الباب الثالث كلام الخلفاء من بني هاشم
السفاح
رفع بعض السعاة إليه قصة بسعاية على بعض عماله ، فوقع فيها : هذه نصيحة لم يرد بها ما عند الله ، ونحن فلا نقبل قول من آثرنا على الله . ومن كلامه : إن من أدنياء الناس ووضعائهم من عد البخل حزماً ، والحلم ذلاً . ومنه : إذا عظمت المقدرة قلت الشهوة ، وقل تبرع إلا ومعه حق مضاع . ومنه : إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة ، والصبر حسن إلا على ما أوتغ الدين ، وأوهن السلطان . والأناة محمودةٌ إلا عند إمكان الفرصة . قالوا : كلم المنصور أبا العباس في محمد بن عبد الله بن حسن وأهله ، فقال : يا أمير المؤمنين ، آنسهم بالإحسان ، فإن استوحشوا فالشر يصلح ما عجز عنه الخير ، ولا تدع محمداً يمرح في أعنة العقوق . فقال : يا أبا جعفر ؛ إنا كذلك. ومن شدد نفر ، ومن لان تألف ، والتغافل من سجايا الكرام ، وأحسن ما قال أعشى وائل : يغضي عن العوراء ، لو... لا الحلم غيرها انتصاره
وكان يقول : إن المقدرة تصغر الأمنية ، لقد كنا نستكثر أموراً ، فأصبحنا نستقلها لأخس من صحبنا ، ثم نسجد شكراً. دخل أبو نخيلة الحماني على أبي العباس ، وعنده إسحاق بن مسلم العقلي ، فأنشده أرجوزة يمدحه فيها ، ويذكر بني أمية ، ويقول فيها : أين أبو الورد ؟ وأين الكوثر ؟ وأين مروان ؟ وأين الأشقر ؟ فقال إسحاق : في حر أم أبي نخيلة العاهرة ؟ فقال أبو العباس : أتقول هذا لشاعرنا ؟ قال : قد سمعته يقول لأعدائكم فيكم ما هو أعظم من هذا ، فقال زياد بن عبيد الله الحارثي : يا أمير المؤمنين ، خذ للرجل بحقه ، فقال له أبو العباس : ما أغفلك يا خال أترى قيساً تسلم سيدها وشيخها حتى يحد ؟ قال : فما يصنعون ؟ قال : يجيئ لألف منهم فيشهدون أن أم أبي نخيلة كانت عاهرة كما قال إسحاق ، فتجلب على الرجل بلاءً عظيماً . وخطب بعد قيامه بأيام بالكوفة ، فقال : الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على ملائكته المقربين ، وأنبيائه المرسلين . " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " . ما أعدكم شيئاً ، ولا أوعدكم إلا وفيت بالوعد والإيعاد . والله لأعملن اللين حتى لا تنفع إلا الشدة ، ولأغمدن سيفي إلا في إقامة الحد ، أو بلوغ حق ، ولأعطين حتى أرى العطية ضياعاً . إن أهل بيت اللعنة والشجرة الملعونة في القرآن كانوا لكم عذاباً ، لا تدفعون معهم من حالة إلا إلى أشد منها ، ولا يلي عليكم منهم والٍ إلا تمنيتم من كان قبله ، وإن كان لا خير في جميعهم . منعوكم من الصلاة في أوقاتها ، وطالبوكم بأدائها في غير ميقاتها ، وأخذوا المدبر بالمقبل ، والجار بالجار ، وسلطوا شراركم على خياركم . فقد محق الله جورهم ، وأزهق باطلهم ، وأصلح بأهل نبيكم ما أفسدوا منكم . فما نؤخر لكم عطاءاً ولا نضيع لأحدٍ منكم حقاً ، ولا نجمركم في بعثٍ ، ولا نخاطر بكم في قتال ، ولا نبذلكم دون أنفسنا ، والله علي شهيد بالوفاء والاجتهاد ، وعليكم بالسمع والطاعة . ووقع إلى كاتب جنده وقد شغبوا عليه بالأنبار : بلغ المفترين عني ، أبرمتم بأعجاركم ، أم عظمت نعمة الله عليكم في دينكم ودنياكم ؟ فلا تكونوا عظة العقلاء ، وزرية الجهلاء ، فتحبط أعمالكم ، وتخيب آمالكم ، والعطاء غير مؤخر عن وقته إن شاء الله . ودخل عليه عبد الله بن حسن بن حسن ، ومعه مصحف ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف . وكان المجلس غاصاً ببني هاشم وغيرهم ، فأشفق الناس من أن يعجل السفاح إليه ، أو يعيا بجوابه ، فيكون ذلك عاراً عليه . قال : فأقبل عليه غير مغضب ولا منزعج ، فقال : إن جدك علياً كان خيراً مني وأعدل . ولي هذا الأمر ، فأعطى جديك الحسن الحسن والحسين ، وكانا خيراً منك شيئاً ، وكان الواجب أن أعطيك مثله فإن كنت قد فعلت فقد أنصفتك ، وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك ، فما رد عبد الله جواباً ، وانصرف والناس يتعجبون من جزاب السفاح .
المنصور
ذكر يوماً ملوك بني مروان ، فقال : كان عبد الملك جباراً لا يبالي ما صنع ، وكان الوليد لحاناً مجنوناً ، وكان سليمان همه بطنه وفرجه ، وكان عمر أعور بين عميان ، وكان هشام رجل القوم . لما اتصل به خروج محمد وإبراهيم - رضي الله عنهما - شن عليه درعه ، وتقلد سيفه وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : مالي أكفكف عن سعدٍ وتشتمني . . . ولو شتمت بني سعد لقد سكنوا جهلاً علينا ، وجبناً عن عدو همو . . . لبئست الخلتان : الجهل والجبن أما والله لقد عجزوا عما قمنا به ، فما عضوا المكافي ، ولا شكروا المنعم . فماذا حاولوا ؟ أأشرب رنقاً على غصص ، وأبيت منهم على مضض ؟ كلا والله أصل ذا رحم حاول قطيعتها ، ولئن لم يرض بالعفو ليطلبن مالاً يوجد عندي ، فليق ذو نفسٍ على نفسه ، قبل أن تمضي عنه ، ثم لا يبكى عليه ، ولا تذهب ولا تذهب نفسٌ مسرة لما أتاه . وخطب بعد قتله أبا مسلم ، فحمد الله ، ثم أثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإنه من نازعنا عروة هذا القميص أوطأناه خبئ هذا الغمد - وأومأ إلى سيفه - وإن عبد الرحمن بايعنا ، وبايع لنا على أنه من نكث بنا فقد حل دمه ، ثم نكث بنا ، فحكمنا فيه لأنفسنا حكمه على غيره لنا ، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحد عليه . وروي أنه قال : أيها الناس ، لا تنفروا أطراف النعمة بقلة الشكر ، فتحل بكم النقمة ، ولا تسروا غش الأئمة ، فإن أحداً لايسر منكم إلاظهر في فلتات لسانه ، وصفحات وجهه ، وطوالع نظره ، وإنا لا نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا ، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا ، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه خبئ هذا الغمد . أهوى هشام بن عروة إلى يده ليقبلها ، فقال له : يا أبا المنذر ، إنا نكرمك عنها ، ونكرمها عن غيرك . قيل : خلا المنصور مع يزيد بن أسيد ، فقال : يا يزيد ما ترى في قتل أبي مسلم ؟ قال : أرى يا أمير المؤمنين أن تقتله ، وتتقرب إلى الله بدمه ، فوالله لا يصفو ملكك ، ولا تهنأ بعيشٍ ما بقي بك عدوك . قال يزيد : فنفر مني نفرة ظننت أنه سيأتي علي ، ثم قال : قطع الله لسانك وأشمت بك عدوك ، أتشير علي بقتل أنصح الناس لنا ، وأثقلهم على عدونا؟ أما والله لولا حفظي ما سلف منك ، وأني أعدها هفوة من رأيك لضربت عنقك ، قم لا أقام الله رجليك قال يزيد : فقمت وقد أظلم بصري ، وتمنيت أن تسيخ الأرض بي . فلما كان بعد قتله بدهر قال لي : يا يزيد ، أتذكر يوم شاورتك في أمر العبد ؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، وما رأيتني قط ادنى إلى الموت مني يومئذ قال : فوالله لكان ذلك رأيي وما لا أشك فيه ، ولكني خشيت أن يظهر ذلك منك ، فتفسد علي مكيدتي . قال الربيع : سمعت المنصور يقول : الخلفاء أربعة ، والملوك أربعة ، فالخلفاء : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على ما نال من عثمان ، وما نيل منه أعظم ، ولنعم الرجل كان عمر بن عبد العزيز . والملوك : معاوية ، وعبد الملك ، وهشام ، وأنا ، ولنعم رجل الحرب كان حمار الجزيرة من رجل لم يكن عليه طابع الخلافة . وقال : من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافأ ، ومن أضعف كان شكوراً ، ومن شكر كان كريماً ، ومن علم أنما صنع لنفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم ، ولم يستزدهم في مودتهم ، فلا تلتمس من غيرك شكر ما أسديته إلى نفسك . استأذن سوار قاضي البصرة على المنصور ، فأذن له، فدخل وسلم ، فقال المنصور : وعليك السلام . أدن أبا عبد الله ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أأدنوا على ما مضى عليه الناس أم على ما أحدثوا ؟ فقال : بل على ما مضى عليه الناس ، فدنا فصافحه ثم جلس ، فقال المنصور : يا أبا عبد الله ، قد عزمت على أن أدعو أهل البصرة بسجلاتهم ، وأشريتهم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، نشدتك الله ألا تعرض لأهل البصرة . فقال : يا سوار ، أبأهلالبصرة تهددني ؟ والله لهممت أن أوجه إليهم من يأخذ بأفواه سككهم وطرقهم ، ويضع السيف فيهم فلا يرفعه عنهم حتى يفنيهم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ذهبت إلى غير ما ذهبت إليه ، إنما كرهت لك أن تتعرض لدعاء الأرملة واليتيم ، والشيخ الكبير الفاني ، والحدث الضعيف . فقال : يا أبا عبد الله ، أنا للأرملة بعل ، ولليتيم أب ، وللشيخ أخ ، وللحدث الضعيف عم ، وإنما أريد أن أنظر في سجلاتهم وأشريتهم لأستخرج ما في أيدي الأغنياء ، مما أخذوه بقوتهم وجاههم من حقوق الضعفاء والفقراء . فقال : وفقك الله للخير ، وأرشدك لما يحب ويرضى . وقال للمهدي : أشبع العباس بن محمد ، فإنك إن لم تشبعه أكلك . كتب إليه صاحب أرمينية : إن الجند شغبوا علي ، وطلبوا أرزاقهم ، وكسروا أقفال بيت المال ، وانتهبوه ، فأمر بعزله ، ووقع : لوعدلت لم يشغبوا ، ولو قويت لم ينهبوا . ووقع في قصة رجل ذكر : أن أمير المؤمنين أمر بأرزاق له ، وأن الفضل أبطأ بها : " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " قال أبو عبيد الله : سمعت المنصور يقول للمهدي حين عقد له : يا بني ، استدم النعمة بالشكر ، والقدرة بالعفو ، والطاعة بالتلف ، والنصر بالتواضع ، والرحمة من الله بالرحمة للناس . أتي المنصور برأس بشير الرحال ، وكان خرج مع محمد بن عبد الله - رضي الله عنه - فقال له: رحمك الله ، لقد كنت أسمع لصدرك همهمة لا يسكنها إلا برد عدل ، أو حر سنان . ولما احتضر قال : يا ربيع ، بعنا الآخرة بنومة . قال الربيع : لقب أبو جعفر بأبي الدوانيق ، لأنه لما أراد حفر الخندق بالكوفة قسط على كل رجل منهم دانق فضة ، وأخذه ، وصرفه في ذلك ، وقيل غير هذا . وقال للمهدي : ليس العاقل من يتحرز من الأمر الذي يقع فيه ، حتى يخرج منه ، إنما العاقل من يتحرز من الأمر الذي يخشاه ، حتى لا يقع فيه . وقال : عقوبة الحكماء التعريض ، وعقوبة السفهاء التصريح . كان لسوار القاضي كاتبان : رزق أحدهما أربعون درهماً ، والآخر عشرون درهماً ، فكتب إلى المنصور يسأله أن يلحق صاحب العشرين بالأربعين ، فأجاب بأن يحط من الأربعين عشرة ويزيدها صاحب العشرين حتى يعتدلا .
