍ ؟ قال : الأمل . قيل : فما آنس شيءٍ ؟ قال : الصاحبُ المُواتي . قيل : فما أوحشُ شيءٍ ؟ قال : الميِّت . دخل عبد الملك بن مروان على يزيد بن معاوية . فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إن لك أرضاً بوادي القُرى ليست لها غلَّة ، فإن رأيتَ أن تأْمرَ لي بها . فقال له يزيد : إنا لا نُخدع عن الصغير ، ولا نبخَلُ بالكبير ، وهي لك . فلمَّا ولىَّ قال يزيد : إن أهل الكتب يدَّعون أن هذا يرث ما نحن فيه ، فإن كان كما قالوا فقد صانعناه ، وإن لم يكن فقد وصلْناه . ولما ولىَّ يزيد مسلمَ بنَ زياد خراسان قال له : إن أباك كفى أخاك عظيماً ، وقد استكفيتُك صغيراً ، فلا تتَّكِلنَّ على عذرٍ مني ، فإني قد اتكلتُ على كفاية منك ، وإياك مني قبل أن أقول : إيَّاي منك ، فإنَّ الظنَّ إذا أُخلِفَ فيك أخلف منك . وأنت في أدنى حظِّك فاطلُب أقصاه . وقد أتعبك أبوك ، فلا تُريحَنَّ نفسك ، وكن لنفسِكَ تكُنْ لك ، واذكر في يومكَ أحاديثَ غدِكْ . وقال معاويةُ لعمرو بن العاص : إني لأُحِبُّ أنْ تكون في خمسِ خصالٍ . قال : وما هن يا أمير المؤمنين ؟ قال : أحب أن يكون جهلٌ أعظم من حلمي ، ولا ذنبٌ أكبر من عفوي ، ولا عورةٌ إلا وأنا أسعها بستري ، ولا فاقةٌ إلا سددتها بجودي ، ولا زمانٌ أطول من أناتي ، فتبسم عمرو . فقال معاوية : ممن تبسَّمت ؟ فإني أعلمُ أنك إن قُلتَ خيراً أضمرتَ شراً . قال : نعم ، تمنَّيتُ ضفةً لا تكون إلا لله . قال معاوية : فاستُرها عليَّ . كتب معاوية إلى مروان بن الحكم : والله لفلانٌ أهْوَنُ عليَّ من ذرَّة أو كلبٍ من كلابِ الحرَّة ، ثم قال للكاتب : امحِ الحرَّة ، فإنه سجعٌ ، واكتب من الكلاب . قيل لخالد بن يزيد : أني أصبتُ هذا العلم ؟ قال : وافقْتُ الرجال على أهوائهم ، ودخلتُ معهم في رأيهم ، حتى بذلوا لي ما عندهم ، وأفضوا إليَّ بذات أنفسهم . بعث زياد إلى معاوية بهدايا مع عبيد الله أخي الأشترِ النخعي ، وفي الهدايا سفطٌ فيه جوهرٌ لم ير مثله ، فقدِمَ عبد الله بالهدايا ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، إن زياداً بعثَ معي بسفطٍ ما أدري ما فيه ، وأمرني أن أدفعهُ في خلاءٍ . فقال : أحضره ، فلمَّا فتحهُ قال : ما أظُّن رجلاً آثر بهذا على نفسه إلا سيؤْثِرُهُ الله بالجنَّة ، ارجع به إليه ، فإن من قبله من المسلمين أحق بهذا من معاوية . ثم كتب إلى زياد : إنك رفعتَ إليَّ رايةَ الأشترِ حينَ وضعها الله . بعثتَ مع أخيه بسفطٍ يشهد به علي عند أهل العراق ، فاردده عليَّ مع رجلٍ لا يفقهُ عنيِّ ، ولا أفقهُ عنه ، فردَّهُ إليه زياد مع غلام من غلمانه .

