الجزء الثالث - الباب الخامس نكت لآل الزبير

الباب الخامس نكت لآل الزبير

قدم فضالة بن شريك ، على عبد الله بن الزبير ؛ فقال : إني سرت إليك الهواجر يا أمير المؤمنين . قال : ولم ؟ أما كان لك في البردين ما تسيرهما ؟ كأنك تبادر نهباً ، لا أبالك ، فقال : إن ناقتي قد نقب خفها فاحملني . قال : ارقعها بجلد ، واخصفها بهلب ، وأنج بها ، وسر بها البردين . قال : إنما أتيتك مستحملاً ، ولم آتك مستوصفاً . لعن الله ناقةً حملتني إليك . قال : إن وراكبها ، فانصرف وهجاه بالأبيات التي يقول فيها : أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ . . . نكدن ولا أمية في البلاد كان مصعب يقول : المرأة فراشٌ فاستوثروا . نازع ابن الزبير مروان في مجلس معاوية ، فرأى أن ضلع معاوية بن مروان ، فقال : يا أمير المؤمنين ؛ إن لك حقاً وطاعةً علينا ، وإن لنا سطةً وحرمة ، فأطع الله يطعك ؛ فإنه لا طاعة لك علينا إلا في حق الله ، ولا تطرق إطراق الأفعوان في أصول السخبر . وقال له مرةً : يا معاوية ؛ لا تدع مروان يرمي جماهير قريش بمشاقصه ويضرب صفاتهم بمعوله ، لولا مكانك لكان أخف على رقابنا من فراشة ، وأقل في أنفسنا من خشاشة . وايم الله لئن ملك أعنة خيل تنقاد له ليركبن منك طبقاً تخافه .

فقال معاوية : إن يطلب هذا الأمر فقد طمع فيه من هو دونه وإن يتركه لمن فوقه ؛ وما أراكم بمنتهين حتى يبعث الله عليكم من لا يعطف عليكم بقرابةٍ ، ولا يذكركم عند ملمةٍ ، ويسومكم خسفاً ، ويوردكم تلفاً . قال ابن الزبير : إذاً والله نطلق عقال الحرب ، بكتائب تمور كرجل الجراد ، تتبع غطريفاً من قريش لم تكن أمه براعية ثلة . قال معاوية: أنا ابن هند ، أطلقت عقال الحرب فأكلت ذروة السنام ، وشربت عنفوان المكرع ، وليس للآكل إلا الفلذة ، ولا للشارب إلا الرنق . ليم مصعب بن الزبير على طول خطبته عشية عرفة ؛ فقال : أنا قائم وهم جلوسٌ وأتكلم وهم سكوتٌ ويضجرون . وكان عبد الله بن الزبير يقول : لا عاش بخيرٍ من لم ير برأيه ما لم ير بعينه . لما تواقف عبد الملك بن مروان ، ومصعب بن الزبير ، أرسل عبد الملك إلى مصعب أن انصرف ، ولك ولاية العراق ما عشت ؛ فأرسل إليه : إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا ظالماً أو مظلوماً . قال عروة بن الزبير : التواضع أحد مصايد الشرف . لما قال عبد الله بن الزبير : أكلتم تمري ، وعصيتم أمري . قال فيه الشاعر : رأيت أبا بكرٍ وربك غالبٌعلى أمره يبغي الخلافة بالتمر قال عمر بن شبة : وقف ابن الزبير على باب مية مولاة كانت لمعاوية تدفع حوائج الناس إليها فقيل له : يا أبا بكر تقف على باب مية . قال : نعم . إذ أعيتك الأمور من رءوسها فأتها من أذنابها. كان عبد الله بن الزبير يسب ثقيفاً إذا فرغ من خطبته بقدر أذان المؤذن ، وكان فيما يقول : قصار الخدود ، لئام الجدود ، سود الجلود ، بقية قوم ثمود .