قال السري بن عبد الله : إني لبمكة مع أبي جعفر المنصور والناس يذكرون معناً ، وإراقته الدماء باليمن ، فقلت : يا أمير المؤمنين غلامٌ من غلمان بني شيبان ، ماله عندك يد تأصرك عليه ، ولا رحم يعطفك عليه ، قال : فبسر في وهي بسرةً تمنيت أن الأرض انشقت لي فدخلت فيها . قال : فمكثت أياماً ثم أتيته ، فسألني عن عن تخلفي ، فاعتذرت إليه ، فقال لي : أتعرف رجلاً كان يصلي عن يمين منبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فأخبرته به، ونسبته إلى عثمان ، فقال : ما فعل ؟ قلت : قتل بقديد . قال : فآخر كان يصلي قريباً منه ؟ قلت : نعم ، ذاك ابن أخيه. قال : فما فعل ؟ قلت : قتل يوم قديد . قال : فآخر كان يصلي في موضع كذا ؟ قلت : نعم . ونسبته إلى الزبير. قال : فما فعل ؟ قلت : قتل يوم قديد ، فما زال يقترع المجالس يذكر فيها رجلاً قريعاً ، ويسألني عنه ، فأقول : قتل يوم قديد ، فقال لي : لا أكثر الله في عشيرتك مثلك . عجزت عن ثأرك أن تطلب به ، حتى إذا قام هذا الغلام الشيباني ، فإذا بك تنفس عليه الرفعة . قيل : وكان معنٌ يبسط الأنطاع باليمن ، ثم يدعو بأبناء اليمانية الذين حضروا قديداً ، فيضرب أعناقهم . وكلما ندر رأسٌ عن رقبته قال : يا لثارات قديد . كان المنصور يقول : الملوك تحمل كل شيء إلا ثلاث خلالٍ : إفشاء السر ، والتعرض للحرم ، والقدح في الملك . وقال : إذا مد عدوك يده إليك فاقطعها إن أمكنك ، وإلا فقبلها . وخطب بمكة وقد أمل الناس عطاءه ، فقال : أيها الناس ، إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسديده ، وخازنه على فيئه ، أعمل فيه بمشيئته وأقسمه بإرادته ، وقد جعلني الله عز وجل قفلاً عليه ، إذا شاء أن يفتحني فتحني ، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني ، فارغبوا إلى الله أيها الناس في هذا اليوم الذي عرفكم من فضله ما أنزله في كتابه ، فقال جل اسمه : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " ، أن يوفقني للصواب ، ويسددني للرشاد ، ويلهمني الرأفة بكم ، والإحسان إليكم ، ويفتحني لأعطياتكم ، وقسم أرزاقكم فيكم ، إنه قريب مجيب . فقال ابن عياش المنتوف : أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربه . خطب المنصور بالكوفة فقال : الحمد لله أحمده ، وأستعينه ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأراد أن يقول : وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، أذكرك من تذكر به . فقال المنصور : سمعاً سمعاً لمن فهم عن الله ، وأعوذ بالله أن أذكر بالله وأنساه ، وأن تأخذني العزة بالإثم : " قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين " . وأنت والله ما الله أردت بذلك ، ولكن حاولت أن يقال : قام فقال فعوقب فصبر ، وأهون بها وبقائلها ولو صمت لكان خيراً له ، فاهتبلها إذا غفرتها ، وإياكم وأخواتها ، فإن الموعظة علينا نزلت ، ومن عندنا انبثت ، فردوا الأمر إلى أهله يصدروه كما أوردوه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ورجع إلى خطبته . كان يقول: الخلفاء أربعة : أبوبكر وعمر وعثمان وعلي على ما نال من عثمان ، ومانيل منه أعطم ، ولقد كان عمر بن عبد العزيز إمرأ صدقٍ ، والملوك أربعة : معاوية وكفاه زياد ، وعبد الملك وكفاه حجاجه ، وهشام وكفاه مواليه ، وأنا ولا كافي لي . وكان معاوية للحلم والأناة وعبد الملك للإقدام والإحجام ، وهشام لوضع الأمور مواضعها ، ولقد شاركت عبد الملك في قول كثير : رحمة للناس . أتي المنصور برأس بشير الرحال ، وكان خرج مع محمد بن عبد الله - رضي الله عنه - فقال له : رحمك الله ، لقد كنت أسمع لصدرك همهمة لا يسكنها إلا برد عدل ، أو حر سنان . ولما احتضر قال : يا ربيع ، بعنا الآخرة بنومة . قال الربيع : لقب أبو جعفر بأبي الدوانيق ، لأنه لما أراد حفر الخندق بالكوفة قسط على كل رجل منهم دانق فضة ، وأخذه ، وصرفه في ذلك ، وقيل غير هذا . وقال للمهدي : ليس العاقل من يتحرز من الأمر الذي يقع فيه ، حتى يخرج منه ، إنما العاقل من يتحرز من الأمر الذي يخشاه ، حتى لا يقع فيه . وقال : عقوبة الحكماء التعريض ، وعقوبة السفهاء التصريح . كان لسوار القاضي كاتبان : رزق أحدهما أربعون درهماً ، والآخر عشرون درهماً ، فكتب إلى المنصور يسأله أن يلحق صاحب العشرين بالأربعين ، فأجاب بأن يحط من الأربعين عشرة ويزيدها صاحب العشرين حتى يعتدلا . قال السري بن عبد الله : إني لبمكة مع أبي جعفر المنصور والناس يذكرون معناً ، وإراقته الدماء باليمن ، فقلت : يا أمير المؤمنين غلامٌ من غلمان بني شيبان ، ماله عندك يد تأصرك عليه ، ولا رحم يعطفك عليه ، قال : فبسر في وهي بسرةً تمنيت أن الأرض انشقت لي فدخلت فيها . قال : فمكثت أياماً ثم أتيته ، فسألني عن عن تخلفي ، فاعتذرت إليه ، فقال لي : أتعرف رجلاً كان يصلي عن يمين منبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فأخبرته به ، ونسبته إلى عثمان ، فقال : ما فعل ؟ قلت : قتل بقديد . قال : فآخر كان يصلي قريباً منه ؟ قلت : نعم ، ذاك ابن أخيه . قال : فما فعل ؟ قلت : قتل يوم قديد . قال: فآخر كان يصلي في موضع كذا ؟ قلت : نعم . ونسبته إلى الزبير . قال : فما فعل ؟ قلت : قتل يوم قديد ، فما زال يقترع المجالس يذكر فيها رجلاً قريعاً ، ويسألني عنه ، فأقول : قتل يوم قديد ، فقال لي : لا أكثر الله في عشيرتك مثلك . عجزت عن ثأرك أن تطلب به ، حتى إذا قام هذا الغلام الشيباني ، فإذا بك تنفس عليه الرفعة . قيل: وكان معنٌ يبسط الأنطاع باليمن ، ثم يدعو بأبناء اليمانية الذين حضروا قديداً ، فيضرب أعناقهم . وكلما ندر رأسٌ عن رقبته قال : يا لثارات قديد . كان المنصور يقول : الملوك تحمل كل شيء إلا ثلاث خلالٍ : إفشاء السر ، والتعرض للحرم ، والقدح في الملك . وقال : إذا مد عدوك يده إليك فاقطعها إن أمكنك ، وإلا فقبلها . وخطب بمكة وقد أمل الناس عطاءه ، فقال : أيها الناس ، إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسديده ، وخازنه على فيئه ، أعمل فيه بمشيئته وأقسمه بإرادته ، وقد جعلني الله عز وجل قفلاً عليه ، إذا شاء أن يفتحني فتحني ، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني ، فارغبوا إلى الله أيها الناس في هذا اليوم الذي عرفكم من فضله ما أنزله في كتابه ، فقال جل اسمه: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " ، أن يوفقني للصواب ، ويسددني للرشاد ، ويلهمني الرأفة بكم ، والإحسان إليكم ، ويفتحني لأعطياتكم ، وقسم أرزاقكم فيكم ، إنه قريب مجيب . فقال ابن عياش المنتوف : أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربه . خطب المنصور بالكوفة فقال : الحمد لله أحمده ، وأستعينه ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأراد أن يقول : وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، أذكرك من تذكر به . فقال المنصور : سمعاً سمعاً لمن فهم عن الله ، وأعوذ بالله أن أذكر بالله وأنساه ، وأن تأخذني العزة بالإثم : " قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين " . وأنت والله ما الله أردت بذلك ، ولكن حاولت أن يقال : قام فقال فعوقب فصبر ، وأهون بها وبقائلها ولو صمت لكان خيراً له ، فاهتبلها إذا غفرتها ، وإياكم وأخواتها ، فإن الموعظة علينا نزلت ، ومن عندنا انبثت ، فردوا الأمر إلى أهله يصدروه كما أوردوه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ورجع إلى خطبته . كان يقول : الخلفاء أربعة : أبوبكر وعمر وعثمان وعلي على ما نال من عثمان ، ومانيل منه أعطم ، ولقد كان عمر بن عبد العزيز إمرأ صدقٍ ، والملوك أربعة : معاوية وكفاه زياد ، وعبد الملك وكفاه حجاجه ، وهشام وكفاه مواليه ، وأنا ولا كافي لي . وكان معاوية للحلم والأناة وعبد الملك للإقدام والإحجام ، وهشام لوضع الأمور مواضعها ، ولقد شاركت عبد الملك في قول كثير : يصد ويفضي وهو ليث عرينة . . . وإن أمكنته فرصة لا يقيلها وقال للمهدي ابنه : يا أبا عبد الله ، لا تبرمن أمراً حتى تفكر فيه ، فإن فكرة العاقل مرآة تريه قبيحه وحسنه .
وقال له : يا أبا عبد الله ، الخليفة لا يصلحه إلا التقوى ، والسلطان لا يقيمه إلا الطاعة ، والرعية لا يصلحها إلا العدل ، وأولى الناس بالعفو أقدرهم علة العقوبة ، وأنقص الناس مروءة وعقلاً من ظلم من هو دونه . وقال له الربيع: إن لفلان حقاً ، فإن رأيت أن تقضيه فتوليه ناحية . فقال : يا ربيع ، إن لاتصاله بنا حقاً في أموالنا ، لا في أعراض المسلمين ولا أموالهم . إنا لا نولي للحرمة والرعاية ، بل للاستحقاق والكفاية ، ولا نؤثر ذا النسب والقرابة على ذي الدراية والكتابة ، فمن كان منكم كما وصفنا شاركناه في أعمالنا ، ومن كان عطلاً لم يكن لنا عذر عند الناس في توليتنا إياه ، وكان العذر في تركنا له وفي خاص أموالنا ما يسعه . وكان يقول : لو عرف إبليس أن أحداً بعد النبي - ( صلى الله عليه وسلم ) - أفضل من علي بن أبي طالب لأغرى الناس بنقضه وحطه عن منزلته . وخطب يوم الجمعة ، فكان مما حفظ من كلامه : " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " أمرٌ مبرم وقضاء فصلٌ ، والحمد لله الذي أفلج حجته ، وبعداً للقوم الظالمين ، الذين اتخذوا الكعبة غرضاً ، والفيء إرثاً وجعلوا القرآن عضين ، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ، وكأين ترى من بئر معطلة وقصرٍ مشيد . أمهلهم الله حين نبذوا القرآن والسنة ، واضطهدوا العترة ، واستكبروا وعندوا ، وخاب كل جبار عنيد، ثم أخذهم ف " هل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزا " . وكتب إليه زياد بن عبيد الله يسأله الزيادة في أرزاقه ، ويبالغ في الكتاب . فوقع المنصور في كتابه : إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعا في رجلٍ أبطراه ، وأمير المؤمنين مشفق عليك ، فاكتف بالبلاغة . المهدي حكي أن رجلاً أتى باب
المهدي
ومعه نعلان ، فقال : هما نعلا رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - فعرف المهدي ، فأدخله ووصله ، فلما خرج قال المهدي : والله ما هذا فعل رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - ومن أين صارت إليه ؟ أبميراثٍ أم بشرى أم بهبة ؟ لكني كرهت أن يقال : أهدي إليه نعل رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - فلم يقبلها ، واستخف بحقها . ولما استخرج أخرج من في السجون ، فقيل له : إنما تزري على أبيك ، فقال : لا أزري ، ولكن أبي حبس بالذنب ، وأنا أعفو عنه . وولى الربيع بن أبي الجهم فارس ، فقال له : يا ربيع ، آثر الحق ، والزم القصد ، وارفق بالرعية ، واعلم أن أعدل الناس من أنصف الناس من نفسه ، وأجورهم من ظلمهم لغيره . جزع المهدي على رخيم جاريته جزعاً شديداً ، فكان يأتي المقابر ليلاً فيبكي ، فبلغ ذلك المنصور ، فكتب إليه : كيف ترجو أن أوليك عهد أمة وأنت تجزع على أمة ؟ والسلام . فكتب إليه المهدي : يا أمير المؤمنين ، إني لم أجزع على قيمتها ، وإنما جزعت على شيمتها . والسلام . قالوا : كان المنصور أراد أن يعقد العهد بعد المهدي لابنه صالح المعروف بالمسكين ، فوجه إليه المهدي : يا أمير المؤمنين ، لا تحملني على قطيعة الرحم ، وإن كان لابد من إدخال أخي في هذا الأمر فوله قبلي ، فإن هذا الأمر إذا صار إلي أحببت ألا يخرج عن ولدي . وقال لحاجبه الفضل بن الربيع : إني قد وليتك ستر وجهي وكشفه ، فلا تجعل الستر بيني وبين خواصي سبب ضغنهم علي بقبح ردك ، وعبوس وجهك . وقدم أبناء الدولة ، فإنهم أولى بالتقدمة ، وثن بالأولياء ، واجعل للعامة وقتاً إذا صلوا فيه أعجلهم ضيقه عن التلبث ، وحثك لهم عن التمكث . قال الربيع : لما حبس المهدي موسى بن جعفر - رضي الله عنه - رأى في النوم علياً - رضي الله عنه - وهو يقول له : يا محمد ، " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " قال الربيع : فأرسل إلي ليلاً فراعني ذلك ، وإذا هو يقرأ هذه الآية - وكان أحسن الناس صوتاً - فعرفني خبر الرؤيا . وقال : علي بموسى بن جعفر . فجئته به ، فعانقه وأجلسه إلى جانبه ، وقال : يا أبا الحسن ، إني رأيت أمير المؤمنين - رضي الله عنه - فقرأ علي كذا . أفتؤمنني أت تخرج علي ، أو على أحدٍ من ولدي ؟ فقال : والله ما ذاك شأني . فقال : صدقت يا ربيع، أعطه ثلاثة آلاف دينار ، ورده إلى أهله بالمدينة . قال الربيع : فأحكمت أثره ليلاً فلما أصبح كان على الطريق خوف العوائق . ودخل العتبي على المهدي فعزاه في أبيه . وهنأه بالخلافة ، فاستحسن كلامه وسال عنه ، فقيل : هو من ولد عتبة بن أبي سفيان ، فقال : أوبقي من أحجارهم ما أرى ؟ قيل : كان المهدي يصلي الصلوات كلها في المسجد الجامع بالبصرة لما قدمها ، فأقيمت الصلاة يوماً ، فقال أعرابي : يا أمير المؤمنين لست على طهر، وقد رغبت إلى الله في الصلاة خلفك ، فأمر هؤلاء أن ينتظروني ، فقال : انتظروه رحمكم الله ، ودخل المحراب، فوقف إلى أن أقبل ، وقيل له : قد جاء الرجل ، فعجب الناس من سماحة أخلاقه . هاجت ريح سوداء في أيام المهدي، فرؤي وهو ساجد يقول : اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم ، واحفظ فينا دعوة نبينا - ( صلى الله عليه وسلم ) - وإن كنت أخذت العامة بذنبي فهذه ناصيتي بيدك . وكان المهدي يحب الحمام ، فأدخل عليه غياث بن إبراهيم ، فقيل له : حدث أمير المؤمنين وكان قد بلغه استهتار المهدي بالحمام ، فقال : حدثني فلان عن فلان عن أبي هريرة - رفعه - أنه قال : " لا سبق إلا في حافر أو نصل أو جناح " فأمر له بعشرة آلاف درهم فلما قام . قال المهدي ، وهو ينظر في قفا غياث : أشهد أن قفاك كذاب على رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - وإنما استجلبت ذلك أنا ، وأمر بالحمام فذبحت .
الهادي
اعتلت أمه الخيزران ، فأراد الركوب إليها ، فقال عمر بن بزيع ألا أدلك على ما هو انفع من عيادتها ، وأجلب لعافيتها ؟ قال : بلى . قال : تجلس للمظالم ، فقد احتاج الناس إلى ذلك ، فرجع وجلس ووجه إليها : إني أردتك اليوم، فعرض من حق الله ما هو أوجب ، فملت إليه ، وأنا أجيئك في غدٍ إن شاء الله . قال سعيد بن سلم الباهلي صلى بنا الهادي صلاة الغداة فقرأ : " عم يتساءلون " فلما بلغ قوله تعالى : " ألم نجعل الأرض مهاداً " أرتج عليه ، فرددها ولم يجسر أحدٌ أن يفتح عليه لهيبته ، وكان أهيب الناس ، فعلم ذلك فقرأ : " أليس منكم رجل رشيد " ففتحنا عليه ، وكنا نعد من محاسنه . وعزى إبراهيم بن سلم عن ابن له ، وقد اشتد جزعه عليه ، فقال : سرك وهو بلية وفتنة ، ويحزنك وهو ثواب ورحمة . وقال لأمه الخيزران حين ولي الخلافة : إن الأمر والنهي لا يبلغه قدر النساء ، فلا تخرجن من خفر الكفاية إلى بذلة التدبير ، اختمري بخمرتك ، وعليك بسبحتك ولا علمتك تعديت ذلك إلى تكليف يضرك ، وتعنيف يلزمك ، ولك بعد هذا علي الطاعة التي أوجبها الله لك في غير كفر ولا مأثم ولا عار . وأنفذ إليها يوماً أرزاً مسموماً ، وقال : استطبت هذا ، فأنفذته إليك ، فاسترابت به ولم تأكله ، ودخل بعقب ذلك إليها ، فقال لها : هل أكلت الأرز ؟ فقالت : نعم . فقال : لو أكلته لكان الأمر بخلاف هذا . متى أفلح خليفة له أم ؟ . وشهدوا عنده على رجل بأنه شتم قريشاً ، وتعدى إلى ذكر رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - ، فجلس مجلساً أحضر فيه فقهاء أهل زمانه ، وأحضر الرجل الشهود وشهدوا ، فتغير وجه الهادي ، ونكس رأسه ، ثم رفعه ، فقال : إني سمعت أبي يحدث عن أبيه المنصور عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن العباس قال : " من أراد هوان قريش أهانه الله " وأنت يا عدو الله ، لم ترض بأن أردت ذلك من قريش حتى تخطيت إلى ذكر رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - . اضربوا عنقه فقتل .
الرشيد
قال لحاجبه : احجب عني من إذا قعد أطال ، وإذا سأل أحال ، ولا تستخفن بذي الحرمة ، وقدم أبناء الدعوة 0 عرض له رجل وهو يطوف بالبيت ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إني أريد أن أكلمك بكلام فيه خشونة فاحتمله لي . قال : لا ، ولا كرامة ، قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني ، فقال : " فقولا له قولاً لينا " ولما احتضر قال : وا حيائي من رسول الله . ودعا بعبد الملك بن صالح وعنده ولاة عهده وقواد جنده ، فجيئ به وهو يرسف في قيده ، فلما مثل بين يدي الرشيد . قال الرشيد : أريد حياته ويريد قتلي . . . عذيرك من خليلك من مراد والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها وقد همع ، وإلى عارضها وقد لمع ، وإلى الوعيد قد أورى ناراً ، فأقلع عن رؤوس بلا غلاصم ، ومعاصم بلا براجم ، مهلاً مهلاً بني هاشم ، فبي سهل لكم الوعر ، وصفا لكم الكدر ، فنذار نذار من حلول داهية خبوط باليد ، لبوط بالرجل .
فقال : يا أمير المؤمنين ، أأتكلم فذا أو توأماً ؟ فقال : بل فذا ، فقال : اتق الله يا أمير المؤمنين فيما دلاك ، وراقبه فبما استرعاك ، ولا تجعل الشكر بموضع الكفر لقول قائل ينهس اللحم ، ويلغ الدم ، فوالله لقد حددت القلوب على طاعتك ، وذللت الرجال لمحبتك ، وكنت كما قال أخو بني كلاب . ومقام ضيق فرجته . . . ببياني ، ولساني ، وجدل لو يقوم الفيل أو فياله . . . زل عن مثل مقامي وزحل فأمر به فرد إلى محبسه . ثم قال : لقد دعوت به ، وأنا أرى مكان السيف من صليف قفاه ، ثم هأنا قد رثيت له . كتب الرشيد إلى الفضل بن يحيى : أطال الله يا أخي مدتك، وأدام نعمتك ، والله ما منعني من إتيانك إلا التطير من عيادتك ، فاعذر أخاك ، فوالله ما قلاك ولا سلاك ، ولا استبدل بك سواك . قال الأصمعي : قال لنا الرشيد ذات يوم : ما التكش عندكم ؟ قلت : الذي يتفتى على كبر السن . فقال : أخطأت . التكش : الذي يشرب على غير سماع . قالوا : رفع صاحب الخبر في أيام الرشيد أن صاحب الحبس حبس رجلاً يجمع بين الرجال والنساء في منزله ، وأنه سئل عن ذلك ، فأقر ، وزعم أنه يجمع بينهم بتزويج لا زنية ، وبنكاح لا سفاح ، وشهد له بذلك جماعة ، وتشفع في بابه قوم من الكتاب والقواد ، فلم يطلق . فلما قرأ الرشيد ذلك استشاط غضباً حتى انكر جلساؤه ذلك ، وظنوا أنه سينكل بالرجل ، إلى أن قال : وما سبيلهم على رجل وسع في منزله لصديقه ، وأسبل عليه ستره ، وسعى فيما يحل له من لذته ؟ وهو بعد مستراح للأحرار ، وذوي الشرف ةالأقدار ، ونحن نعلم أن الشريف والسيد ، والأديب والأريب قد تكون عنده العقيلة من بنات عمه ، ونساء قومه ، وأكفائه ، فتحظر عليه شهوته ، وتملك عليه أمره ، وهي أقبح من السحر ، وأسمج من القرد ، وأهر من الكلب ، وأشد تعدياً من الليث العادي ، فيريد شراء جارية أو تزوج حرة ، فلا يقدر على ذلك لمكانها ، حتى يستريح إلى مثل هذا من الفتيان ويغشى منزل أمثاله من الأحرار ، فيجعله سكنه ، وينزل به مهمه ، فيساعده على حاجته ، ويسعى له فيما يحب من لذته ، ويستره بمنزله . اكتبوا في اطلاقه والسؤال عن حاله فإن كان كما ذكر عنه من الستر وكان صادقاً فيما حكى عن نفسه ما الفعل أمين على مروءته باكف وينار وأومن من روعته وعرف ما امرنا به فيه . فقال الجميع : سدد الله رأي أمير المؤمنين ووفقه . وعاتبته أم جعفر في تقريظه للمأمون ، دون محمد ابنها ، فدعا خادماًبحضرته ، وقال له : وجه إلى محمد وعبد الله خادمين حصيفين يقولان لكل واحد منهما على الخلوة : ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إليه ؟ ، فأما محمد فإنه قال للخادم : أقطعك وأعطيك ، وأقدمك . وأما المأمون فإنه رمى الخادم بدواة كانت بين يديه ، وقال : يا بن اللخناء ، أتسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين ، وخليفة رب العالمين ؟ إني لأرجو أن نكون جميعاً فداءاً له . فرجعا بالخبر ، فقال الرشيد لأم جعفر : كبف ترين ؟ ما أقدم ابنك إلا متابعة لرأيك ، وتركاً للحزم . وسايره يوماً عبد الملك بن صالح ، فقام رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، طأطئ من إشرافه ، واشدد شكائمه ، وإلا أفسد عليك ملكك ، فقال الرشيد : يا عبد الملك ، ما هذا ؟ قال : حاسد نعمة ، ونافس رتبة أغضبه ، رضاك عني وباعده قربك مني ، وساءه إحسانك إلي . فقال الرشيد : انخفض القوم وعلوتهم ، فتوقدت في قلوبهم جمرة التأسف ، فقال عبد الملك : أضرمها الله بالتزيد عندك ، فقال : هذا لك وهذا لهم . وأنشده إسحاق الموصلي مدحاً له ، فقالك لله در أبياتٍ تجيئ بها ما أحكم أصولها ، وأحسن فصولها ، وأقل فضولها فقال إسحاق : هذا الكلام أحسن من شعري .
كان الحسن اللؤلؤي يختلف إلى المأمون ، يلقي عليه الفرائض ، فدخل عليه ليلة وقد صلى العشاء الآخرة ، فجعل يلقي عليه ، ونعس المأمون فأطبق جفنه ، فقال الحسن : أنمت أيها الأمير ؟ ففتح عينيه وهو إذ ذاك صبي فقال : عامي والله لم يغذ بالأدب ، خذوا بيده ولا تعيدوه إلي . فبلغ ذلك الرشيد ، فتمثل بقول زهير : وهل ينبت الخطي إلا وشيجه . . . وتغرس إلا في منابتها النخل وقال لحاجبه : احجب عني من إذا قعد أطال ، وإذا سأل أحال ، ولا تستخفن بذي حرمة ، وقدم أبناء الدعوة . وصعد يوماً المنبر وقد شغب الجند ، ثم سكنوا بعد إيقاع بهم ، فقال : الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على الملائكة المقربين ، والأنبياء أجمعين . أما بعد ، فقد كان لكم ذنب ، وكان لنا عتب ، وكان منكم اصطلام ، وكان منا انتقام ، وعندي بعد هذا التنفيس عن المكروبين ، والتفريج عن المغمومين، والإحسان إلى المحسنين ، والتغمد لإساءة المسيئين ، وألا يكفر لكم بلاء ، ولا يحبس عنكم عطاء ، وعلي بذلك الوفاء إن شاء الله . ثم نزل . قال سعيد بن سلم : كان فهم الرشيد فهم العلماء . أنشده العماني في صفة الفرس : كأن أذنيه إذا تشوفا . . . قادمة أو قلماً محرفا فقال الرشيد : دع كأن ، وقل : تخال أذنيه حتى يستوي الشعر.
أنشد النميري الرشيد شعراً يقول فيه : ليس كأسياف الحسين ولا بني . . . حسن ، ولا آل الزبير الكلل فقال له الرشيد : وما تولعك بذكر القوم لا ينالهم ذم إلا شاطرتهم إياه . قرر ابني هذا منك وفيك ، فلا تعدله ، فإنما نفارقهم في الملك وحده ، ثم لا افتراق في شيء بعده . ماتت أمه الخيزران بعد ثلاث سنين من خلافته ، وكان غلتها يوم ماتت مائتي ألف ألف ، وستين ألف درهم كل سنة ، فاتسع الرشيد بذلك ومات في اليوم الذي ماتت فيه محمد بن سليمان بالبصرة ، وقبض الرشيد ما خلفه من الصامت ، فكان ثلاثة آلاف ألف دينار ، ولم يعرض لغير ذلك من أصناف المال . قال الرشيد يوماً : بلغني أن العامة يظنون بي بغض علي بن أبي طالب . والله ما أحب أحداً حبي له، ولكن ولده هؤلاء أشد الناس بغضاً لنا ، وطعناً علينا ، و سعياً في إفساد ملكنا ، بعد أخذنا بثأرهم ، ومساهمتنا إياهم ماحوينا ، حتى إنهم لأميل إلى بني أمية منهم إلينا ، فأما علي وولده لصلبه ، وأولاد أولاده ، فهم سادة الأهل ، والسابقون إلى الفضل ، ولقد حدثني أبي المهدي عن أبيه المنصور بن محمد بن علي عن أبيه عن ابن العباس أنه سمع النبي - ( صلى الله عليه وسلم ) - يقول في الحسن والحسين : " من أحبهما فقد أحبني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني " . وسمعته ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في فاطمة - رضي الله عنها - : " فاطمة سيدة نساء العالمين ما خلا مريم بنت عمران وآسيا بنت مزاحم " . قال يزيد بن مزيد : قال لي الرشيد : ما بقي في العرب من يفتك قلت : وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : رجل يقتل لي يحيى بن خالد . قال : قلت له : فأنا أقتله وآتيك برأسه . قال : ليس كذا أريد . إنما أريد أن يقتله رجل فأقتله به . قال : فحدثت به الفضل بن سهل بمرو ، فوجم واغتم . قال الأصمعي قال لي الرشيد في أول يوم عزم فيه على تأنيسي : يا عبد الملك ، أنت أحفظ منا ، ونحن أقل منك . لا تعلمنا في ملا، ولا تسرع إلى تذكيرنا في خلاء ، واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال ، فإذا بلغت من الجواب قدر استحقاقه فلا تزد ، وإياك والبداء إلى تصديقنا ، أو شدة العجب بما يكون منا . وعلمنا من العلم ما نحتاج إليه ، على عتبات المنابر ، وفي أعطاف الخطب ، وفواصل المخاطبات ، ودعنا من رواية حوشي الكلام وغرائب الأشعار ، وإياك وإطالة الحديث إلا أن نستدعي ذلك منك . ومتى رأيتنا صادفين عن الحق فأرجعنا إليه ما استطعت ، من غير تقرير بالخطأ، ولا إضجار يطول الترداد . قال قلت : أنا إلى حفظ هذا الكلام أحوج مني إلى كثير من البر .
الأمين
قيل لبعض العلماء : كيف كانت بلاغة الأمين ؟ قال : والله لقد أتته الخلافة يوم الجمعة ، فما كان إلا ساعة حتى نودي : الصلاة جامعة ، فخرج ورقي المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه . ثم قال : أيها الناس ، وخصوصاً يا بني عباس ، إن المنون مراصد ذوي الأنفاس حتم من الله لا يدفع حلوله ، ولا ينكر نزوله ، فارتجعوا قلوبكم من الحزن على الماضي إلى السرور بالباقي ، تجزون ثواب الصابرين ، وتعطون أجور الشاكرين . فتعجب الناس من جرأته ، وبلة ريقه ، وشدة عارضته . وكان المأمون يقول : كان يقول لي الرشيد : وددت لو أن لك بلاغة محمد ، وأن علي غرم كذا وكذا . وذكر أن محمد في صباه كان كثير اللعب ، وكان المعلم يلقي عليه في الكتاب ، وعلى المأمون ، وكان محمد يلعب ويحفظ ، والمأمون ينسى وهو مقبل على العلم يقصد قصده . ذكر أنه دعا يوماً عبد الله بن أبي عفان ليصطبح ، فأبطأ فلما جاء قال : أظنك أكلت . قال : لا والله . قال : والله لتصدقن . قال : نعم يا أمير المؤمنين، فدعا بحكاك فحك أضراسه السفلى ، فلما ذهب ليحك العليا قال : يا أمير المؤمنين ، دعها لغضبة أخرى ، فخلاه . قال الفضل بن مروان : سمعته يقول في خطبته : الناس جميعاً آمنون إلا أصحاب الأهواء . وقال لكاتب بين يديه : دع الإطناب ، والزم الإيجاز ، فإن للإيجاز إفهاماً ، كما أن مع الإسهاب استبهاماً . ولما اشتد طاهر على محمد دخلت عليه أمه أم جعفر باكية ، فقال لها : مه ، إنه ليس بجزع النساء وهلعهن تشفى الصدور ، وتساس الأمور وللخلافة سياسة تلين مرة وتخشن أخرى ، لا يسعها صدر المراضيع ، ولا تحفظ بإضاعة ، فإليك إليك . وكتب محمد إلى طاهر بخطه : إعلم يا طاهر أنه ما قام لنا قائم بحق فتم لأحدنا أمره إلا كان السيف جزاءه منه ، فانظر لنفسك أو دع . فقال طاهر - وكان قومٌ يضعفون محمداً عنده على من يقول - : إن هذا مضعف مأفون لعنه الله ، لقد قدح بقلبي ناراً من الحذر لا يطفئها أمنٌ أبداً . كان الرشيد أخذ ضيعة من صالح صاحب المصلى . ودفعها إلى أم جعفر فلما ولي الأمين سأله الفضل بن الربيع ردها على صالح ، فقال : أنا أعوضه ولاأظلم أبي ، ولا أعق أمي . قال بعضهم : كنت واقفاً بين يدي الأمين ، فقال لكاتب بين يديه : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله محمد الأمين أمير المؤمنين إلى طاهر بن الحسين سلامٌ عليك . أما بعد ، فإن الأمر قد خرج بيني وبين لأخي إلى هتك الستور ، وكشف الحرم ، ولست آمن أن يطمع في هذا الأمر السحيق البعيد ، لشتات ألفتنا ، واختلاف كلمتنا ، وقد رضيت أن تكتب لي أماناً لأخرج إلى أخي به ، فإن تفضل علي فأهل لذلك ، وإن قتلني فمروة كسرت مروة ، وصمصامة قطعت صمصامة ، ولأن تفترسني السبع أحب إلي من أن ينبحني الكلاب ودفع الكتاب إلى خادم له وقال لي : امض معه . فغيرنا إلى طاهر فقال الآن حين انخرم عنه مراقه وفماقه وبقى مخذولاً : مغلولاً يلوذ بالأمان لا والله أو يجعل في عنقه ساجوراً ، ويقول : هأنذا قد نزلت على حكمك . فقلنا : فما الجواب ؟ قال : قد سمعتماه فانصرفا إلى الأمين ، وأخبراه بذلك ، فقال : كذب عبد السوء العاض لهن أمه ، والله ما أبلى أوقعت على الموت أو وقع الموت علي . كان الأمين أول من دعي له على المنابر باللقب ، وأول من كتب عنه : من عبد الله محمد الأمين . سمع الأمين الفضل بن ربيع يتمثل بقول البعيث : لشتان ما بيني وبين ابن خالد . . . أمية في الرزق الذي الله يقسم يقارع أتراك ابن خاقان ليله . . . إلى أن يرى الإصباح ، ولا يتلعثم وآخذها صهباء كالمسك ريحها . . . لها أرج في دنها حين ترشم فقال له : يا عباسي ، لقد علمت ما أردت بتمثلك ، أردتني وعبد الله أخي ، وأنه يجد بي وأمزح ، وما ضر يزيد لعبه ، ولا نفع ابن الزبير تيقظه وجده ، وما قضي فهو كائن ، وإلى الله تصير الأمور .
المأمون
قال يوماً لبعض رهطه : يا نطف الخمار ، ونزائع الظئورة ، وأشباه الخؤولة .