قال معاوية ليزيد : إنْ كنْتَ بعدي - وكنْهُ . فابدأ بالخير ، فإنه يُعَفِّى ، على الشر ، وما صنعتَ من شيءٍ فاجعل بينكَ وبين الله ستراً ترجوه له ، وتأْملُهُ به . وإيَّاك والقتل فإن الله قاتل القاتلين . وصف معاوية الوليد بن عتبة فقال : إنه لبعيد الغور ، سكان الفور ، نبتةُ أصلٍ لا يخلف ، وسليل فحلٍ لا يقرِف . ودخل خالد بن يزيد دار عبد الملك ، وكان يسحبُ ثيابه ، فقام إليه عبد الرحمن بن الضحاك ، يتلقاه معظِّماَ له ، فقال له : بأبي أنت وأمي ، لم تطعم الأرض فَضولَ ثيابكَ ؟ فقال : إني أكره أن أكونَ كما قال الشاعر : الآجل . ثم قال الحجاج : والله لأتزوَّجنَّ من هو أمسُّ بهِ رحماً ، ثم لا يمكنه فيه شيء ، فتزوج أم الجلاس بنت عبد الله بن خالد بن أسيد . تهدد عبد الملك خالداً بالحرمان ، فقال خالد : أتُهدِّدني ، ويَدُ الله فوقك مانعةٌ ، وعطاءُ الله دونكَ مبذولٌ ؟ قال رجل لخالد بن يزيد بن معاوية : ما أقربُ شيءٍ ؟ قال : الأجل . قيل : فما أبعدُ شيءٍ ؟ قال : الأمل . قيل : فما آنس شيءٍ ؟ قال : الصاحبُ المُواتي . قيل : فما أوحشُ شيءٍ ؟ قال : الميِّت . دخل عبد الملك بن مروان على يزيد بن معاوية . فقال : يا أميرَ المؤمنين ، إن لك أرضاً بوادي القُرى ليست لها غلَّة ، فإن رأيتَ أن تأْمرَ لي بها . فقال له يزيد : إنا لا نُخدع عن الصغير ، ولا نبخَلُ بالكبير ، وهي لك . فلمَّا ولىَّ قال يزيد : إن أهل الكتب يدَّعون أن هذا يرث ما نحن فيه ، فإن كان كما قالوا فقد صانعناه ، وإن لم يكن فقد وصلْناه . ولما ولىَّ يزيد مسلمَ بنَ زياد خراسان قال له : إن أباك كفى أخاك عظيماً ، وقد استكفيتُك صغيراً ، فلا تتَّكِلنَّ على عذرٍ مني ، فإني قد اتكلتُ على كفاية منك ، وإياك مني قبل أن أقول : إيَّاي منك ، فإنَّ الظنَّ إذا أُخلِفَ فيك أخلف منك . وأنت في أدنى حظِّك فاطلُب أقصاه . وقد أتعبك أبوك ، فلا تُريحَنَّ نفسك ، وكن لنفسِكَ تكُنْ لك ، واذكر في يومكَ أحاديثَ غدِكْ . وقال معاويةُ لعمرو بن العاص : إني لأُحِبُّ أنْ تكون في خمسِ خصالٍ . قال : وما هن يا أمير المؤمنين ؟ قال : أحب أن يكون جهلٌ أعظم من حلمي ، ولا ذنبٌ أكبر من عفوي ، ولا عورةٌ إلا وأنا أسعها بستري ، ولا فاقةٌ إلا سددتها بجودي ، ولا زمانٌ أطول من أناتي ، فتبسم عمرو . فقال معاوية : ممن تبسَّمت ؟ فإني أعلمُ أنك إن قُلتَ خيراً أضمرتَ شراً . قال : نعم ، تمنَّيتُ ضفةً لا تكون إلا لله . قال معاوية : فاستُرها عليَّ . كتب معاوية إلى مروان بن الحكم : والله لفلانٌ أهْوَنُ عليَّ من ذرَّة أو كلبٍ من كلابِ الحرَّة ، ثم قال للكاتب : امحِ الحرَّة ، فإنه سجعٌ ، واكتب من الكلاب . قيل لخالد بن يزيد : أني أصبتُ هذا العلم ؟ قال : وافقْتُ الرجال على أهوائهم ، ودخلتُ معهم في رأيهم ، حتى بذلوا لي ما عندهم ، وأفضوا إليَّ بذات أنفسهم . بعث زياد إلى معاوية بهدايا مع عبيد الله أخي الأشترِ النخعي ، وفي الهدايا سفطٌ فيه جوهرٌ لم ير مثله ، فقدِمَ عبد الله بالهدايا ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، إن زياداً بعثَ معي بسفطٍ ما أدري ما فيه ، وأمرني أن أدفعهُ في خلاءٍ . فقال : أحضره ، فلمَّا فتحهُ قال : ما أظُّن رجلاً آثر بهذا على نفسه إلا سيؤْثِرُهُ الله بالجنَّة ، ارجع به إليه ، فإن من قبله من المسلمين أحق بهذا من معاوية . ثم كتب إلى زياد : إنك رفعتَ إليَّ رايةَ الأشترِ حينَ وضعها الله . بعثتَ مع أخيه بسفطٍ يشهد به علي عند أهل العراق ، فاردده عليَّ مع رجلٍ لا يفقهُ عنيِّ ، ولا أفقهُ عنه ، فردَّهُ إليه زياد مع غلام من غلمانه . قال معاوية ليزيد : إنْ كنْتَ بعدي - وكنْهُ . فابدأ بالخير ، فإنه يُعَفِّى ، على الشر ، وما صنعتَ من شيءٍ فاجعل بينكَ وبين الله ستراً ترجوه له ، وتأْملُهُ به . وإيَّاك والقتل فإن الله قاتل القاتلين . وصف معاوية الوليد بن عتبة فقال : إنه لبعيد الغور ، سكان الفور ، نبتةُ أصلٍ لا يخلف ، وسليل فحلٍ لا يقرِف . ودخل خالد بن يزيد دار عبد الملك ، وكان يسحبُ ثيابه ، فقام إليه عبد الرحمن بن الضحاك ، يتلقاه معظِّماَ له ، فقال له : بأبي أنت وأمي ، لم تطعم الأرض فَضولَ ثيابكَ ؟ فقال : إني أكره أن أكونَ كما قال الشاعر : قصيرُ الثياب فاحشٌ عند بيتهِ . . . وشرُ قريشٍ في قريشٍ مُرَكَّبا وهذا البيتُ هُجِيَ به الضحاك . قال الجاحظ : لو لم يتكلفْ ما لايعنيه لم يسمع هذا الجواب . قال بعضهم كنتُ عندَ معاويةَ إذ دخل عبدُ الملك ، فتحدَّث ونهض ، فقال معاويةك إنَّ لهذا الغلام همةً ، وخليقٌ أن تبلغَ به همتهُ ، وإنه مع ما ذكرت تاركٌ لثلاثٍ أخِذٌ بثلاث ، تارِكٌ مساءة الجليس جداًّ وهزلاً ، تاركٌ لما يعتذرُ منه ، تارك لما لا يعنيه ، آخِذٌ بأحسنِ الحديث إذا حدَّثَ ، وبأحسنِ الاستماع إذا حُدِّث ، وبأهونِ الأمرين عليه إذا خولف . وقال معاوية لابنه يزيد : إذا وليتَ فابسط الخيرَ ، فإنه يُعَفِّي على العيب ، واتق الله يقِكَ ، وإياكَ والقتلَ ، فإنَّ الله قتَّل للقاتلين . وقال لعبيد الله بن زياد : يابن أخي ، إحفظ عني ، لا يكونَنَّ في عسكرِكَ أميرٌ غيركَ ، ولاتقولَنَّ على منبَرٍ قولاً يُخالِفُهُ فِعْلُك ، ومهما غلبت فلا تُغْلَبَنَّ على ميتةٍ كريمةٍ . وقال معاوية : آفةُ المروءة الكبر وإخوانُ السوء ، وآفةُ العلم النسيان ، وآفةُ الحلمِ الذُّل ، وآفةُ الجودِ السرف ، وآفةُ القصد البُخْلِ ، وآفةُ المنطق الفُحشِ ، وآفة الجلدِ الكسل ، وآفةُ الرزانة الكبر ، وآفةُ الصمتِ العيّ ، وآفة اللبّ العجب ، وآفة الظَّرف الصلف ، وآفة الحياءِ الضَّعف . وقال : لا جَدَّ إلا ما أقعص عنك ما تكره . وقال : لا تعدنَّ شيئاً ، وحسبك جوداً أن تُعْطِيَ إذا سُئِلْتَ . وقال لابنه يزيد : ما المروءة ؟ فقال : إذا ابتليتَ صبرتَ ، وإذا أعطيتَ شكرتَ ، وإذا وعدتَ أنجزْتَ . قال : أنتَ منِّي ، وأنا منك يا يزيد. وقال معاوية : المروءة مؤاخاةُ الأكفاء ، ومداجاةُ الأعداء . وقال : ما وجدتُ لذةَ شيءٍ ألذَّ عندي غباًّ من غيظٍ أتجرعُهُ ، ومن سفهٍ بالحلمِ أقمعُهُ . وقال له رجل : ما أشبه أستك بأستِ أمك فقال : ذاك الذي كان يُعْجِبُ أبا سفيان منها . وأغلظ له الرجل فاحتمله ، وأفرط عليه فحلم عنه ، فقيل له في ذلك . فقال : لا نَحولُ بين الناسِ وألسنتِهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكِنا . وقال لابنه : يابني ، اتَّخِذ المعروف عندَ ذوي الأحسابِ تستمِل به قلوبهم ، وتعظم به في أعينِهم ، وتكفَّ به عنك عاديتهم . وقال : عليك بصديقك الأولِ ، فإنك تلقاهُ على عهْدٍ واحدٍ ، تقدَّم العهد أو شطَّتِ الدار . وإيَّاك وكلَّ مستَحدثٍ ، فإنه يستَأْكِلُ كلَّ قوم ، ويسعى مع كل ريح . ودعا يوماً بصبيٍّ له ، فقبَّله ، وضمّهُ إليهِ، وقال : من سرَّه الدهر أن يرى كبدهُ تمشي على وجه الأرض فلْيَرَ ولده . رُوي : أنه فُلَّت سرية لمعاوية ، وكاد ينالُها الاصطلام ، فوجم واغتمَّ غماَّ شديداَ . فقيل له في ذلك . فقالك ما اغْتمامي للسرية فقط ، ولكن اغتمامي أن يكون حدث بالحرمين حدثٌ ، فكان هذا لذاك ، فكتب ، ونظر ، فإذا مولى لخالد بن أُسيدٍ قد عدا بسيفٍ في الحرمِ مشهورٍ ، فكتبَ ، فقطعت يده .

كان عمر رضي الله عنه فرض للمهاجرين في خمسة آلافٍ ، وفرض للناس بعدهم على اقدارهم عندة ففرض لأبي سفيان وضُربائه في ألفين ، فلما صار الأمرُ إلى معاوية حطَّ العطاء إلى عطاء أبيه ، فصار شرفُ العطاء في ألفينِ. قال معاويةُ يوماً : ما ولدتْ قرشيةٌ خيراً لقريشٍ مني ، فقال ابن زُرارة : بل ما ولدَتْ شراً لهم منك فقال : كيف ؟ قال : لأنك عوَّدتَهم عادةً يطلبونها من بعدك ، فلا يجيبونهم إليها ، فيحملون عليهم كحملهم عليك . فلا يحتمِلون وكأنيِّ بهم كالزِّقاق المنفوخةِ في طرقاتِ المدينة .