قال عروة : لعهدي بالناس ، والرجل منهم إذا أراد أن يسوء جاره سأل غيره حاجته ، فيشكوه جاره ، ويقول : تجاوزني بحاجته ، أراد بذلك شيني . لما أتى عبد الله بن الزبير قتل مصعب خطب الناس ؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنه أتانا خبر مقتل المصعب فسررنا واكتأبنا ؛ فأما السرور فلما قدر له من الشهادة ، وخير له من الثواب ، وأما الكآبة فلوعةٌ يجدها الحميم لفراق حميمه . وإنا والله لا نموت حبجاً كميتة آل أبي العاص . إنما نموت قتلاً بالرماح ، وقعصاً تحت ظلال السيوف ، فإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير خلفاً . وقال لما أتاه قتله : أشهده المهلب ؟ قالوا : لا . كان المهلب في وجوه الخوارج . قال : أفشهده عباد بن الحصين الحبطي ؟ قالوا : لا . قال : أفشهده عبد الله بن خازم السلمي ؟ قالوا : لا ، فتمثل عبد الله بن الزبير : فقلت لا عيشي جعار ، وجرري . . . بلحم امرئٍ لم يشهد اليوم ناصره كان عروة بن الزبير إذا ذكر مقتل عثمان يقول : كان علي أتقى لله من أن يقتل عثمان ، وكان عثمان أتقى لله من أن يقتله علي . قالوا : أقحمت السنة النابغة الجعدي ، فلم يشعر به عبد الله بن الزبير حين صلى الفجر ، حتى مثل بين يديه يقول : حكيت لنا الصديق حين وليتنا . . . وعثمان والفاروق ، فارتاح معدم فقال له ابن الزبير : هون عليك أبا ليلى ، فأيسر وسائلك عندنا الشعر . أما صفوة ما لنا فلبنى أسدٍ ، وأما عفوتها فلآل الصديق ، ولك في بيت المال حقان : حق لصحبتك رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - وحق لحقك في فيء المسلمين . ثم أمر له بسبع قلائص وراحلةٍ وخيلٍ ، ثم أمر أن توقر له حباً وتمراً ؛ فجعل أبو ليلى يأخذ التمر ، فيستجمع به الحب فيأكله ، فقال له ابن الزبير : لشد ما بلغ منك الجهد يا أبا ليلى فقال النابغة : أما على ذلك لسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " ما استرحمت قريشٌ فرحمت ، وسئلت فأعطت ، وحدثت فصدقت ، ووعدت فأنجزت فأنا والنبيون على الحوض فراطٌ القادمين " . قال عروة بن الزبير : ليمنك لئن كنت ابتليت لقد عافيت ، ولئن كنت أخذت لقد أبقيت . وكان عروة يقول لبنيه : يا بني ؛ إن أزهد الناس في عالمٍ أهله ، هلموا إلي فتعلموا ، فإنه يوشك أن تكونوا كبار قوم ، إني كنت صغيراً لا ينظر إلي ، فلما أدركت من السن ما أدركت جعل الناس يسألونني . فما أشد على امرئ أن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله . ونادى أهل الشام عبد الله : يا بن ذات النطاقين . فقال : إيه والإله ، أو : إيهاً والإله . وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها وخطب يوماً ، فحض على الزهد ، وذكر أن ما يكفي الإنسان قليل ، فنزغه إنسان من أهل المسجد بنزيغة ، ثم خبأ رأسه ، فقال : أين هذا ؟ فلم يتكلم أحد ، فقال : قاتله الله ضبح ضبحة الثعلب ، وقبع قبعة القنفذ . وقال : لما قتل عثمان قلت : لا أستقيلها أبداً ، فلما مات أبي انقطع بي ، ثم استمرت مريرتي . ودخل الحجاج إلى عبد الملك ، فرأى عنده عروة ، فقال : يا أمير المؤمنين أتقعد ابن العمشاء معك على سريرك ؟ لا أم له ؛ فقال عروة : أنا لا أم لي ؟ وأنا ابن عجائز الجنة ، ولكن إن شئت أخبرتك من لا أم له يا بن المتمنية ؛ فقال عبد الملك : أقسمت عليك ألا تفعل ، فكف عروة - أراد بقوله : يا بن المتمنية ، قول أم الحجاج ، وهي الفارعة بنت همام . ألا سبيل إلى خمرٍ فأشربها . . . أم لا سبيل إلى نصر بن حجاج ؟ لما أخرج ابن الزبير ابن العباس من مكة إلى الطائف ، مر بنعمان . فنزل فصلى ركعتين ، ثم رفع يديه يدعو ، فقال : اللهم إنك تعلم أنه لم يك بلدٌ أحب إلي أن أعبدك فيه من البلد الحرام ، ولا أحب إلي أن يقبض فيه روحي منه ، وإن ابن الزبير أخرجني عنه ؛ ليكون أقوى له في سلطانه ، اللهم فأوهن كيده ، واجعل دائرة السوء عليه . فلما دنا من الطائف تلقاه أهلها فقالوا : يا بن عم رسول الله ، أنت والله أحب إلينا وأكرم علينا ممن أخرجك ، هذه منازلنا ، تخير فانزل منها حيث أحببت ، فنزل منزلاً ، فكان يجلس لأهل الطائف في مسجدهم بعد الفجر وبعد العصر ، فيتكلم فيحمد الله ، ويذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويذكر الخلفاء فيقول : ذهبوا فلم يدعوا أمثالهم ، ولا أشباههم ، ولا مدانيهم ؛ ولكنه بقي أقوامٌ يريغون الدنيا بعمل الآخرة ، يلبسون جلود الضأن لتحسبوهم من الزاهدين في الدنيا ، يراءونكم بأعمالهم ، ويسخطون الله بسرائرهم ، فادعوا الله أن يقضي لهذه الأمة بالإحسان ، فيولي أمرها خيارها وأبرارها ، ويهلك شرارها فجارها . ارفعوا أيديكم إلى ربكم ، وسلوه ذلكم فيفعلون . فبلغ الخبر ابن الزبير فكتب إليه : أما بعد ؛ فقد بلغني أنك تجلس لأهل الطائف العصرين ، تفتيهم بالجهل وتعيب أهل الحلم والفضل ، وإن حلمي عنك ، واستدامتي فيك جرءاك علي ، فاكفف - لا أبا لغيرك - من غربك . واربع على ظلعك ، واعقل إن كان لك مقعولٌ ، على نفسك ، فإنك إن تهنها تجد بها على الناس هواناً ، ألم تسمع قول الشاعر : ونفسك فاكرمها فإنك إن تهن . . . عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما وإني لأقسم له لئن لم تنته عما يبلغني عنك لتجدن جانبي خشناً ، ولتجدني إلى ما يردعك عجلاً ؛ فر رأيك ممكناً لك ، فإن أشفى بك على الردى فلا تلم إلا نفسك والسلام . فكتب إليه ابن عباس : أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، تذكر أني أفتى الناس بالجهل ، وإنما يفتي بالجهل من لم يؤت شيئاً من العلم ، وقد - والحمد لله - آتاني الله من العلم ما لم يؤته أباك ولم يؤته إياك . وذكرت أن حلمك عني هو جرأتي عليك ، وتقول : اكفف من غربك واربع على ظلعك ، وتضرب لي الأمثال أحاديث الضبع استها . فمتى رأيتني لعرامك هائباً ، وعن حدك ناكلاً ؟ وتقول : إن لم أكفف عما يبلغك عني وجدت جانبك خشناً ، ووجدتك إلي عجلاً ، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت ، ولا أرعى إن أرعيت . فوالله لا أنتهي عن قولٍ بالحق ، وصنعة أهل العدل والفضل ، وذم الأخسرين أعمالاً . " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً " والسلام . خرج عروة بن الزبير إلى الوليد ، فوطئ عظماً ، فلم يبلغ دمشق حتى ذهب به كل مذهب ؛ فجمع الوليد الأطباء ، فأجمع رأيهم على قطعها ، فقالوا له : اشرب مرقدا ؛ فقال : ما أحب أن أغفل عن ذكر الله ، فأحمي له منشار ، وكان قطعاً وحسما ، فما توجع ، وقال : ضعوها بين يدي ؛ لئن كنت ابتليت في عضو لقد عوفيت في أعضاء . فبينا هو على ذلك أتاه نعي ابنه محمد ، وكان قد اطلع من سطح على دواب للوليد ، فسقط بينها فخبطته ؛ فقال عروة : الحمد لله ؛ لئن أخذت واحداً لقد أبقيت جماعة ؛ ولئن ابتليت في عضو لقد أبقيت أعضاءً .