وذكر أن الكسائي قام إليه يوماً - وهو يعلمه وهو صغيرٌ - فضربه ، وقد كان ذلك اليوم صلى ذلك اليوم قاعداً : أما تستحيي أيها الشيخ ، تصلي لله قاعداً ، وتضربني قائماً . قال بعضهم : قرأت كتاب ذي الرياستين إلى المأمون ، وتوقيع المأمون فيه ، فإذا في الكتاب بعد الصدر والدعاء : إن قارئاً قرأ البارحة : " وقلن نسوة في المدينة " ، فأنكرنا ذلك عليه ، فذكر أن الكسائي أجازه ، وكتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فرددنا علم كتاب الله إلى خليفته . قال : وإذا توقيع المأمون فيه : " عمرك الله - ذا الرياستين - طويلاً في طاعته ، وجعلك قائماً بأمر دينه ، ذاباً عن حريم أمته ، إن لكل علم دستوراً ، ودستور هذا العلم القرآن ، فعليك بقراءته على ما أجمع عليه ، ولا تلتفت إلى مختار قولاً ليعقد له رياسة ، والسلام . كتب المأمون إلى طاهر لما قتل علي بن عيسى في رسالة طويلة : إنما لك من هذا الأمر موقع السهم من الرمية ، والتسديد والرأي ، والتدبير لأبي العباس الفضل بن سهل . وكان يقول : إذا رفعت المائدة من بين يده : الحمد لله الذي جعل أرزاقنا فضلاً على أقواتنا . وقال : ما انفتق علي فتق قط إلا وجدت سببه جور العمال .
وقال : أهل السوق سفل ، والصناع أنذال ، والتجار بخلاء ، والكتاب ملوك على الناس . وقيل له : ليس في السرف شرف ، فقال : ليس في الشرف سرف ، وقال يوماً لبعضهم : متى قدمت ، قال : بعد غدٍ يا أمير المؤمنين . فقال : بيني وبينك بعد مرحلتان . ورأى المأمون يحيى بن أكثم يحد النظر إلى الواثق - وهو أمرد - فقال : يا أبا محمد ، حوالينا ولاعلينا . تنازع أحمد بن أبي خالد وإبراهيم السندي بحضرة المأمون ، فقال أحمد : أمير المؤمنين أفضل من آبائه قدراً ، وأرفع محلاً . وقال إبراهيم : بل أمير المؤمنين أرفع أهل دهره ، ودوين آبائه . فقال المأمون : يا أحمد ، إن إبراهيم يبنيني ، وأنت تهدمني ، وهو يبرم فتل مريرتي ، وأنت تنقضني . قال بعضهم : حضرت المأمون وقد قطعت له ثياب خز ، فقال : بطنوها بألوان طرزها . ولما احتضر قال : يا من لا يزول ملكه إرحم من زال ملكه. ضرب رجل على سكته ، فأمر بحبسه مؤبداً ، فلبى في الحبس ليخرج فرفع إليه الخبر فوقع المأمون : أظن هذا الرجل الخائن قصد خلاف نيته في الحج ، وأظهر ضد عزيمته ، وقد أخطأت استه الحفرة فإذا حرم الحج بسوء تدبيره ، فلن يعدم فتوى صادقه من فريضة محكمة ، هو محصر وعليه الهدي ، فليأخذ بتعجيله ولا يرخص له في بتأخيره . وسمع رجلاً يقول : قلب الله الدنيا فقال المأمون : إذاً تستوي . واختصم بحضرته بصري وكوفي ، فقال للبصري : إرمه بآيتيك المد والجزر ، ومحمد بن عباد . ودخل إليه يحيى بن الحسين الطالبي ، فقال : يا أمير المؤمنين ، حيرتني عارفتك ، حتى ما أدري كيف أشكرك . قال : فلا عليك ، فإن الزيادة في الشكر على الصنيعة ملق ، وإن النقص عي ، وحسبك أن تبلغ حيث بلغ بك .
وقال لعبد الله بن طاهر : تثبت ، فإن الله قد قطع عذر العجول ، بما مكنه من التثبت ، وأوجب عليه الحجة على القلق، بما بصره من فضل الأناة . فقال ابن طاهر : أأكتبه : فقال : نعم . قالوا : لما وجد عمر بن فرح كتاباً من أهل الكرخ إلى علي بن محمد بن جعفر بن محمد - رضي الله عنهم - جاء به إلى المأمون ، فقال المأمون : نحن أولى من ستر هذا ولم يشعه . ودعا علي بن محمد ، فقال له : قد وقفنا على أمرك ، وقد وهبنا ذلك لعلي وفاطمة - رضي الله عنهما - فاذهب ، وتخير ما شئت من الذنوب ، فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو . رفع الواقدي قصة إليه يشكو غلبة الدين ، وقلة الصبر ، فوقع المأمون عليها : أنت رجل فيك خلتان : السخاء والحياء ، فأما السخاء . فهو الذي أطلق ما في يدك ، وأما الحياء فبلغ بك ما أنت عليه ، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم . فان كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك وإن كنا فإن كنا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك . وأنت كنت حدثتني ، وأنت على قضاء الرشيد، عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال للزبير : " يا زبير ، إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش ، ينزل الله للعباد على قدر نفقاتهم ، فمن كثر كثر له . ومن قلل قلل له . قال للواقدي: وكنت أنسيت هذا الحديث ، فكانت مذاكرته إياي به أعجب إلي من صلته . وقال للمأمون : الطعام لون واحد . فإذا استطبته فاشبع منه . والندمان واحد ، فإذا استطبته فاستزده حتى تقضي وطرك منه . وذكر أن إبراهيم بن المهدي دخل على المأمون ، وبين يديه صاع رطب ، فقال : أدن فكل . فقال : يا أمير المؤمنين على ما بي ؟ وكان وجع العين ، فقال : ويحك ولا تهب عينك للرطب . ودخل إليه الطبيب فشكا إليه وجع الأسنان ، فقال : يا أمير المؤمنين لا تأكل الرطب ولا تشرب الماء بثلج ، فقال : لولاهما ما أردتك .
قال بعضهم : رأيت المأمون وقد ضرب غسان بن عباد خمس عشرة درة لإعادته حدثياً على النبيذ . وقال المأمون لمحمد بن يزداد : جئني بمن يكتب بين يدي كتاباً إلى عبد الله بن طاهر ، فجاء بسليمان بن وهب ، فأملى عليه ، ثم نظر إلى خطه فاستجاده . فقال : من تكون يا غلام ؟ قال : سليمان بن وهب بن سعيد عبد أمير المؤمنين وابن عبده . قال : وهب بن سعيد الغريق في دجلة ؟ قلت : نعم يا سيدي . قال : لله در أبيك ما كان يطفئ ذكاءه إلا دجلة . وقع المأمون في قصة متظلم من أبي عيسى بن الرشيد : " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " . وتظلم إليه قوم من قاضي جبل ، وذكروا أنه يعض رؤوس الخصوم ، فوقع في قصتهم يشنق إن شاء الله . وقال : من أراد أن يطيب عيشه فليدفع الأيام بالأيام . قال أحمد بن أبي خالد : دخلت على المأمون وهو قائم يصفي نبيذاً ، فبادرت لأتولى ذلك ، فقال : مه أما أحدٌ يكفيني هذا ؟ ، ولكن مجراه على كبدي ، فأحببت أن أتولاه بيدي . قال العباس بن المأمون لغلامه : إن رأيت في الرصافة بقلاً حسناً فاشتر لي منه بنصف درهم . فقال مأمون : أما إذا عرفت أن للدرهم نصفاً فوالله لا أفلحت أبداً . قال يحيى بن أكثم : ماشيت المأمون في بستانة ، ويده في يدي ، فكان في الظل ، وأنا في الشمس . فلما بلغنا ما أردنا . ورجعنا صرت أنا في الفيئ وصار هو في الشمس ، فدرت إنا إلى الشمس ، فقال : ليس هذا بإنصاف ، كما كنت أنا في الفيئ ذاهباً فكن أنت في الفيئ راجعاً . قال المأمون : أقمت زماناً أداري الرشيد في أربعة أشياء : منها أنه كان يزعم أن بغداد أطيب بلاد الله ، وكنت أستوبئها . وكان يقول : ؟ إن وجدت رجلاً يقدم علي بن أبي طالب على من تقدمه ضربته الحد ، وكنت ممن يقدمه . وكان يقول : ضعوا الأموال مواضعها ، فإنكم إن صرفتموها عن أهلها و وضعتموها في غيرهم كنت كمن بذر في السباخ ، وكان المال عندي بمنزلة الحجارة ، وأنسيت الرابعة . قالوا : كانت الرابعة حب الرشيد للفضل بن الربيع ، وبغض المأمون له . كان يقول : أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف ألا أوجر عليه ولو عرف الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب. وكان يقول : شرب الماء بالبلح أدعى إلى إخلاص الحمد . وقال الجاحظ : سمعته يقولك الإرجاء دين الملوك . وكان يحب الشطرنج واللعب بها ، ويقول : هو لهو فكري . ولم يكن حاذقاً بها ، فكان يقولك أنا أدبر أمر الدنيا فأتسع لذلك، وأضيق عن تدبير شبرين في شبرين ، وله في الشطرنج شعر معروف . كان العباس ابنه مولعاً بشرى الضياع ، والمعتصم أخوه بشرى الغلمان ، فكان المأمون إذا رآهما تمثل : د ، فإذا استطبته فاستزده حتى تقضي وطرك منه . وذكر أن إبراهيم بن المهدي دخل على المأمون ، وبين يديه صاع رطب ، فقال : أدن فكل . فقال : يا أمير المؤمنين على ما بي ؟ وكان وجع العين ، فقال : ويحك ولا تهب عينك للرطب . ودخل إليه الطبيب فشكا إليه وجع الأسنان ، فقال : يا أمير المؤمنين لا تأكل الرطب ولا تشرب الماء بثلج ، فقال : لولاهما ما أردتك . قال بعضهم : رأيت المأمون وقد ضرب غسان بن عباد خمس عشرة درة لإعادته حدثياً على النبيذ . وقال المأمون لمحمد بن يزداد : جئني بمن يكتب بين يدي كتاباً إلى عبد الله بن طاهر ، فجاء بسليمان بن وهب ، فأملى عليه ، ثم نظر إلى خطه فاستجاده . فقال : من تكون يا غلام ؟ قال : سليمان بن وهب بن سعيد عبد أمير المؤمنين وابن عبده . قال : وهب بن سعيد الغريق في دجلة ؟ قلت : نعم يا سيدي . قال : لله در أبيك ما كان يطفئ ذكاءه إلا دجلة . وقع المأمون في قصة متظلم من أبي عيسى بن الرشيد : " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " . وتظلم إليه قوم من قاضي جبل ، وذكروا أنه يعض رؤوس الخصوم ، فوقع في قصتهم يشنق إن شاء الله . وقال : من أراد أن يطيب عيشه فليدفع الأيام بالأيام . قال أحمد بن أبي خالد : دخلت على المأمون وهو قائم يصفي نبيذاً ، فبادرت لأتولى ذلك ، فقال : مه أما أحدٌ يكفيني هذا ؟ ، ولكن مجراه على كبدي ، فأحببت أن أتولاه بيدي . قال العباس بن المأمون لغلامه : إن رأيت في الرصافة بقلاً حسناً فاشتر لي منه بنصف درهم . فقال مأمون : أما إذا عرفت أن للدرهم نصفاً فوالله لا أفلحت أبداً . قال يحيى بن أكثم : ماشيت المأمون في بستانة ، ويده في يدي ، فكان في الظل ، وأنا في الشمس . فلما بلغنا ما أردنا . ورجعنا صرت أنا في الفيئ وصار هو في الشمس ، فدرت إنا إلى الشمس ، فقال : ليس هذا بإنصاف ، كما كنت أنا في الفيئ ذاهباً فكن أنت في الفيئ راجعاً . قال المأمون : أقمت زماناً أداري الرشيد في أربعة أشياء : منها أنه كان يزعم أن بغداد أطيب بلاد الله ، وكنت أستوبئها . وكان يقول : ؟ إن وجدت رجلاً يقدم علي بن أبي طالب على من تقدمه ضربته الحد ، وكنت ممن يقدمه . وكان يقول : ضعوا الأموال مواضعها ، فإنكم إن صرفتموها عن أهلها و وضعتموها في غيرهم كنت كمن بذر في السباخ ، وكان المال عندي بمنزلة الحجارة ، وأنسيت الرابعة . قالوا : كانت الرابعة حب الرشيد للفضل بن الربيع ، وبغض المأمون له . كان يقول : أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف ألا أوجر عليه ولو عرف الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب. وكان يقول : شرب الماء بالبلح أدعى إلى إخلاص الحمد . وقال الجاحظ : سمعته يقولك الإرجاء دين الملوك . وكان يحب الشطرنج واللعب بها ، ويقول : هو لهو فكري . ولم يكن حاذقاً بها ، فكان يقولك أنا أدبر أمر الدنيا فأتسع لذلك، وأضيق عن تدبير شبرين في شبرين ، وله في الشطرنج شعر معروف . كان العباس ابنه مولعاً بشرى الضياع ، والمعتصم أخوه بشرى الغلمان ، فكان المأمون إذا رآهما تمثل : يبني الرجال ، وغيره يبني القرى . . . شتان بين قرى وبين الرجال قلق بكثرة ماله وجياده . . . حتى يفرقها على الأبطال وقيل له : إن دعبلاً قد هجاك ، فقال : من يجسر أن يهجو أبا عباد على خرقه وعجلته يجسر أن يهجوني . وكان يقول : إذا وضحت الحجة ثقل علي استماع المنازعة فيها . وحدثه يوماً المدائني ، فقالك إن معاوية قال : بنو هاشم أسود واحداً ونحن أكثر سيداً . فقال المأمون : يا على إنه قد أقر وادعى ، فهو في ادعائه خصم ، وفي إقراره مخصوم . قال ابن أبي دواد : سمعته يقول لرجل : إنما هو عذر أو يمين ، وقد وهبتهما لك ، فلا تزال تسئ وأحسن ، وتذنب وأعفو ، حتى يكون العفو هو الذي يصلحك .
وقال له الحسن بن سهل في رجل مذنب : هبخ لي . قال : وكيف لا أهبه لمن به قدرت عليه . وخطب بمرو - وقد ورد عليه كتاب الأمين يعزيه بالرشيد ، ويحثه على أخذ البيعة له - فقال : إن ثمرة الصبر الأجر ، وثمرة الجزع الوزر ، والتسلم لأمر الله جل وعز فائدة جليلة ، وتجارة مربحة ، والموت حوض مورود ، وكأسٌ مشروبٌ . وقد أتي على خليفتكم - رضي الله عنه - ما أتى على نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، فما كان إلا عبداً دعي فأجاب ، وأمر فأطاع ، وقد سد أمير المؤمنين ثلمته وقام مقامه ، وفي أعناقكم من العهد ما قد عرفتم ، فأحسنوا العزاء عن إمامكم الماضي ، واغتبطوا بالنعماء بالوفاء لخليفتكم الباقي . يا أهل خراسان : إن الموت نازل، والأجل طالب ، وأمس واعظ ، واليوم مغتنم ، وغد منتظر . ثم نزل . وكتب إليه يزيد بن عقال يثني على عبد الله بن طاهر ، فوقع المأمون في كتابه : عبد الله كما ذكرت ، وعلى أكثر مما وصفت . قد حمله أمير المؤمنين فاحتمل، وأثقله فاضطلع . كانوا يسمون أرصاد السلطان المسالح من السلاح ، فكره ذلك المأمون فصيره المصالح من المصلحة . وقال : إذا أصلح الملك مجلسه ، واختار من يجالسه صلح ملكه كله . ورفع أهل الكوفة قصة إليه يشكون عاملاً ، فوقع : عيني تراكم ، وقلبي يرعاكم ، وأنا مول عليكم ثقتي ورضاكم . وشغب الجند فرفع ذلك إيه ، فوقع : لا يعطون على الشغب ، ولا يحوجون إلى الطلب . وناظر يوماً محمد بن القاسم النوشجاني ، فجعل يصدقه ويفضي له ، فقال له المأمون : تنقاد لي إلى ما تظن أنه يسرني ، قبل وجوب الحجة عليك ولو شئت أن أقتسر الأمور بفضل بيان ، وطول لسان ، وأبهة الخلافة ، وسطوة الرياسة لصدقت وإن كنت كاذباً ، وصوبت وإن كنت مخطئاً ، وعدلت وإن كنت جائراً ، ولكني لا أرضى إلا بإزالة الشبهة ، وغلبة الحجة ، وإن شر الملوك عقلاً ، وأسخفهم رأياً من رضي بقولهم : صدق الأمير . وقف أحمد بن أحمد بن عروة بين يديه ، وقد صرفه عن الأهواز ، فقال له المأمون : أخربت البلاد ، وأهلكت العباد . فقال : يا أمير المؤمنين ، ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفت بين يديه ، وقد قرعك بذنوبك ؟ فال : العفو والصفح . قال : فافعل بغيرك ما تختار أن يفعل بك . قال : قد فعلت . إرجع إلى عملك ، فوال مستعطف خير من وال مستأنف . وتأخر سابق الحاج مرة عن وقته ، ثم ورد ورفع قصة ، فألحق بنقطة الباء نقطة أخرى ، وجعله سائق الحاج . وقال له رجل : يا أمير المؤمنين ، وانظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان . فقال : لأيهم أنظر ؟ لقيس ؟ فو الله ما أزلتها عن ظهور خيلها حتى لم يبق لي درهم مروانية عند اضطرارها زبيرية باختيارها . أم لتميم ؟ فوالله ما يعرفون إلا الأكل والغدر ، وأما اليمن فالعجم أقرب إلينا منهم ، وما أحبونا قط ، وقضاعة مذبذبة في نسبها ، شادة حزم دوابها ، تنتظر خروج السفياني لتكون زعمت منه ، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبياً من مضر ، وما خرج اثنان قط إلا كانا ربعيين أو أحدهما ، فاغرب قبح الله ما أشرت إليه . ووقع إلى علي بن هشام وقد شكاه غريم له : ليس له من المروءة إن تكون آنيتك من ذهب وفضة ، ويكون غريمك عارياً ، وجارك طاوياً . وكان يقول : أسلم أبو طالب بقوله : نصرنا الرسول رسول المليك . . . بقضب تلألأ كلمع البروق وقال المأمون : الرتبة نسب يجمع أهلها ، فشريف العرب أولى بشريف العجم من شريف العرب بوضيع العرب ، وشريف العجم أولى بشريف العرب من شريف العجم بوضيع العجم ، فأشراف الناس طبقة كما أن أوضاعهم طبقة .
استقبل الطالبيون المأمون في منصرفه من خراسان إلى العراق في بعض الطريق ، يعتذرون مما كان من خروجهم عليه ، فقال المأمون : أولنا وأولكم ما تعلمون ، وآخرنا وآخركم ما تريدون ، وتناسوا ما بين هذين . وركب يوماً فصاح إليه الأنصار ، فقال : أين كنتم يوم سقيفة بني ساعدة ، والعباس وعلي يريدان نصرتكم ؟ فلا تريدوا مني ثواباً . قال يحيى بن أكثم : لما أراد المأمون أن يزوج علي بن موسى ، قال لي : يا يحيى تكلم ، فهبت أن أقول أنكحت ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أنت الحاكم الأكبر وأنت أولى بالكلام ، فقال : الحمد لله الذي تصاغرت الأمور لمشيئته ، ولا إله إلا الله ، إقراراً بربوبيته ، صلى الله على محمد عند ذكره . وأم بعد ، فإن الله تعالى جعل النكاح سنة للأنام ، وفصلاً بين الحلال والحرام ، وإني قد زوجت ابنتي أم الفضل من علي بن موسى الرضا ، وقد مهرتها عنه أربعمائة درهم . وقال المأمون : تمام النعمة أن تستتم بلزوم شكرها ، واول منازل الشكر ألا يتوصل إلى معصية منعم بفضل نعمته . قال أحمد بن أبي دواد : قال لي المأمون : لا يتسطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم ، ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين ملوكهم وحماتهم وكفاتهم ، وبين صنائعهم وبطانتهم ، وذلك أنهم يرون ظاهر حرمة وخدمة ، واجتهاد ونصيحة ، ويرون إيقاع الملوك بهم ظاهراً ، حتى لا يزال الرجل قول : ما أوقع به إلا رغبة في ماله ، وإلا رغبة فيما لا تجود النفوس به ، أو لعل الحسد والملالة ، وشهوة الاستبدال اشتركت في ذلك . وهناك جنايات في صلب الملك ، أوفى بعض الحرم لا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة في الملك ، وأن يحتج لتلك العقوبة بما يستحق ذلك الذنب ، ولا يستطيع ترك عقابه ، لما في ذلك من الفساد على علمه بأن عذره غير مبسوط عند العامة ، ولا معروف عند أكثر الخاصة . نزل رجل فعدا بين يديه ، فأشار بيده أن حسبك ، فقال له بعض من كان بقرب من المأمون : إركب . فقال المأمون : لا يقال لمثل هذا : إركب ، إنما يقال له: إنصرف . تحدث المأمون يوماً ، فضحك إسحاق بن إبراهيم المصعبي ، فقال : يا إسحاق ، أوهلك لشرطتي ، وتفتح فاك من الضحك ؟ خذوا سواده وسيفه ، ثم قال : أنت بالشراب أشبه ، ضعوا منديلاً على عاتقه ، فقال إسحاق : أقلني يا أمير المؤمنين . قال : قد أقلتك ، فما ضحك بعدها . قال المأمون : لأن أقتدي بسيرة أنو شروان أحب إلي من أن أقتدي بسيرة عمر بن عبد العزيز ، لأن أو شروان كان عنده أن الحق له ، وكان عند عمر أن الحق ليس له ، وأقام عليه . وقال لعلي بن هشام : يا علي ، إياك وهذه الخصال ، فإن الملوك ، تحتمل كل شئ ما خلاهن : القدح في الملك ، وإفشاء السر ، والتعرض للحرم . وقال : ليس من توكل المرء إضاعته للحزم ، ولا من الحزم إضاعته للتوكل .
المعتصم
لما أقطع المعتصم أشناساً ضياع الحسن بن سهل ، وجه الحسن بقبالاتها إلى أشناس ، وكتب إليه : قد عرفت رأي أمير المؤمنين في إخلاصك بهذه الضياع ، وأحببت ألا تعرض على عقبك عقبى ، فأنفذت لك قبالاتها معتداً في قبولكها بإسباغ النعمة علي ، وادخار الشكر لدي ، ومتقرباً به إلى سيدي أمير المؤمنين ، فرأيك في الامتنان علي بقبولها موفقاً إن شاء الله . فلما قرأ الكتاب أنفذه إلى المعتصم ، فوقع فيه : ضيم فصبر ، وسلب فعذر ، فليقابل بالشكر على صبره ، وبالإحسان على عذره . وترد عليه ضياعه ، ويرفع عنه خراجه . ولا أؤامر فيه إن شاء الله . قال كاتب العباس بن المأمون : لما تقلد المعتصم الخلافة عرضت له ، فترجلت ، فلما بصر بي ، قال : هذا المجلس الذي لم تزل أكره الناس بحلولي به . قال : فتحيرت ، ولم أدر ما أقول ، ثم عن لي أن قلت : يا أمير المؤمنين ، انت تعفو عما تتيقنه ، فكيف تعاقب عما تتوهمه ؟ قال : فقال : لو أردت عقابك لتركت عتابك . وكان سبب خروجه إلى " سر من رأى " أن غلمان الأتراك كثروا ببغداد فتولعوا بحرم الناس وأولادهم ، فاجتمع إليه جماعة منهم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، ما أحد أحب إلينا مجاورة منك ، لأنك الإمام والمحامي عن الدين ، وقد أفرط غلمانك ، فإما منعتهم منا ، وإما نقلتهم عنا . فقال : نقلهم لا يكون إلا بنقلي ، ولكني أفتقدهم ، وأزيل ما شكوتهم . فنظر فإذا الأمر قد زاد وعظم ، وخاف أن يقع بينهم حرب ، وعاودوه بالشكوى ، وقالوا : إن قدرت على نصفتنا ، وإلا فتحول عنا . فقال : أتحول وكرامة فرحل إلى سر من رأى ، واتخذها داراً . وكان يقول : الفضل بن مروان عصى الله - عز وجل - وأطاعني ، فسلطني الله عليه . وذكر أنه كان معه غلام في الكتاب يتعلم معه ، فمات الغلام ، فقال له الرشيد : يا محمد ، مات غلامك . قال : نعم يا سيدي ، واستراح من الكتاب فقال الرشيد : وإن الكتاب ليبلغ منك هذا المبلغ ، دعوه إلى حيث انتهى ، ولا تعلموه شيئاً ، فكان يكتب كتاباً ضعيفاً ، ويقرأ قراءة ضعيفة . حكي عن الفضل بن مروان أنه قال : والله لقد كان المعتصم مؤيداً من عند الله في أموره كلها ، لقد رجع يوماً من محاربة الروم ، وقد سهر ليلته و بقي إلى العشاء ، ولم يطعم ولم يشرب ، فدخل إلى المأمون فعرفه خبره ، فبينما هو يخاطبه إذ صيح : السلاح السلاح ، واستفحل أمر الروم ، فقال له المأمون : ارجع يا أبا إسحاق إلى موضعك . فقال : نعم يا أمير المؤمنين . أمضي إلى مضربي وأركب من ثم ، فكان المأمون كره هذا منه ، ونكس رأسه ، واشتد عليه تأخيره لأمره ، ففطن المعتصم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الله عز وجل يقول : " كلا إن الإنسان ليطغى ، أن رآه استغنى " والله لقد رأيتني ومالي من الدواب إلا أربع ، ومن الغلمان إلا أربعة ، وإني لأقف على باب الحسن بن سهل سائر يومي ، وأتمنى أن يأمرني بأمر أنفذ فيه ، ولي من كل هذا اليوم ألوف بتفضل أمير المؤمنين ، وهو يأمرني بأمر فيه شرفي فأشترط عليه . أنا أمضي من وجهي هذا على هيئتي هذه . فضحك المأمون وقال : أدن إلي ، فدنا فقبل بين عينيه ، ودعا له بالظفر ، وخرج . قال بعضهم : سمعت المعتصم يقول : إذا نصر الهوى بطل الرأي . وقال لأحمد بن أبي دواد لما كان من لتياث العباس بن المأمون ما كان : يا أبا عبد الله ، أكره أن أحبسه فأهتكه ، واكره أن أدعه فأهمله . فقال : الحبس أصلح الله أمير المؤمنين ، فإن الاعتذار خير من الاغترار . وقيل ما رئي أشد تيقظاً في حرب من المعتصم ، كانت الأخبار ترد عليه من أرض بابل إلى " سر من رأى " في ثلاثة أيام على عتاق مضمرة ، قد أقام على كل فرسخ فرسخين . واحتاج الناس في حصار عمورية إلى ماء فمد لهم حياضاً من أدم عشرة أميال وغير ذلك ، مما سنذكر ذلك بعون الله . وقال الفضل بن مروان : كان المعتصم يختلف إلى علي بن عاصم المحدث ، وكنت أمضي معه إليه ، فقال يوماً : حدثنا عمرو بن عبيد وكان قدرياً فقال له المعتصم : يا أبا الحسن ، أما تروي : " أن القدرية مجوس هذه الأمة " ؟ قال : بلى . قال : فلم تروي عنه ؟ قال : لأنه ثقة في الحديث صدوق . قال : فإن المجوسي ثقة في الحديث صدوقاً فيما يقوله أتروي عنه ؟ فقال له علي : أنت شغاب يا أبا إسحاق . وقال : كتبنا إلى المأمون عن المعتصم بفتح مدينة ، فلما قرأنا الكتاب عليه قال : قل في أوله : وكتابي كتاب منه لخبر ، لا معتد بأثر ، فزدنا فيه . وقالوا : كان المعتصم من أشد الناس ، وكان يسمى ما بين أصبعيه : السبابة ، والوسطى : المقطرة . واعتمد بها مرة على ساعد إنسان فدقه . وكتب إليه ملك الروم كتاباً يتهدده فيه ، فأمر أن يكتب جوابه ، لما قرئ عليه لم يرضه ، وقال للكاتب : أكتب . بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد ، فقد قرأت كتابك ، والجواب ما ترى لا ما تسمع . " وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار " . ولما دخل إليه المازيار - وكان شديد الغيظ عليه - قيل له : لا تعجل عليه ، فإن عنده أموالاً جمة ، فأنشد بيت أبي تمام : إن الأسود أسود الغاب همتهايوم الكريهة في المسلوب لا السلب ولما قبض على عجيف ، وقتله بعد قتل العباس بن المأمون بمديدة ، وقد كان المأمون قال لعجيف : قد خفت على نفسي فاكتم علي . فوشى به إلى المعتصم فلما حبسه قال له : اصطنعك المأمون فأفشى إليك كلمة ، فلم تحفظها عليه ، حتى نممتها إلي . قال ابن أبي دواد : كان المعتصم يقول لي : يا أبا عبد الله ، عض ساعدي بأكثر قوتك . فأقول : والله يا أمير المؤمنين ، ما تطيب نفسي بذلك ، فيقول : إنه لا يضرني فأروم ذلك ، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة ، فكيف الأسنان .
ويقال : أنه طعنه بعض الخوارج ، وعليه جوشن ، فأقام المعتصم ظهره فقصف الرمح . قال إسحاق الموصلي : سمعته يقول : من طلب الحق بما هو له وعليه أدركه .