ثم استأذن الوليد في الرحيل . فلما قرب من المدينة مال إلى ضيعة بالفرع ؛ فقيل له : تدع المدينة فقال : ما بقي بها إلا حاسدٌ لنعمة ، أو شامت بمصيبة . ويقال : قال : يا أهل المدينة ، مجالسكم لاغية ، ونفوسكم لاهية ، وتقواكم واهية ، والبعد منكم عافية . وأتاه المعزون وفيهم عيسى بن طلحة فقال : يا أبا عبد الله ، ما كنا نعدك للسباق ، وما فقدنا منك إلا أيسر ما فيك ، إذ أبقى الله لنا سمعك وبصرك وعقلك . فقال عروة : " لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " . ويقال : إنه لم يظهر منه مع ما أصابه جزعٌ غير هذا اليسير . وتنقص بعض آل الزبير علياً رضي الله عنه ؛ فقال له أبوه : والله ما بنى الناس شيئاً قط إلا هدمه الدين ، ولا بنى الدين شيئاً قط . فاستطاعت الدنيا هدمه ، ألم تر إلى عليٍّ، كيف تظهر بنو مروان عيبه وذمه ، فلكأنما يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء ؟ وترى ما يندبون به موتاهم من المديح ، فو الله لكأنما يكشفون عن الجيف . ذكر معاوية لابن الزبير بيعة يزيد ، فقال ابن الزبير : أنا ، أناديك ولا أناجيك ؛ إن أخاك من صدقك ، فانظر قبل أن تقدم ، وتفكر قبل أن تندم ، فإن النظر قبل التقدم ، والتفكر قبل التندم ؛ فضحك معاوية وقال : تعلمت ، أبا بكر الشجاعة عند الكبر . مر عبد الله بن حسن بن حسنٍ - رضي الله عنهم - بعامر بن خبيب بن عبد الله بن الزبير وهو بمر ، فقال له : نزلت مراً فمرر عليك عيشك فقال : بل نزلت مراً في مالٍ طاب لي أكله ؛ إذ أنت متلوثٌ في أدناس بني مروان . فقال عبد الله : أما والله لولا عمتي - يعني : صفية بنت عبد المطلب - كنت كبعض بني حميد - يعني حميد بن أسد بن عبد العزى - في شعاب مكة . فقال له عامر : فمنة عمتي عليك أعظم ، لولا عمتي كنت كبعض بني عقيل بالأبطح - يعني : بعمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها . قال عبد الله بن عروة : انطلقت مع عبد الله بن الزبير حتى قعدت بين يدي الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما ؛ فحمد الله ، وأثنى عليه ، وخطب إليه ابنته ، قال : فجعل يغمز يدي غمزاً شديداً ؛ فلما قمنا قلت له : لقد تصعدك اليوم الكلام تصعداً ما رأيت مثله . قال : إنه الحسن بن فاطمة . لا والله ما قامت النساء عن مثله . ولما قتل مصعبٌ قال عبد الله : إن مصعباً أنفذناه إلى العراق ؛ فأغمد سيفه ، وسل أيره ؛ فبلغ ذلك عبد الملك ، فقال : لكن أبا خبيب أغمد سيفه وخيره وأيره . قال قدامة : لما جاءنا قتل الوليد بن يزيد أتيت عبد الله بن عروة ، فأخبرته بقتل الوليد وقيام يزيد بن الوليد ؛ فقال عبد الله : أوقد فعلوها ؟ أنا أبو بكرٍ . والذي نفسي بيده لخروجها من أيديهم أسرع من سير ذكوان . قيل : وكان ذكوان مولى لقريش ، سار من مكة إلى المدينة في ليلةٍ فقال : إن الذي كلفتها سير ليلةٍ. . . من أهل منى نصاً إلى أهل يثرب لما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد قال ابن الزبير : قتلت بنو أمية حيتها ؛ فقال عبد الله بن صفوان : الحية والله القاتل . قالوا : لما هم عبد الله بن الزبير بما هم به من أمر بني هاشمٍ وإحراقهم وأنه كان ذلك من ولايته على رأس خمس سنين ، لم يذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيهن بحرفٍ في خطبة ، فعوتب على ذلك ؛ فقال : والله ما تركته علانيةً إلا أن أكون أقوله سراً ، وأكثر منه ، ولكن رأيتني إذا ذكرته طالت رقاب بني هاشمٍ ، واشرأبت ألوانهم ، ولم أكن لأذكر لهم سروراً وأنا أقدر عليه . ثم صعد المنبر ؛ فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إني حاظر لهم حظيرة ، فمضرمها عليهم ناراً ، فإني لا أقتل إلا آثماً كفاراً أفاكاً سحاراً، والله ما رضي بهم رسول الله - ( صلى الله عليه وسلم ) - خفراً . ولا ترك فيهم خيراً ولا رضيهم لولايةٍ ، أهل كذبٍ استفرغ رسول الله - صلى الله عليه - صدقهم . فقام إليه محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال : وفقك الله يا أمير المؤمنين ، فأنا أول من أعانك عليهم . وقام عبد الله بن صفوان فقال : يا بن الزبير ، أيم الله ما قلت صواباً ، ولا هممت برشد ، أرهط . رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تعيب ، وإياهم تقتل ؟ والعرب حولك ، والله لئن لم ينصرهم الناس لينصرهم الله منك . قال . فقال ابن الزبير : اجلس يا أبا صفوان ؛ فإنك لست بناموسٍ وبلغ الخبر عبد الله بن العباس ؛ فخرج يتوكأ على يد ابنه حتى دخل المسجد ، فقصد قصد المنبر ، فقال : أيها الناس ، إن ابن الزبير يقول : أن لا أول ولا آخر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فو الله إن أول من ألف الإلف ، وأجاز عيرات قريش لهاشم ، وما شدت بعيراً لسفرٍ ، ولا أناخت بعيراً لحضرٍ إلا بهاشمٍ ، وإن أول من سقى بمكة عذباً ، وجعل باب الكعبة ذهباً لعبد المطلب ، ثم لقد نشأت ناشيتنا مع ناشيتهم ، فإن كنا لقالتهم إذا قالوا ، وخطباؤهم إذا نطقوا ، وما عددت مجداً كمجد أولنا ، ولا كان فيها مجدٌ لغيرنا ، إلا في كفر ماحقٍ ، ودينٍ فاسقٍ ، وضلةٍ ضالة في عشواء عمياء ، حتى اختار لها الله نوراً ، وبعث لها سراجاً ، فأخذه طيباً من طيب ، لا يسب بمسبةٍ ، ولا تغوله غائلةٌ . فكان أحدنا وولدنا وعمنا وابن عمنا ، ثم إن السابقين إليه لمنا اللسان ، ثم إنا لخير الناس بعده ( صلى الله عليه وسلم ) أظهرهم أدباً ، وأكرمهم حسباً ، والعجب عجباً ، أن ابن الزبير يعيب أولاً وآخراً من كان له لسانٌ نطق. كذب أو صدق . متى كان عوامٌ بن عوامٍ يطمع في صفية ، لقد جلست الفرس بغلاً ، أما والذي لا إله غيره إنه لمصلوب قريشٍ ، وإنه لأم عفي تغزل من استها ، ليس لها سوى بيتها . من أبوك يا بغل ؟ قال : أمي الفرس . قالوا: صلى عبد الله بن الزبير بالناس ، ثم التفت إليهم فقال : لا يبعدن ابن هند ؛ إنه كانت فيه مخارج لا نجدها في أحدٍ بعده ، والله إن كنا لنفرقه فيتفارق لنا ، وما الليث الحرب على براثنه بأجرأ منه . وإن كنا لنخدعه ، وما ابن ليلةٍ من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا . والله لوددت أنا متعنا به ما دام من هذا الجبل حجر - وأشار إلى أبي قبيسٍ - لا يتخون له عقلٌ ، ولا بنفض له مرةٌ . قال عروة : ما بر والديه من أحد النظر إليهما .

قال مصعب بن عبد الله ، قال لي أبي : يا بني من استغنى عن الناس احتاجوا إليه ؛ فأصلح مالك ، وأقل من مجالسة الناس ، فإني قد رأيت رجالاً يقتبس منهم ، ولا جاه يدفعون به عنهم ، ولا جود يفضلون به عليهم . استغنوا بأموالهم، وجلسوا ؛ فأتاهم الناس . بلغ عروة أن ابنه عبد الله يقول الشعر ، فدعا به يوماً . فقال : أنشدني ، فأنشده ؛ فقال : إن العرب تسمى الناقص . الناقص : الذي يمشي على ثلاث قوائم الهزروف ، فشعرك هذا هو الهزروف . لما قطعت رجل عروة ، ومات ابنه حمد الله . ونظر إلى رجله ، ثم قال : أما والله إني لأرجو ألا أكون مشيت بها معصية لله قط . أيمنك لئن كنت أخذت لقد أعطيت ، كان لي أربع جوارح فأخذت واحداً وتركت ثلاثاً ؛ وكان لي أربعة بنين ، فأخذت واحداً وتركت ثلاثة . قالوا : كان عبد الله بن الزبير يسجد ليلةً ، ويركع ليلة ، ويقول ليلة . روى الزبير بن بكار عن عمه مصعب ، قال : لما صار عليٌّ - رضي الله عنه - بالقرب من البصرة بعث ابن عباس، فقال : إيت الزبير فاقرأ عليه السلام ، وقل له : يا أبا عبد الله ؛ كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة ؟ . فقال ابن عباس : أفلا آتي طلحة ؟ قال : إذاً تجده كالثور عاقصاً قرنه في الحزن يقول هذا سهل . قال : فأتيت الزبير، فوجدته في بيتٍ حارٍّ يتروح ، وعبد الله بن الزبير في الحجرة . فقال : مرحباً بك يا بن لبابة ، أجئت زائراً أم سفيراً ؟ قلت : كلا . أحببت إحداث العهد بك ، وابن خالك يقرأ عليك السلام ويقول لك : عرفتنا بالمدينة ، وأنكرتنا بالبصرة ، فقال : علقتهم ، إني خلقت عصبة . . . قتادةً تعلقت بنشبه فلن أدعهم حتى ألف بينهم .