الواثق
قيل : إنه لما مات إبراهيم بن المهدي ركب المعتصم حتى صلى عليه ، ثم قال الواثق : أقم يا بني حتى تجنه . وقيل: بل لم يصل عليه تحرجاً ، وأمر الواثق بالصلاة عليه ، فسأل عن وصيته ، فوجده قد أمر بمال عظيم أن يفرق على أولاد الصحابة كلهم اولاد علي رضي الله عنه ، فقال الواثق : والله لولا طاعة أمير المؤمنين لما وقفت عليه ، ولا انتظرت دفنه . ثم انصرف وهو يقول : ينحرف عن شرفه وخير أهله والله لقد دليته في قبره كافراُ ، وأمر ففرق في ولد علي - رضي الله عنه - مالاً فاضلاً ، فأصاب كل رجل منهم ضعف ما أصاب غيرهم من وصيته . نظر الواثق إلى أحمد بن الخصيب يمشي فتمثل : من الناس إنسانان ديني عليهما . . . مليان لو شاءا لقد قضياني خليلي ، أما أم عمرو فمنهما . . . وأما عن الأخرى فلا تسلاني قال فبلغ ذلك سليمان بن وهب ، فقال : إنا لله ، أحمد بن الخصيب أم عمرو ، وأنا الأخرى ، فنكبهما بعد أيام . غنى مخارق في مجلس الواثق : أظلم ، إن مصابكم رجل . . . أهدى السلم بحبكم ؟ ظلم فغناه رجل فتابعه بعض ، وخالفه آخرون ، فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين بالبصرة، فذكر له أبو عثمان المازني ، قال : فأمر بحملي ، وإزاحة علتي فلما وصلت إليه وسلمت قال : ممن الرجل ؟ قلت : من بيني مازن . قال : أمن مازن قيس ، أم مازن تميم ، أم مازن ربيعة ، أم مازن اليمن ؟ فقلت : من مازن ربيعة . فقال لي : ما اسمك ؟ يريد : ما اسمك ؟ قال : وهي لغة كثيرة في قومنا ، فقلت على القياس : مكر ، أي بكر ، يا أمير المؤمنين ، فضحك وقال : اجلس واطبئن . فجلست ، فسألني عن البيت ، فأنشدته : ؟ ؟ أظليم ، إن مصابكم رجلاً . فقال : أين خبر إن ؟ قلت : ظلم . أما ترى يا أمير المؤمنين أن البيت كله متعلق به ، لا معنى له حتى يتم بهذا الحرف ، إذا قال : " أظليم إن مصابكم رجلاً . . . أهدى السلام إليكم " . فكأنه ما قال شيئاً ، حتى يقول : ظلم . قال : صدقت . ألك ولد ؟ قلت : بنية . قال : فما قالت حين ودعتها ؟ قلت : أنشدت شعر الأعشى : تقول ابنتي حين جد الرحيل . . . أرانا سواءً ومن قد يتم أبانا ، فلا رمت من عندنا . . . فإنا بخيرٍ إذا لم ترم قال : فما قلت لها ؟ قال: قول جرير : ثقي بالله ليس له شريك . . . ومن عند الخليفة بالنجاح فقال : ثق بالنجاح إن شاء الله . ثم أمر له بألف دينار وكسوة و طيب . وكان الواثق عالماً بكل شيء ، وله صنعة حسنة في الغناء ، وكان يسمى المأمون الصغير ، لأدبه وفضله ، وكان المأمون يجلسه ، وأبوه المعتصم واقف . وكان يقول : يا أبا إسحاق لا تؤدب هارون ، فأنى أرضى أدبه ، ولا تعترض عليه في شئ يفعله . قال حمدون : ما كان في الخلفاء أحلم من الواثق ، ولا أصبر على أذى وخلاف . كان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوري ، فوجد المسدود من ذلك ، فكان يبلغه عنه ما يكره ، فيتجاوزه . وكان المسدود قد هجاه ببيتين كانا معه في رقعة ، وفي رقعة أخرى حاجة له يريد أن يرفعها إليه ، فناوله رقعة الشعر ، وهو يرى أنها رقعة الحاجة ، فقرأها الواثق ، فإذا فيها : من المسدود في الأنف . . . إلى المسدود في العين أنا طبلٌ له شق . . . فيا طبلاً بشقين فلما قرأ الرقعة علم أنها فيه ، فقال للمسدود : قد غلطت بين الرقعتين فاحذر أن يقع مثل هذا عليك . ما زاده على هذا القول شيئاً ، ولا تغير له عما كان عليه . دخل هارون بن زياد مؤدبه عليه ، فأكرمه وأظهر من بره ما شهره به ، فقيل له : يا أمير المؤمنين : من هذا الذي فعلت به ما فعلت؟ قال : هذا أول من فتق لساني بذكر الله ، وأدناني من رحمته . قال يحيى بن أكثم : لم يحسن أحد من خلفاء بني العباس إلى آل أبي طالب إحسان الواثق ، ما مات وفيهم فقير . وقال بعضهم : كنا في دار الواثق ، فرفع إليه أن رجلاً ممن يعطي الجند أرزاقهم سأل بعض الجند أن يقدمه ، وألح عليه فأبى وقال : إني أستشفع عليك . فقال : شفع لك النبي محمد - ( صلى الله عليه وسلم ) - ما شفعته . قال : فرأيت الواثق يرتعد غيظاً ، وأمر بإحضار الرجل فأدخل . فقال للذي قرفه : قل ما قلت في وجهه ، فأعاد ، فتلوى الرجل ساعة وأنكر ، فقال الواثق : لولا أن في خطأ لفظك إشارة إلى صواب معناك في الإقرار بالنبوة ، واستعظامك ، ووضعك رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - في غاية التمثيل ، لمثلت بك ، ولكن أبطحوه ، فضربه إيتاخ بيده ثمانين سوطاً ، فقال له وهو يضربه : يا أمير المؤمنين ، أتضربني بشهادة واحد ؟ فقال : والله لو شهد عليك اثنان لقتلتك ، والله لا عملت لي عملاً أبداً . قال الواثق لابن أبي دواد ، وقد رجع من صلاة العيد : هل حفظت من خطبتي شيئاً ؟ قال : نعم ، قولك يا أمير المؤمنين : " ومن اتبع عن هواه شرد عن الحق منهاجه ، والناصح من نصح نفسه ، وذكر ما سلف من تفريطه ، فطهر من نيته، وثاب من غفلته ، فورد أجله ، وقد فرغ من زاده لمعاده ، فكان من الفائزين " .
المتوكل
قال يزيد المهلبي : أنس بي أمير المؤمنين في سبعة أيامٍ فوق أنس محمدٍ كان بي في سبع سنين . فقال : إنما أنست بك في سبعة أيام لأنس محمد كان بك في سبع سنين . قيل للمتوكل : لم تقلد الحسن بن وهب ديوان الرسائل . قال : أخاف أن يحيض في الديوان . قال علي بن يحيى : تغديت مع المتوكل ، فقدم لون كان اشتهاه ، فوجد فيه ذبابة ، فألقاها وأكل ، ثم وجد أخرى وأخرى ، فلما رفع من بين يديه قال : أعيدوا علينا هذا اللون غداً ، وليكن أقل ذباباً مما هوا اليوم . وكان ولد له تسعة بنين قد سماهم بأسماء الصحابة ، فولد له مولود آخر ، فقالوا : ما تسميه ؟ قال : سموه عبد الرحمن بن عوف . وذكر عنده أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ؛ فقال : لا والله ما ينزل في حلقي . فقال له بعض ندمائه : ولم ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال : يقال - والله أعلم - : إنه كان رافضياً .
حكى عنه أحمد بن يزيد المهلبي ، قال : قال يوماً : يا مهلبي ، إن الخلفاء كانت تتصعب على الرعية لتطيعها ، وأنا ألين لهم ليحبوني ويطيعوني . قيل : أقبل المتوكل يوماً ، فقام الناس من بعيد ، ولم يقم المنتصر حتى قرب منه ، ففكر المتوكل وتمثل : هم سمنوا كلباً ليأكل بعضهم . . . ولو أخذوا بالحزم لم يسمن الكلب وقال أحمد بن يزيد : حضرت المتوكل يوماً وعبيد الله بن يحيى يقول له : قد قدمت رسل الطاغية بكتابه ، وهو يعظم أمير المؤمنين ، ويسميه - إذا ذكره - السيد ، وسأل وضع الحرب أربع سنين ، وأهدى بقيمة خمسمائة ألف درهم ، فبأي شئ تجيبه ؟ قال : أجبه بأن رسولهم نهاهم عن الحرب ، وأن رسولنا أمرنا بالحرب ، ولا سبيل إلى وضعها إلا بإعطاء الجزية ، فإن أحب أن أخففها عنهم فعلت . وأعلمه بأني أرق عليه ، لأنه بلغني أنه في سن محمد - يعني المنتصر - وأضعف له الهدية ، وأكثر له مما يستطرف في بلاده . كان يقول : إني لأكون غضباناً على إنسان ، فيبلغني أن الفتح راضٍ عنه فأرضى ، وكذلك إن كنت راضياً فبلغني أنه غضبان غضبت . وقال أحمد بن يزيد ، قال لي المتوكل يوماً : يا أحمد ، ثيابك في رزمة لا في تخت ، قلت : كذاك هي . قال : لا تفعل ، فإنها في التخت أبقى وأنقى ، بان ذلك لي في تكسيرها . قال إبراهيم بن المدبر ، قال المتوكل : إذا خرج توقيعي إليك بما فيه مصلحة للناس ، ورفق بالرعية فأنقذه ، ولا تراجعني فيه ، وإذا خرج بما فيه حيف على الرعية فراجعني ، فإن قلبي بيد الله عز وجل . بلغ المتوكل أن أحمد بن حمدون النديم يحمل رقاع الفتح إلى خادمه فائز ، فأعد له حجاماً ، وأوصاه بما يريد ، فلما جلس أحمد مع الجلساء قال : يا أحمد ، ما جزاء من أفسد غلام فتى ؟ قال : تقطع أذنه ، فدعا بالحجام ، فقطع من أذنه قطعة ، وإنما قال له هذا لأنه كان يحدثه كثيراً بحديث الفتيان والعيارين ويتنادر بذلك بين يديه ، ثم نفاه إلى بغداد إلى أن كلمه الفتح فيه ، فرضي عنه .
المنتصر
قال : لذة العفو أطيب من لذة التشفي ؛ وذلك لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة ، ولذة التشفي يلحقها ذم الندم . ولما تمت له البيعة كان أول شئ عمله أن عزل صالح بن علي عن المدينة ، وولاها علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد ، وقال له : إنما وليتك لتخلفني في بر آل أبي طالب ، وضاء حوائجهم ، ورفعها إلي ، فقد نالتهم جفوة ، وخذ هذا المال ففرقه على أقدارهم . فقال له علي بن الحسين : سأبلغ بعون الله رضا أمير المؤمنين ، فقال : إذاً تسعد بذلك عند الله وعندي . قال بعضهم : سمعته يوماً وهو يناظر قوماً : والله لا عز وفر باطل ، ولو طلع من جبينه القمر ، ولا ذل ذو حق ، ولو كان العالم عليه . قال بعضهم : سمعت بغا الكبير يقول : ما مشيت بين يدي خليفة أهيب من المنتصر ، وقد كان مشيي بين يدي المأمون ، والمعتصم ، والواثق ، والواثق والمتوكل . قال أحمد بن الخطيب : سمعت المنتصر لما عفا عن الشاري يقول : أحسن أفعال القادر العفو ، وأقبحها الانتقام .
المستعين
قيل : لما جئ بكتاب الخلع إليه ، وقيل له : وقع بخطك فيه ، أخذ الكتاب فابتدأ ابن أبي الشوارب يملي عليه ، فقال له المستعين : أمسك عافاك الله ، ثم كتب : أقر أحمد بن محمد ابن أمير المؤمنين المعتصم بالله : " أنه قد بايع أبا عبد الله المعتز بالله ، هذه البيعة المنسوخة في هذا الكتاب ، موجباً على نفسه كل الشرائط المثبتة فيه ، والعهود المؤكدة . وأشهد الله وملائكته على جميع ذلك ، وأشهد من حضر ، وكفى بالله شهيداً " . قال : فعجب الناس من فهمه وبلاغته. وقال الحسن بن أبي الشوارب : يا أمير المؤمنين ، أشهد عليك بما في هذا الكتاب ؟ قال : نعم خار الله لك يا أبا العباس .
المعتز
قال الزبير : لما وفدت على المتوكل قال لي : أدخل إلى أبي العباس يعني المعتز ، فدخلت إليه وهو صبي فحدثته وأنشدته فسألني عن الحجاز وأهله ، ثم نهضت لأنصرف فعثرت فسقطت ، فقال لي المعتز : يا زبير : كم عثرة لي باللسان عثرتها . . . تفرق من بعد اجتماع من لاشمل يموت الفتى من عثرة بلسانه . . . وليس يموت المرء من عثرة الرجل قال أحمد بن وزير البصري : ما رأيت أحسن وجهاً من المعتز ولا أبلغ خطاباً ، قال لي لما ولاني القضاء ، يا أحمد قد وليتك القضاء وإنما هي الدماء والفروج والأموال ينفذ فيها حكمك ولا يرد أمرك ، فاتق الله ، وانظر ما أنت صانع .
لما جئ إليه بأمان وصيف و بغا من بغداد على دمائهم وأموالهم وأجاز ذلك ، وقع بخطه بين الأسطر : خلا ما فيها من حق لمسلم أو معاهد .
المهتدي
كان يقول : لو لم يكن الزهد في الدنيا ، والإيثار للحق ، مما لطف الله تعالى لي فيهما ، ووققني لهما ، وإني لأرجو بذلك الفوز يوم القيامة ، لتصنعت بما أفعله للناس ، لئلا يكون مثل عمر بن عبد العزيز في خلفاء بني أمية ، ولا يكون في خلفاء بني هاشم بعدهم مثله ، وهم من رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - أقرب . قال بعضهم : سمعته يوماً يقول لعيسى بن فرخانشاه : عاون على الخير تسلم ، ولا تجزه فتندم . فقيل له : إن هذا بيت شعرٍ . قال : ما تعمدت ذلك ، ولكني رويت قول الشاعر : تعاون على الخيرات تظفر ، ولا تكن . . . على الإثم والعدوان ممن يعاون وجلس يوماً للمظالم ، فرفع إليه في الكسور ، فسأل الكتاب عنها ، فأخبر بها ، فقال : معاذ الله أن ألزم الناس ظلماً تقدم العمل به أو تأخر . أسقطوا هذا الظلم ، وهذه الكسور على الناس ، فقام الحسن بم مخلد . فقال : إن أسقط أمير المؤمنين هذا ذهب من مال السلطان في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم - ومد بها صوته - فقال له المهتدي : قد عرفت مذهبك في هذا ، وتحريضك الموالي بما ينقص من أمالهم ، وما أمتنع من أن أقيم حقاً لله ، وأزيل مظلمة قد تقدمت بها الأيام ، ولو كان في ذلك كل حيف على بيوت الأموال ، ولو نظر الموالي أمرك ، وأمر نظرائك لأخذوا منك ما خوفتهم أن يذهب مقداره من أموالهم . فارتعد الحسم وأبلس ، ثم كلم المهتدي بعد ذلك فيه فترجع إليه. وتظلم إليه رجل من بعض أسبابه ، فأحضره ، وحكم عليه بما صح عنده ، فقام الرجل وشكر ، وقال : أنت والله يا أمير المؤمنين كما قال الأعشى : حكمتموه ، فقضى بينكم . . . أبلج مثل القمر الباهر لا يقبل الرشوة في حكمه . . . ولا يبالي غبن الخاسر فقال المهتدي : أما أنت فأحسن الله جزاءك ، وأما شعر الأعشى فما رويته ، ولكني قرأت اليوم قبل خروجي إلى المجلس قول الله عز وجل : " ونضع الموازين القسط يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً ، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ، وكفى بنا حاسبين " فما بقي أحدٌ في المجلس إلا بكى .
المعتمد
قال محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان : بعثني أبي ألى المعتمد في شئ ، فقال لي : اجلس . فاستعظمت ذلك ، فأعاد ، فاعتذرت بأن ذلك لا يجوز ، فقال لي : يا محمد ، إن أدبك في القبول مني خيرٌ من أدبك في خلافي . وقال يوماً لبعض ندمائه : إذا عدم أهل التفضل ، هلك أهل التجمل . قال بعض جلسائه : كنا بين يديه ليلة فحمل عليه النبيذ ، فجعل يخفق نعاساً . وقال : لا تبرحوا أنتم ، ثم نام مقدار نصف ساعة ، وانتبه كأنه ما شرب شيئاً ، فقال : أحضروني من الحبس رجلاً يعرف بمنصور الجمال . فأحضر ، فقال : مذ كم أنت محبوس ؟ فقال : مذ ثلاث سنين. قال : فاصدقني عن خبرك . قال : أنا رجل من أهل الموصل ، كان لي جمل أحمل عليه ، وأعود بأجرته على عيلتي، فضاق المكسب بالموصل علي ، فقلت : أخرج إلى سرمن رأى ، فإن العمل ثم أكثر ، فخرجت ، فلما قربت منها إذا جماعة من الجند قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق قد كتب صاحب البريد بخبرهم ، وكانوا عشرة ، فأعطاهم واحد من العشرة مالاً على أن يطلقوه ، فأطلقوه ، وأخذوني مكانه ، وأخذوا جملي ، فسألتهم بالله ، وعرفتهم خبري ، فأبوا ، وحبسوني معهم ، فمات بعضهم وأطلق بعضهم ، وبقيت وحدي . فقال المعتمد : أحضروني خمسمائة دينار ، فجاءوا بها ، فقال : ادفعوها إليه . فأخذها ، وأجرى له ثلاثين ديناراً في كل شهر ، وقال : اجعلوا إليه أمر جمالنا . ثم أقبل علينا ، فقال : رأيت الساعة النبي - ( صلى الله عليه وسلم ) - في النوم ، فقال : يا أحمد وجه الساعة إلى الحبس ، فأخرج منصوراً الجمال فإنه مظلوم ، وأحسن إليه ، ففعلت ما رأيتم ، ونام .