فأردت منه جواباً غير ذلك ، فقال : غدا نرفع المصاحف ، ونحاكمك إليها ، فخرجت ، فقال عبد الله : قل بيننا وبينك دم خليفة ، ووصية خليفة ، واجتماع اثنين وانفراد واحد ، وأم مبرورةٌ فعلمت أنه ليسر مع هذا الكلام لينٌ . قال الزبير بن بكار : فقدمت العراق فرأيت عمي مصعباً ترك هذا الحديث ، فقلت له : لم تركته ؟ قال : إني رأيت الزبير في المنام يتعذر من أمر الجمل ؛ فقلت له : كيف يتعذر من أمر الجمل وأنت القائل : علقتهم ، إني خلقت عصبة.. . قتادةً تعلقت بنشبه فلن أدعهم حتى ألف بينهم ؟ فقال : لم أقله . حدث وهب مولى آل الزبير أنه قال : كنت مع عبد الله بن الزبير بمكة في ولايته ؛ فكتب إليه رجل كتاباً يعظه فيه : أما بعد ؛ فإن التقوى في أهلها علاماتٍ يعرفون بها ، ويعرفونها من أنفسهم ؛ من صبر على البلاء ورضي بالقضاء ، وشكر للنعمة ، وذل لحكم القرآن ، وإنما الإمام كالسوق ، يحمل إليها ما زكا فيها ، فمن كان من أهل الحق أتاه أهل الحق بحقهم ، ومن كان من أهل الباطل أتاه أهل الباطل بباطلهم ؛ فانظر أي الإمامين أنت . والسلام . قال : فكان عبد الله يعجب من بلاغة هذه الرسالة وإيجازها ، ويضعها تحت فراشه ، ويتعاهد قراءتها . كان لعبد الله بن عروة مولاةٌ يقال لها : شهدة ، ففزعت ليلاً ؛ فسمعها نقول: اللهم إن أحسنت فأحسن إلي ، وإن أسأت فأسئ إلي . فقال : أي شهاد ، عتق ما يملك إن لم يكن هذا أقل مالك عند ربك . قال عبد الله بن عروة بن الزبير : إلى الله أشكو عيبي ما لا أدع ، ونعتي ما لا آتي ، وإنما يبكي للدنيا بالدين . نازع عبد الله بن الزبير أخاه عمراً ، والأمير بالمدينة سعيد ابن العاص ، فاستعلى عبد الله في القول ؛ فأقبل سعيدٌ على عمرو ، فقال : إيهاً يا بن أبي ؛ فأقبل عليه عبد الله ، فقال : هيها يا بن أبي أحيحة ، فو الله لأنا خيرٌ منك، ولأبي خيرٌ من أبيك : ولأمي خيرٌ من أمك ، ولخالي خيرٌ من خالك ، ولجدي خيرٌ من جدك . ثم ، الله رفع بالإسلام بيوتاً ووضع به بيوتاً ، فكان بيتي من البيوت التي رفع ، وكان بيتك من البيوت التي وضع ، وإن خنس أنفك ، وانتفخت لغاديدك . اختصم رجلان في حدٍّ بينهما بالأعوص ، فتهاترا وتخاصما ، فأتيا الزبير بن هشام بن عروة ، وجعلاه حكماً بينهما . قال : فقال لهما : كان رجلان من بني إسرائيل اختصما في أرضٍ ، فأذن الله للأرض ، فكلمتهما فقالت : لقد ملكني سبعون أعور ، وليس منهم الآن أحدٌ على ظهر الأرض . قال : فتفرقا . وقال كل منهما: لا حاجة لي بها ، وتراداها . قيل لعروة الزبيري حين حمل إلى الرشيد مقيداً : اختصب . فقال : حتى أعلم أرأسي لي أم لكم ؟ فأدخل عليه في سلسلةٍ ، فقال : كنت أشتهي أن أراك فيها ، اخلعوا عليه . يا أمير المؤمنين ؛ خلعة شتاءٍ لا خلعة صيف .