المعتضد
حدث العلاء بن صاعد قال : لما حمل رأس صاحب البصرة ركب المعتضد في جيش لم ير مثله ، فاشتق أسواق بغداد ، والرأس بين يديه ، فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب : رحم الله معاوية ، وزاد حتى علت أصواتهم ، فتغير وجهه وقال : أما تسمع يا أبا عيسى ؟ ما أعجب هذا ما ذكر معاوية في هذا الأمر ؟ والله لقد بلغ أبي الموت ، وما أفلت أنا منه إلا بعد مشارفته ، ولقينا كل جهد وبلاء ، حتى أرحناهم من عدوهم ، وحصنا حرمهم وأموالهم . تركوا أن يترحموا على العباس ، أو عبد الله بن العباس ، أو من ولد من الخلفاء ، وتركوا الترحم على أمير المؤمنين علي ، وحمزة وجعفر والحسن والحسين ، والله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثراً لا يعاودون بعده مثله .
ثم أمر بجمع النفاطين لتحريق الناحية ، فقلت : أيها الأمير ، هذا من أشرف أيام الإسلام فلا تفسده بجهل غلمة لا أخلاق لهم ، ولم أزل أداريه وأرفق به حتى سار . لما ولى المعتضد حسنت آثاره ، وأمر بالزيادة في المسجد الجامع بالمدينة ، وأمر بتسهيل عقبة حلوان . وأنفق عليها نيفاً وعشرين ألف دينار ، وأمر برد المواريث على ذوي الأرحام، وأخر النيروز ، واستبد الخراج إلى وقت إدراك الغلات ، وعمر الدنيا ، وضبط الأطراف ، وأحسن السياسة . وقيل : إنه أفضت إليه الخلافة وليس في الخزانة إلا سبعة عشر درهماً زائفة ومات وخلف ما يزيد على عشرين ألف ألف دينار . لما مات عبيد الله بن سليمان وزيره استعان ابنه القاسم ببدر ، ليوليه مكان أبيه فسأل المعتضد في بابه وألح ، فقال : يا أبا النجم ، هذه عشرة آلاف ألف دينار من تركته ، خذ نصفها ، فقال : يا مولاي ، إذا فعلت ما أريد فقد أعطيتني كلها . فقال : قد أجبتك ، فاغد به غداً ، فوالله لا يقتلك غيره ، فلست أعرف بالقوم مني، فكان الأمر على ما ظنه وقاله . وقال مرة : يتحدث الناس بأني بخيل ، وقد نصبت لهم بدراً يفرق عليهم ما أجمع ، وقد وهبت له منذ أيام عشرة ألاف ألف درهم ، لو أردتها ما تأخر عني منها درهم واحد ، ولكني والله لا أحب أن أهب قليلاً ، ولا يحتمل الحال الذي دفعت إليه الكثير . قال : كان الحسن بن زيد يوجه من طبرستان في كل سنة بمالٍ يفرق على الطالبين سراً ، واحتذى ذلك بعده محمد بن زيد أخوه ، فبلغ ذلك المعتضد ، فوجه إلى علي بن محمد القطان الذي كان المال يصل إليه ، وقال : لم يبعث هذا سراً ؟ الصواب أن يشهر ليرغب الناس في فعل مثله ، ويكثر الدعاء لفاعله . لما قصد المعتضد الأعراب فصار في وسط بيوتهم ، وهوفي عدد يسير حتى لحقه بدر قيل له: لو عرفك الأعراب فأقدموا عليك كيف كانت تكون حالك ، وحال الناس ؟ فقال : لو عرفوني لتفرقوا ، أما علمتم أن الرصافية وحدها عشرون ألفاً .
قال بعضهم أنشد المعتضد : وما الأدب الموروث لا در دره . . . إذا لم تؤيده بآخر مكتسب فكان بعد ذلك إذا رأى هاشمياً لا أدب له ينشد البيت ، ويقول : الآداب خير من الأنساب ، والأعمال خيرٌ من الأموال . ولما خرج راعياً إلى الثغر قال : أنا أرغب الناس في خدمتك على بابك . فقال : أنا فيك ضد اسمك . وقال مرة : عجائب الدنيا ثلاث ، اثنان لايريان ، وواحدة ترى ، فأما اللتان لا تريان فعنقاء مغربٍ ، والكبريت الأحمر ، وأما التي ترى فابن الجصاص . حدث بعض الكتاب قال : حضرت يوماً دار الموفق فرأيته ، وبين يديه أبو العباس ابنه المعتضد بالله ، وهو يقول : قد فرقت الرجال من المستأمنة وغيرهم على راشد ، ووصيف ، وراغب ، ويأنس ، وتركتني لم تضمم إلي منهم أحداً . فقال له الموفق : إن من معك من الرجال فيه كفاية لك ، ولست تحتاج إلى أكثر منهم . فقال له : كأنك استكثرت لي من معي . والله ما ولد العباس بن عبد المطلب مثلي ، ولا يولد له أيضاً . فقال له أبوه : صدقت . إنك كذلك ، ولهذه العلة لم أزدك على ما معك من الرجال .
المكتفي
نظر إلى رأس صاحب الزنج ، وقد أخرج إليه من الخزانة ، فقال : لعنه الله ، فإنه عدا على الأنساب ، كما عدا على الأسلاب .
المقتدر
حكي أن علي بن عيسى الوزير كتب عنه كتاباً إلى ملك الروم ، فلما عرض عليه . قال : فيه موضع يحتاج إلى إصلاح ، فسألوه عن ذلك - وكان قد كتب في الكتاب : " إن قربت من أمير المؤمنين قرب منك ، وإن بعدت بعد عنك " - فقال : ما حاجتي إلى أن أقرب منه ؟ كتبوا : " إن قربت من أمير المؤمنين قربك ، وإن بعدت بعدك " . ولم يعرف للمقتدر مثل هذا الكلام ، ولا مثل هذه الفطنة ، وقد ذكرناه على ما حكي ، وهو بكلام غيره من الخلفاء أشبه .
الراضي
لما استوزر ابن البريدي ، وهو غائب عن حضرته ، وأجابه إلى مقترحاته ، قال الراضي كالآنف من طرحه الوزارة على من يشترط فيها : إن الوزارة قطعة من الخلافة ، ووهنها وهن الخلافة . واستكتبت الفضل بن جعفر وكان كاتباً من بيت كتابة وكان نائباً عني فحسن أثره ، وما نالته مهنة من أصحاب بجكم تضع من الوزارة ، فلما توفي نظرت إلى من بالحضرة ، فإذا هم من قد عرفت ، وإن علقت هذا الاسم بواحد منهم لم يمض عليه أسبوع حتى يسأل ما لا يقدر عليه ، ويمتهن كل الإمتهان . فنظرت إلى أن أرفع من اعلمه في الزمان ، ممن يسلم من هذا ، ويبعد عنه ، فلم أجد غير ابن البريدي ، فاستكتبته لهذه العلة ، وليبقى اسم الوزارة على حال صيانة ورفعة .
إبراهيم بن المهدي
كتب إلى أحمد بن يوسف الكاتب : لعن الله زماناً أخرك عمن لا يساوي كله بعضك .
وقال محمد بن راشد : سألني إبراهيم بن المهدي عن رجل ، فقلت : يساوي فلسين . فقال : زدت في قيمته درهمين . وكتب إلى صديق له : لو عرفت فضل الحسن لتجنبت القبيح وأنا وإياك كما قال زهير : رذي خطلٍ في القول يحسب أنه . . . مصيب ، فما يلمم به فهو قائله عبأت له حلمي ، وأكرمت غيره . . . وأعرضت عنه ، وهو باد مقاتله ومن إحسان الله إلينا ، وإساءتك إلى نفسك أنا صفحنا عما أمكننا ، وتناولت ما أعجزك .
فصلٌ له
لم يبق لنا بعد هذا الحبس شئ نمد أعينننا إليه إلا الله ، الذي هو الرجاء قبله ومعه وبعده .
فصل آخر له
أما الصبر فمصير كل ذي مصيبة ، غير أن الحازم يقد ذلك عند اللوعة ، طلباً للمثوبة ، والعاجز يؤخر ذلك إلى السلوة ، فيكون مغبوناً نصيب الصابرين ولو أن الثواب الذي جعل الله لنا على الصبر كان لنا على الجزع لكان ذلك أثقل علينا ، لأن جزع الإنسان قليل ، وصبره طويل ، والصبر في أوان الجزع أيسر مئونة من الجزع بعد السلوة ، ومع هذا فإن سبيلنا في أنفسنا على ما ملكنا الله منها ألا نقول ولا نفعل ما كان مسخطاً لله ، فأما ما يملكه الله من حسن عزاء النفس ، فلا نملكه من أنفسنا . وكتب إلى طاهر : زادك الله للحق قضاءاً ، وللشكر أداء . بلغني رسول عنك ما لم أزل أعرفه منك ، والله يمتعني بك ، ويحسن في ذلك عني جزاءك ومع ذلك فإني أظن أني علمتك الشوق، لأني ذكرته لك ، فهيجته منك . والسلام .
فصل آخر
وما الحق إلا حق الله ، فمن أداه فلنفسه ، ومن قصر عنه فعليها . نسأل الله أن يعمرنا بالحق ، ويصلحنا بالتوفيق ويخصنا بالتقوى .
فصل آخر له
وصلني كتابك السار المؤنس ؛ فكان أسر طالع إلي ، وأحسنه موقعاً مني ، إذ كنت أستعلي بعلوك ، وأرى نعمتك تنحط إلي ، ويتصل بي منها ما يتصل بالأدنين من لحمتك ، وحملة شكرك ومظان معروفك ، والمقيمين على تأميلك، فلا أعد مني الله ما منحني منك ، ولا أزال عني ظلك ، ولا أفقدني شخصك . وكتب إلى المأمون : لولا أن يدي أشجع عليه من لساني لشافهته بحاجتي . ولما أدخل على المأمون عند الظفر به سلم عليه ، وقال : يا أمير المؤمنين ، ولي الثأر محكم في القصاص ، والعفو أقرب للتقوى ، ومن مد له في الأناة حسن عنده الذنب ، وقد جعلك الله فوق كل ذى ذنب كما جعل كل ذي ذنب دونك ، فإن عاقبت فبحقك ، وإن عفوت فبفضلك . فقال المأمون : يا إبراهيم ، إني شاورت العباس ابني ، وأبا إسحاق أخي في أمرك ، فأشارا علي بقتلك إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك ، فكرهت القتل للازم حرمتك . فقال : يا أمير المؤمنين ، قد نصح المشير لما جرت به العادة في السياسة ، وحياطة الخلافة إلا أنك أبيت أن تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو ، فإن عاقبت فلك نظير ، وإن عفوت فلا نظير لك ، فإن جرمي أعظم من أن أنطق فيه بعذر ، وعفو أمير المؤمنين أجل من أن يفي به شكر . فقال المأمون : مات الحقد عند هذا العذر . فاستعبر إبراهيم ، فقال المأمون : ما شأنك ؟ قال : الندم ، إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام علي ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، إنه وإن بلغ جرمي استحلال دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغاني عفوه ، وإن لي لشفعة الإقرار بالذنب وحق العمومة بعد الأب فلا يسقط عن كرمك عمك ، ولا يقع دون عفوك عندك . فقال له المأمون : لو لم يكن في حق نسبك حق الصفح عنك لبلغك ما أملت حسن تنصلك ، ولطف توصلك . ثم أمره بالجلوس ، وقال له : ما البلاغة يا إبراهيم ؟ قال : أن يكون معناك يجلي عن مغزاك . فقال المأمون : هذا كلام يشذر بالذهب ، لقد أذهب به وغراً كان في صدري عليه .
عبد الله بن المعتز
كتب إلى بعض إخوانه : لو كنت أعلم انك تحب معرفة خبري لم أبخل به عليك ، ولو طمعت في جوابك لسألت عن خبرك ، ولو رجوت العتبى منك لأكثرت عتابك ، ولو ملكت الخواطر لم آذن لنفسي في ذكرك . ولولا أن يضيع وصف الشوق لأطلت به كتابي ، ولولا أن عز السلطان يشغلك عني لشغلت به سروري ، والسلام . وكتب يذم رجلاً: ذكرت حاجة أبي فلان المكنى ليعرف ، لا ليكرم ، فلا وصلها الله بالنجاح ، ولا يسر بابها للانفتاح ، وذكرت عذراً نضح به عن نفسه ، فوالله ما نضح عنها لكنه نضح عليها ، وأنا والله أصونك عنه ، وأنصح لك فيه ، فغنه خبيث النية ، متلقف للمعايب مقلب للسانه بالملق ، شائن بالتخلق وجه الخلق ، موجود عند النعمة ، مفقود عند الشدة، قد أنس بالمسألة ، وضري بالرد ، فلا تعق عقلك باختياره ، ولا توحش النعمة بإذلالها له . وقال ابن المعتز : الخضاب من شهود الزور . ولعبد الله بن المعتز آداب مجموعة ، وحكم تمر أكثرها في كلام المتقدمين ، وفيها نوادر من كلام أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وغيره ، وقد اخترت بعضها ، وأوردته هذا المكان ، فمنها : إعادة الاعتذار تذكير بالذنب في العواقب شاف أو مريح . العقل غريزة تربيها التجارب . النصح بين الملإ تقريع . أقم الرغبة إليك مقام الحرمة بك ، وعظم نفسك عن التعظم ، وتطول ولا تتطاول . الأمل رفيقٌ مؤنسٌ ؛ إن لم يبلغك فقد استمتعت به . لا يقوم عز الغضب بذل الاعتذار . الشفيع جناح الطالب . إن بقيت لم يبق الهم . لا تنكح خاطب سرك . من زاد أدبه على عقله كان كالراعي الضعيف مع غنم كثيرة . الدار الضيقة العمى الأصفر . إذا هرب الزاهد من الناس فاطلبه ، وإذا طلبهم فاهرب منه . النمام جسر الشر . لا تشن وجه العفو بالتقريع . إذا زال المحسود عليه علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شيءٍ . العجر نائمٌ ، والحزم يقظان . من تجرأ لك تجرأ عليك . ما عفا عن الذنب من قرع به . أمر المكاره ما لم يحتسب . عبد الشهوة أذل من عبد الرق . لا ينبغي للعاقل أن يطلب طاعة غيره ، وطاعة نفسه عليه ممتنعة . الناس نفسان : واجدٌ لا يكتفي ، وطالب لا يجد . ذل العزل يضحك من تيه الولاية . كلما كثر خزان الأسرار ازدادت ضياعاً . بشر مال البخيل بحادثٍ أو وارثٍ . الحاسد مغتاظٌ على من لا ذنب له ، بخيل بما لم لا يملكه . من أكثر المشورة لم يعدم عند الصواب مادحاً ، وعند الخطأ عاذراً . من كثر حقده قل عتابه ، وما أكثر من يعاتب ليطلب علة للعفو . الحازم من لم يشغله البطر بالنعمة عن العمل للعقبة ، والمهم بالحادثة عن الحيلة لدفعها . كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد قبحاً فيها . بالمكاره تظهر حيل العقول .
من قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم ، ولولا من يقبل الجود لك يكن من يجود . العالم يعرف الجاهل ، لأنه قد كان جاهلاً ، والجاهل لا يعرف العالم ، لأنه لم يكن عالماً . حسبك من عدوك ذله في قدرتك . إخوان السوء كشجرة النار يحرق بعضها بعضاً . كفى بالظفر شفيعاً للمذنب إلى الحليم . زلة العالم كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير . أوهن الأعداء كيداً أظهرهم لعداوته . من مدحك بما ليس فيك فحقيق أن يذمك بما ليس فيك . أبق لرضاك من غضبك ، وإذا طرت فقع قريباً . لا تلتبس بالسلطان في وقت اضطراب الأمور عليه ، فإن البحر لا يكاد يسلم صاحبه في حال سكونه ، فكيف لا يهلك مع اختلاف رياحه ، واضطراب أمواجه ؟ النفس المتفردة بطلب الرغائب وحدها تهلك . فساد الرعية بلا ملك كفساد الجسم بلا روحٍ . إذا خلي عنان العقل ، ولم يحبس على هوى نفسٍ أو عادة دينٍ أو عصبيةٍ لسلف ، ورد بصاحبه على النجاة . لا تسرع إلى أرفع موضع في المجلس ، فالموضع الذي ترفع إليه خير من الموضع الذي تحط عنه . إذا زادك الملك تأنيساً فزده إجلالاً . الغضب يصدئ العقل حتى لا يرى صاحبه فيه صورة حسنٍ فيفعله ولا قبيحٍ فيجتنبه . من تكلف مالا يعنيه فاته ما يعنيه . الحاسد يظهر وده في اللقاء ، وبغضه في المغيب ، واسمه صديق ، ومعناه عدو . السامع للغيبة أحد المغتابين . لا راحة لحاسد ، ولا حياء لحريص . المسئول حر حتى يعد ، ومسترق بالوعد حتى ينجز . لو تميزت الأشياء كان الكذب مع الجبن ، والصدق مع الشجاعة ، والراحة من اليأس ، والتعب مع الطمع ، والحرمان مع الحرص ، والذل مع الدين . المعروف إليك غلٌ لا يفكه عنك إلا شكرٌ أو مكافأة . لم يكتسب مالاً من لا يصلحه كثرة مال . الميت يعزي ورثته عنه . من كرمت عليه نفسه هان عليه ماله . من كثر مزاحه لم يسلم من استخفاف به ، أو حقد عليه . كثرة الدين تضطر الصادق إلى الكذب ، والمنجز إلى الإخلاف . لن يستطيع أحد أن يشكر الله تعالى على نعمة بمثل الإنعام بها . عار النصيحة يكدر لذتها . رب صديق يؤتى من جهله لا من نيته . أول الغضب جنون ، وآخره ندم . انفرد بسرك ، ولا تودعه حازماً فيزل ، ولا جاهلاً فيخون . علم الإنسان ولده المخلد . المعروف رقٌ ، والمكافأة عتقٌ ؛ ليكن الأنس أغلى أعلاق مودتك ، وأبطأها عرضاً على صديقك . لا تقطع أخاك إلا بعد عجز الحيلة عن استصلاحه ، ولا تتبعه بعد القطيعة وقيعة فيه ، فتسد طريقه عن الرجوع إليك ، ولعل التجارب أن ترده إليك ، وتصلحه لك . من أحس بضعف حيلته عن الاكتساب بخل . الأمانة رأس مال الجاهل . الجاهل صغيرٌ إن وكان شيخاً ، والعالم كبير وإن كان حدثاً . الميت يقل الحسد له ، ويكثر الكذب عليه . الحرص ينقص من قدر الإنسان ، ولا يزيد في حظه . إذا نزلت بك النعمة فاجعل قراها الشكر . الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود . أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه . لا تعاجل الذنب بالعقوبة ، واجعل بينهما للاعتذار طريقاً . أحرس منزلتك من الفساد عند سلطانك بمثل ما اكتسبتها به من الجد والمناصحة ، واحذر أن يحطك التهاون عما رقاك إليه التحفظ . اذكر عند الظلم عدل الله فيك ، وعند القدرة قدرة الله عليك . لا يحملنك الحنق على اقتراف إثم ، فتشفي غيظك ، وتسقم دينك . الملك بالدين يبقى ، والدين بالملك يقوى . اقبل نصح الشيب وإن عجل . أهل الدنيا كركب يسار بهم ، وهم نيام . غضب الجاهل في قوله ، وغضب العاقل في فعله . كأن الحاسد إنما خلق ليغتاظ . أغن من وليته عن السرقة ، فليس تكفيك من لم تكف . عقل الكاتب في قلمه . يشفيك من الحاسد أنه يغتم في وقت سرورك . اقتص من شهوة خالفت عقلك بالخلاف عليها .
التواضع سلم الشرف . السخاء حارس العرض من الذم . لا تستقل شيئاً من زيادة الله لك ، فتنفر بقيتها عنك ، وقليل يترقي منه إلى كثير خير من كثير ينحط عنه إلى قليل . لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرطاً . الكتاب والج الأبواب، جرئ على الحجاب ، مفهم لا يفهم ، وناطق لا يتكلم . ما كل من يحسن وعده يحسن إنجازه . وربما أورد الطمع ولم يصدر ، وضمن ولم يف . وربما شرق شارب الماء قبل ريه . ومن تجاوز الكفاف لم يغنه إكثار . وكلما عظم قدر المنافس فيه عظمت الفجيعة به . ومن ارتحله الحرص أنضاه الطلب . والأماني تعمي أعين البصائر . والحظ يأتي من لا يأتيه . وأشقى الناس بالسلطان صاحبه ، كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقاً . ولا يدرك الغني بالسلطان إلا نفسٌ خائفة ، وجسمٌ تعبٌ ، ودين منثلم - وإن كان البحر كثير الماء فإنه بعيد المهوى ، ومن شارك السلطان في عز الدنيا شاركه في ذل الآخرة ، وما أحلى تلقي النعمة ، وأمر عاقبة الفراق . ومن لم يتأمل الأمر بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله . والتثبت يسهل طريق الرأي إلى الإصابة ، والعجلة تضمن العثرة . كل مكروهٍ ختم بمحبوبٍ ، وانتهى إلى السلامة ، فالهم به زائل ، والأجر عليه حاصل . والحوادث الممضة مكسبة لحظوظ جزيلة ، منها : ثواب المدخر ، وتطهير من ذنب ، وتنبيه من غفلة ، وتعريف بقدر المنعم وموزن على مقارعة الدهر ، وفي الشكر درك المزيد وقضاء حق المنعم ، ومواقع أقدار الله لك خير من مواقع آمالك . بعد العسر يسرٌ ، والصبر إلى تفريجٍ . ربما أعقبت السابقة وأدرك المنضى ومن ولج في النائبة صابراً خرج منها مثقفاً . إياك والتقصير ، وتمني كل التيسير ، ولا تدع الظلم يستمر بك إذا أظلك ، وأعلم أن الظالم سريع الوثبة قريب العثرة . ومن لم يعدل عدل الله فيه ، ومن حكم لنفسه حكم الله عليه .
لما عرف أهل النقص حالهم عند أهل الكمال استعانوا بالكبر ليعظم صغيراً ، ويرفع حقيراً وليس بفاعل . إن الله يمتحن بالإنعام عليك ، فأفد من فائدته ، واستمد فضلك من فضله . بكرم الله نبلغ الكرم ، ومن نعمه حمد المنعم ، وهو المتغمد للذنوب في عفوه ، والناشر على الخطائين جناح ستره ، الكاشف الضر بيده التي بالعدل عاقبت ، والمجيب للدعاء برحمته التي بالتوفيق أنطقت ، والجواد بما كان في قدرته ، والمنعم قبل الاستحقاق لنعمته ، كم سيئة قد أخفاها حلمه حتى دخلت في عفوه ، وحسنة ضاعفها فضله حتى عظمت عليها مجازاته . إنما يعرف اليقين بالله من التقوى . الناس وفد البلى ، وسكان الثري ، ورهن المنايا . أنفاس الحي خطاه إلى أجله ، وأمله خادع له عن عمله ، والدنيا أكذب واعديه ، والنفس أقرب أعاديه ، والموت ناظرٌ إليه وينتظر فيه أمراً لا يعييه . على قدر إخلاصك الشكر تزيد عندك النعم ، ويسرع إليك المرجو . إن أمر الله ونهيه ما وقعا إلا على خير في الدنيا قبل الآخرة ندب إليه ، أو شر في الدنيا قبل الآخرة حذر منه ، ثم وعد بالثواب على طاعتهم له ، فيما فيه صلاح أحوالهم تفضلاً منه وامتناناً ، ولو كان الله تبارك وتعالى لم ينزل كتاباً ولم يرسل رسولاً ، ثم أجمع أهل الأرض على اختيار الأمور تصلحهم ، وتشد نظامهم ، وتنفي مكروه العواقب عنهم ، وتجمع الكلمة ، وتديم الألفة ، ليكون آية لأفعالهم لا يخالفونها ، ولا يستبدلون بها ، لم يكنك إلا أمر الله ورسله ، ولو أجمعوا على الاجتناب لأمور تدعو إلى الفرقة ، وترشح أطفال الضغائن ، وتدب عقارب الشر ، وتسفك الدماء ، وتشظي العصا ، وتنقض الحبل ، وتشتت الشمل ، لم يكن إلا نهي الله عنه ورسله . لا يزال الإخوان يسافرون في المودة حتى يبلغوا الثقة ، فتطمئن الدار ، وتقبل وفود التناصح ، وتؤمن خبايا الضمائر ، وتلقى ملابس التخلق ، وتخل عقد التحفظ . لولا الخطايا أشرق نور الفؤاد .
هي الدنيا تعير وتستعير ، ومن لم يصبر اختياراً صبر اضطراراً . العاقل لا يستقبل النعمة ببطر ، ولا يودعها بجزع . الدنيا تطرق بطرقة نقمة ، وتنبه برائع نجعه ، وتجرع ثكلها كأساً مرة ، تقتل معترضة ، وتعترض متنكرة، وتقفي بالرضاع ، وتنشئ العظام ، وتلدح الأعمار ، وتنشر الآمال ، وتفيد لتكيد ، وتسر لتغر ، وبهذا الخلق عرفت ، وعلى هذا الشرط صوحبت . الأمور وإن كانت مقدرة فمن تقدير الله في أكثر ما جربنا أن يكون المحتال أقرب إلى المأمول ، وأبعد من المحذور ، من المفرط في الأمور ، المستسلم للخطوب ، المؤخر لاستعمال الحزم . إن الله يبتدئ بمواهب الدنيا ، فإذا استرجعها كانت مواهب الآخرة . من عظمت النعمة عليه كثرت الرغبة إليه ، فاستجلب بالإنعام منك إنعام الله عليك ، واستزد بما تهب ما يهب لك ، وعجل إن نويت جوداً ، وتأن إن أردت تمنعاً ، ولا تكن ممن ولايته مواعيد ، وصرفه اعتذار . العقل كشجرة أصلها غزيرة ، وفرعها تجربة ، وثمرتها حمد العاقبة ، وما أبين وجوه الخير والشر في مرآة العقل إن لم يصدئها الهوى . ما ذل قوم حتى ضعفوا ، وما ضعفوا حتى تفرقوا ، وما تفرقوا حتى اختلفوا ، وما اختلفوا حتى تباغضوا ، وما تباغضوا حتى تحاسدوا ، وما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض . تناول الفرصة الممكنة ، ولا تنتظر غداً ، ومن لغد من حادث بكفيل ؟ ما أقل من يحمده المطالب ، ويستقل به العاثر ، ويرضي عنه السائل وما زالت أم الكرم نزوراً ، وأم اللؤم ولوداً . وأكثر الواجدين من لا يجود ، وأكثر الأجاود من لا يجد . وما كل من يورق بوعد يثمر بإنجاز . ولا بد لمن افتقرت حياته إلى المادة ، وعهد بقاؤه إلى المطعم والمشرب من يضطر إلى السعي ، ويحفز إلى الطلب ، فينجح مرة ، ويكدي أخرى ، وقد قرن الرزق بسببه ، والعيش بالتماس مصلحته وبذل الافتقار . ما كل هفوةٍ تعد ذنباً ، ولا كل إنكار يستحق أن يسمى عتباً . إخوان السوء ينصرفون عند النكبة ، ويقبلون مع النعمة ، ومن شأنهم التوسل بالإخلاص والمحبة ، إلى أن يظفروا بالأنس والثقة ، ثم يوكلون الأعين بالأفعال ، والأسماع بالأقوال ؛ فإن رأوا خيراً ونالوه لم يذكروه ولم يشكروه ، وعملوا على أنهم خدعوا صاحبهم وقمروه ؛ وإن رأوا شراً أو ظنوه أذاعوه ونشروه ؛ فإذا أدمت مواصلتهم فهو الداء المماطل ، المخوف على المقاتل ؛ وإن استرحت إلى مصارمتهم ادعوا الخبرة بك لطول العشرة؛ فكان كذب حديثهم مصدقاً ، وباطله محققاً . إنما يقتل الكبار الأعداء الصغار ، الذين لا يخافون فيتقون . ولا يؤبه لهم وهم يكيدون . ما ينفع ولد الملك من تأديب المؤدبين إياه ؟ وهو يغدو ويروح فيراه على خلاف ما يأمره به المؤدبون ، ولم يزل الباطل على نفوس الرجال أخف محملاً ، وأحلى طعماً ؛ فكيف الصبيان ؟ . المؤدب يأمر الغلام بألا يشتم أحداً ، ويتجنب المحارم ، ويحسن خلائقه ، ويعلمه من الفقه الأبواب التي لا غنى بمسلم عن معرفتها ، ومن الشعر الشاهد والمثل ، ومن الإعراب ما يصلح له لفظه ، ومن الغزل أعفه . وهو يرى أباه في كل ساعةٍ بخلاف ما يؤمر به ، وتاركاً لما حض عليه ؛ حتى إنه ليستثقل اللفظة تجري في مجلسه بإعراب ويصد عن منشدٍ لبين شعر ، ولا يخاطب غلامه ولا يمازح جليسه إلا بالشتم واللعنة ، ولا يحتشم من ورود محرمٍ ، ولا يتقي كبيرةً ؛ ثم يراه مع ذلك وقد بلغ غاية آماله من الدنيا ؛ فيوشك أن يحدث نفسه بأن أباه لا يخلو من أن يكون علم ما يسام فاطرحه ، ورأى أنه لا خير فيه ، أو لم يعلم شيئاً من ذلك فلم يضره جهله إياه ، ولا صرف عنه حظاً من دنياه ، وكلا المعنيين مزهدٌ له في قبول الأدب ، ومزينٌ له ترك عنائه ، وربح تعبه فيه .
لا تكاد تصح لكذابٍ رؤيا ؛ لأنه يخبر عن نفسه في اليقظة بما لم ير فتريه في النوم ما لا يكون . لا يفسدك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له . من المحدثين من يحسن أن يسمع ويستمع ، وينفي الإملال ببعض الإقلال ، ويزيد إذا استملى من العيون الاستزادة ، ويعرف كيف يفصل ويصل ، ويحكي ويشير ، فذاك يزين الأدب كما يتزين بالأدب . رب ذنبٍ مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب له ، ولا يجاوز به حد الارتياع إلى الإيقاع . إن للأزمان المذمومة والمحمودة أعماراً وآجالاً كأعمار الناس وآجالهم ؛ فاصبروا لزمان السوء حتى يفنى عمره ، ويأتي أجله . أسباب فتن النساء ثلاثةٌ : عينٌ ناظرةٌ ، وصورةٌ موافقة ، وشهوة قادرةٌ ؛ فالحكيم من لم يردد النظرة حتى يعرف حقائق الصورة ، ولو أن رجلاً رأى امرأةً فوافقته ثم طالبها فتأبت عليه ، هل كان إلا تاركها ؟ فإن تأبى عليه عقله في مطالبتها كتأبيها عليه في مساعفتها ، وقدع نفسه عن لذته ، قدع الغيور إياه عن حرمته سليم . ينبغي للعاقل أن يغني أولاده في حياته ليؤدبهم في حال الغنى ، ويعلمهم سياسة النعمة ، وإلا ظفروا بالغنى بعده وهم جهالٌ به ، فلم يكتسبوا حمده ، وأسرعوا للتعري ، وحصلوا على ذم الصاحب ، وندم العواقب . اجهل ممن لا يكتسب الإخوان من ينفقهم . مشاورة الحازم المشفق ظفر ، ومشاورة المشفق غير الحازم خطر . لا يكن فقرك كفراً ، وغناك طغياناً . المشورة راحةٌ لك ، وتعبٌ على غيرك . ما تكاد الظنون تزدحم على أمرٍ مستورٍ إلا كشفته . ينبغي للعاقل أن يكتسب ببعض ماله المحمدة ، ويصون ببعضه نفسه عن المسألة . من أكثر مذاكرة العلماء لم ينس ما علم ، واستفاد ما لم يعلم ، خير المعروف ما لم يتقدمه المطل ، ولم يتبعه المن . المعروف كنزٌ فانظر من تودعه . من ترك العقوبة أغرى بالذنب .